تقديم الكتاب

محمد عليه الصلاة والسلام

بهذا الاسم الكريم تنطق ملايين الشفاه، وله تهتز ملايين القلوب كل يوم مرات. وهذه الشفاه والقلوب به تنطق وله تهتز منذ أربعمائة وألف سنة إلا خمسين. وبهذا الاسم الكريم ستنطق ملايين الشفاه وتهتز ملايين القلوب إلى يوم الدين. فإذا كان الفجر من كل يوم وتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. أهاب المؤذن بالناس أنِ الصلاةُ خيرٌ من النوم. ودعاهم إلى السجود لله والصلاة على رسوله، فاستجاب له الألوف والملايين في مختلف أنحاء المعمورة يحيون بالصلاة رحمة الله وفضله متجليين في مطلع كل نهار. وإذا كانت الظهيرة وزالت الشمس أهاب المؤذن بالناس لصلاة الظهر، ثم لصلاة العصر فالمغرب فالعشاء. وفي كل واحدة من هذه الصلوات يذكر المسلمون محمدًا عبد الله ونبيه ورسوله في ضراعةٍ وخشية وإنابة، وهم فيما بين الصلوات الخمس ما يكادون يسمعون اسمه حتى تَجِفَ قلوبهم بذكر الله وبذكر مصطفاه. كذلك كانوا وكذلك سيكونون حتى يُظهر الله الدين القيم ويُتِم نعمته على الناس أجمعين.

الإمبراطورية الإسلامية الأولى

ولم يكُ محمد في حاجة إلى زمان طويل ليظهر دينه وينتشر في الخافقين لواؤه، فقد أكمل الله للمسلمين دينهم قبيل وفاته، ويومئذ وضع هو خطة انتشار الدين فبعث إلى كسرى وإلى هرقل وإلى غيرهما من الملوك والأمراء كي يُسْلِمُوا، ولم تَمضِ خمسون ومائة سنة من بعد ذلك حتى كان علم الإسلام خفاقًا من الأندلس في غرب أوروبا إلى الهند وإلى التركستان وإلى الصين في شرق آسيا؛ وبذلك وصلت الشام والعراق وفارس وأفغانستان — وقد أسلمت كلها — ما بين بلاد العرب ومملكة ابن السماء، كما وصلت مصر وبرقة وتونس والجزائر ومَرَّاكُش ما بين أوروبا وإفريقيَّة ومبعث محمد عليه السلام. ومن يومئذ إلى يومنا هذا بقي علم الإسلام مرفرفًا على هذه الربوع جميعًا، خلا الأندلس التي أغارت النصرانية عليها فعذبت أهلها وأذاقتهم ألوانًا من الشدة والبأس. ولم يطق أهلها صبرًا على الحياة، فعاد منهم من عاد إلى إفريقية، ورد الهول والفزع من ارتد منهم عن دينه ودين أبيه إلى دين العُتاة والمعذِّبين.

على أن ما خسره الإسلام في الأندلس من غرب أوروبا كان له عنه العوض حين فتح العثمانيون القسطنطينية ومكَّنوا لدين محمد فيها. هنالك امتدت كلمته إلى البلقان كلها، وانبلج نوره في روسيا وفي بولونيا، وخفقت أعلامه على أضعاف ما كانت تخفق عليه من أرض إسبانيا. ومن يوم انتشر الإسلام في صولته الأولى إلى يومنا لم يتغلب عليه من الأديان متغلب، وإن تغلب على أممه من شدائد الظلم وألوان التحكم ما جعلها أشد بالله إيمانًا، ولحكمه إسلامًا، وفي رحمته وفي غفرانه أملًا ورجاءً.

الإسلام والمسيحية

هذه القوة التي انتشر الإسلام بها سرعان ما وقفته وجهًا لوجه أمام المسيحية وقفة نضال مستميت. لقد تغلب محمد على الوثنية، ومحا من بلاد العرب — كما محا خلفاؤه الأولون من بلاد الفرس والأفغان وطائفة كبيرة من بلاد الهند — أثرها. ولقد تغلَّب خلفاء محمد على المسيحية في الحيرة واليمن والشام ومصر إلى مهد المسيحية مدينة قسطنطين. أفقُدِّر على المسيحية ما قُدر على الوثنية من اضمحلال وهي دين كتاب من الأديان التي أشاد بها محمد ونزل الوحي بنبوة صاحبها؟ وهل قُدِّر لهؤلاء العرب — عرب البادية الزاحفين من شبه الجزيرة الصحراوية القاحلة — أن يضعوا أيديهم على حدائق الأندلس وبزنطية وسائر البلاد المسيحية؟ الموت ولا هذا! واستمر القتال بين أتباع عيسى وأتباع محمد قرونًا متتالية. ولم يقف القتال عند حرب الأسنة والمدافع، بل تعداها إلى ميادين الجدل والنضال الكلامي. جاء المقاتلون فيها بأسماء عيسى ومحمد، وجعل كل فريق يلتمس الوسيلة لتأليب السواد واستثارة حماسة الجماهير وتعصبها.

المسلمون وعيسى

على أن الإسلام حال بين المسلمين وبين الحطِّ من مقام عيسى، إنه عبد الله آتاه الكتاب وجعله نبيًّا، وجعله مباركًا أينما كان، وأوصاه بالصلاة والزكاة ما دام حيًّا، وبرًّا بوالدته ولم يجعله جبارًا شقيًّا، فسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيًّا. أما المسيحيون فقد جعل الكثيرون منهم يعرِّضون بمحمد وينعتونه بأوصاف يبرأ منها المهذب من الرجال؛ شفاءً لما في نفوسهم من غلٍّ، واستفزازًا وحفزًا لشهوات الناس الدنيا. وعلى رغم ما يقال من أن الحروب الصليبية وضعت أوزارها منذ مئات السنين ظل تعصب الكنيسة المسيحية على محمد على أشده إلى عصور قريبة. ولعله كذلك ما يزال إن لم يك أشد، وإن كان خفيًّا يعمل في ظلمات التبشير بالدون من الوسائل. ولم يقف الأمر عند الكنيسة بل تعداها إلى كتَّاب وفلاسفة في أوروبا وفي أمريكا لم تك تصلهم بالكنيسة صلة تذكر.

المسيحيون المتعصبون ومحمد

ولقد يعجب الإنسان أن يظل تعصب المسيحية على الإسلام بهذه الشدة في عصر يزعمون أنه عصر النور والعلم، وأنه لذلك عصر التسامح وسعة الأفق، ويزداد الإنسان عجبًا إذ يذكر المسلمين الأولين وكيف كان اغتباطهم بانتصار المسيحية على المجوسية عظيمًا حين ظفرت جيوش هرقل بأعلام فارس وكسرت عسكر كسرى. فقد كانت فارس صاحبة النفوذ في جنوب شبه جزيرة العرب منذ أخرج كسرى الأحباش من اليمن. ثم إن كسرى وجَّه جيوشه — سنة ٦١٤ ميلادية — تحت إمرة قائد من قوَّاده يدعى شهر براز١ لغزو الروم، فظهر عليهم حين التقى بهم بأذرعات وبصرى، أدنى الشام إلى أرض العرب، فقتلهم وخرب مدائنهم وقطع زيتونهم. وكان العرب — ولا سيما أهل مكة — يتتبعون أخبار هذه الحرب بتلهف وشغف؛ فقد كانت القوتان المتناحرتان أكبر ما تعرف أمم الأرض يومئذ. وكانت بلاد العرب تجاورهما وتخضع بعض أجزائها لفارس وتتاخم الروم بعض أجزائها الأخرى. وشمِت كفار مكة بالمسيحيين وفرحوا لهزيمتهم؛ لأنهم أهل كتاب كالمسلمين، وحاولوا أن يلصقوا بدينهم عار اندحارهم. أما المسلمون فشق عليهم أمر الروم لأنهم أهل كتاب مثلهم، فكان محمد وأصحابه يكرهون أن يظهر المجوس عليهم. وأدى هذا الخلاف بين مسلمي مكة وكفارها إلى تنادر الفريقين وإلى تهكم الكفار بالمسلمين، حتى أبدى أحدهم من السرور أمام أبي بكر ما غاظه ودفعه إلى أن يقول: لا تعجل بالمسرة، فسيأخذ الروم بثأرهم. وأبو بكر معروف بالهدوء ووداعة النفس. فلما سمع الكافر قوله أجابه متهكمًا: كذبت. فغضب أبو بكر وقال: كذبت أنت يا عدو الله! وهذا رهان عشرة جمال على أن تغلب الروم المجوس قبل عام. وعرف محمد أمر هذا الرهان فنصح إلى أبي بكر أن يزيد في الرهان وأن يطيل المدة. فزاد أبو بكر في الرهان إلى مائة بعير إن هزمت الفرس قبل تسع سنين. وانتصر هرقل سنة ٦٢٥ وهزم فارس واسترد منها الشام، واستعاد الصليب الأعظم، وكسب أبو بكر رهانه. وفي النبوءة بهذا النصر نزل قوله تعالى في صدر سورة الروم: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.٢

المبادئ الأولية في الدينين

كان اغتباط المسلمين يومئذ بانتصار هرقل والنصارى عظيمًا، وظلت صلة الإخاء بين الذين اتعبوا محمدًا والذين آمنوا بعيسى عظيمة طوال حياة النبي وإن تكرر بين الفريقين ما كان من مجادلة، على خلاف ما كان بين المسلمين واليهود من تهادن أول الأمر ثم عداوة استمرت وكان لها من الآثار والنتائج الدامية ما أجلى اليهود عن شبه جزيرة العرب جمعاء. ومصداق ذلك قوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ.٣

ثم إنك لترى الدينين يصوِّران الحياة والخُلُق صورة تكاد تكون واحدة، وهما في تصوير الإنسانية ومبدأ خلقها سواء: خلق الله آدم وحواء وأسكنهما الجنة، وأوحى إليهما ألا يسمعا إلى نزغ الشيطان فيأكلا من الشجرة فيُخرجهما من الجنة. والشيطان عدوهما الذي أبى أن يسجد لآدم فيما أوحاه الله لمحمد، والذي أبى أن يقدس كلمة الله، على رواية كتب النصارى المقدسة، ووسوس الشيطان لحواء وزين لها، فزينت لآدم فأكلا من شجرة الخلد فبدت لهما سوءاتهما، فاستغفرا ربهما فبعثهما على الأرض بعض ذريتهم لبعض عدو، يغريهم الشيطان فيضل قوم ويقاوم الهلاك آخرون. ولتقوى الإنسانية على حرب الغَوَاية بعث الله نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى، والنبيين. وبعث مع كل رسول كتابًا بلسان قومه مصداقًا لما بين يديه ليبيِّن لهم. وكما يقوم في صف الشيطان أنصاره من أرواح الشر، تقوم الملائكة تسبِّح بحمد ربها وتقدس له. وهؤلاء وأولئك يتنازعون أسباب الحياة والكون جميعًا حتى يوم البعث، يوم تُجزى كل نفس بما كسبت ولا يَسأل حميمٌ حميمًا.

الخلاف بينهما: التوحيد والتثليث

وإنك لتجد في القرآن من ذكر عيسى ومريم وإكرام الله لهما وتقديمه إياهما ما تشعر معه حق الشعور بهذا الإخاء، وما يجعلك تسائل: ما بال المسلمين والنصارى إذن ظلوا على القرون خصومًا متقاتلين؟ والجواب عن سؤالك أن بين الإسلام والنصرانية خلافًا على مسائل أساسية كانت موضع جدل شديد في عهد النبي، وإن لم يتعدَّ الأمر الجدل إلى العداوة والبغضاء. فالنصرانية لا تقر بنبوة محمد كما يقر الإسلام بنبوة عيسى، والنصرانية تقول بالتثليث، والإسلام ينكر كل ما سوى التوحيد أشد الإنكار. والنصارى يؤلِّهون عيسى ويتلمَّسون الدليل على ألوهيته في أنه تكلم في المهد وأوتي من المعجزات ما لم يؤته غيره مما هو من عمل الخالق جل شأنه. وهم كانوا أيام الإسلام الأولى يحاجُّون المسلمين في ذلك بالقرآن ويقولون: أوَليس يقر القرآن الذي نزل على محمد رأينا حتى يقول: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَٰلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ.٤

فالقرآن قد ذكر إذن أنه يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين طيرًا، ويخبر بالغيب، وكل هذه خصائص إلهية. هذا رأي نصارى عهد النبي الذين كانوا يحاجونه ويجادلونه ويذهبون إلى أن عيسى إله مع الله. ولقد ذهبت طائفة منهم إلى تأليه مريم أن ألقى الله إليها بكلمته. وكان أصحاب هذا الرأي من نصارى ذلك العهد يعتبرون مريم ثالث الثلاثة: الأب والابن والروح القدس. ولم يكن أصحاب هذا القول بألوهية عيسى وأمه إلا طائفة من طوائف النصرانية الكثيرة المتفرقة يومئذ شيعًا وأحزابًا.

مجادلة النصارى للنبي

كان نصارى شبه الجزيرة يجادلون محمدًا على اختلاف نِحَلِهم على أساس مذاهبهم. فكانوا يقولون إن المسيح هو الله، ويقولون هو ولد الله، ويقولون هو ثالث ثلاثة، وكان القائلون بألوهيته يحتجون بما سبق بيانه، ويحتج القائلون بأنه ولد الله بأنه لم يكن له أب يُعلم، وأنه تكلم في المهد صبيًّا مما لم يقع لأحد من بني آدم، ويحتج القائلون بأنه ثالث ثلاثة بأن الله يقول: أمرنا وخلقنا وقضينا، ولو كان واحدًا لقال: أمرت وخلقت وقضيت. وكان محمد يستمع لهم جميعًا ويجادلهم بالتي هي أحسن. وهو لم يكن في جادلهم يشتد شدته في جدال المشركين وعبَّاد الأصنام، بل كان يحاجُّهم بالوحي من طريق المنطق ومن كتبهم وما جاء فيها؛ فالله تعالى يقول: لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ.٥ وقال تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ٦ وقال جل شأنه: وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.٧
تقول المسيحية بالتثليث وبأن عيسى ابن الله، والإسلام ينكر إنكارًا صريحًا باتًّا أن يكون لله ولد. قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ.٨مَا كَانَ لِلهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ.٩إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ.١٠
والإسلام دين توحيد في أشد معاني التوحيد صفاءً وقوةً، وفي أشد معاني التوحيد بساطة ووضوحًا. وكل ما يمكن أن يلقى ظلًّا على فكرة التوحيد أو صورته ينكره الإسلام ويراه كفرًا. إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ.١١

فمهما يكن للصورة المسيحية في التثليث من صلة تاريخية ببعض الأديان القديمة فهي ليست من الحق عند محمد في شيء. إنما الحق هو الله وحده، لا شريك له، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد. فلا عجب إذن أن تكون بين محمد ونصارى عهده تلك المجادلة بالتي هي أحسن، وأن يؤيد الوحي محمدًا بما تلوت من الآيات.

مسألة صلب المسيح

ومسألة أخرى يختلف فيها الإسلام والنصرانية، وكانت مثار جدل بينهما في عهد النبي: تلك مسألة صلب عيسى ليفتدي بدمه خطايا الخلق. فالقرآن صريح في نفي أن اليهود قتلوا المسيح أو صلبوه، إذ يقول: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا.١٢
ولئن كانت فكرة افتداء المسيح بدمه خطايا إخوته من بني آدم جميلة لا ريب، ويستحق ما كتب فيها دراسةً من نواحيه الشعرية والخُلقية والنفسية، لقد كان المبدأ الذي قرره الإسلام من أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وأنَّ كل امرئ يوم القيامة مجزيٌّ بأعماله إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، يجعل التقريب المنطقي بين العقيدتين غير ممكن، ويجعل منطق الإسلام من الدقة بحيث لا تُجدي معه محاولات التوفيق، مع التناقض الواضح بين فكرة الافتداء وفكرة الجزاء الذاتي. لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا.١٣

الروم والمسلمون

هل فكر أحد من نصارى يومئذ في هذا الدين الجديد وفي إمكان التوفيق بين فكرة التوحيد فيه وبين ما جاء به عيسى؟ نعم، وآمن به منهم كثيرون. ولكن الروم الذين اغتبط المسلمون بنصرهم واعتبروه نصرًا للأديان الكتابية؛ لم يكلف سادتهم أنفسهم مئونة البحث في الدين الجديد، ولم يلبثوا أن نظروا إلى الأمر من ناحيته السياسية، وفكروا فيما يصيب ملكهم إذا تم للدين الجديد الغَلَب. ولذلك بدءوا يأتمرون به وبأهله، حتى أرسلوا جيشًا عرمرمًا عدته مائة ألف في رواية، ومائتا ألف في رواية أخرى، مما أدى إلى غزوة تبوك. وقد انسحب فيها الروم أمام المسلمين الذين خرجوا ومحمد على رأسهم لدفع عدوان لم يكن له ما يسوِّغه.

من يومئذ وقف المسلمون والنصارى موقف خصومة سياسية حالف النصر فيها المسلمين قرونًا متتالية امتدت إمبراطوريتهم في أثنائها إلى الأندلس غربًا وإلى الهند والصين شرقًا. وآمنت أكثر أجزاء هذه الإمبراطورية بالدين الجديد واستقرت فيها لغته العربية. فلما آن لدورة التاريخ أن تدور، طرد النصارى المسلمين من الأندلس، وحاربوهم الحروب الصليبية، وأخذوا يطعنون في دينهم ونبيهم طعنًا كله فحش وكذب وافتراء؛ ونسوا في فحشهم ما بلَّغ محمد عليه الصلاة والسلام في أحاديثه، وما بلغ القرآن في الوحي الذي نزل عليه، من رفع مقام عيسى عليه السلام إلى المستوى الذي رفعه الله إليه.

كتَّاب المسيحية ومحمد

جاء في موسوعة لاروس الفرنسية خلال العرض لآراء كتَّاب المسيحية إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر ممن نالوا من محمد شر نيل ما يأتي: «بقي محمد مع ذلك ساحرًا ممعنًا في فساد الخُلُق، لص نياق، كردينالًا لم ينجح في الوصول إلى كرسي البابوية، فاخترع دينًا جديدًا لينتقم من زملائه. واستولى القصص الخيالي والخليع على سيرته. وسيرة باهوميه (محمد) تكاد تقيم أدبًا من هذا النوع. وقصة محمد التي نشرها رينا وفرانسيسك ميشيل سنة ١٨٣١ تصور لنا الفكرة التي كانت لدى أهل العصور الوسطى عنه. وفي القرن السابع عشر نظر بيل في تاريخ أدب القرآن نظرة تاريخية. مع ذلك ظلت مقررات ظالمة ثابتة في نفسه عنه. على أنه يعترف مع ذلك بأن النظام الخلقي والاجتماعي الذي أقامه لا يختلف عن النظام المسيحي لولا القصاص وتعدُّد الزوجات.»

وإن واحدًا من المستشرقين الذين عرضوا لحياة محمد بشيء من الإنصاف — ذلك هو الكاتب الفرنسي إميل درمنجم — ليذكر بعض هذا الذي كتب إخوانه في الدين فيقول:١٤ «لما نشبت الحرب بين الإسلام والمسيحية اتسعت هوة الخلاف وسوء الفهم بطبيعة الحال وازدادت حدة. ويجب أن يعترف الإنسان بأن الغربيين كانوا السابقين إلى أشد الخلاف. فمن البزنطيين من أوقروا الإسلام احتقارًا من غير أن يكلفوا أنفسهم — فيما خلا جان داماسيين — مئونة دراسته. ولم يحارب الكتَّاب والنظامون مسلمي الأندلس إلا بأسخف المثالب. فقد زعموا أن محمدًا لص نياق، وزعموه متهالكًا على اللهو، وزعموه ساحرًا، رئيس عصابة من قطَّاع الطرق، بل زعموه قسًّا رومانيًّا مغيظًا محنقًا أن لم ينتخب لكرسي البابوية … وحسبه بعضهم إلهًا زائفًا يقرب له عباده الضحايا البشرية. وإن جبير دنوجن نفسه — وهو رجل جد — ليذكر أن محمدًا مات في نوبة سكر بَيِّن؛ وأن جسده وجد ملقى على كوم من الروث وقد أكلت منه الخنازير، وذلك ليفسر السبب الذي من أجله حُرِّم لحم ذلك الحيوان. وذهبت الأغنيات إلى حد أن جعلت محمدًا صنمًا من ذهب وجعلت المساجد الإسلامية برابيَّ ملأى بالتماثيل والصور! وقد تحدث واضع أغنية أنطاكية حديث من رأى صنم «ماحوم» مصنوعًا من ذهب ومن فضة خالصين وقد جلس فوق فيل على مقعد من الفسيفساء. أما أغنية رولان التي تصور فرسان شارلمان يحطمون الأوثان الإسلامية فتزعم أن مسلمي الأندلس يعبدون ثالوثًا مكوَّنًا من تَرْفَاجان وماهوم وأبلون. وتحسب «قصة محمد» أن الإسلام يبيح للمرأة تعدد الأزواج!

وقد ظلت حياة الأحقاد والخرافات قوية متشبثة بالحياة. فمنذ رُودُلْف دُلُوهَيْم إلى وقتنا الحاضر قام نيكولا دكيز، وفيفس، ومراتشي، وهوتنجر وبيلياندر، وبريدو وغيرهم، فوصفوا محمدًا بأنه دجال، والإسلام بأنه مجموعة الهرطقات كلها وأنه من عمل الشيطان، والمسلمين بأنهم وحوش، والقرآن بأنه نسيج من السخافات، وقد كانوا يعتذرون عن الحديث الجد في أمر هذا مبلغ سخافته. مع ذلك فإن بيير المحترم (فنرابل) مؤلف أول رسالة غربية ضد الإسلام قد ترجم القرآن في القرن الثاني عشر إلى اللاتينية. وفي القرن الرابع عشر كان بيير باسكال من الذين توسعوا في الدراسات الإسلامية. وقد وصف إنُّوسان الثامن محمدًا يومًا بأنه عدو المسيح. أما القرون الوسطى فلم تكن تحسب محمدًا إلا هرطيقًا. وكان لريمون ليون في القرن الثامن عشر، ولغليوم بستل في القرن السادس عشر، ولرولان وجانييه في القرن الثامن عشر، وللقسيس دبْرُجْلي ولرينان في القرن التاسع عشر آراء وأحكام مختلفة. على أن الكونت بولنفلييه وشول وكُوسَّان دبرسفال ودوزي وسبرنجر وبارتملي سانتيلير ودكاستري وكارليل وغيرهم يظهرون على وجه الإجمال إنصافًا للإسلام ونبيه، ويشيدون في بعض الأحيان بهما. مع ذلك فإن دروتي يتحدث في سنة ١٨٧٦ عن محمد قائلًا: «هذا الأعرابي المنافق القذر.» كما طعن عليه فوستر من قبل سنة ١٨٢٢. وما زال للإسلام حتى اليوم محاربون متحمسون.»

أرأيت الحضيض الذي هوت إليه هذه الطائفة من كتَّاب الغرب؟ أرأيت إصرارهم — مع توالي القرون — على الضلال وعلى إثارة العداوة والبغضاء بين أبناء الإنسانية؟! ومن هؤلاء من جاءوا في العصور التي يسمونها عصور العلم والبحث والتفكير الحر وتقرير الإخاء بين الإنسان والإنسان. قد يخفف من أثر الضلال قيام أولئك المنصفين إلى حد ما، ممن أشار إليهم درمنجم، ومنهم من يقر بصدق إيمان محمد بالرسالة التي عهد الله إليه تبليغها من طريق الوحي، ومنهم من يشيد بعظمة محمد الروحية وبسموِّ خلقه ورفعة نفسه وجم فضائله، ومن يصور ذلك في أقوى أسلوب وأتمه روعة. وإن بقي الغرب مع ذلك ينال من الإسلام ونبيه أشد النيل، ثم تبلغ منه الجرأة حتى يبث المبشرين في أنحاء البلاد الإسلامية يذيعون مثالبهم الوضيعة، ويحاولون صرف المسلمين عن دينهم إلى المسيحية.

سبب الخصومة بين الإسلام والمسيحية

يجب لذلك أن نبحث عن السبب الذي ترجع إليه هذه الخصومة الهوجاء وهذه الحرب العنيفة التي تثيرها المسيحية على الإسلام. وعندنا أن جهل الغرب بحقيقة الإسلام وبسيرة النبي في مقدمة ما يدعو إلى هذه الخصومة. والجهل — ولا ريب — من أعقد أسباب الجمود والتعصب وأشدها استعصاءً.

الجهل والتعصب

ولقد تراكم هذا الجهل على مر القرون، وقامت له في نفوس الأجيال تماثيل وأوثان يحتاج تحطيمها إلى قوة روحية كبرى كقوة الإسلام أول ظهوره، على أنَّا نحسب أن ثمة سببًا غير الجهل هو الذي دفع أهل الغرب إلى هذا التعصب وإلى إثارة الحرب الضروس الشعواء التي أثاروها ويثيرونها على الإسلام وعلى المسلمين آنًا بعد آنٍ. وليس ينصرف ذهننا إلى ما قد يدور بالخاطر من صروف السياسة وحب الظفر بالشعوب لاستغلالها: فتلك في اعتقادنا نتيجة لا سبب لهذا التعصب المستعصي حتى على العلم وعلى بحوثه.

المسيحية لا تلائم طبيعة الغرب

أما السبب في رأينا فيرجع إلى أن المسيحية، وما تدعو إليه من الزهد في الحياة واعتزال العالم ومن العفو والمغفرة ومن المعاني النفسانية السامية، ليست مما يلائم طبيعة الغرب الذي عاش ألوف السنين على دين تعدد الآلهة، والذي يدعوه مركزه الجغرافي إلى حياة الكفاح لمغالبة الزمهرير والضنك وسوء الحال. فإذا قضت الظروف التاريخية عليه بأن يدين بالمسيحية فلا مفر له من أن يُسبغ عليها ثوب الكفاح، وأن يخرجها بذلك عن طبيعتها السمحة الجميلة، وأن يفسد فيها هذا التناسق الروحي الذي يجعل منها حلقة في سلسلة الوحدة التي أتمها الإسلام: هذه الوحدة التي تؤاخي بين الروح والجسد وتزاوج بين العاطفة والعقل، وتسلك الفرد والإنسانية جميعًا في نظام الكون على أنهما بعض منه متَّسق وإياه في لا نهاية الزمان والمكان. هذا في رأينا هو مرجع السبب في تعصب الغرب في موقفه من الإسلام موقفًا تجافت الحبشة المسيحية عنه حين احتمى المسلمون بها أول ما دعا النبي إلى دين الله.

وإلى هذا السبب في رأيي، يرجع إغراق الغربيين وغلوُّهم في التدين وفي الإلحاد جميعًا، إغراق تعصب وكفاح لا يعرف الهوادة ولا يعرف التسامح. وإذا كان التاريخ قد عرف منهم قديسين احتذوا في حياتهم مثال السيد المسيح والحواريين، فإن التاريخ قد عرف كذلك أن حياة أمم الغرب كانت دائمًا حياة نضال وكفاح وحروب دامية باسم السياسة أو باسم الدين، وعرف أن بابوات الكنيسة وأرباب السلطة الزمنية كانوا في نزاع دائم يغالب بعضهم بعضًا، فيتغلب هذا يومًا ويتغلب ذاك يومًا آخر. ولما كان الفوز في القرن التاسع عشر قد تم للسلطة الزمنية، حاولت هذه السلطة أن تقضي على الحياة الروحية باسم العلم، وأن تزعم أن العلم سيحل من الحياة الإنسانية محل الإيمان من الحياة الروحية. وها هي ذي عرفت اليوم، بعد جهاد طويل، سوء رأيها، وأن ما قصدت إليه مستحيل تحقيقه. والصيحة تعلو اليوم من جوانب الغرب المختلفة يريد أهله حياةً روحية أضاعوها، فهم يتلمَّسونها في الثيوزوفية وغير الثيوزوفية.١٥ ولو أن المسيحية كانت تلائم غرائز الكفاح التي تنشأ بحكم الطبيعة كجزء من حياة أهل الغرب، لرأيتهم — وقد شعروا بعجز الفكرة المادية عن أن تلهمهم المدد الروحي — يعودون إلى الدين المسيحي الجميل دين عيسى ابن مريم، إن لم يهدهم الله إلى الإسلام، ولما كانوا في حاجة إلى هذه الهجرة إلى الهند وإلى غيرها يستمدون منها حياة روحية يشعر الإنسان بالحاجة إليها حاجته إلى التنفس؛ لأنها بعض طبعه، بل لأنها بعض نفسه وكيانه.

الاستعمار والدعوة ضد الإسلام

وقد عاون الاستعمار الغربي أهله على الاستمرار في الحملة التي أثاروها على الإسلام وعلى محمد، ودعاهم ليقولوا ما قال أهل مكة حين أرادوا أن يحمِّلوا النصرانية عار هزيمة هرقل والروم أمام فارس، فقد قالوا — ولا يزال الكثيرون منهم يقولون — إن الإسلام هو السبب في انحطاط الشعوب الآخذة به وفي خضوعهم لغيرهم. وهذه فرية يكفي لإدحاضها أن يذكر قائلها أن الشعوب الإسلامية ظلت صاحبة الحضارة الغالبة وصاحبة السيادة على العالم المعروف كله قرونًا متوالية، وأنها كانت محط رجال العلم والعلماء، وموئل الحرية التي لم يعرفها الغرب إلا من أمد قريب. فإذا أمكن أن يُنسب انحطاط طائفة من الشعوب إلى الدين الذي تؤمن به فلا يكون هذا الدينُ الإسلامَ، وهو الذي حفز بدو شبه جزيرة العرب وأثارهم ومكن لهم من حكم العالم.

الإسلام وما صارت إليه الشعوب الإسلامية

على أن لهؤلاء الذين يحملون الإسلام وزر انحطاط الشعوب الإسلامية من العذر أن أُضِيفَ إلى دين الله شيء كثير لا يرضاه الله ورسوله، واعتُبر من صلب الدين ورُمِي من ينكره بالزندقة. وندع الدين جانبًا ونقف عند سيرة صاحبه عليه الصلاة والسلام. فقد أضافت أكثر كتب السيرة إلى حياة النبي ما لا يصدقه العقل ولا حاجة إليه في ثبوت الرسالة، وما أضيف من ذلك قد اعتمد عليه المستشرقون واعتمد عليه الطاعنون على الإسلام ونبيه وعلى الأمم الإسلامية واتخذوه تُكَأتهم في مطاعنهم المثيرة لنفس كل منصف. اعتمدوا عليه وعلى ما ابتدعوه من عندهم وما زعموا أنهم يكتبونه على الطريقة العلمية الحديثة، هذه الطريقة التي تعرض الحوادث والناس والأبطال فتُصدر بعد ذلك حكمها عادلًا إن هي رأت لإصدار حكم محلًّا. فإذا أنت وقفت عند ما كتبه هؤلاء رأيته تمليه شهوة الجدل والتجريح، مصوغًا في عبارة لا تخلو من براعة تستهوي إخوانهم في العقيدة إلى الظن بأن البحث العلمي المجرد النزَّاع إلى الحقيقة وحدها يريد أن يستشفها من وراء كل الحجب، هو الذي وجَّه هؤلاء المتعصبين من الكتاب والمؤرخين. على أن السكينة التي يُنزلها الله على نفوس الراضين من الناس، كتَّابًا وعلماء، قد أدت بآخرين من أحرار الفكر ومن المسيحيين ليكونوا أدنى إلى العدل وأحرص على النَّصَفَة.

الجمود والاجتهاد عند المسلمين

ولقد قام بعض علماء المسلمين في ظروف مختلفة فحاولوا إدحاض مزاعم أولئك المتعصبين من أبناء الغرب. واسم الشيخ محمد عبده هو أنصع الأسماء في هذا الصدد. لكنهم لم يسلكوا الطريقة العلمية التي زعم أولئك الكتَّاب والمؤرخون الأوروبيون أنهم يسلكونها لتكون لحجتهم قوتها في وجه خصومهم.

أثر الجمود في الشباب

ثم إن هؤلاء العلماء المسلمين — والشيخ محمد عبده في مقدمتهم — قد اتهموا بالإلحاد والكفر والزندقة، فأضعف ذلك من حجتهم أمام خصوم الإسلام. ولقد كان اتهامهم هذا عميق الأثر في نفوس شباب المسلمين المتعلمين. شعر هؤلاء الشبان بأن الزندقة تقابل حكم العقل ونظام المنطق في نظر جماعة من علماء المسلمين، وأن الإلحاد عندهم قرين الاجتهاد، كما أن الإيمان قرين الجمود؛ لذلك جزعت نفوسهم وانصرفوا يقرءون كتب الغرب يتلمسون فيها الحقيقة، اقتناعًا منهم بأنهم لن يجدوها في كتب المسلمين. وهم لم يفكروا في كتب المسيحية والتاريخ المسيحي بطبيعة الحال؛ إنما فزعوا إلى كتب الفلسفة يتلمسون في أسلوبها العلمي رِيَّ ما في نفوسهم من ظمأ محرق للحق، وفي منطقها ضياءً للجذوة المقدسة الكمينة في النفس الإنسانية، ووسيلة إلى الاتصال بالكون وحقيقته العليا. وهم واجدون في كتب الغرب، سواء منها كتب الفلسفة وكتب الأدب الفلسفي وكتب الأدب نفسه، الشيء الكثير مما يغري الإنسان بالأخذ به، لروعة أسلوبها ودقة منطقها وما يظهر فيها من صدق القصد وخالص التوجه إلى المعرفة ابتغاء الحق. لذلك انصرفت نفوسهم عن التفكير في الأديان كلها وفي الرسالة الإسلامية وصاحبها، حرصًا منهم على ألا تثور بينهم وبين الجمود حرب لا ثقة لهم بالانتصار فيها، ولأنهم لم يدركوا ضرورة الاتصال الروحي بين الإنسان وعوالم الكون اتصالًا يرتفع به الإنسان إلى أرقى مراتب الكمال وتتضاعف به قوته المعنوية.

علم الغرب وأدبه

انصرف هؤلاء الشبان عن التفكير في الأديان كلها وفي الرسالة الإسلامية وصاحبها. وزادهم انصرافًا ما رأوا العلم الواقعي والفلسفة الواقعية (الوضعية) يقررانه من أن المسائل الدينية لا تخضع للمنطق ولا تدخل في حيز التفكير العلمي، وأن ما يتصل بها من صور التفكير التجريدي (الميتافيزيقي) ليس هو أيضًا من الطريقة العلمية في شيء. ثم إنهم رأوا الفصل بين الكنيسة والدولة واضحًا صريحًا في البلاد الغربية، ورأوا البلاد التي تقرر دساتيرها أن ملكها هو حامي البروتستنتية أو الكثلكة، أو تقرر أن دين الدولة الرسمي المسيحية، لا تقصد من ذلك إلى أكثر من مظاهر الأعياد والمواسم وما يتصل بها؛ فازدادوا انخراطًا في هذا التفكير العلمي وحرصًا على الأخذ منه ومما يتصل به من فلسفة وأدب وفن بأوفر نصيب. فلما آن لهم أن ينتقلوا من الدرس إلى الحياة العملية، شغلتهم هذه الحياة عن التفكير في المسائل التي انصرفوا من قبل عن التفكير فيها، وظل اتجاههم الفكري في تياره الأول، ينظر إلى الجمود العقلي مشفقًا مزدريًا، وينهل من وِرْد التفكير الغربي والفلسفة الغربية، فيجد فيهما لذة ويزداد بهما إعجابًا وعلى ما نهل صدر شبابه منهما حرصًا.

وليس ريب في أن الشرق اليوم في حاجة أشد الحاجة إلى النَّهَل من ورد الغرب في التفكير وفي الأدب والفن. فقد قطع ما بين حاضر الشرق الإسلامي وماضيه قرون من الجمود والتعصب غشت على تفكيره السليم القديم بطبقة كثيفة من الجهل وسوء الظن بكل جديد. فلا مفر لمن يريد أن يصهر هذه الطبقة من الاستعانة بأحدث صور التفكير في العالم، ليستطيع من هذه السبيل أن يصل بين الحاضر الحي وثروة الماضي وتراثه العظيم.

جهود التجديد الإسلامي

ومن الحق علينا للغرب أن نقول: إن ما يقوم به علماؤه اليوم من بحوث نفيسة في تاريخ الدراسات الإسلامية والدراسات الشرقية، قد مهَّد لأبناء الإسلام وأبناء الشرق أن يتزيَّدوا من هذه البحوث في تلك الدراسات وأن يكونوا أكبر رجاءً في الاهتداء إلى الحق؛ فهم أقرب بطبعهم إلى حسن إدراك الروح الإسلامي والروح الشرقي. وما دام التوجيه الجديد قد بدأ في الغرب، فواجب عليهم أن يتابعوه وأن يصححوا أغلاطه وأن يبثوا فيه الروح الصحيح الذي يعيده إلى الحياة ويصله بالحاضر، لا على أنه مجرد دراسة وبحث، بل على أن ميراث روحي وعقلي يجب أن يتمثله الوارثون، وأن يضيفوا إليه، وأن يزيدوا سَنَا ضيائه بما يزيد الحقيقة الكامنة فيه ضياءً ونورًا.

المبشرون والجامدون

وقد توفر منهم كثيرون على هذه البحوث يقومون اليوم بها على الطريقة العلمية الصحيحة؛ والمستشرقون أنفسهم يقدرون لهم ذلك ويشيدون بفضلهم فيه.

وبينا يقوم هذا التعاون العلمي الجديد بأن يؤتي خير الثمرات، إذا بنشاط رجال الكنيسة المسيحية لا يفتُر في الطعن على الإسلام وعلى محمد طعنًا لا يقل عما تلوت منه فيما سبقت الإشارة إليه. والاستعمار الغربي يؤيد بقوته أصحاب هذه المطاعن باسم حرية الرأي، مع أن أصحاب هذه المطاعن قد أُجْلُوا عن بلادهم وحيل بينهم وبين ما يسمونه تثبيت الإيمان في نفوس إخوانهم في الدين. وهذا الاستعمار يؤيد كذلك دعاة الجمود من المسلمين. وكذلك تضافر عمل الاستعمار على تأييد ما دس على الإسلام مما يبرأ الإسلام منه، وعلى سيرة الرسول من خرافات لا يُسيغها العقل ولا يقبلها الذوق، وعلى تأييد الطاعنين على الإسلام وعلى محمد بما دُس على الإسلام وعلى سيرة الرسول.

كيف فكرت في وضع هذا الكتاب؟

أتاحت لي ظروف حياتي العملية أن أرى ذلك كله في مختلفة بلاد الشرق الإسلامي، بل في البلاد الإسلامية كلها، وأن أتبين ما يقصد إليه من القضاء على الروح المعنوية في هذه البلاد بالقضاء على حرية الرأي وحرية البحث ابتغاء الحقيقة. وقد شعرت بأن عليَّ واجبًا أقوم به في هذا الموضوع لإفساد الغاية التي ترمي هذه الخطة إليها، والتي تضر الإنسانية كلها ولا يقف ضررها عند الإسلام والشرق. وأي أذى يصيب الإنسانية أكبر من العقم والجمود يصيبان نصفها الأكبر والأعرق في الحضارة على حِقَب التاريخ؟! ولذلك فكرت في هذا وأطلت التفكير، وهداني تفكيري آخر الأمر إلى دراسة حياة محمد صاحب الرسالة الإسلامية، وهدف مطاعن المسيحية من ناحية، وجمود الجامدين من المسلمين من الناحية الأخرى، على أن تكون دراسة علمية على الطريقة الغربية الحديثة، خالصة لوجه الحق، ولوجه الحق وحده.

بدأت أراجع تاريخ محمد، وأعيد النظر في سيرة ابن هشام وطبقات ابن سعد ومغازي الواقدي، وعدت إلى كتاب سيد أمير علي (روح الإسلام)، ثم حرصت على أن أقرأ ما كتب بعض المستشرقين، فقرأت كتاب دِرْمِنْجِم وكتاب وشنطن إِرْفِنْج، ثم انتهزت فرصة وجودي بالأقصر في شتاء سنة ١٩٣٢ وبدأت أكتب. ولقد ترددت يومئذ في أن أجعل البحث الذي أطالع قرائي به من وضعي أنا خيفة ما قد يقوم به أنصار الجمود والمؤمنون بالخرافات من ضجة تفسد عليَّ ما أريد. لكن ما لقيت من إقبال وتشجيع من طائفة شيوخ المعاهد، وما أبدى لي بعضهم من ملاحظات تدل على العناية بالبحث الذي أقوم به، جعلني أفكر تفكيرًا جديًّا في إنفاذ ما اعتزمت من كتابة حياة محمد على الطريقة العلمية الصحيحة كتابةً مفصلة، ودعاني إلى التفكير في أمثال الوسائل لتمحيص السيرة تمحيصًا علميًّا جهد ما أستطيع.

القرآن أصدق مرجع

ولقد تبينت أن أصدق مرجع للسيرة إنما هو القرآن الكريم؛ فإن فيه إشارة إلى كل حادث من حياة النبي العربي يتخذها الباحث منارًا يهتدي به في بحثه، ويمحص على ضيائه ما ورد في كتب السنة وما جاء في كتب السيرة المختلفة. وأردت جاهدًا أن أقف على كل ما ورد في القرآن متصلًا بحياة النبي؛ فإذا معونة صادقة في هذا الباب يقدمها إليَّ الأستاذ أحمد لطفي السيد الموظف بدار الكتب المصرية، هي مجموعة وافية مبوبة لآيات القرآن المتصلة بحياة من أوحي الكتاب الكريم إليه. وأخذت أدقق في هذه الآيات، فرأيت أنْ لا بد من الوقوف على أسباب نزولها وأوقات هذا النزول ومناسباته. وأعترف بأني — على ما بذلت في ذلك من جهد — لم أوفق لكل ما أردت منه. فكتب التفسير تشير أحيانًا إليه وتهمل هذه الإشارة في أكثر الأحايين. ثم إن كتاب «أسباب النزول» للواحدي، وكتاب «الناسخ والمنسوخ» لابن سلامة، إنما تناولا هذا الموضوع الجليل الجدير بكل تدقيق واستيفاء تناولًا موجزًا. على أنني وقفت فيهما وفيما رجعت إليه من كتب التفسير على مسائل عدة استطعت أن أمحص بها ما ورد في كتب السيرة، ووجدت فيهما وفي كتب التفسير نفسها أشياء جديرة بمراجعة العلماء المتبحرين في علوم الكتاب والسنة وتحقيقهم إياها من جديد تحقيقًا دقيقًا.

المشورة الصادقة

ولما تقدم بي البحث بعض الشيء ألفيت المشورة الصادقة تصل إليَّ من كل صوب، ومن ناحية الشيوخ أكثر من كل ناحية أخرى بطبيعة الحال. وكانت المعونة الكبرى معونة دار الكتب ورجالها الذين أمدُّوني من ألوان المعونة بما لا يفي الشكر بحسن تقديره. ويكفي أن أذكر أن الأستاذ عبد الرحيم محمود المصحح بالقسم الأدبي بدار الكتب كان يكفيني مئونة الذهاب إلى الدار في كثير من الأحيان ويستعير لي ما أريد استعارته من الكتب مشمولًا بعطف مدير الدار وكبار القائمين بالأمر فيها؛ وأن أذكر أني في كل مرة ذهبت إلى الدار كنت أجد أجمل العون في البحث عما أريد البحث فيه من موظفي الدار كبارًا وصغارًا، من عرفت منهم ومن لم أعرف. ثم إنه كانت تستغلق عليَّ بعض المسائل أحيانًا فأفضي إلى من آنس فيه المعرفة من أصدقائي بما استغلق عليَّ فأجد في كثير من الأحيان خير العون. وجدت ذلك غير مرة عند الأستاذ الأكبر محمد مصطفى المراغي، ووجدته عند صديقي الضليع جعفر (باشا) والي الذي أعارني عدة كتب كصحيح مسلم وتواريخ مكة، ودلني على غير مسألة من المسائل وهداني إلى موضعها، وقد أعارني صديقي الأستاذ مكرم عبيد (باشا) كتاب المستشرق السير وليم موير «حياة محمد» وكتاب الأب لامنس «الإسلام». هذا إلى ما وجدت من عون في مؤلفات المعاصرين القيِّمة ككتاب «فجر الإسلام» للأستاذ أحمد أمين، و«قصص الأنبياء» للأستاذ عبد الوهاب النجار، و«في الأدب الجاهلي» للدكتور طه حسين، و«اليهود في بلاد العرب» لإسرائيل ولفنسن، وغير هذه من كتب المعاصرين كثير ذكرته في بيان المراجع القديمة والحديثة التي استعنت بها على وضع هذا الكتاب.

ولقد كنت كلما ازددت توسعًا في البحث أرى مسائل تنجم أمامي وتستدعي التكفير ومزيدًا من البحث لحلها. وكما عاونتني كتب السير وكتب التفسير في الاهتداء إلى غاية من تفكيري أطمئن إليها، عاونتني كذلك كتب المستشرقين في الاهتداء إلى غاية أطمئن إليها. على أنني رأيتني مضطرًّا في كل المواقف لأقصر بحثي في حدود حياة محمد نفسه ما لم أضطر إلى تناول مسائل أخرى متصلة بهذا البحث اضطرارًا. ولو أنني أردت أن أبحث كل ما اتصل بهذه الحياة الفيَّاضة العظيمة، لاحتاج الأمر إلى وضع مجلدات عدة في حجم هذا الكتاب. ويحسن أن أذكر أن كُوسَّان دِبِرْسفال وضع ثلاثة مجلدات بعنوان «رسالة في تاريخ العرب»، جعل المجلدين الأولين منها في تاريخ قبائل العرب وحياتها، وجعل الثالث عن محمد وخليفتيه الأولين أبي بكر وعمر. وطبقات ابن سعد تقع في مجلدات كثيرة يتناول جزؤها الأول حياة محمد، وسائر أجزائها حياة أصحابه. ولم يكن غرضي أول ما بدأت البحث ليتجاوز حياة محمد، فلم أرد في أثنائه أن أتركه يتشعب فيَحُول ذلك بيني وبين الغاية التي إليها قصدت.

في حدود السيرة لا أتعداها

وشيء آخر كان يمسكني في حدود هذه الحياة؛ ذلك روعة جلالها وباهر ضيائها جلالًا وضياءً يتوارى دونهما كل ما سواهما. فما كان أعظم أبا بكر! وما كان أعظم عمر؛ إذ كان كل منهما في خلافته علمًا يحجب سواه! وما أشد ما كان للسابقين الأولين إلى صحبة محمد من عظمة ثبتت على الأجيال وهي بعدُ مما تفاخر به الأجيال. لكن بهؤلاء جميعًا كانوا يستظلون أثناء حياة النبي بجلال عظمته ويستضيئون بباهر لألائه. فليس من اليسير على من يبحث في سيرة الرسول أن يدعها لشيء سواها. وهو أشد شعورًا بذلك إذا تناول البحث على الطريقة العلمية الحديثة على نحو ما حاولت أن أفعل؛ هذه الطريقة التي تجلو عظمة محمد على نحو يبهر العقل والقلب والعاطفة جميعًا، ويغرس فيها من الإجلال للعظمة والإيمان بقوتها ما لا يختلف فيه المسلم وغير المسلم.

وأنت إذا طرحت جانبًا أولئك المتعصبين الحمقى الذين جعلوا النيل من محمد دأبهم كالمبشرين وأشباههم، فإنك واجدٌ هذا الإجلال للعظمة والإيمان بقوتها في كتب العلماء المستشرقين واضحين جليين. عقد كارليل في كتابه «الأبطال» فصلًا عن محمد صوَّر فيه الجذوة الإلهية المقدسة التي أوحت إلى محمد ما أوحت فصوَّر العظمة في جلال قوتها. وموير، وإرفنج، وسبرنجر، وفيل، وغيرهم من المستشرقين والعلماء قد صوَّر كل واحد منهم عظمة محمد تصويرًا قويًّا وإن وقف هذا أو ذاك منهم عند مسائل اعتبرها مآخذ على صاحب الرسالة الإسلامية، لغير شيء إلا أنه لم يمتحنها ولم يمحصها التمحيص العلمي الدقيق، ولأنه اعتمد فيها على ما ورد في بعض كتب السيرة أو كتب التفسير من الروايات المضطربة، متناسيًا أن أول كتب السيرة إنما كتب بعد قرنين من عصر محمد دُسَّت أثناءهما في سيرته وفي تعاليمه إسرائيليات كثيرة، ووضعت أثناءهما ألوف الأحاديث المكذوبة. ومع أن المستشرقين يقرِّرون هذه الحقيقة، تراهم لا يأبون مع ذلك تناسيها ليقرروا أمورًا يعتبرونها صحيحة مع أن أقل التمحيص ينفيها. من ذلك مسألة الغرانيق، ومسألة زيد وزينب، ومسألة أزواج النبي، مما أتيح لي امتحانه وتمحيصه في هذا الكتاب.

الكتاب بداءة البحث

لست مع ذلك أحسبني أوفيت على الغاية من البحث في حياة محمد. بل لعلِّي أكون أدنى إلى الحق إذا ذكرت أني بدأت هذا البحث في العربية على الطريقة العلمية الحديثة، وأن ما بذلت في هذه السبيل من مجهود لا يُخرج هذا الكتاب عن أنه بداءة البحث من ناحية علمية إسلامية في هذا الموضوع الجليل. وإذا كان جماعة من العلماء والمؤرخين قد انقطعوا لبحث عصر من العصور، كما انقطع أولار في فرنسا لبحث عصر الثورة الفرنسية، وكما انقطع غيره من العلماء لبحث عصر أو عصور معينة من التاريخ في مختلف الأمم، فحياة محمد جديرة بأن ينقطع لبحثها على طريقة علمية جامعية أكثر من أستاذ يتخصص فيها ويتوفر عليها. وليس يساورني شك في أن الانقطاع والبحث العلمي، في هذه الفترة القصيرة من حياة بلاد العرب واتصالها بحياة الأمم المختلفة في ذلك العصر، تؤتي نتائجه العالم كله، لا الإسلام والمسلمين وحدهم، خير الثمرات. فهي تجلو أمام العلم كثيرًا من المسائل النفسية والروحية فضلًا عما تفيض عليه من ضياء في نواحي الحياة الاجتماعية والخلقية والتشريعية لا يزال العلم يتردد أمامها متأثرًا بهذا النزاع الديني بين الإسلام والنصرانية، وبهذه المحاولات العقيمة التي يُقصد منها إلى «تغريب» الشرقيين أو تنصير المسلمين، مما ثبت على الأجيال إخفاقه واستحالته وسوء أثره في علاقات أجزاء الإنسانية المختلفة بعضها ببعض.

فائدة البحث إنسانية عامة

وأذهب إلى أبعد مما تقدم فأقول: إن هذا البحث جدير بأن يهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة الجديدة التي تتلمسها. وإذا كانت نصرانية الغرب تستكبر أن تجد النور الجديد في الإسلام ورسوله وتشيم هذا النور في ثيوزوفية الهند وفي مختلف مذاهب الشرق الأقصى فإن رجال هذا الشرق من المسلمين واليهود والنصارى جميعًا خليقون أن يقوموا بهذه البحوث الجليلة بالنزاهة والإنصاف اللذين يكفلان وحدهما الوصول إلى الحق. فالتفكير الإسلامي — على أنه تفكير علمي الأساس على الطريقة الحديثة في صلة الإنسان بالحياة المحيطة به، وهو من هذه الناحية واقعي بحت — ينقلب تفكيرًا ذاتيًّا حين يتصل الأمر بعلاقة الإنسان بالكون وخالق الكون، ويُبدع لذلك في النواحي النفسية والنواحي الروحية آثارًا يقف العلم بوسائله حائرًا أمامها، لا يستطيع أن يُثبتها ولا أن ينفيها، وهو لا يعتبرها حقائق علمية، ثم هي تظل مع ذلك قوام سعادة الإنسان في الحياة ومقوِّمة سلوكه فيها. فما الحياة؟ وما صلة الإنسان بهذا الكون؟ وما حرصه على الحياة؟ وما هي العقائد المشتركة التي تبعث في الجماعات القوة المعنوية التي تضمحل بضعف هذه العقائد المشتركة؟ وما الوجود؟ وما وحدة الوجود؟ وما مكان الإنسان من الوجود ووحدته؟

هذه مسائل خضعت للمنطق التجريدي ووجدت منه أدبًا مترامي الأطراف. لكنك تجد حلها في حياة محمد وتعاليمه أدنى لتبليغ الناس سعادتهم من هذا المنطق التجريدي الذي أفنى فيه المسلمون قرونًا منذ العهد العباسي، وأفنى فيه الغربيون ثلاثة قرون منذ القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر مما انتهى بالغرب إلى العلم الحديث على نحو ما انتهى بالمسلمين فيما مضى، ثم وقف العلم في الماضي كما أنه مهدَّد اليوم بالوقوف دون إسعاد الإنسانية. ولا سبيل إلى دَرَكِ هذه السعادة إلى العود إلى حسن إدراك هذه الصلة الذاتية بالوجود وخالق الوجود في وحدته التي لا تتغير سننها ولا يعتبر للزمان أو المكان فيها إلا وجود نسبي لحياتنا القصيرة. وحياة محمد هي لا ريب خير مثل لدراسة هذه الصلة الذاتية دراسة علمية لمن أراد، ودراسة عملية لمن تؤهله مواهبه أن يحاول هذا الاتصال في مراتب أولية لبعد ما بينه وبين الصلة الإلهية التي أفاء الله على رسوله. وأكبر ظني أن هاتين الدراستين خليقتان، يوم يتاح لهما التوفيق، أن تنقذا عالمنا الحاضر من وثنية تورط فيها على اختلاف عقائده الدينية أو العلمية، وثنية جعلت المال وحده معبودًا، وسخَّرت كل ما في الوجود من علم وفن وخلق ومواهب لعبادته والتسبيح بحمده.

قد يكون هذا التوفيق ما يزال بعيدًا. لكن طلائع القضاء على هذه الوثنية التي تتحكم في عالمنا الحاضر، وتوجه الحضارة الحاكمة فيه، واضحة لكل من تتبع سيرة العالم وأحداثه. فلعل هذه الطلائع تتواتر وتقوى دلالتها إذا انجلت أمام العلم تلك المسائل الروحية بالتخصص لدراسة حياة محمد النبي وتعاليمه وعصره والثورة الروحية التي انتشرت في العالم أثرًا من آثاره. وإذا أتاحت الدراسة العلمية والدراسة الذاتية لقوى الإنسانية الكمينة مزيدًا من اتصال بني الإنسان بحقيقة الكون العليا، كان ذلك الحجر الأول في أساس الحضارة الجديدة.

وهذا الكتاب ليس إلا محاولة بدائية في هذه السبيل كما قدَّمت. وبحسبي أن يُقنع هذا الكتاب الناس بما فيه، وأن يُقنع العلماء والباحثين بضرورة الانقطاع والتخصص لبلوغ الغاية من بحث موضوعه. ولو أنه أثمر أيًّا من هذين الأثرين أو كليهما، لكان ذلك أكبر جزاء أرجو عن المجهود الذي بذلت فيه. والله يجزي المحسنين.

محمد حسين هيكل
١  يذكر الدكتور بتلر في كتابه «فتح العرب لمصر» أن اسم هذا القائد خوريام، وأن «شهر برز» و«شهر براز» و«شراوزية» وغيرها من الأسماء التي لقب بها في الكتب المختلفة ليست إلا تحريفًا للاسم الفارسي «شهر-وزر»، وهو لقب معناه «الخنزير البري للملك» رمزًا للقوة الباسلة، فكانت صورته ماثلة لذلك على خاتم فارس القديمة وكذلك على خاتم أرمينية. (راجع فتح العرب لمصر ص٥٣).
٢  سور الروم الآيات من ١ إلى ٦.
٣  سورة المائدة آية ٨٢.
٤  سورة آل عمران، الآيات من ٤٥ إلى ٤٩.
٥  سورة المائدة آيتا ١٧، ١٨.
٦  سورة المائدة آيتا ٧٢، ٧٣.
٧  سورة المائدة، الآيات من ١١٦ إلى ١١٨.
٨  سورة الإخلاص.
٩  سورة مريم آية ٣٥.
١٠  سورة آل عمران آية ٥٩.
١١  سورة النساء آية ٤٨.
١٢  سورة النساء آيتا ١٥٧، ١٥٨.
١٣  سورة لقمان آية ٣٣.
١٤  راجع كتاب درمنجم «حياة محمد» ص١٣٥ وما بعدها.
١٥  الثيوزوفية مذهب استنبطته مدام بلافاتسكي الأمريكية من أديان الهند ومن البوذية والبرهمية منها بنوع خاص، ودعته دين الحكمة. وقد تأسست لهذا المذهب جمعية في أمريكا كانت مدام بلافاتسكي رئيستها، وتأسست فروع لهذه الجمعية في بلاد أوروبا المختلفة. على أن مدام بلافاتسكي ما كادت تموت حتى انقسمت الجمعية الثيوزوفية إلى ثلاث شعب. ومذهب هذه الجمعية يقوم على وحدة الحياة، ويدعو إلى نوع من الرياضة الصوفية لبلوغ مرتبة «النرفانا» البوذية، وهذه المرتبة يبلغها صاحبها حين يصل من رياضته إلى الفصل التام بين الروح والتأثر بماديات الحياة، وحين تسمو الروح بذلك إلى مكان من القدسية والطهر تتصل فيه الأرواح العليا. ومذهب الثيوزوفية يدع كذلك إلى إخاء الإنسانية إخاءً عامًا تزول معه فوارق الجنس واللغة وكل ما يعتبره الناس عوائق دون هذا الإخاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤