تقديم الطبعة الثانية

نفدت طبعة هذا الكتاب الأولى بأسرع من كل ما قدِّر لها. فقد صدر منها عشرة آلاف نسخة نفد ثلثها بالاشتراك في الكتاب أثناء طبعه. ونفد سائرها خلال ثلاثة أشهر من صدوره، ولقد دل الإقبال على اقتناء هذا الكتاب على عناية القراء بالبحث الذي يحتويه؛ لذلك لم يكن بد من التفكير في إعادة طبعه، وفي إعادة النظر فيه.

ملاحظة على الكتاب

وموضوع الكتاب هو السبب الأول في الإقبال عليه لا ريب. ولعل الطريقة التي عولج الموضوع بها كانت ذات أثر في الإقبال عليه كذلك. وأيًّا كان السبب فقد سألت نفسي حين فكرت في أمر الطبعة الثانية: أفأعيدها صورة من الطبعة الأولى لا أزيد فيها ولا أنقص منها، أم أرجع إليها بالتنقيح والزيادة والتصحيح فيما تتضح لي ضرورة تصحيحه أو تنقيحه أو الزيادة عليه؟ أشار عليَّ بعض من أقدر مشورتهم أن أجعل الطبعة الثانية صورة من الطبعة الأولى كيما تتحقق المساواة بين الذين يقتنون أيًّا من الطبعتين، ولكي يتسع لي زمن المراجعة والتنقيح فيما بعد هذه الطبعة الثانية. وكدت آخذ بهذا الرأي. ولو أنني فعلت لكانت هذه الطبعة في أيدي القراء منذ أشهر. غير أني ترددت في الأخذ بهذه المشورة، ثم انتهيت إلى ضرورة التنقيح والزيادة لاعتبارات شتى. وكان أول هذه الاعتبارات بعض ملاحظات تفضل الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي بإبدائها لي حين أطلعته على ما تم طبعه من الكتاب قبل ظهور طبعته الأولى فتفضل بوضع التعريف الذي صدَّرت الكتاب به، فلما ظهر الكتاب تفضل بعض الكتاب والعلماء بالتنويه به في الصحف والمجلات وعن طريق الإذاعة، وأبدوا ما عنَّ لهم من الملاحظات عليه. وقد أبديت هذه الملاحظات جميعًا بعد الثناء الجم على مجهود بذلته لست أحسبه جديرًا بكل هذا التقدير، وأُبديت حرصًا على ألا تشوب كتابًا عن النبي العربي هَنَةٌ من الهَنَات ما دام مؤلفه قد وفق في وضعه توفيقًا أرضاهم ونال تقديرهم؛ لذلك لم يكن بد من أن أعير هذه الملاحظات ما هي جديرة به من عظيم العناية.

ولعل هذا الرضا والتقدير هما اللذان جعلا طائفة من هذه الملاحظات تَرِدُ على مسائل كمالية لا تتصل بجوهر الكتاب ولا بما ورد من الروايات فيه. فمنها ما يرجو أصحابه إيضاح بعض أمور رأوها في حاجة إلى الإيضاح. ومنها ما يرمي إلى مزيد من التدقيق في استعمال حروف الجر، أو إلى اقتراح بعض ألفاظ بدل أخرى يعتقد الذين اقترحوها أنها أدق تعبيرًا عن المعنى المقصود، على أن طائفة من الملاحظات انصبت على بعض مباحث الكتاب فدفعتني إلى مزيد من التفكير والمراجعة.

ولشد ما أحرص على أن تكون هذه الطبعة الثانية أدنى إلى إرضاء هؤلاء العلماء جميعًا، وإن كنت لا أرى في البحث كله، كما ذكرت في تقديم الكتاب، إلا أنه بداءة بحث في موضوعه باللغة العربية وضع على الطريقة العلمية الحديثة.

ومما أدى بي كذلك إلى تناول الطبعة الأولى بالتنقيح والزيادة، أنني عدت إلى تلاوة الكتاب بعدها. بعد أن وقفت على ما أبدي عليه من ملاحظات لم يغب أكثرها عني أثناء وضع الكتاب، فاقتنعت بضرورة الإفاضة في تمحيص بعض ما وردت الملاحظات عليه لإقناع أصحاب هذه الملاحظات بوجهة نظري وصواب حجتي. وقد هدتني مراجعاتي التي قمت بها لهذه الغاية إلى مواضع للتأمل جديرة بأن يتناولها كل كاتب سيرة النبي العربي. ولئن اغتبطت لأنني تناولت في الطبعة الأولى كل ما أشارت الملاحظات إليه، لأنا اليوم أشد اغتباطًا بأن أفيض في بعض المباحث إفاضة أعتبرها ضرورية في هذه الدراسة التمهيدية لحياة أعظم إنسان عرفه التاريخ، خاتم الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام.

وقد حاولت في هذا التقديم لطبعة الكتاب الثانية تمحيص طائفة من الملاحظات التي أبديت على طريقة البحث في الطبعة الأولى. وأضفت في آخر الكتاب فصلين تناولت فيهما أمورًا مررت بموضوعها لمامًا في خاتمة الطبعة الأولى، كما أني نقحت وأضفت في تضاعيف الكتاب ما رأيت تنقيحه أو إضافته بعد الذي هدتني إليه مراجعاتي وتأملاتي، إتمامًا للبحث وإجابةً لأصحاب الملاحظات عن ملاحظاتهم.

أنصار المستشرقين والرد عليهم وما يؤاخذونني به

وفي مقدمة ما أتناوله بالتفنيد رسالة وردت إليَّ من كاتب مصري ذكر أنها ترجمة عربية لمقال بعث به إلى مجلة المستشرقين الألمانية نقدًا لهذا الكتاب. ولم أنشر هذه الرسالة في الصحف العربية لأن بها مطاعن لا سند لها؛ ولذلك تركت لصاحبها أن يتحمل تبعة نشرها إن شاء. ولم أر أن أذكر اسمه في هذا التقديم اقتناعًا مني بأنه سيعدل عن نسبتها إليه بعد أن يقرأ تفنيدها. وخلاصة هذه الرسالة أن البحث الذي قمت به في «حياة محمد» ليس بحثًا علميًّا بالمعنى الحديث؛ لأنني اعتمدت فيه على المصادر العربية وحدها، ولم أرجع إلى مباحث المستشرقين الألمان من أمثال «فيل» و«جولدزهر» و«نولدكي» وغيرهم، ولم آخذ بنتائج هذه البحوث؛ ولأني اعتبرت القرآن وثيقة تاريخية لا محل لريبة فيها، مع أن مباحث هؤلاء المستشرقين تدل على أنه حُرِّفَ وبُدِّلَ بعد وفاة النبي وفي الصدر الأول للإسلام، واسم النبي بعض ما بدل فيه؛ فقد كان اسمه «قثم» أو «قثامة» ثم أبدل من بعد وصار «محمدًا» ليتسنى وضع الآية: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ. إشارةً إلى ما جاء في الإنجيل عن النبي الذي يجيء بعد عيسى. ويضيف الكاتب إلى أقواله هذه أن بحوث المستشرقين دلت كذلك على أن النبي كان يصاب بالصرع، وأن ما كان يسميه الوحي الذي ينزل عليه إنما كان أثرًا لنوبات الصرع التي كانت تعتريه، وأن أعراض الصرع كانت تبدو على محمد فكان يغيب عن صوابه، ويسيل منه العرق، وتعتريه التشنجات، وتخرج من فيه الرغوة، فإذا أفاق من نوبته ذكر أنه أوحي إليه، وتلا على المؤمنين به ما يزعم أنه من وحي ربه.

أسباب خطأ المستشرقين

لم أكن لأُعنَى بهذه الرسالة ولا بتفنيد ما فيها لولا أن كاتبها مصري ومسلم، ولو أنه كان مستشرقًا أو مبشرًا لتركته ملقى حبله على غاربه، يقول ما تمليه عليه أهواؤه وما تنضح به شهواته، وحسبي ما ذكرت في تقديم الكتاب وفي تضاعيفه إدحاضًا لأقوال هؤلاء وأولئك. لكن كاتب هذه الرسالة إنما هو مثل لطائفة من شبابنا ورجالنا المسلمين الذين يتلقون كل ما يقوله المستشرقون بقبول حسن، ويعتبرونه العلم الصحيح المعبِّر عن الحقيقة الخالصة. وإلى هؤلاء أوجه القول هنا لأحذرهم ما يقع المستشرقون فيه من خطأ. وبعض هؤلاء المستشرقين مخلص في بحثه على رغم خطئه. لكن الخطأ يتسرب إلى بحثه لعدم دقته في إدراك أسرار اللغة العربية تارةً، ولما يشوب نفوس طائفة من هؤلاء العلماء من الحرص على هدم مقررات دين من الأديان، أو على هدم مقررات الأديان جميعًا، تارةً أخرى. وهذا وذاك إسراف كان يجمل بالعلماء أن يجتنبوه. ولقد رأينا مسيحيين دفعهم هذا الإسراف إلى إنكار أن عيسى وُجد على التاريخ، ورأينا آخرين تخطوا حدود الإسراف فكتبوا عن جنون عيسى. وإنما دعا إلى هذه النزعة في أوروبا ما بين الكنيسة والدولة من نزاع أدى برجال العلم وبرجال الدين، كلٌّ من ناحيته، إلى الحرص على الغلب لاقتناص السلطان والحكم. أما والإسلام بريء من هذا النزاع فليتَّق الباحثون من أبنائه سلطان هذه الشهوة التي يخضع لها رجال الغرب، والتي تفسد على العلماء بحوثهم أكثر الأمر، ويجب عليهم لذلك أن يأخذوا حذرهم حين يطلعون على ما يصدر عن الغرب من مباحث دينية، وأن يمحصوا كل ما يصوره العلماء على أنه حق. فالكثير منه يتأثر بمقدار غير قليل بهذا الماضي الذي جعل الخصومة متصلة بين رجال الدين ورجال العلم قرونًا متوالية.

الاعتماد على كتَّاب السيرة من المسلمين

وما ورد في رسالة هذا المصري المسلم مما لخصته هنا بالغ الدلالة على وجوب هذا الحذر. فأول ما يأخذه عليَّ أنني اعتمدت على المراجع العربية والإسلامية واتخذتها أساسًا لبحثي. ولست أنكر ذلك. على أنني قد رجعت إلى كتب المستشرقين ممن ذكرت في سجل المراجع، لكن المصادر العربية كانت دائمًا الأساس الأول لهذا البحث الذي قمت به. وهذه المصادر العربية كانت الأساس الأول كذلك لمباحث المستشرقين جميعًا. وهذا طبيعيٌّ؛ فهذه المصادر — وفي مقدمتها القرآن — هي أول من تحدث عن حياة النبي العربي. فلا جرم أن تكون العمدة والأساس لكل من يريد أن يكتب سيرته بأسلوب العصر وطريقته. و«نولدكي» و«جولدزهر» و«فيل» و«سبرنجر» و«موير» وغيرهم من المستشرقين قد جعلوها عمدتهم في بحثهم كما جعلتها عمدتي في بحثي. وقد أبحتُ لنفسي في تمحيصها ونقدها ما أباحوه لأنفسهم من حرية، كما أنني لم أغفل بعض ما اعتمدوا عليه من كتب المسيحيين الأقدمين وإن أملاها التعصب الديني للمسيحية ولم يملها النقد العلمي بحال، فإذا لامني لائم لأنني لم أتقيد بالنتائج التي وصل بعض المستشرقين إليها، أو لأنني أبحتُ لنفسي مخالفتهم ونقدهم، فتلك دعوة إلى الجمود العلمي لا تقل رجعية ولا تأخرًا عن أية دعوة إلى الجمود في الميادين العقلية والروحية جميعًا. وما أحسب أحدًا من المستشرقين أنفسهم يوافق على هذه الدعوة إلى الجمود العلمي، ولو أن أحدهم أقرَّها لجاز إقرار الدعوة إلى الجمود الديني. وهذا وذاك ما لا أرضاه لنفسي ولا أرضاه لأحد ممن يريدون الاشتغال بالبحوث التاريخية على وجه علمي صحيح. إنما أعمل وأطالب غيري أن يعمل على تمحيص ما يقع عليه من مباحث غيره. فإن اقتنع بها عن بينة وبعد أن يقوم لديه الدليل القاطع عليها فذاك، وإلا فليعمل من ناحيته للوصول إلى الحقيقة حتى يقتنع بأنه وصل إليها. هذا ما أدعو إليه شبابنا ورجالنا المعجبين ببحوث المستشرقين، وهذا ما فعلت؛ ولي أجر المصيب على ما أصبت فيه، ولي عذر الباحث عن الحقيقة مع صدق القصد في توخِّي السبيل إليها إن أخطأني التوفيق في شيء منه.

المستشرقون والمقررات الدينية

ومن الأدلة على تأثر بعض المستشرقين بحرصهم على هدم المقررات الدينية وإسرافهم في ذلك ما ذهب إليه كاتب الرسالة المصري المسلم من أن مباحث هؤلاء المستشرقين تدل على أن القرآن ليس وثيقة تاريخية لا محل لريبة فيها، وأنه حُرِّف بعد وفاة النبي وفي صدر الإسلام، وأضيفت إليه أثناء ذلك آيات لأغراض دينية أو سياسية. ولست أناقش صاحب الرسالة من ناحية إسلامية فأحاجُّه، وهو مسلم، بما يقرره الإسلام من أن القرآن كتاب الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ فهو يذهب مذهب المستشرقين من أن القرآن كتاب وضعه محمد، عن إيمان منه بأن هذا الكتاب وحي الله في رأي طائفة من هؤلاء المستشرقين، وحرصًا منه على إثبات رسالته بما يذكر من أن هذا القرآن وحي الله إليه في رأي الآخرين. فلأخاطبه إذن بلغته على أنه من أحرار الفكر الذين لا يريدون أن يتقيدوا إلا بما يثبته العلم إثباتًا يقينيًّا.

فرية تحريف القرآن

هو يعتمد على المستشرقين وما يقولونه. ومن المستشرقين طائفة تزعم بالفعل في أمر القرآن ما نقله عنهم. لكن زعمهم هذا يدل على أنهم إنما تدفعهم إليه أغراض يبرأ منها العلم ولا تخفى على أحد. وحسبك دليلًا على ذلك قولهم: إن عبارة وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ، التي وردت في الآية السادسة من سورة الصف، إنما أضيفت بعد وفاة النبي لالتماس الدليل على نبوَّة محمد ورسالته من الكتب المقدسة السابقة للقرآن، فلو أن الذين قالوا هذا القول من المستشرقين كانوا يخلصون للعلم حقًّا لما جاءوا إلى مثل هذا التدليل القائم عندهم على أن التوراة والإنجيل كتابان مقدسان بالفعل. فلو أنهم كانوا يريدون العلم للعلم لسوَّوْا بين القرآن والكتب المقدسة التي سبقته؛ فإما اعتبروه مقدسًا مثلها، فذكره الكتب المقدسة التي عرفها الناس قبله طبيعي لا محل لرفضه، وإما اعتبروا هذه الكتب كما اعتبروا القرآن وقالوا في شأنها ما قالوه في شأنه، وقرروا أن أصحابها وضعوها لأغراض دينية أو سياسية خاصة. ولو أنهم قالوا مثل هذا القول لقضى المنطق بفساد ما ذهبوا إليه من تحريف القرآن لأغراض سياسية أو دينية، فما كان للمسلمين أن يلتمسوا الحجة من هذه الكتب بعد أن اطمأن ملكهم ودانت لهم الإمبراطورية المسيحية كما دان لهم غيرها من أمم الأرض، وبعد أن دخل المسيحيون في الإسلام أفواجًا بل أممًا كاملة. هذا هو المنطق الذي يقتضيه البحث العلمي النزيه. أما اعتبار التوراة والإنجيل مقدسين، ونفي هذه الصفة عن القرآن فأمر لا يسوِّغه العلم. وأما القول بتحريفه التماسًا للحجة من التوراة والإنجيل فهراء لا يقره التاريخ ولا يرضاه المنطق.

والذين زعموا هذا الزعم الفاسد من المستشرقين هم قلة بين أشد المستشرقين تعصبًا. أما كثرتهم فيقرون بأن القرآن الذي نتلوه اليوم هو بعينه القرآن الذي تلاه محمد على المسلمين أثناء حياته، لم يحرَّف ولم يبدَّل. وهم يحرصون على أن يذكروا هذا وإن أضافوا إليه من عبارات النقد للنظام الذي جُمع القرآن به ولترتيب السور فيه ما لا يدخل تمحيصه في نطاق هذا البحث. وقد تناول المشتغلون بعلوم القرآن من المسلمين أوجه النقد هذه ودفعوها. أما ما نحن الآن في صدده فحسبنا فيه أن نقتطف بعض ما ذكره المستشرقون عنه، لعله يقنع المصري المسلم الذي نناقش ها هنا رسالته، ولعله يُقنع الذين يفكرون على شاكلته.

موير ينكر هذه الفرية

وما أورده المستشرقون من ذلك كثير، نختار منه بعض ما كتبه السير وليم موير في كتابه «حياة محمد» ليرى هؤلاء الذين أسرفوا على التاريخ وعلى أنفسهم شدة ما أسرفوا حين اطمأنوا إلى ما قيل عن تحريف القرآن وتبديله. وموير مسيحي شديد الحرص على مسيحيته والدعوة إليها، شديد الحرص لذلك على ألا يدع موضعًا لنقد نبي الإسلام وكتابه دون الوقوف عنده ومحاولة دعمه.

الذاكرة العربية

يقولو سير وليم موير، عند كلامه عن القرآن ودقة وصوله إلينا، ما ترجمته: «كان الوحي المقدس أساس أركان الإسلام، فكانت تلاوة ما تيسر منه جزءًا جوهريًّا من الصلوات اليومية عامةً أو خاصةً، وكان القيام بهذه التلاوة فرضًا وسنةً يجزى من يؤديهما جزاءً دينيًّا صالحًا. ذلك كان جماع الرأي في السُّنة الأولى، وهو ما يستفاد كذلك من الوحي نفسه. لذلك وعت القرآن ذاكرة كثرة المسلمين الأولين إن لم يكونوا جميعًا. وكان مبلغ ما يستطيع أحدهم تلاوته بعض المميزات الجوهرية في العهد الأول للإمبراطورية الإسلامية. وقد يسَّرت عادات العرب هذا العمل؛ فقد كانوا ذوي ولع بالشعر عظيم. ولما كانت الوسائل لتحرير ما يفيض عن شعرائهم في غير متناول اليد، فقد اعتادوا أن ينقشوا هذه القصائد كما كانوا ينقشون ما يتعلق بأنسابهم وقبائلهم على صفحات قلوبهم. بذلك نمت ملكة الذاكرة غاية النمو، ثم تناولت القرآن بكل ما أدت إليه يقظة الروح إذ ذاك من حرص وإقبال. ولقد بلغ بعض أصحاب النبي من قوة الذاكرة ودقتها ومن التعلق بحفظ القرآن واستذكاره حدًّا استطاعوا معه أن يعيدوا بدقة يقينية كل ما عُرف منه إلى يوم كانوا يتلونه.»

تحرير القرآن في عهد النبي

على الرغم من هذه القوة التي امتازت بها الذاكرة العربية، فقد كنا في حل من ألا نولي ثقتنا مجموعة ذلك كل مصدرها. لكن لدينا من الأسباب ما يحملنا على الاعتقاد أن أصحاب النبي دونوا أثناء حياته نسخًا شتى لأجزاء مختلفة من القرآن، وأن هذه النسخ سجَّلت القرآن، سجلته كله تقريبًا. فقد كانت الكتابة معروفة على وجه عام بمكة قبل نبوة محمد بزمن غير قليل. وكان النبي قد استعمل على تحرير الكتب والرسائل أكثر من واحد من أصحابه بالمدينة. وقد فكَّ إسار الفقراء من أسرى بدر مقابل قيامهم بتعليم أنصار المدينة الكتابة. ومع أن أهل المدينة لم يكونوا مثقفين ثقافة أهل مكة، فقد عُرفت مقدرة الكثيرين منهم على الكتابة قبل الإسلام. ومن اليسير مع ثبوت هذه المقدرة على الكتابة، أن نستنبط غير مخطئين أن الآيات التي وعتها الذاكرة بدقة قد سجلتها الكتابة بمثل هذه الدقة.

ثم إنا نعرف أن محمدًا كان يبعث إلى القبائل التي تدخل في الإسلام واحدًا أو أكثر من أصحابه لتعليمهم القرآن وتفقيههم في الدين. وكثيرًا ما نقرأ أن هؤلاء المبعوثين كانوا يحملون معهم أوامر مكتوبة في شأن الدين. ولقد كانوا يحملون ما نزل به الوحي بطبيعة الحال، وخاصةً ما اتصل منه بشعائر الإسلام وقواعده، وما يتلى منه أثناء العبادة. والقرآن نفسه ينص على وجوده مكتوبًا. وتنص كتب السيرة، حين تذكر إسلام عمر، على وجود نسخة من السورة المتمة للعشرين (سورة طه) في حيازة أخته وأسرتها. وكان إسلام عمر قبل الهجرة بثلاث سنوات أو أربع. فإذا كان الوحي يدوَّن ويُتبادل في العصر الأول، حين كان المسلمون قليلين وحين كانوا يسامون العذاب، فمن المقطوع به أن النسخ المكتوبة كثر عددها وتداولها حين بلغ النبي أوج السلطة وحين صار كتابه قانون العرب جميعًا.

الرجوع إلى النبي عند الخلاف

كذلك كان شأن القرآن أثناء حياة النبي، وكذلك كان شأنه إلى عام بعد وفاته: بقي مسطورًا في قلوب الذين آمنوا به مسجَّلة أجزاؤه المختلفة في نسخ كانت تزداد كل يوم عددًا. وكان لزامًا أن يتطابق هذان المصدران تمام التطابق. فقد كان القرآن منظورًا إليه، حتى في حياة النبي، برهبة اليقين بأنه كلام الله ذاته. لذلك كان كل خلاف على نصه يرجع فيه إلى النبي نفسه كي يزيله. ولدينا أمثلة من ذلك؛ إذ رجع إلى النبي عمرو بن مسعود وأبي بن كعب. فلما قُبض النبي كان يرجع عند الخلاف إلى النصوص المكتوبة، وإلى ذاكرة أصحاب النبي الأقربين وكتَّاب وحيه.

الجمع الأول للقرآن

فلما فُرِغَ من أمر مسيلمة، في حروب الردة، كانت مذبحة اليمامة قد أتت على كثير من المسلمين ومن بينهم عدد كبير من خير حُفَّاظ القرآن، هنالك ساورت عمر المخاوف في أمر الكتاب ونصوصه وما ربما يعلق بها من ريبة إذا أصاب المقدور من اختزنوه في ذاكرتهم فماتوا جميعًا. إذ ذاك توجه إلى الخليفة أبي بكر بقوله: «أخشى أن يستحرَّ القتل كرةً أخرى بين حفَّاظ القرآن في غير اليمامة من المغازي وأن يضيع لذلك كثير منه. والرأي عندي أن تسارع فتأمر بجمع القرآن.» وأقر أبو بكر هذا الرأي، وأفضى برغبته في إنفاذه إلى زيد بن ثابت كبير كتَّاب النبي وقال: «إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله، فتتبع القرآن فاجمعه.» وإذا كان هذا العمل حدثًا غير متوقع فقد اضطرب زيد بادئ الرأي، وخامره الريب في صلاحية الإقدام عليه، بل في مشروعيته. فلم يقم به محمد نفسه ولم يأمر أحدًا بالقيام به. على أنه انتهى إلى النزول على ما أبدى أبو بكر وعمر من رغبة ملحة. وجهد في جمع السور وأجزائها من كل جانب، حتى لقد جمع ما كان منها على ورق الشجر وعلى الحجر الأبيض وفي صدور الرجال. ويضيف بعضهم أنه جمع كذلك منها ما كان على الورق وعلى الجلد وعلى عظام الكتف والضلع من الإبل والماعز. وظفرت جهود زيد المتصلة خلال سنتين أو ثلاث بجمع هذه المادة كلها وترتيبها على النحو الذي هي عليه اليوم، وعلى النحو الذي كان زيد يتلو عليه القرآن في حضرة محمد فيما يقولون. فلما كملت النسخة الأولى عهد بها عمر إلى صيانة حفصة ابنته وزوج النبي. وظل هذا الكتاب الذي جمعه زيد قائمًا طيلة خلافة عمر على أنه النص الصادق الصحيح.

مصحف عثمان

على أن الخلاف لم يلبث أن بدأ في طريقة التلاوة، ناشئًا إما عن الخلاف السابق لنسخة زيد، وإما عن تحريف تسرب إلى النسخ التي نقلت عن نسخته. وفزع العالم الإسلامي لذلك أيَّما فزع. فالوحي الذي نزل من السماء «واحد» فأين الآن وحدته؟ ولقد حارب حُذيفة في إرمينية وفي أذربيجان ولاحظ اختلاف القرآن عند السوريين عنه عند أهل العراق، فجزع لتعدد ذلك ولمبلغ ما بينه من خلاف، إذ ذاك فزع إلى عثمان كيما يتدخل «ليقف الناس حتى لا يختلفوا على كتابهم كما اختلف اليهود والنصارى.» واقتنع الخليفة. وليدفع الضر لجأ كرةً أخرى إلى زيد بن ثابت وعززه بثلاثة من قريش، وجيء بالنسخة الأولى من حيازة حفصة، وعرضت القراءات المختلفة من أنحاء الإمبراطورية، وروجعت كلها بأتم عناية للمرة الأخيرة. ولقد كان زيد إذا اختلف مع زملائه القرشيين رجح صوت هؤلاء أن كان التنزيل بلسان قريش، وإن قيل إن الوحي نزل على سبع لهجات مختلفة من لهجات العرب. وأرسلت نسخ من هذا المصحف بعد تمام جمعه إلى جميع الأمصار في الإمبراطورية، وجُمع ما بها من سائر النسخ بأمر الخليفة وأحرق. ورُدَّت النسخة الأولى إلى حيازة حفصة.

ووصل إلينا مصحف عثمان. وقد بلغت العناية بالمحافظة عليه أنَّا لا نكاد نجد — بل لا نجد — أي خلاف بين النسخ التي لا عداد لها، والمنتشرة في أنحاء العالم الإسلامي الفسيحة. ومع ما أدى إليه مقتل عثمان نفسه بعد ربع قرن من وفاة محمد، من قيام شيع مغضبة ثائرة زعزعت — ولا تزال تُزعزع — وحدة العالم الإسلامي، فإن قرآنًا واحدًا قد ظل دائمًا قرآنها جميعًا. وهذا الإسلام منها جميعًا لكتاب واحد على اختلاف العصور حجة قاطعة على أن ما أمامنا اليوم إنما هو النص الذي جمع بأمر الخليفة السيئ الحظ. والأرجح أن العالم كله ليس فيه كتاب غير القرآن ظل ثلاثة عشر قرنًا كاملًا بنصٍّ هذا مبلغ صفائه ودقته. والقراءات المختلفة قليلة إلى حد يثير الدهشة، وهذا الاختلاف محصور أكثر أمره في نطق الحروف المتحركة أو في مواضع الوقف، وهذه مسائل أبدعت في تاريخ متأخر، فلا مساس لها بمصحف عثمان.

وحدة الإسلام في عهد عثمان

والآن وقد تبين أن القرآن الذي نتلو هو نص مصحف عثمان لم يتغير، فعلينا أن نبحث: أهذا النص هو صورة مضبوطة لما جمع زيد بعد الاتفاق على إزالة ما كان في التلاوة من أوجه خلاف قليلة العدد قليلة الخطر؟ وكل ما لدينا مقنع تمام الإقناع بأن الأمر كذلك. فليس في الأنباء القديمة أو الجديرة بالتصديق ما يُلقي على عثمان أية شبهة بأنه قصد إلى تحريف القرآن لتأييد أغراضه. صحيح أن الشيعة ادعوا من بعد أنه أغفل بعض آيات تزكي عليًّا. لكن العقل لا يسوغ هذا الزعم؛ فلم يكن قد نجم أي خلاف بين الأمويين والعلويين حين أُقِرَّ مصحف عثمان، بل كانت وحدة الإسلام قائمة حينذاك لا يهددها شيء. ثم إن عليًّا لم يكن قد صوَّر مطالبه في صورتها الكاملة؛ فلم يكن غرض من الأغراض إذن ليدفع عثمان إلى ارتكاب إثم ينظر إليه المسلمون بعين المقت غاية المقت. ولقد كان عددٌ كبيرٌ ممن وعت قلوبهم القرآن كما سمعوه حين تلاه النبي أحياء حين جمع عثمان المصحف.

فلو أن آيات تزكي عليًّا كانت قد نزلت لوجدت نصوصها بين يدي أنصاره الكثيرين. وهذان السببان كانا كفيلين بالقضاء على كل محاولة لإغفال هذه الآيات.

يضاف إلى ذلك أن شيعة عليٍّ استقلوا بأمرهم بعد وفاة عثمان وبايعوا عليًّا بالخلافة. أفيقبل العقل أنهم — وقد وصلوا إلى السلطة — يرضون عن قرآن مبتور، ومبتور قصدًا للقضاء على أغراض زعيمهم؟! مع ذلك ظلوا يتلون القرآن الذي يتلوه خصومهم، ولم يثيروا أي ظل من الاعتراض عليه؟ بل إن عليًّا كان قد أمر بأن تنشر نسخ كثيرة منه، ويقال إنه كتب بخط يده عددًا منها. صحيح أن الثائرين قد جعلوا من أسباب انتقاضهم أن عثمان جمع القرآن وأمر بإهلاك ما سوى مصحفه من المصاحف واعتراضهم إنما ينصب على إجراءات عثمان لذاتها ويعتبرونها محرَّمة لا تجوز. لكن لم يشر أحد فيما وراء ذلك إلى تحريف في المصحف أو إبدال؛ فمثل هذا الزعم كان ظاهر الفساد يومئذ؛ وإنما أبدعه الشيعة من بعد لأغراضهم.

دقة مصحف عثمان وكماله

نستطيع أن نستنبط إذن مطمئنين أن مصحف عثمان كان — وما يزال — صورة مضبوطة لما جمعه زيد بن ثابت، مع مزيد في التوفيق بين الروايات السابقة له وبين لهجة قريش، ثم استبعاد سائر القراءات التي كانت منتشرة، في أنحاء المملكة. مع ذلك لا تزال أهم مسألة قائمة أمامنا؛ هذه المسألة هي: هل كان ما جمعه زيد صورة صادقة كاملة لما أوحي إلى محمد؟ والاعتبارات الآتية تبعث اليقين بأنه كان مجموعة صادقة بلغت من حيث إنها كاملة كل ما يمكن بلوغه يومئذ:
  • أولًا: تم الجمع الأول برعاية أبي بكر. وكان أبو بكر تابعًا صادق الإخلاص لمحمد كما كان مؤمنًا كامل الإيمان بالمصدر القدسي للقرآن؛ وكان اتصاله الحميم بالنبي خلال السنوات العشرين الأخيرة من حياته، ومظهره في الخلافة مظهر البساطة والحكمة والتنزه عن المطامع، بحيث لا تدع موضعًا لأي فرض آخر. وكان إيمانه بأن ما يوحى إلى صاحبه إنما يوحى إليه من الله ذاته، مما يجعل أول أغراضه أن يكفل جمع هذا الوحي كله مطهرًا كاملًا. ومثل هذا القول يصدق على عمر، وقد تم الجمع في خلافته. وهذا القول يصدق كذلك على المسلمين يومئذ جميعًا، لا تفاوت لديهم فيه بين الكاتبين الذين عاونوا على هذا الجمع وبين المؤمن الرقيق الحال الذي يحمل إلى زيد ما عنده من الوحي المكتوب على العظام أو على أوراق الشجر؛ فقد كانوا جميعًا تتساوى رغبتهم الصادقة في استظهار العبارات والألفاظ التي تلاها عليهم نبيهم على أنها رسالة من عند الله. وقد كان الحرص على الدقة قائمًا بشعور الناس جميعًا؛ لأنه لم ينغرس في نفوسهم شيء ما انغرس هذا التقديس المرهب لما يعتقدونه كلمة الله. وفي القرآن نذر للذين يفترون على الله الكذب أو يخفون شيئًا من وحيه. ولسنا نستطيع أن نصدِّق أن يجرؤ المسلمون الأولون، في حماستهم الأولى لدينهم وتقديسهم إياه، على التفكير في أمر ذلك مبلغه من مجافاة الإيمان.
  • ثانيًا: تم الجمع خلال سنتين أو ثلاث سنين بعد وفاة محمد؛ وقد رأينا طائفة من أتباعه يحفظون الوحي كله عن ظهر قلب، وأن كل واحد من المسلمين كان يحفظ طائفة منه، وأن جماعة من القراء كانت تعينهم الدولة وتبعث بهم إلى أنحاء المملكة الإسلامية لإقامة الشعائر ولتفقيه الناس في الدين. من هؤلاء جميعًا تكوَّنت حلقة اتصال بين ما تلا محمد من الوحي يوم تلاه وبين ما جمعه زيد. فالمسلمون لم يكونوا صادقي القصد في جمع القرآن كله في مصحف واحد فحسب، بل كانت لديهم كذلك كل الوسائل التي تكفل تحقيق هذا الغرض، وتكفل تحقيق ما اجتمع في الكتاب الذي وضع بين أيديهم بعد جمعه من دقة وكمال.
  • ثالثًا: ولدينا ضمان أوفى للدقة والكمال. ذلك ما كان موجودًا منذ حياة محمد من أجزاء القرآن المكتوبة، والتي كثر لا شك عدد نسخها قبل جمع القرآن. وأكثر الأمر أن هذه النسخ كانت موجودة في حيازة جميع الذين يستطيعون القراءة. أما ونحن نعرف أن ما جمعه زيد قد تداوله الناس وتلوه بعد جمعه مباشرةً. فمن المعقول أن نستنبط أنه تناول ما احتوته هذه الأجزاء المكتوبة جميعًا واتفق معها؛ لذلك حل محلها بإقرارهم جميعًا. فلم يتصل بنا أن الجامعين أغفلوا أجزاءً أو آيات أو ألفاظًا، أو أن شيئًا مما كان موجودًا من هذه اختلف عما حواه المصحف الذي جُمع. ولو أن شيئًا من ذلك كان، للوحظ بلا ريب ولدُوِّن في هذه المساند القديمة التي احتوت أدق أعمال محمد وأقواله، والتي لم تُغفل منها حتى ما كان قليل الخطر.
  • رابعًا: محتويات القرآن ونظامه تنطق في قوة بدقة جمعه؛ فقد ضُمَّت الأجزاء المختلفة بعضها إلى بعض ببساطة تامة لا تعمُّل ولا فنَّ فيها. وهذا الجمع لا أثر فيه ليد تحاول المهارة أو التنسيق. وهو يشهد بإيمان الجامع وإخلاصه لما يجمع؛ فهو لم يجرؤ على أكثر من تناول هذه الآيات المقدسة ووضع بعضها إلى جانب بعض.

والنتيجة التي نستطيع الاطمئنان إلى ذكرها هي أن مصحف زيد وعثمان لم يكن دقيقًا فحسب، بل كان — كما تدل الوقائع عليه — كاملًا، وأن جامعيه لم يتعمدوا إغفال أي شيء من الوحي. ونستطيع كذلك أن نؤكد — استنادًا إلى أقوى الأدلة — أن كل آية من القرآن دقيقة في ضبطها كما تلاها محمد.

•••

أطلنا في اقتطاف عبارات «سير وليم موير» كما وردت في مقدمة كتابه «حياة محمد».١

على أن ما اقتطفناه يغنينا عن ذكر ما كتبه «الأب لامنس» و«هون هامر» ومن يرون هذا الرأي من المستشرقين. هؤلاء جميعًا يقطعون بدقة القرآن الذي نتلوه اليوم، وبأنه يحتوي كل ما تلاه محمد على أنه الوحي الذي تلقاه من ربه صادقًا كاملًا. فإذا ذهبت بعد ذلك قلة من المستشرقين غير مذهبهم وزعموا أن القرآن حُرِّف، غير آبهين لهذه الأدلة العقلية التي ساقها «موير» وكثرة المستشرقين، والتي أخذوها عن التاريخ الإسلامي والعلماء المسلمين، كان ذلك تجنيًا على الإسلام لم يُملِه غير الحقد على الإسلام وعلى صاحب الرسالة الإسلامية. ومهما يبلغ المتجنون من البراعة في صياغة تجنيهم فلن يستطيعوا أن يخلعوا عليه ثوب البحث العلمي النزيه، ولن يستطيعوا أن يخدعوا به من المسلمين أحدًا، الله إلا الشبان الذين يتوهمون أن البحث الحر يقتضيهم أن ينكروا ماضيهم، وأن يفتنوا عن الحق بما يزيَّن لهم من الأباطيل وأن يؤمنوا بكل مطعن على هذا الماضي، ولو لم يكن لهذا الطعن ما يسوِّغه من حقائق العلم والتاريخ.

كنا نستطيع أن نسوق هذه الحجج التي ساقها «السير موير» وغيره من المستشرقين، وأن نأتي بها من التاريخ الإسلامي ومما كتب علماء المسلمين، وأن نردها إلى مراجعها فيها. لكنا آثرنا نقلها عن أحد المستشرقين؛ لنظهر شبابنا المولع بكل آثار الغرب، من غير تمحيص لها، على أن الدقة في البحث العلمي وحسن القصد إلى الحق وحده جديران بهداية من يسلك سبيلهما مخلصًا للحقيقة المجردة من كل زيف، ونَدُلَّه على أن واجب المحقق أن يدقق في بحثه حتى يصل من الحقيقة إلى غايته دون تأثر بهوى أو شهوة، ومن غير أن يقف به التقليد أو القصور عن بلوغ هذه الغاية. وقد وفِّق المستشرقون للحق في بعض الأحيان، وقصر همهم دونه في أحيان أخرى. وكذلك كان أكثرهم في مسائل متصلة بحياة النبي العربي أتيح لنا تمحيصها في هذا الكتاب.

الطريقة الصحيحة في البحث

ويجمل بنا في هذا المقام أن نذكر أن واجب الباحث ألا يثبت مسألة من المسائل وألا ينفيها، قبل أن يصل من تمحيصه وبحثه إلى الاقتناع الذاتي الصحيح بأنه اطمأن كل الطمأنينة إلى الوقوف فيها على الحقيقة كاملة غير مشوبة بشائبة. وشأن المؤرخ في ذلك شأن العالم في الأمور الطبيعية وفي غيرها من العلوم جميعًا. وهذا واجبه، تناول كتب المستشرقين أو تناول كتب العلماء المسلمين. وإذا أوجب قصد الحق والمعرفة علينا أن ننقد وأن نمحص ما خلَّف كتَّاب العرب والكتَّاب المسلمون في الطب والفلك والكيمياء وغيرها من العلوم، فننفي منها ما لا يثبت أمام النقد العلمي ونثبت ما تقره قواعد هذا النقد، فقصد الحق والمعرفة يوجب علينا مثل هذه الدقة في أمر التاريخ وإن تعلق بسيرة النبي عليه الصلاة والسلام. فالمؤرخ ليس ناقلًا فحسب. بل هو أيضًا ناقد لما ينقل، ممحص إياه لمعرفة ما ينطوي عليه من الحق. والنقد سبيل التمحيص. والعلم والمعرفة أساس هذا النقد والتمحيص.

أحسبنا، بعد هذا التمحيص الذي نقلناه في شأن القرآن ودقته، في حلٍّ من إغفال ما جاء في رسالة ذلك المصري المسلم، المؤمن بكل ما يكتب المستشرقون، عن آيات يزعمون أنها أضيفت إلى القرآن أو عن اسم النبي وأنه لم يكن قُثَم أو قثامة، فهذا كلام لم يمله الحق بل أملاه الهوى الذي أملى دعوى تحريف القرآن.

ونعود إلى تفنيد النقطة الأخيرة من رسالة ذلك المصري المسلم. فهو يذكر أن مباحث المستشرقين دلتهم على أن النبي كان يصاب بالصَّرْع وأن أعراضه كانت تبدو عليه؛ إذ كان يغيب عن صوابه، ويسل منه العرق، وتعتريه التشنجات وتخرج من فمه الرغوة، حتى إذا أفاق من نوبته تلا على المؤمنين به ما يقول إنه وحي الله إليه، حين لم يكن هذا الوحي إلا أثرًا من نوبات الصرع.

فرية الصرع

وتصوير ما كان يبدو على محمد في ساعات الوحي على هذا النحو خاطئ من الناحية العلمية أفحش الخطأ. فنوبة الصرع لا تذر عند من تصيبه أي ذكر لما مر به أثناءها؛ ولا يذكر شيئًا مما صنع أو حلَّ به خلالها؛ ذلك لأن حركة الشعور والتفكير تتعطل فيه تمام التعطل. وهذه أعراض الصرع. كما يثبتها العلم، ولم يكن ذلك ما يصيب النبي العربي أثناء الوحي، بل كانت تتنبَّه حواسه المدركة في تلك الأثناء تنبهًا لا عهد للناس به، وكان يذكر بدقة غاية الدقة ما يتلقاه وما يتلوه بعد ذلك على أصحابه. هذا، ثم إن نزول الوحي لم يكن يقترن حتمًا بالغيبوبة الجسمية مع تنبه الإدراك الروحي غاية التنبه، بل كان كثيرًا ما يحدث والنبي في تمام يقظته العادية، وحسبنا أن نشير إلى ما أوردنا في هذا الكتاب عن نزول سورة الفتح عند قفول المسلمين من مكة إلى يثرب بعد عهد الحديبية.

ينفي العلم إذن أن الصرع كان يعتري محمدًا؛ ولذلك لم يقل به إلا الأقلون من المستشرقين الذين افتروا على القرآن أنه حُرِّف. وهم لم يقولوا به حرصًا على حقيقة يتلمسونها، وإنما قالوا به ظنًّا منهم أنهم يحطون من قدر النبي العربي في نظر طائفة من المسلمين. أم حسبوا أنهم يلقون بأقوالهم هذه ظلًّا من الريبة على الوحي الذي نزل عليه، لأنه نزل عليه فيما يزعمون أثناء هذه النوبات؟ إن يكن ذلك فهو الخطأ البين، كما قدمنا، وهو ما ينكره العلم عليهم أشد الإنكار.

الرجوع إلى العلم

ولو أن نزاهة القصد كانت رائد هؤلاء المستشرقين لما حمَّلوا العلم ما ينكره. وهم إنما فعلوا ذلك ليخدعوا به أولئك الذين لا يهديهم علمهم إلى معرفة أعراض الصرع، والذين تمسكهم طمأنينتهم الساذجة إلى أقوال هؤلاء المستشرقين عن سؤال أهل العلم من رجال الطب وعن الرجوع إلى كتبه. ولو أنهم فعلوا لما تعذر عليهم أن يكشفوا عن خطأ هؤلاء المستشرقين خطأً مقصودًا أو غير مقصود، ولتبينوا أن النشاط الروحي والعقلي للإنسان يختفي تمام الاختفاء أثناء نوبات الصرع، ويذر صاحبه في حالة آلية محضة يتحرك مثل حركته قبل نوبته، أو يثور إذا اشتدت به النوبة فيصيب غيره بالأذى، وهو أثناء ذلك غائب عن صوابه، لا يدرك ما يصدر عنه ولا ما يحل به، شأنه شأن النائم الذي لا يشعر بحركاته أثناء نومه؛ فإذا انقضى ما به لم يذكر منه شيئًا. وشتان ما بين هذا وبين نشاط روحي قوي قاهر يصل صاحبه بالملأ الأعلى عن شعور تام وإدراك يقيني، ليبلغ من بعد ما أوحي إليه. فالصرع يعطل الإدراك الإنساني وينزل بالإنسان إلى مرتبة آلية يفقد أثناءها الشعور والحس. أما الوحي فسموٌّ روحيٌّ اختص الله به أنبياءه ليلقي إليهم بحقائق الكون اليقينية العليا كي يبلِّغوها للناس. وقد يصل العلم إلى إدراك بعض الحقائق ومعرفة سننها وأسرارها بعد أجيال وقرون، وقد يظل بعضها لا يتناوله العلم حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهي مع ذلك حقائق يقينية تهتدي قلوب المؤمنين الصادقين إلى حقيقتها، على حين تظل قلوب عليها أقفالها جاهلة إياها لغفلتها عنها.

قصور العلم أحيانًا

كنا نفهم أن يقول هؤلاء المستشرقون: إن الوحي ظاهرة نفسية شاذة في تقدير علمنا وما وصل إليه حتى اليوم؛ فمن المتعذر إذن تفسيرها على طريقته لكن هذا القول إنما يدل على أن علمنا — على ما انفسح مداه واتسع أفقه — لا يزال قاصرًا عن تفسير كثير من الظاهرات الروحية والنفسية. ولا عيب على العلم في هذا ولا عجب منه؛ فعلمنا ما يزال قاصرًا عن تفسير بعض الظاهرات الكونية القريبة منا، وطبيعة الشمس والقمر وغيرهما من الأفلاك والكواكب لا يزال أمر العلم فيها عند الفروض والاستنباطات؛ وهذه الأفلاك جميعًا بعض ما تشهده العين المجردة، وما تكشف الآلات المقربة لنا عن كثير من خفاياها. وإلى قرن مضى كانت مخترعات كثيرة تعتبر بعض إبداع الخيال فلا سبيل إلى أن تتجسد أمامنا، وها هي ذي تجسدت وصرنا نحسبها من البسائط. والظاهرات الروحية والنفسية هي اليوم موضع ملاحظة العلماء، لكنها لم تخضع بعد لسلطان العلم كي يستنبط قوانينها الثابتة. وكثيرًا ما نقرأ عن أمور شهدها العلماء وأثبتوها ثم أثبتوا معها أنهم لا يجدون لها في السنن الكونية التي استنبطها العلم تأويلًا تطمئن إليه قواعده. فعلم النفس ما يزال بوجه عام، غير ثابت السنن في كثير من الشئون التي تعرض له. فإذا كان هذا واقعًا في الحياة العادية، كان البدار إلى محاولة تفسير ظاهرات الحياة جميعها على الطريقة العلمية محاولة عقيمة وإسرافًا معيبًا.

ولقد كان الوحي بعض ما شهد المسلمون أثناء حياة محمد، وكان القرآن كلما ذكره لهم زادهم به إيمانًا. وكان منهم أذكياء غاية الذكاء، وكان منهم يهود ونصارى طال الجدال بينهم وبين النبي العربي، ثم آمنوا برسالته ولم ينكروا عليه من أمر الوحي شيئًا. ولقد حاول قوم من قريش أن يتهموه بالسحر والجنون ثم أقروا أنه ليس بساحر ولا بمجنون وتابعوه وآمنوا بما جاء به. أما وذلك ثابت يقينًا، فما يأباه العلم وتتنزه عنه قواعده إنما هو إنكار حدوث الوحي، والحط من قدر صاحبه ونعته بأوصاف ينكرها العلم ولا يقرها. والعالِم النزيه القصد إلى الحق لا يستطيع أكثر من أن يقرر أن ما وصل إليه العلم حتى هذا الزمان يقصُر دون تفسير الوحي على الطريقة العلمية، ولكنه لا يمكنه أن ينكر بحال من الأحوال حدوث ظاهرات هذا الوحي مما وصف أصحاب النبي وكتَّاب الصدر الأول للإسلام، فإن أنكرها وحاول تأويلها واتخذ العلم باطلًا وسيلة إلى ذلك كان مبطلًا متعنتًا. والتعنت والعلم لا يتفقان.

الطعن في محمد عجز عن الطعن في رسالته

ولئن دل هذا العنت على شيء لعلى شدة حرص أصحابه على التشكيك في الإسلام، وهم لم يستطيعوا الطعن على هذا الدين وقد رأوا دينًا بلغ غاية السمو مع بساطة ويسرٍ هما مصدر قوته؛ لذلك لجئوا إلى حجة العاجز حين يدع الأثر العظيم لا يعرض له بمطعن لأن المطاعن لا ترقى إليه، فهو يتناول مَنْ صدر هذا الأثر عنه أو كان وسيلته إلى الناس فيجعله هدف مطاعنه، وهذا عجز لا يلجأ إليه عالم، وهو بعدُ مناقض لقانون الطبيعة الإنسانية. ففي طبيعة الناس أو يعنوا بالآثار لذاتها، وأن يستمتعوا بثمراتها دون بحث لا طائل تحته في مصدرها ووسيلة حدوثها ونموها. وهم لذلك لا يُعَنُّون أنفسهم بالبحث في أصل الشجرة التي أنبتت الثمرة التي تعجبهم، ولا في السماد الذي أدى إلى ازدهارها، ما داموا لا يفكرون في غرس شجرة مثلها أو شجرة أشهى منها ثمرًا. وهم حين يبحثون في فلسفة «أفلاطون» أو مسرحيات «شكسبير» أو عن «رفائيل» لا يتلمسون المطاعن في حياة هؤلاء العظماء عنوان مجد الإنسانية وفخارها حين لا يجدون على هذه الآثار مطعنًا، فإذا تلمَّسوا المطاعن التي لا سند لها من الحق، لم يبلغوا من ذلك غايتهم وإن كشفوا عن سوء رأي وحقد يسقط حجتهم ويحول دون الاستماع لهم. ولن يغير من ذلك أن يفرغ هذا الحقد في قالب العلم؛ فالحقد لا يعرف الحقيقة. وكبرت الحقيقة أن يكون الحقد لها مصدرًا. وهذا شأن مطاعن أولئك المستشرقين على النبي العربي خاتم المرسلين؛ ولذلك هوت مطاعنهم إلى الحضيض.

فرغت الآن من تفنيد رأي أولئك المستشرقين الذين استندت إليهم رسالة ذلك المصري المسلم، وأقمت الدليل على فساده، فلأنتقل إلى طائفة أخرى من الملاحظات التي أبداها بعض المشتغلين بالعلوم الدينية من المسلمين بعد ظهور الطبعة الأولى.

وأكبر ظني ألا تتكرر أمثال هذه المطاعن الوضيعة التي يأباها العلم وينكرها. فربما كان لهؤلاء المستشرقين من العذر عن إسرافهم من قبل أنهم كانوا يحسبون أنهم يكتبون للأوروبيين المسيحيين، وأنهم كانوا يقومون لذلك بواجب قومي أو بواجب ديني تمليه عليهم عقيدتهم وتدفعهم إلى اتخاذ العلم بغيًا وسيلتهم إلى أدائه. أما اليوم، وقد توثقت أسباب الاتصال بالبرق والإذاعة، وبعد أن وثقت الصحافة والطباعة بين أجزاء العالم، فقد أصبح ما ينشر وما يقال في أوروبا أو في أمريكا يعرف ليومه أو لساعته في بلاد الشرق جميعًا. فواجب على الذين يريدون الاضطلاع برسالة المعرفة والحقيقة أن ينزعوا عن عيونهم وعن قلوبهم غشاوة الحواجز القومية أو الجنسية أو الدينية، وأن يقدِّروا أن ما يقولونه أو يكتبونه سرعان ما يصل علمه إلى الناس جميعًا، فيتناولونه في مختلف بلاد الأرض بالنقد والتمحيص. فلتكن الحقيقة غير المقيَّدة بأي قيد هي رائدنا جميعًا. ولنوجه كل همنا إلى أن نربط ما بين ماضي الإنسانية ومستقبلها، على أنها وحدة كبرى لا تفرق بينها القوميات ولا الجنسيات ولا الأديان برابطة ترمي إلى تحقيق أسمى غاية تطلعت إليها الإنسانية منذ نشأتها، رابطة الإخاء الحر في ظل الحق والجمال، فتلك وحدها هي الرابطة التي تكفل هداية الإنسانية في سيرها الحثيث نحو السعادة والكمال.

أصحاب الملاحظات من المشتغلين بالشئون الإسلامية

بينا يأخذ علينا غلاة المصدقين لما أسرف فيه المستشرقون أنا نعتمد على المصادر العربية ونستند إلى ما ورد فيها، إذ بعض المشتغلين بالعلوم الدينية الإسلامية يأخذون علينا أننا نرجع إلى أقوال المستشرقين ولا نأخذ بكل ما سجلته كتب السيرة وما روته كتب الحديث متصلًا بسيرة النبي العربي، وأننا لا ننهج نهج هذه الكتب.

وعلى هذا الأساس أبدى بعضهم ملاحظات في أكثرها رفق ومجادلة بالتي هي أحسن ابتغاء الوصول إلى الحق، وفي بعضها عنت أو جهل لا يرضى أيهما لنفسه من أوتي حظًّا من العلم. أما الذين جادلوا في رفق فتنصرف أكثر ملاحظاتهم إلى أننا لم نذكر ما ورد في كتب السيرة والحديث من المعجزات، بل قلنا في خاتمة الطبعة الأولى: فحياة محمد حياة إنسانية بلغت أسمى ما يستطيع إنسان أن يبلغ. ولقد كان حريصًا على أن يقدِّر المسلمون أنه بشر مثلهم يوحى إليه، حتى كان لا يرضى أن تنسب إليه معجزة غير القرآن، ويصارح أصحابه بذلك.

وقلنا عند الكلام عن قصة شق الصدر: إنما يدعو المستشرقين ويدعو المفكرين من المسلمين إلى هذا الموقف من ذلك الحادث أن حياة محمد كانت كله حياة إنسانية سامية، وأنه لم يلجأ في إثبات رسالته إلى ما لجأ من سبقه من أصحاب الخوارق. وهم في هذا يجدون من المؤرخين العرب والمسلمين سندًا حين ينكرون من حياة النبي العربي كلها ما لا يدخل في معروف العقل، ويرون ما ورد من ذلك غير متفق مع ما دعا القرآن إليه من النظر في خلق الله وأن سُنَّة الله لن تجد لها تبديلًا، غير متفق مع تعيير القرآن للمشركين أنهم لا يفقهون؛ أن ليست لهم قلوب يعقلون بها. ومن هؤلاء المجادلين في رفق من يأخذ علينا أننا أوردنا مطاعن المستشرقين على النبي مقدمة للرد عليها؛ وإيراد هذه المطاعن لا يتفق مع ما يجب في نظرهم، للنبي عليه السلام من إكبار وإكرام.

الصلاة على النبي

أما الذين لجئوا إلى العنت فقد ظهروا قبل أن تظهر طبعة الكتاب الأولى، وقبل أن يجمع هذا البحث في كتاب، وأشد ما استطاعوا أن يأخذوه عليَّ أنني جعلت عنوان بحثي «حياة محمد» من غير أن أردف هذا العنوان بالصلاة والسلام على رسول الله، وإن ذكرتها غير مرة في غضون البحث. وكنت أحسبهم يرجعون عن عنتهم بعد أن زينت عنوان الطبعة الأولى بالآية الكريمة: إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا٢ وبعد أن تناول الكتاب السيرة على الطريقة التي تناولها بها. لكنهم أصروا على ملاحظتهم، فدلوا بذلك على تعنتهم وعلى جهلهم مع ذلك بحقائق الإسلام اكتفاءً منهم باتباع ما وجدوا عليه آباءهم.

ونبدأ بدفع هذه الملاحظة الخاطئة آملين ألا يعود أصحابها وألا يعود غيرهم إلى إبدائها على أي كتاب يظهر، وإنما ندفعها بالرجوع إلى كتب الأئمة من علماء المسلمين حتى يعرف الناس جميعًا سمو الإسلام فوق القيود اللفظية ويقدروا قيمة الحديث: «إنَّ هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، فإن المنبتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى.» فقد ذكر أبو البقاء في «كلياته» أن «كتابة الصلاة في أوائل الكتب قد حدثت في أثناء الدولة العباسية، ولهذا وقع كتاب البخاري وغيرها عاريًا عنها.» وكثرة الأئمة على أن الصلاة على النبي يكفي أن يذكرها المرء مرة واحدة في حياته. قال ابن نجيم في «البحر الرائق»: «وأما مُوجَب الأمر في قوله تعالى: صَلُّوا عَلَيْهِ فهو افتراضها في العمر مرة واحدة في الصلاة أو خارجها؛ لأن الأمر لا يقتضي التكرار، وهذا بلا خلاف. والخلاف بين الشافعي وغيره على وجوب الصلاة على النبي أثناء الصلاة لا خارجها. والصلاة هي الدعاء: ومعناها في الآية أن يترحم الله على النبي ويسلِّم.» هذا ما أورده علماء المسلمين وأئمتهم في هذا الموضوع. وهو يدل على إسراف الذين يزعمون وجوب الصلاة على النبي كلما ذكر اسمه وكلما كتب، وعلى خطئهم خطأً ما كانوا يقعون فيه إذا عرفوا ما قدمنا وأن كبار المحدثين لم يكونوا يكتبون الصلاة في أوائل الكتب.

دفع المطاعن وطريقته

أما الذين قالوا بأن مقام النبي الكريم يوجب عدم ذكر مطاعن المستشرقين والمبشرين عليه مقدمةً للرد عليها، فلا سند لهم في قولهم هذا إلا عاطفة إسلامية يحمدون عليها؛ أما من الناحيتين العلمية والدينية فلا سند لهم، والقرآن الكريم يذكر ما كان يقول المشركون عن النبي ويدفعه بالحجة البالغة. هذا، وأدب القرآن أقوم أدب وأسماه؛ فهو يذكر اتهام قريش محمدًا بالسحر والجنون، وهو يقول: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ۗ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ.٣ وهو يجري في ذلك بالشيء الكثير. ثم إن الحجة لا تدفع علميًّا إلا إذا ذكرت ودونت بأمانة ودقة. ولقد قصدت من هذا الكتاب إلى البحث العلمي توخيًا للحقيقة العلمية وحدها. وقصدت به إلى أن يقرأه المسلمون وغير المسلمين آملًا أن أقنعهم جميعًا بهذه الحقيقة العلمية. ولا تُبلغ هذه الغاية إلا إذا كان الباحث نزيهًا في حرصه على الحقيقة، لا يتقيد باعتبار غير هذا الحرص، ولا يتردد في الاعتراف بالحق أيًّا كان مصدره.

كتب السيرة وكتب الحديث

ونعود إلى المأخذ الأول، الذي أخذه عليَّ بعض المشتغلين بالعلوم الدينية الإسلامية في رفق ومجادلة بالتي هي أحسن. ذلك قولهم إنني لم آخذ بما سجلته كتب السيرة وكتب الحديث، ولم أنهج في التعبير عن مختلف الحوادث نهجها. ولقد كان يكفيني ردًّا على هذا أنني أجري في هذا البحث على الطريقة العلمية الحديثة وأكتبه بأسلوب العصر، وأنني أفعل ذلك لأنه الوسيلة الصالحة في نظر المعاصرين لكتابة التاريخ وغير التاريخ من العلوم والفنون. وما كان لي، وذلك شأني، أن أتقيَّد بنهج الكتب القديمة وأساليبها، وبين هذين وبين النهج والأساليب في عصرنا الحاضر بون عظيم، أيسره أن النقد في الكتب القديمة لم يكن مباحًا بالقدر الذي يباح به اليوم، وأن كثرة الكتب القديمة كانت تكتب لغاية دينية تعبدية، على حين يتقيد كتاب العصر الحاضر بالنهج العلمي والنقد العلمي. كان يكفيني هذا تسويغًا للطريقة التي عالجت بها بحثي ودفعًا لكل اعتراض عليه، لكني رأيت من الخير أن أتبسَّط بعض الشيء في بيان الأسباب التي دعت المفكرين من أئمة المسلمين فيما مضى، وتدعوهم اليوم، كما تدعو كل باحث مدقق، إلى عدم الأخذ جزافًا بكل ما ورد في كتب السيرة وفي كتب الحديث، وإلى التقيد بقواعد النقد العلمي تقيدًا يعصم من الزلل ما استطاع الإنسان أن يعصم نفسه منه.

الخلاف بين هذه الكتب

وأوَّل هذه الأسباب ما بين هذه الكتب من خلاف في رواية الكثير من الأمور المنسوبة إلى النبي العربي منذ مولده إلى وفاته؛ فقد لاحظ الذين درسوا هذه الكتب أن ما روته من أنباء الخوارق والمعجزات ومن كثير غيرها من الأنباء، كان يزيد وينقص دون مسوِّغ إلا اختلاف الأزمان التي وضعت هذه الكتب فيها. فقديمها أقل رواية للخوارق من متأخرها. وما ورد من الخوارق في الكتب القديمة أقل بعدًا عن مقتضى العقل مما ورد في كتب المتأخرين. وهذه سيرة ابن هشام أقدم السير المعروفة اليوم تغفل كثيرًا مما ذكره أبو الفداء في تاريخه، ومما ذكره القاضي عياض في كتاب الشفاء، ومما ذُكر في كتب المتأخرين جميعًا. وكذلك الشأن في كتب الحديث واختلافها؛ فبعضها يروي قصة من القصص، وبعضها يغفلها وبعضها يضعفها. فلا بد للباحث في هذه الكتب جميعًا بحثًا علميًّا أن يضع مقياسًا يعرض عليه ما اختلفت فيه وما اتفقت عليه. فما صدَّقه هذا المقياس أقرَّه الباحث، وما لم يصدِّقه وضعه موضع التمحيص إذا كان مما يقبل التمحيص.

وقد أخذ السلف بهذه الطريقة في بعض الأمور وأغفلوها في بعضها. من ذلك قصة الغرانيق التي تذهب إلى أن النبي لما ضاق ذرعًا بسادات قريش تلا عليهم سوة النجم، حتى إذا بلغ منها قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ٤ قرأ: «تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى.» ثم مضى في قراءة السورة إلى آخرها وسجد فسجد المسلمون والمشركون معه، هذه القصة رواها ابن سعد في طبقاته الكبرى ولم يعرض لها بنقد، ووردت في الصحيح من بعض كتب الحديث مع اختلاف في الرواية عن الغرانيق. أما ابن إسحاق فروى هذه القصة وقال: إنها من وضع الزنادقة. وذكرها ابن كثير في كتاب «البداية والنهاية في التاريخ» فقال: «ذكروا قصة الغرانيق، وقد أحببنا الإضراب عن ذكرها صفحًا لئلا يسمعها من لا يضعها في موضعها إلا أن أصل القصة في الصحيح.» ثم ذكر حديثًا عن البخاري في أمرها وأردفه بقوله: «انفرد به البخاري دون مسلم.» أما أنا فلم أتردد في نفي القصة من أساسها والاتفاق مع ابن إسحاق في أنها من وضع الزنادقة؛ وسقت في تفنيدها أدلة لم أكتفِ فيها بما في هذه القصة من نقض ما للرسل من عصمة في تبليغ رسالات ربهم، بل استعنت فيها كذلك بقواعد النقد العلمي الحديث.

العصر الذي كتبت فيه

وسبب آخر يوجب تمحيص ما ورد في كتب السلف ونقده نقدًا دقيقًا على الطريقة العلمية، أن أقدمها كُتِب بعد وفاة النبي بمائة سنة أو أكثر، وبعد أن فشت في الدولة الإسلامية دعايات سياسية وغير سياسية كانت اختلاق الروايات والأحاديث بعض وسائلها إلى الذيوع والغلب؛ فما بالك بالمتأخر ممَّا كتب في أشد أزمان التقلقل والاضطراب؟ وقد كانت المنازعات السياسية سببًا فيما لقيه الذين جمعوا الحديث ونفَوْا زيفه ودوَّنوا ما اعتقدوه صحيحًا منه من جهد وعنت أدَّى إليهما حرص هؤلاء الجامعين على الدقة في التمحيص حرصًا لا يتطرق إليه ريب.

ويكفي أن يذكر الإنسان ما كابده البخاري من مشاق وأسفار في مختلف أقطار الدولة الإسلامية لجمع الحديث وتمحيصه، وما رواه بعد ذلك من أنه ألفى الأحاديث المتداولة تُربي على ستمائة ألف حديث لم يصح لديه منها أكثر من أربعة آلاف، وهذا معناه أنه لم يصحَّ لديه من كل مائة وخمسين حديثًا إلا حديث واحد. أما أبو داود فلم يصح لديه من خمسمائة ألف حديث غير أربعة آلاف وثمانمائة. وكذلك كان شأن سائر الذين جمعوا الحديث، وكثير من هذه الأحاديث التي صحَّت عندهم كانت موضع نقد وتمحيص عند غيرهم من العلماء انتهى بهم إلى نفي الكثير منها، كما كان الشأن في مسألة الغرانيق. فإذا كان ذلك شأن الحديث، وقد جهد فيه جامعوه الأوَّلون ما جهدوا، فما بالك بما ورد في المتأخر من كتب السيرة؟ وكيف يستطاع الأخذُ به دون التدقيق العلمي في تمحيصه؟!

أثر المنازعات السياسية الإسلامية

والواقع أن المنازعات السياسية التي حدثت بعد الصدر الأول من الإسلام أدَّت إلى اختلاق كثير من الروايات والأحاديث تأييدًا لها. فلم يكن الحديث قد دُوِّن إلى عهد متأخر من عصر الأمويين. وقد أمر عمر بن عبد العزيز بجمعه، ثم لم يجمع إلا في عهد المأمون بعد أن أصبح «الحديث الصحيح في الحديث الكذب كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود.» على قول الدارقطني. لعل الحديث لم يجمع في الصدر الأول من الإسلام لما كان يروى عن النبي أنه قال: «لا تكتبوا عني شيئًا غير القرآن ومن كتب شيئًا غير القرآن فليمحه.»

جمع الحديث

على أن أحاديث النبي كانت متداولة على الألسن من يومئذ، وكانت الروايات تختلف فيها. ولقد أراد عمر بن الخطاب أثناء خلافته أن يتدارك الحال في ذلك بأن يكتب السنن؛ فاستفتى أصحاب النبي في ذلك فأشاروا عليه بأن يكتبها. فطفق عمر يستخير الله شهرًا، ثم أصبح يومًا وقد عزم الله له٥ فقال: «إني كنت أريد أن أكتب السنن وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدًا.» وعدل عن كتابتها، وكتب في الأمصار عنها: «من كان عنده شيء فليمحه.» وظلت الأحاديث بعد ذلك تتوالد وتتداول، حتى جُمعَ ما صح لدى الجامعين منها في عهد المأمون.

القياس الصحيح للحديث

ومع ما أبداه جامعو الحديث مع حرص على الدقة لا ريب فيه، فقد جرَّح بعض العلماء كثيرًا من الأحاديث التي أثبتها جامعوها على أنها صحيحة. قال النووي في شرح مسلم: «استدرك جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلَّا بشرطهما فيها ونزلت عن درجة ما التزماه.» ذلك أن الجامعين قد جعلوا مقياس السند والثقة بالرواية أساسهم في قبول الحديث أو رفضه؛ وهو مقياس له قيمته؛ لكنه وحده غير كافٍ. وعندنا أن خير مقياس يقاس به الحديث، وتقاس به سائر الأنباء التي ذكرت عن النبي، ما روي عنه عليه السلام أنه قال: «إنكم ستختلفون من بعدي، فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله … فما وافقه فمني، وما خالفه فليس عني.» وهذا مقياس دقيق أخذ به أئمة المسلمين منذ العصور الأولى. وما زال المفكرون منهم يأخذون به إلى يومنا الحاضر. قال ابن خلدون: «وإنني لا أعتقد صحة سند حديث ولا قول عالم صحابي يخالف ظاهر القرآن وإن وثقوا رجاله؛ فرب راوٍ يوثَّق للاغترار بظاهر حاله وهو سيئ الباطن. ولو انتقدت الروايات من جهة فحوى متنها، كما تنتقد من جهة سندها، لقضت المتون على كثير من الأسانيد بالنقض. وقد قالوا إن من علامة الحديث الموضوع مخالفته لظاهر القرآن أو القواعد المقررة في الشريعة أو البرهان العقلي أو للحس والعيان وسائر اليقينيات.» وهذا المقياس الذي جاء في حديث النبي، والذي ذكره ابن خلدون فيما تقدم، يتفق مع قواعد النقد العلمي الحديث أدق اتفاق.

ومن الحق أن المسلمين قد بلغ اختلافهم بعد وفاة النبي حدًّا دعا الدعاة فيهم إلى اختلاق الآلاف المؤلفة من الأحاديث والروايات. ومنذ قتل أبو لؤلؤة غلام المغيرة عمر بن الخطاب، ومنذ تولَّى عثمان بن عفان الخلافة بدأت الخصومة التي كانت بين بني هاشم وبني أمية قبل رسالة النبي العربي تظهر من جديد. فلما قُتِلَ عثمان وقامت الحرب الأهلية بين المسلمين وخاصمت عائشة عليًّا وأيَّد عليًّا من أيد، بدأت الأحاديث الموضوعة تكثر إلى حد أنكره علي بن أبي طالب، حتى رُوي عنه أنه قال: «ما عندنا كتابٌ نقرؤه عليكم إلا ما في القرآن وما في هذه الصحيفة أخذتها من رسول الله فيها فرائض الصدقة.» على أن ذلك لم يقف رواة الحديث عن روايته، ولم يقف قومًا عن وضع الحديث لهوى يدعون الناس إليه، أو لفضائل يزعمون أن الناس أحرص على اتباعها حين ينسب إلى رسول الله حديثها.

فلما استتب الأمر لبني أمية جعل المحدثون المتصلون ببني أمية يضعفون ما يروى عن عليِّ بن أبي طالب وفضائله، في حين جعل أنصار عليٍّ وأهل بيت النبي يزيدون في هذه الأحاديث ويحاولون إذاعتها بكل الوسائل، كما جعلوا يُعرضون عما يُرْوىَ عن عائشة أم المؤمنين. ومن طريف ما يروى في ذلك ما رواه ابن عساكر عن أبي سعد إسماعيل بن المثنَّى الإستراباذي؛ إذ كان يعظ بدمشق فقام إليه رجل فسأله عن قول النبي: أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها. فأطرق إسماعيل لحظة ثم رفع رأسه وقال: نعم، لا يعرف هذا الحديث عن النبي إلا من كان صدرًا في الإسلام، إنما قال النبي: أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعليٌّ بابها. وقد سُر الحاضرون بذلك وطلبوا إلى إسماعيل أن يذكر لهم إسناده فاغتم لعجزه. وكذلك كانت الأحاديث تلفق لأغراض سياسية ولأهواء عاجلة. وقد كثرت هذه الأحاديث الموضوعة كثرة راعت المسلمين، لمنافاة الكثير منها لما في كتاب الله. ولم تنجح المحاولات التي بذلت لوقفها في زمن الأمويين. فلما كانت الدولة العباسية، وجاء المأمون بعد قرابة قرنين من وفاة النبي كان قد أذيع من هذه الأحاديث الموضوعة عشرات الألوف ومئاتها، وكان بينها من التضارب وفيها من التهافت ما لا يخطر بالبال.

جامعو الحديث في عهد المأمون

إذ ذاك قام الجامعون بجمع الحديث وتولى كتَّاب السيرة كتابتها. فقد عاش الواقدي وابن هشام والمدائني وكتبوا كتبهم أيام المأمون. وما كان لهم ولا لغيرهم أن ينازعوا الخليفة في آرائه مخافة ما يحلُّ بهم. لذلك لم يطبقوا، بما يجب من الدقة، هذا المقياس الذي رُوي عن النبي عليه السلام من وجوب عرض ما يروى عنه على القرآن، فما وافق القرآن فمن الرسول وما خالفه فليس عنه.

ولو أن هذا المقياس طبق بما يجب من دقة لتغير بعض ما كتب هؤلاء الأعلام، فالنقد العلمي على الطريقة الحديثة لا يختلف عن هذا المقياس في شيء … لكن أحوال العصر اقتضت هؤلاء الأعلام أن يطبقوا هذا المقياس على طائفة مما كتبوا ثم لا يطبقونه على طائفة أخرى. وقد ورث المتأخرون عن السلف هذه الطريقة في كتابة السيرة لاعتبارات غير اعتباراتهم. ولو أنهم أنصفوا التاريخ لطبقوا الحديث على سيرة النبي العربي في جملتها وفي تفصيلها، دون استثناء لأي نبأ رُوي عنها لا يتفق مع ما ورد في القرآن الكريم؛ فما لم يكن مما تجري به سنة الكون ولم يرد ذكره في كتاب الله لم يثبتوه وما كان مما تجري به سنة الكون محَّصوه، ثم أثبتوا منه ما ثبت لديهم بالدليل اليقيني، وتركوا ما لم يقم الدليل عليه.

وقد أخذ بهذا الرأي جماعة من كبار الأئمة من سلف المسلمين، وتابعهم عليه أئمة الإسلام إلى يومنا هذا. قال الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي في التعريف بهذا الكتاب ما يأتي: لم تكن معجزة محمد القاهرة إلا في القرآن، وهي معجزة عقلية. وما أبدع قول البوصيري:

لم يمتحنا بما تعيا العقول به
حرصًا علينا فلم نرتب ولم نهم

وقال المرحوم السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار (في عددها الذي صدر في ٣ من مايو سنة ١٩٣٥)؛ ردًا على الذين اعترضوا على كتابنا هذا، ما نصه: «أهم ما ينكره الأزهريون والطرقيون على هيكل أو أكثره مسألة المعجزات أو خوارق العادات. وقد حررتها في كتاب الوحي المحمدي من جميع مناحيها ومطاويها في الفصل الثاني وفي المقصد الثاني من الفصل الخامس، بما أثبت به أن القرآن وحده هو حجة الله القطعية على ثبوت نبوة محمد بالذات ونبوة غيره من الأنبياء وآياتهم بشهادته لا يمكن في عصرنا إثبات آية إلا بها، وأن الخوارق الكونية شبهة عند علمائه لا حجة؛ لأنها موجودة في زماننا ككل زمان مضى، وأن المفتونين بها هم الخرافيون من جميع الملل، وبينت سبب هذا الافتتان والفروق بين ما يدخل منها في عموم السنن الكونية والروحية وغيره.»

وقال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في أول كتاب (الإسلام والنصرانية): «فالإسلام في هذه الدعوة والمطالبة بالإيمان بالله ووحدانيته لا يعتمد على شيء سوى الدليل العقلي والفكر الإنساني الذي يجري على نظامه الفطري؛ فلا يدهشك بخارق العادة، ولا يغشى بصرك بأطوار غير معتادة، ولا يخرس لسانك بقارعة سماوية، ولا يقطع حركة فكرك بصيحة إلهية. وقد اتفق المسلمون، إلا قليلًا ممن لا يعتد برأيهم فيه، على أن الاعتقاد بالله مقدَّم على الاعتقاد بالنبوات، وأنه لا يمكن الإيمان بالرسل إلا بعد الإيمان بالله. فلا يصح أن يؤخذ الإيمان بالله من كلام الرسل، ولا من الكتب المنزلة؛ فإنه لا يعقل أن تؤمن بكتاب أنزله الله إلا إذا صدقت قبل ذلك بوجود الله. وبأنه يجوز أن ينزل كتابًا أو يرسل رسولًا.»

وأكبر ظني أن الذين كتبوا السيرة كانوا يؤثرون هذا الرأي، لولا أحوال العصر أيام المتقدمين، ولولا أن ظن المتأخرون في ذكر ما لم يرد به القرآن من خوارق ومعجزات ما يزيد الناس إيمانًا على إيمانهم؛ لذلك حسبوا أن ذكر هذه المعجزات ينفع ولا يضر، ولو أنهم عاشوا إلى زماننا هذا، ورأوا كيف اتخذ خصوم الإسلام ما ذكروه منها حجة على الإسلام وعلى أهله، لالتزموا ما جاء به القرآن، ولقالوا بما قال به الغزالي ومحمد عبده والمراغي وسائر المدققين من الأئمة. ولو أنهم عاشوا في زماننا هذا، ورأوا كيف تزيغ هذه الروايات قلوبًا وعقائد بدلًا من أن تزيدها إيمانًا وتثبيتًا لكفاهم ذكر ما في كتاب الله من آيات بينات وحجج دامغة.

الروايات التي لا يقرها العقل والعلم

أما ومضرة الروايات التي لا يقرها العقل والعلم قد أصبحت واضحة ملموسة، فمن الحق على كل من يعرض لهذه الأمور أن يراعي جانب الدقة العلمية في تمحيصها خدمة للحق وخدمة للإسلام ولتاريخ النبي العربي، وتمهيدًا لما يجلوه البحث في هذا التاريخ العظيم من حقائق تنير أمام الإنسانية سبيلها إلى حضارتها الصحيحة.

القرآن والمعجزات

ولو أننا عرضنا كثيرًا من الأمور التي ترويها كتب السيرة وكتب الحديث على ما في القرآن لما وسعنا إلا أن نأخذ برأي الأئمة المدققين، فقد كان أهل مكة يطلبون إلى النبي أن يجري ربه على يديه المعجزات إذا أرادهم أن يصدقوه، فنزل القرآن يذكر ما طلبوا ويدفعه بحجج مختلفة. قال تعالى: وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا.٦
وقال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللهِ ۖ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ.٧

ولم يرد في كتاب الله ذكر لمعجزة أراد الله بها أن يؤمن الناس كافةً، على اختلاف عصورهم، برسالة محمد إلا القرآن الكريم. هذا مع أنه ذكر المعجزات التي جرت بإذن الله على أيدي من سبق محمدًا من الرسل، كما أنه جرى بالكثير مما أفاء الله على محمد وما وجِّه إليه الخطاب فيه. وما ورد في الكتاب عن النبي العربي لا يخالف سنة الكون في شيء.

المعجزة الكبرى

أما وذلك ما يجري به كتاب الله وما يقتضيه حديث رسول الله، فأي داعٍ دعا طائفة من المسلمين فيما مضى ويدعو طائفة منهم اليوم إلى إثبات خوارق مادية للنبي العربي؟ إنما دعاهم إلى ذلك أنهم تلوا ما جاء في القرآن عن معجزات من سبق محمدًا من الرسل، فاعتقدوا أن هذا النوع من الخوارق المادية لازم لكمال الرسالة فصدَّقوا ما روي منها وإن لم يرد في القرآن، وظنوا أنها كلما ازداد عددها كانت أدل على هذا الكمال وأدعى إلى أن يزداد الناس بالرسالة إيمانًا. ومقارنة النبي العربي بمن سبقه من الرسل مقارنة مع الفارق. فهو خاتم الأنبياء والمرسلين، وهو مع ذلك أول رسول بعثه الله للناس كافةً ولم يبعثه إلى قومه وحدهم ليبين لهم. لذلك أراد الله أن تكون معجزة محمد معجزة إنسانية عقلية، لا يستطيع الإنس والجن الإتيان بمثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا. هذه المعجزة هي القرآن وهي أكبر المعجزات التي أذن الله بها. وقد أراد جل شأنه منها أن تثبت رسالة نبيه بالحجة البينة والدليل الدامغ، وأراد لدينه أن ينتصر بفضل منه في حياة رسوله، ليرى الناس في انتصاره قوة سلطانه، ولو أراد الله أن تكون المعجزة المادية وسيلة إلى اقتناع من نزل الإسلام على رسوله بينهم، لكانت ولذكرها في كتابه. لكن من الناس من لا يصدقون إلا ما يقره العقل؛ لذلك كانت الوسيلة إلى إقناع الناس كافةً برسالة محمد أوثق ما تكون اتصالًا بقلوبهم وعقولهم، فجعل الله القرآن، حجته البالغة، معجزة النبي الأمي إليهم، وجعل انتصار دينه وقوة الإيمان به آتيين من طريق الدليل اليقيني والاقتناع الصادق، والدين الذي يقوم على هذا الأساس أدعى إلى أن يؤمن الناس جمعيًا به، على مر العصور واختلاف الأمم وتباين اللغات.

ولو أن أمة غير مسلمة آمنت اليوم بهذا الدين ولم تحتج إلى التصديق بمعجزة غير القرآن لتؤمن، لما طعن ذلك في إيمانها ولا نقص من إسلامها. فما دام الوحي لم ينزل بها فلا جناح على من يؤمن بالله ورسوله أن يجعل ما يتصل به من أمرها محل تمحيص؛ فما ثبت بالحجة اليقينية أخذ به، وما لم يثبت بها فله فيه رأيه، ولا تثريب عليه. فالإيمان بالله وحده لا شريك له لا يحتاج إلى معجزة؛ ولا يحتاج إلى أكثر من النظر في هذا الكون الذي خلقه الله. والشهادة برسالة محمد، الذي دعا الناس بأمر ربه إلى هذا الإيمان وجنَّبهم ما يزيغ قلوبهم عنه، لا تحتاج إلى معجزة غير القرآن، ولا تحتاج إلى أكثر من تلاوة الكتاب الذي أوحاه الله إليه.

الإيمان عند أئمة المسلمين

ولو أن أمَّة غير مسلمة آمنت اليوم بهذا لدين من غير حاجة إلى التصديق بمعجزة غير القرآن، لكان الذين آمنوا من أبنائها أحد رجلين: رجل لم يتلجلج قلبه ولم يتعثر فؤاده، بل هداه الله إلى الإيمان أول ما دُعي إليه، كما هدى أبا بكر، فآمن وصدَّق من غير تردُّد، وآخر لم يلتمس إيمانه فيما وراء سُنَّة الكون من خوارق، بل التمسه في خلق هذا الكون الفسيح الأرجاء الذي يقصر تصوُّرنا دون إدراك حدوده في الزمان أو في المكان، وتجري أموره مع ذلك على سنن لا تحويل لها ولا تبديل، فاهتدى من سُنَّة الله في الكون إلى بارئه ومصوِّره. سواء عند هذين أكانت الخوارق أم لم تكن، بل هما لا يفكران في هذه الخوارق إلا على أنها من آيات فضل الله. ومثل هذا الإيمان يراه الكثيرون من أئمة المسلمين مثلًا أسمى في الإيمان، ويذهب بعضهم كذلك إلى أن الإيمان الصحيح يجب ألا يكون مصدره خوفًا من عقاب الله أو طمعًا في ثوابه، بل يجب أن يكون إيمانًا خالصًا بالله وفناءً تامًّا فيه. إليه يرجع الأمر كله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

المؤمنون في حياة النبي

مثل الذين يؤمنون اليوم بالله ورسوله من غير أن تحملهم المعجزات على الإيمان، كمثل الذين آمنوا بالله ورسوله في حياة النبي العربي. فلم يذكر التاريخ أن المعجزات حملت أحدًا منهم على أن يؤمن؛ بل كانت حجة الله البالغة عن طريق الوحي على لسان نبيه، وكانت حياة النبي، في سموِّها البالغ غاية السمو، هي التي دعت إلى الإيمان من آمن منهم. وإن كتب السيرة جميعًا لتذكر أن طائفة من الذين آمنوا برسالة محمد قبل الإسراء قد ارتدت عن إيمانها حين ذكر النبيُّ أن الله أسرى به ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله. ولم يؤمن سُراقة بن جعشم، لما اتَّبع محمدًا حين هجرته إلى المدينة ليأتي أهل مكة به حيًّا أو ميتًا طمعًا في مالهم، على رغم ما روت كتب السيرة من معجزة الله في سراقة وفي جواده. ولم يذكر التاريخ أن مشركًا آمن برسالة محمد لمعجزة من المعجزات، كما آمن سَحَرةُ فرعون لما لقفت عصا موسى ما صنعوا.

الغرانيق وتبوك

ثم إن ما ورد في كتب السيرة والحديث عن المعجزات قد اختلف فيه أحيانًا. وقد كان على الرغم من ثبوته في كتب الحديث موضع النقد أحيانًا أخرى، وقد أشرنا إلى مسألة الغرانيق في هذا التقديم وذكرناها مفصلة في الكتاب. وقصة شق الصدر قد وقع الاختلاف فيها على ما روته حليمة ظئر النبي عنها لأمه، كما وقع على الزمن الذي حدثت فيه من سن محمد وما روت كتب السيرة وكتب الحديث عن قصة زيد وزينب مردود من أساسه، للأسباب التي أبديناها عند الكلام عن هذه القصة في أثناء الكتاب. وقد وقع مثل هذا الاختلاف على ما حدث أثناء مسيرة جيش العسرة إلى تبوك: فقد روى مسلم في صحيحه عن معاذ بن جبل أن النبي قال لمن سار معه إلى تبوك: إنكم ستأتون إن شاء الله غدًا عين تبوك وإنكم لن تأتوها حتى يضحي النهار: فمن جاء منكم فلا يمسَّ من مائها شيئًا حتى آتي. فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان والعين مثل الشراك تبض بشيء من ماء. قال: فسألهما رسول الله: هل مسِستما من مائها شيئًا! قالا: نعم؛ فسبهما النبي وقال لهما ما شاء الله أن يقول. قال: ثم غرفوا بأيديهم من العين قليلًا قليلًا حتى اجتمع في شيء. قال: وغسل رسول الله فيه يديه ووجهه ثم أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر — أو قال غزير، شك أبو علي أيهما قال — حتى استقى الناس. ثم قال: «يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانًا.»٨

فأما كتب السيرة فتروي قصة تبوك على صورة أخرى لا يرد فيها ذكر المعجزة، وإنما تجري فيها الرواية على نحو غير ما ورد في صحيح مسلم. من ذلك ما رواه عنها ابن هشام إذ قال: «قال ابن إسحاق: فلما أصبح الناس ولا ماء معهم شكوا ذلك إلى رسول الله فدعا رسول الله، فأرسل الله سحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء. قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد عن رجال من بني عبد الأشهل، قال: قلت لمحمود: هل كان الناس يعرفون النفاق فيهم؟ قال: نعم! والله إن كان الرجل ليعرفه من أخيه ومن أبيه ومن عمه وفي عشيرته ثم يلبس بعضهم بعضًا على ذلك. ثم قال محمود: لقد أخبرني رجال من قومي عن رجل من المنافقين معروف نفاقه كان يسير مع رسول الله حيث سار؛ فلما كان من أمر الماء بالحجر ما كان ودعا رسول الله حين دعا فأرسل الله السحابة فأمطرت حتى ارتوى الناس قالوا: أقبلنا عليه نقول: ويحك! هل بعد هذا شيء؟ قال: سحابة مارة.»

وهذا الاختلاف في الوقائع يجعل تأكيدها والقطع بها أمرًا غير ميسور في نظر العلم. ويقتضي الذين يمحصونها ألا يقفوا عند القول بالراجح والمرجوح قولًا لا يثبت إحدى الروايتين ولا ينفي الأخرى؛ وأقل ما يجب عليهم إذا لم تثبت الرواية عندهم أن يغفلوها؛ فإذا عثر غيرهم من بعد على الأدلة اليقينية عليها فذاك، وإلا بقيت غير ثابتة ثبوتًا علميًّا.

طريقتي في البحث

هذه هي الطريقة التي جريت عليها منذ بدأت هذا البحث في حياة محمد صاحب الرسالة الإسلامية. وأنا منذ اعتزمت القيام بهذه الدراسة إنما أردتها دراسة علمية على الطريقة الحديثة خالصة لوجه الحق، ولوجه الحق وحده. ذلك ما قلت في تقديم هذا الكتاب، كما رجوت في خاتمة طبعته الأولى أن أكون قد وفقت لتحقيق ما قصدت إليه، وأن يكون البحث قد تم بحثًا علميًّا لوجه الحقيقة العلمية وحدها، وأن أكون قد مهدت به السبيل إلى مباحث في موضوعه أكثر استفاضة وعمقًا، تجلو أمام العلم من المسائل النفسية والروحية ما يهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة الجديدة التي تلتمسها. وما أشك أن التعمق في البحث يكشف عن أسرار كثيرة ظن الناس زمنًا أن لا سبيل إلى تعليلها، ثم إذا مباحث علم النفس تفسرها وتجلوها واضحة للمتعقلين. وكلما وقعت الإنسانية على أسرار الكون الروحية والنفسية ازدادت صلة بالكون، وازدادت سعادة بهذه الصلة؛ كما أنها ازدادت استمتاعًا بما في الكون لما ازدادت اتصالًا بأسرار القوة والحركة الكمينة فيه حين عرفت الكهربا والأثير.

من أجل ذلك كان خليقًا بكل من يتصدى للبحث في مثل هذا الموضوع أن يتوجه به إلى الإنسانية كلها لا إلى المسلمين وحدهم. فليست الغاية الصحيحة منه دينية محضة كما قد يظن بعضهم، بل الغاية الصحيحة منه أن تعرف الإنسانية كيف تسلك سبيلها إلى الكمال الذي دلها محمد على طريقه، وإدراك هذه الغاية غير ميسور إذا لم يهتد الإنسان إلى هذه السبيل بمنطق عقله ونور قلبه. راضي النفس بهذا المنطق، منشرح الصدر إلى هذا النور؛ لأن مصدرهما المعرفة الصحيحة والعلم الصحيح. فالتفكير الذي لا يعتمد على المعرفة الدقيقة ولا يتقيد مع ذلك بالطرائق العلمية، كثيرًا ما يعرض صاحبه لأن يخطئ ويكبو، وكثيرًا ما ينأى لذلك به عن محجة الحق، فطبيعتنا الإنسانية تجعل تفكيرنا يتأثر بمزاجنا تأثرًا عظيمًا، وكثيرًا ما يختلف المتساوون علمًا في تفكيرهم لغير سبب إلا اختلاف أمزجتهم مع إخلاصهم جميعًا في القصد والغاية. فمن الناس العصبي المزاج الحاد التفكير، السريع إلى الاندفاع فيه. ومنهم الصوفي النزعة، الرواقي المزاج، الزاهد في المادة وآثارها، ومنهم المادي الهوى، المتأثر بماديته تأثرًا يحول بين تفكيره وبين ما يحسه من قوى تحيط به هي التي تسيطر على المادة. وغير هؤلاء كثيرون تختلف أمزجتهم ويختلف لذلك نظرهم إلى الأمور وتقديرهم إياها. وهذا الاختلاف نعمة كبرى على الإنسانية في ميادين الفن وفي الحياة العلمية، لكنه نقمة على العلم وعلى التفكير القائم على أساسه ابتغاء أمثال الحياة العليا لخير الإنسانية جمعاء. ودراسة التاريخ يجب أن تكون غايتها نشدان الأمثال العليا من حقائق الحياة، ويجب لذلك أن يتجنب من يدرس التاريخ سلطان الهوى وحكم المزاج. ولا سبيل إلى تجنبها إلا أن يتقيد الإنسان بالطريقة العلمية أدق التقيد، وألا يجعل من العلم والبحوث العلمية في التاريخ أو غير التاريخ مطية لإثبات هوى من أهوائه أو نزوة من نزوات مزاجه.

بحوث المستشرقين

ولقد تأثر كثير من المستشرقين في بحوثهم التي صيغت صيغة العلم بأهواء أمزجتهم، وكذلك فعل كثيرون من كتاب المسلمين، وأعجب الأمر في هؤلاء وأولئك أن يتخذ كلٌّ مما تزينه نزوات مزاج الآخر من الوقائع ما يقيمه أساسًا لكتابة يزعمها علمية ابتغى بها وجه الحق، في حين هو يتأثر فيها بمزاجه وبهواه أشد التأثر. ودليل ذلك لو كلف نفسه بعض الجهد في تمحيص ما كتب الآخر تمحيصًا نزيهًا لتداعت أمام نظره الوقائع التي أبدعها خيال صاحبه. ولو أنه فعل وتجرد جهد طاقته من هوى نفسه، وتحصن بقواعد العلم وطرائقه، لكانت كتابته أبقى في النفوس أثرًا على خلاف الكتابة التي يدفع إليها الهوى. وقد حاولت أن أبين شيئًا من أخطاء هؤلاء وأولئك في هذا التقديم للطبعة الثانية، متوخيًا في ذلك ما اقتضاه المقام من إيجاز غاية الإيجاز. ولعلي وفقت لبعض ما قصدت إليه من نزاهة وإنصاف.

ليس من اليسير أن يقوم المستشرقون في بحوثهم الإسلامية بكل هذه الدقة وهذا الإنصاف، مهما تحسن نيتهم ومهما يتحروا الدقة العلمية. فعسير عليهم أن يحيطوا بكل أسرار اللغة العربية وإن أحاطوا بعلومها. ثم إنهم متأثرون بالنصرانية الأوروبية تأثرًا يجعل أكثرهم ينظرون إلى الأديان نظرة تملؤها الريبة، ويجعل الأقلين المستمسكين بمسيحيتهم يتأثرون بما كان بين المسيحية والعلم من نضال، فيخضعون في بحوثهم الإسلامية لمثل ما خضع له أمثالهم في بحوثهم المسيحية أو في بحوثهم الدينية بوجه عام، أقصد التأثر بهذا النضال الهدام. وهذا أمر لا يعاب به المستشرقون المنصفون؛ فلن يستطيع أحد من الناس أن يتحرر من حكم بيئته الزمانية والمكانية. لكنه يجعل بحوثهم في الأمور الإسلامية تشوبها شوائب تنأى عن الحق ولو بمقدار. ومن شأن ذلك أن يلقي على عاتق العلماء من أهل البلاد الإسلامية، سواء منهم المشتغلون بالعلوم الدينية والمشتغلون بغيرها من العلوم، هذا العبء الجليل العظيم؛ عبء القيام بهذه المباحث الإسلامية بدقة ونزاهة في حدود الطريقة العلمية، فإذا هم فعلوا مستعينين بمعرفتهم أسرار اللغة العربية والحياة العربية، فسيكون لبحوثهم من الأثر أن تعدل بالمستشرقين، أو ببعضهم على الأقل، عن كثير من الآراء، وتقنعهم بالنتائج التي وصل إليها علماء البلاد الإسلامية عن طمأنينة نفس وطيب خاطر.

المسلمون وهذه البحوث

وليس الوصول إلى هذه النتائج بالأمر الهين؛ فهو يحتاج إلى جلد ومثابرة في البحث والموازنة والتفكير الحر، لكنه ليس كذلك بالأمر المستحيل ولا بالأمر العسير. وهو بعد أمر جليل الخطر عظيم الأثر في مستقبل الإسلام وفي مستقبل الإنسانية كلها. وعندي أن القيام به على وجه صالح يقتضي التفريق بين فترتين مختلفتين من تاريخ الإسلام: أولاهما من بدء الإسلام إلى مقتل عثمان. والثانية من مقتل عثمان إلى أن أقفل باب الاجتهاد؛ ففي الفترة الأولى بقي اتفاق المسلمين تامًّا؛ لم تغير منه روايات الاختلاف على الخلافة، ولا غيرت منه حروب الردة ولا فتح المسلمين للبلاد التي فتحوا. أما بعد مقتل عثمان فقد دب الخلاف بين المسلمين وقامت الحروب الأهلية بين عليٍّ ومعاوية، واستمرت الثورات، ظاهرة تارةً وخفيةً أخرى، ولعبت الأهواء السياسية دورًا خطيرًا في الحياة الدينية نفسها. وحسب الإنسان، ليقدر هذا الخلاف، أن يوازن بين المبادئ التي ينطوي عليها خطاب أبي بكر بعد بيعته حين يقول: «أما بعد، أيها الناس، فإن قد وليت عليكم، ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني. الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله. لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله؛ فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.» وخطاب المنصور العباسي بعد تسنمه ذروة العرش إذ يقول: «أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتأييده، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته، وأعطيه بإذنه؛ فقد جعلني الله عليه قفلًا، إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم، وإن شاء أن يقفلني عليها أقفلني …» حسب الإنسان أن يوازن بين هذين الخطابين ليرى مدى التغير العظيم في القواعد الأساسية للحياة الإسلامية في أقل من قرنين، تغيرًا نقلها من الشورى بين المسلمين إلى الحكم المطلق المستمد من الحق المقدس.

ولقد كانت هذه الثورات، وما أدَّت إليه من انقلاب بعد آخر في أسس الحكم سبب ما آل إليه أمر الدولة الإسلامية من بعد من انحلال وتقهقر. ومع ازدهار الإسلام والحضارة الإسلامية قرنين كاملين بعد مقتل عثمان، ومع ما نشط إليه الإسلام من فتح الممالك وتدويخ الملوك على يد المغول وعلى يد السلاجقة بعد الانحلال الأول، فإن الفترة الأولى التي انتهت بمقتل عثمان هي التي تقررت فيها القواعد الصحيحة للحياة الإسلامية العامة؛ وهي لذلك وحدها التي يمكن الاعتماد الثابت اليقيني على ما وقع فيها لمعرفة هذه القواعد الصحيحة. أما فيما بعد هذه الفترة، فإنه — على الرغم من ازدهار العلم والمعرفة أيام الأمويين، وخاصةً أيام العباسيين — قد اندست يد العبث بهذه القواعد الأساسية الصحيحة لتقيم مقامها قواعد تتنافى في كثير من الأحيان مع روح الإسلام، تحقيقًا لأغراض سياسية شعوبية في أكثر أمرها. وقد كان الأعاجم وكان الذين تظاهروا بالإسلام من اليهود والنصارى هم الذين روجوا لهذه القواعد الجديدة، غير متورعين في تأييدها عن اختراع الأحاديث ونسبتها إلى النبي عليه السلام، ولا عن ادعاء أشياء على الخلفاء الأولين لا تتفق مع سيرتهم ولا تلتئم مع مزاجهم.

هذه الفترة الأخيرة لا يمكن الاعتماد على ما دوِّن فيها اعتمادًا علميًّا دون تمحيصه ونقده، أدق التمحيص والنقد، بغير تأثر بالأهواء أو بنزعات المزاج الذاتي. وأول ما يجب من ذلك أن نرد مما وقع الخلاف عليه فيها كل ما لا يتفق مع القرآن، وإن نسب ما وقع عليه الخلاف إلى النبي العربي. أما صدر الإسلام الأول إلى مقتل الخليفة الثالث فيمكن الاعتماد على ما يروى مباشرة عنه، ويمكن لذلك أن يتخذ أيضًا أساسًا لتمحيص ما جاء بعده. وإني لأحسبنا إذا فعلنا هذا كله بدقة علمية، قديرين على أن نرسم صورة صادقة من قواعد الإسلام الصحيحة ومن الحياة الإسلامية الأولى؛ هذه الحياة العقلية والروحية التي بلغت من القوة والسمو مبلغًا دفع عرب البادية من أهل شبه الجزيرة لينتشروا في الأرض خلال بضعة عقود من السنين كي يقيموا في مختلف الممالك أسمى المبادئ الإنسانية التي عرفها التاريخ. ولو أننا نجحنا في هذا لكشفنا أمام الإنسانية أفقًا تصعد منه إلى معرفة أسرار الكون النفسية والروحية، وتتصل به عن طريق هذه المعرفة اتصالًا يهيئ للإنسانية أسباب نعمتها وسعادتها، كما أنها ازدادت استمتاعًا بما في الكون حين ازدادت اتصالًا بأسرار القوة والحركة الكمينة فيه بعد أن عرفت الكهربا والأثير. ولو أننا نجحنا في هذا لكان للإسلام من الفضل على الإنسانية اليوم ما كان له في الصدر الأول، حين خرج به العرب من شبه الجزيرة لينشروا مبادئه السامية في العالم كله.

وفي مقدمة ما يجب علينا من ذلك، خدمة للحقيقة وللإنسانية، أن نتعمق في دراسة سيرة النبي العربي تعمقًا يهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة التي تنشدها. والقرآن أصدق مرجع لهذه الدراسة؛ فهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل ولا تعلق به الريبة، وهو الكتاب الذي بقي ثلاثة عشر قرنًا، وسيبقى أبد الدهر معجزة الحياة في طهارة نصوصه، مصداقًا لقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ،٩ كما كان وسيبقى معجزة محمد القائمة منذ أوحاه الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فكل ما تعلق بسيرة محمد يجب أن يعرض على القرآن، فما وافقه كان حقًّا، وما لم يوافقه لم يكن بحق. وقد حاولت من ذلك في هذا البحث البدائي جهد طاقتي. فلما عدت إليه بعد طبعة هذا الكتاب الأولى شكرت لله توفيقه ورجوته أن يهيئ لمتابعة التعمق فيه تعمقًا علميًّا من يحبوه هدايته، ويمده بتسديده.

رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

١  راجع موير «حياة محمد» صXIV إلى XIXX.
٢  سورة الأحزاب آية ٥٦.
٣  سورة النحل آية ١٠٣.
٤  سورة النجم، آيتا ١٩، ٢٠.
٥  أي خلق له أسباب العزم من القوة والصبر.
٦  سورة الإسراء من الآيات ٩٠ إلى ٩٣.
٧  سورة الأنعام الآيات من ١٠٩ إلى ١١١.
٨  صحيح مسلم ج٧ ص٦٠ طبعة الآستانة سنة ١٣٣٢ﻫ.
٩  سورة الحجر آية ٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤