خاتمة في مبحثين

(١) الحضارة الإسلامية كما صورها القرآن

خلَّف محمد هذا الميراث الروحي العظيم الذي أظل العالم ووجَّه حضارته خلال عدة قرون مضت، والذي سيظله من بعدُ ويوجه حضارته حتى يتم الله في العالم نوره. وإنما كان لهذا الميراث كل هذا الأثر فيما مضى، وسيكون له مثله وأكثر من بعد، لأنه أقام دين الحق ووضع أساس حضارة هي وحدها كفيلة بسعادة العالم. والدين والحضارة اللذان بلَّغهما محمد للناس بوحي ربه، يتزاوجان حتى لا انفصال بينهما. ولئن قامت هذه الحضارة الإسلامية على أساس من قواعد العلم وهدى العقل، واستندت في ذلك إلى ما تستند إليه الحضارة الغربية في عصرنا الحاضر؛ ولئن استند الإسلام من حيث هو دين إلى التفكير الذاتي، وإلى المنطق التجريدي (الميتافيزيقي)؛ إن الصلة مع ذلك وثيقة بين الدين ومقرراته والحضارة وأساسها؛ ذلك بأن الإسلام يربط بين التفكير المنطقي والشعور الذاتي، وبين قواعد العقل وهدى العلم، برابطة لا مفرَّ لأهله من البحث عنها والاهتداء إليها ليظلوا مسلمين وطيدًا إيمانهم. وحضارة الإسلام تختلف من هذه الناحية عن الحضارة الغربية المتحكمة اليوم في العالم، كما تختلف عنها في تصوير الحياة والأساس الذي يقوم هذا التصوير عليه. وهذا الاختلاف بين الواحدة والأخرى من هاتين الحضارتين جوهري إلى الحدِّ الذي يجعل أساس كل واحدة منهما نقيض الأساس الذي تقوم عليه الأخرى.

يرجع هذا الاختلاف إلى أسباب تاريخية، أشرنا إليها في تقديم هذا الكتاب وفي تقديم طبعته الثانية. فقد أدى النزاع في الغرب المسيحي بين السلطتين الدينية والزمنية — وبعبارة هذا العصر: بين الكنيسة والدولة — إلى الفصل بينهما وإلى إقامة سلطان الدولة على إنكار سلطان الكنيسة. وكان لهذا التنازع على السلطان أثره في التفكير الغربي كله. وفي مقدمة النتائج التي ترتبت على هذا الأثر ما كان من تفريق بين الشعور الإنساني والعقل الإنساني، وبين منطق العقل المجرد ومقررات العلم الواقعي المستندة إلى الملاحظة المادية.

وكان لانتصار التفكير المادي أثره البالغ في قيام النظام الاقتصادي أساسًا رئيسيًّا للحضارة الغربية. فقد نشأ من ذلك أن قامت في الغرب مذاهب تريد أن تجعل كل ما في عالمنا خاضعًا لحياة هذا العالم الاقتصادية، كما أراد غير واحد أن يضع تاريخ الإنسانية في أديانها وفنها وفلسفتها وتكفيرها وعلمها بوحي ما كان من مدٍّ أو جزر اقتصادي في أممها المختلفة. ولم يقف أمر هذا التفكير عند التاريخ وكتابته، بل أقامت بعض مذاهب الفلسفة الغربية قواعد الخلق على أسس نفعية مادية بحتة. ومع ما بلغته هذه المذاهب من براعة في التفكير وقوة في الابتكار، لقد أمسكها التطور الفكري في الغرب في حدود المنفعة المادية المشتركة، تُقيم عليها قواعد الخلق جميعًا، وترى ذلك من المقتضيات المحتومة للبحث العلمي. فأما المسألة الروحية فهي في نظر الحضارة الغربية مسألة فردية صرفة، فلا محل لأن يُعنى الناس أنفسهم جماعة بها.

ومن ثم كانت الإباحة في العقيدة بعض ما قدَّسه أهل الغرب، وكان أشد تقديسًا لها من تقديسهم الإباحة في الخُلق؛ وهم أشد تقديسًا للإباحة في الخُلق منهم لحرية الحياة الاقتصادية المقيدة بالقانون تقييدًا ينفذه الجندي وتنفذه الدولة بكل ما أوتيت من قوة.

في اعتقادي أن حضارة تجعل الحياة الاقتصادية أساسًا، وتقيم قواعد الخلق على أساس هذه الحياة الاقتصادية، ولا تقيم للعقيدة وزنًا في الحياة العامة، تقصر عن أن تمهِّد للإنسانية سبيل سعادتها المنشودة. بل إن هذا التصوير للحياة لجدير أن يجر على الإنسانية ما تعانيه من محن في هذه العصور الأخيرة، جدير أن يجعل كل تفكير في منع الحرب وفي توطيد أركان السلام في العالم قليل الجدوى غير مرجوِّ الثمرة. فما دامت صلتي بك أساسها الرغيف الذي آكل أنا أو تأكل أنت وتنازُعنا عليه ونضالُنا في سبيله، قائمةً بذلك على أساس القوة الحيوانية في كل منا، فسيظل كل منا يرقب الفرصة التي يحسن فيها الاحتيال للحصول على رغيف صاحبه؛ وسيظل كل منا ينظر إلى الآخر على أنه خصمه لا على أنه أخوه، وسيظل الأساس الخلقي الكمين في النفس أساسًا حيوانيًّا بحتًا، وإن بقي كمينًا حتى تدفع الحاجة إلى ظهوره، وستظل المنفعة وحدها قوام هذا الأساس الخلقي، على حين تنزلق عليه المعاني الإنسانية السامية والمبادئ الخُلقية الكريمة، مبادئ الإيثار والمحبة والأخوَّة، فلا يكاد يمسكها ولا تكاد تعلق به.

وما هو واقع في العالم اليوم خير مصداق عملي لما أذكره؛ فالتنافس والنضال هما المظهر الأول للنظام الاقتصادي، وهما لذلك أول مظهر لحضارة الغرب. وهما كذلك في المذهب الفردي وفي المذهب الاشتراكي على سواء. في المذهب الفردي ينافس العامل العامل، وينافس رب المال رب المال، والعامل ورب المال فيه خصمان يتنافسان. وأرباب هذا المذهب يرون في هذا التنافس وهذا النضال كل خير للإنسانية ولتقدمها. فهما عندهم الحافز للإتقان والحافز لتقسيم العمل، وهما المعيار العادل لتوزيع الثروة. أما المذهب الاشتراكي فيرى في نضال الطوائف، نضالًا يفنيها جميعًا حتى يُرَدَّ الأمر كله للعمال، بعضَ ما تحتمه الطبيعة، وما دام التنافس والنضال على المال هما جوهر الحياة، وما دام النضال بين الطوائف طبيعيًّا، فالنضال بين الأمم طبيعي كذلك، وللغاية التي يقع من أجلها نضال الطوائف. ومن ثم كانت فكرة القوميات أثرًا محتومًا بحكم الطبيعة لهذا النظام الاقتصادي. أما ونضال الأمم في سبيل المال طبيعي، أما والاستعمار لذلك طبيعي أيضًا، فكيف يمكن أن تمتنع الحرب ويستقر السلام في العالم؟! لقد شهدنا في هذا القرن المتم للعشرين المسيحي وما نزال نشهد البينات على أن السلام في عالم هذا أساس حضارته حلم لا سبيل إلى تحقيقه، وأمنية معسولة، ولكنها سراب كذوب.

تقوم الحضارة الإسلامية على أساس هو النقيض من أساس الحضارة الغربية؛ فهي تقوم على أساس روحي يدعو الإنسان إلى حسن إدراك صلته بالوجود ومكانه منه قبل كل شيء. فإذا بلغ من هذا الإدراك حد الإيمان، دعاه إيمانه إلى إدامة تهذيب نفسه وتطهير فؤاده، وإلى تغذية قلبه وعقله بالمبادئ السامية: مبادئ الإباء والأنفة والأخوة والمحبة والبر والتقوى. وعلى أساس هذه المبادئ ينظم الإنسان حياته الاقتصادية. هذا التدرج هو أساس الحضارة الإسلامية كما نزل الوحي بها على محمد. فهي حضارة روحية أولًا. والنظام الروحي فيها هو أساس النظام التهذيبي وأساس قواعد الخُلق. والمبادئ الخُلقية هي أساس النظام الاقتصادي، فلا يجوز أن يضحَّى بشيء من مبادئ الخلق في سبيل التنظيم الاقتصادي.

هذا التصوير الإسلامي للحضارة هو في يقيني التصوير الجدير بالإنسانية الكفيل بسعادتها، ولو أنه استقر في النفوس، وانتظم الحياة انتظام الحضارة الغربية اليوم إياها، لتبدلت الإنسانية غير الإنسانية، ولانهارت مبادئ يؤمن الناس اليوم بها، ولقامت مبادئ سامية تكفل معالجة أزمات العالم الحاضر على هدى نورها.

والناس اليوم في الغرب والشرق يحاولون حل هذه الأزمات دون أن يتنبه أحد منهم، ودون أن يتنبه المسلمون أنفسهم إلى أن الإسلام كفيل بحلِّها؛ فأهل الغرب يتلمسون اليوم جدة روحية تنقذهم من وثنية تورطوا فيها، وكانت سبب شقائهم وعلَّة ما ينشب من الحروب بينهم؛ تلك عبادة المال. وأهل الغرب يتلمسون هذه الجدة في مذاهب الهند والشرق الأقصى على حين هي قريبة منهم؛ يجدونها مقررة في القرآن، مصورة خير صورة فيما ضربه النبي العربي للناس من مثل أثناء حياته.

لست أطمع في أن أصور هنا هذه الحضارة الإسلامية ونظامها؛ فهذا التصوير يقتضي بحثًا مستفيضًا، ويستغرق كتابًا في حجم هذا الكتاب أو أكثر منه؛ وإنما أريد أن أجمل صورة هذه الحضارة، بعد أن أشرت إلى الأساس الروحي الذي تقوم عليه، لعلي بذلك أصوِّر الدعوة المحمدية في مجموعها وأمهِّد بهذا التصوير لمباحث أكثر استفاضة وعمقًا. وإني ليجمل بي قبل ذلك أن أشير إلى أن تاريخ الإسلام خلا من النزاع بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية؛ أي بين الكنيسة والدولة، فأنجاه ذلك مما ترك هذا النزاع في تفكير الغرب وفي اتجاه تاريخه. وترجع نجاة الإسلام من هذا النزاع وآثاره إلى أنه لم يعرف شيئًا اسمه الكنيسة أو السلطة الدينية على نحو ما عرفت المسيحية. فليس لأحد من المسلمين، ولو كان خليفة، أن يفرض أمرًا على الناس باسم الدين، وأن يزعم أنه قدير مع ذلك على الغفران لمن خالف هذا الأمر. وليس لأحد من المسلمين، ولو كان خليفة، أن يفرض على الناس غير ما فرضه الله في كتابه. بل المسلمون أمام الله سواسية، لا فضل لأحد منهم على أحد إلا بالتقوى.

وليس لوليِّ الأمر على مسلم طاعة في معصية ولا فيما لم يأمر الله به. يقول أبو بكر الصديق حين خطب المسلمين يوم بايعوه بالخلافة: أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. ومع ما آل إليه الأمر في الإسلام بعد ذلك من ملك عضوض، ومع ما قام بين المسلمين من ثورات أهلية، لقد أقام المسلمون على تمسكهم بهذه الحرية الذاتية العظيمة التي قررها لهم دينهم؛ هذه الحرية التي جعلت العقل حكمًا في كل شيء، والتي جعلته حكمًا في الدين وفي الإيمان نفسه. لقد تمسكوا بهذه الحرية حتى بعد أن ادعى أمراء المؤمنين أنهم خلفاء الله لا خلفاء رسوله على الأرض، وأنهم يملكون من أمر المسلمين كل شيء حتى الحياة والموت. يشهد بذلك ما حدث في عصر المأمون حين اختلف على القرآن أمخلوق هو أم غير مخلوق؟ فقد خالف الكثيرون رأي الخليفة مع علمهم بما يستهدف له المخالف من عقاب وغضب.

جعل الإسلام العقل حكمًا في كل شيء، وجعله حكمًا في الدين وفي الإيمان نفسه. يقول تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ۚ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ.١

ويفسر الشيخ محمد عبده هذه الآية فيقول: «إن الآية صريحة في أن التقليد بغير عقل ولا هداية هو شأن الكافرين، وإن المرء لا يكون مؤمنًا إلا إذا عقل دينه وعرفه بنفسه حتى اقتنع به. فمن رُبِّي على التسليم بغير عقل، والعمل ولو صالحًا بغير فقه، فهو غير مؤمن. فليس القصد من الإيمان أن يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان، بل القصد منه أن يرتقي عقله وترتقي نفسه بالعلم فيعمل الخير لأنه يفقه أنه الخير النافع المرضي لله، ويترك الشر لأنه يفهم سوء عاقبته ودرجة مضرته.»

وهذا الذي يقوله الشيخ محمد عبده تفسيرًا لهذه الآية قد جاء به القرآن صريحًا في آيات كثيرة غيرها. فهو يدعو الناس إلى النظر في الكون ومعرفة أنبائه ليهديهم نظرهم إلى وجود الله ووحدته جل شأنه، يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.٢ ويقول تعالى: وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ ۖ أَفَلَا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ * وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ۚ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ * وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ * وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ * إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعًا إِلَىٰ حِينٍ.٣

والدعوة إلى النظر في الكون لاستنباط سننه وللاهتداء إلى الإيمان ببارئه يكررها القرآن مئات المرات في سوره المختلفة، وكلها موجَّهة إلى قُوَى الإنسان العاقلة تدعوه إلى التدبر والتأمل ليكون إيمانه عن عقل وبينة، وتحذره الأخذ بما وجد آباءه عليه من غير نظر فيه وتمحيص له وثقةً ذاتية بمبلغه من الحق.

هذا هو الإيمان الذي دعا الإسلام إليه، وهو ليس هذا الإيمان الذي يسمونه إيمان العجائز، إنما هو إيمان المستنير المستيقن الذي نظر ونظر، ثم فكر وفكر، ثم وصل من النظر والتفكير إلى اليقين بالله جلت قدرته، وما أحسب رجلًا نظر بعقله وقلبه ثم لم يهتد إلى الإيمان، وهو كلما أنعم نظره وأطال تأمله وتدبره، وحاول الإحاطة بالزمان والمكان وما تشتمله وحدتهما التي لا نهاية لها من عوالم دائمة المَوْر، شعر بنفسه ذرة من هذه العوالم تجري كلها على سنن تمسكها، وإلى غاية عند بارئها علمها، وتيقن من ضعفه وقصور علمه إذا لم يستعن على إدراك هذا الوجود بقوة فوق حسه وفوق عقله، تصل بينه وبين هذه العوالم جميعًا، وتجعله يشعر بمكانته منها. وتلك قوة الإيمان.

فالإيمان إذن شعور روحي يحس به الإنسان يملأ نفسه كلما اتصل بالكون وفني في لا نهاية المكان والزمان، وامتثل الكائنات كلها في نفسه، فرآها تجري كلها على سنن تمسكها، ورآها كلها تسبِّح بحمد ربها؛ بارئها ومنشئها. أما أنه جل شأنه ماثل فيها متصل بها، أو هو مستقل بنفسه منفصل عنها، فهذه مضاربات جدلية عقيمة تضل ولا تهدي، وتضر ولا تنفع. وهي بعدُ لا تزيدنا علمًا. ولقد طالما أجهد الكتَّاب والفلاسفة أنفسهم يحاول بعضهم حلَّها، ويحاول بعضهم معرفة جوهر الخالق جلَّ شأنه، فذهب جهدهم عبثًا، وأقر بعضهم بأنها فوق ما نطيق إدراكه. ولئن قصر عقلنا دون هذا الإدراك ليكونن هذا القصور أدنى إلى تثبيت إيماننا. فشعورنا اليقيني بوجوده جل شأنه وبإحاطته بكل شيء علمًا، وبأنه الخالق المصوِّر إليه يرجع الأمر كله، من شأنه أن يقنعنا بأنا لن نستطيع أن ندرك كنهه على شدة إيماننا به، وإذا كنا حتى اليوم لا ندرك ما الكهربا وإن شهدت أعيننا آثارها، وكانت تكفينا هذه الآثار لنؤمن بالكهربا والأثير، فما أشدنا غرورًا ونحن نشهد كل يوم من بديع صنع الله إذا نحن لم نؤمن به حتى نعرف كنهه، تنزه جل شأنه عما يصفون.

والواقع في الحياة أن الذين يحاولون تصوير ذاته جل شأنه هم الذين يعجز إدراكهم عن السمو إلى تصوُّر ما فوق حياتنا الإنسانية، والذين يريدون أن يقيسوا الوجود وخالق الوجود بمقاييسنا النسبية المحصورة في حدود علمنا القليل. أما الذين أوتوا العلم حقًّا فيذكرون قوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا٤ وتمتلئ قلوبهم إيمانًا بخالق الروح وخالق الكون كله، ثم لا يزجون بأنفسهم في مضاربات عقيمة لا ثمرة لها ولا نتيجة.
ويفرق القرآن بين الإسلام بعد الإيمان والإسلام دون إيمان. يقول تعالى: قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ.٥
فمثل هذا الإسلام إذعان لدعوة الداعي عن رغبة أو رهبة أو إعجاب وتقديس دون امتثال النفس هذه الدعوة وفهمها إياها إلى حد الإيمان بها. فصاحبه لم يهده الله للإيمان عن طريق النظر في الكون ومعرفة سننه، والاهتداء من هذا النظر وهذه المعرفة إلى خالقه، وإنما أسلم لرغبة أو هوًى أو لأنه وجد آباءه مسلمين. وهو لذلك لم يدخل الإيمان في قلبه على رغم إسلامه. من أمثال هذا المسلم من يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون. في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا. وهؤلاء الذين يسلمون دون إيمان، وإنما يسلمون عن رغبة أو رهبة أو هوى، تظل نفوسهم ضعيفة وعقائدهم مزعزعة وقلوبهم مستعدة للإذعان للناس والخضوع لأمرهم. فأما الذين تصل عقولهم وقلوبهم إلى أن تؤمن بالله من طريق النظر في الكون إيمانًا صادقًا، يدعوهم إلى أن يسلموا لله وحده أمرهم، فأولئك لا يعرفون لغير الله خضوعًا ولا إذعانًا. وهم لا يمنون على أحد إسلامهم بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ.٦

فمن أسلم وجهه لله وهو مؤمن فأولئك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، أولئك لا يخافون في الحياة فقرًا ولا مذلة لأن الإيمان غاية الغنى وغاية العزة. والعزة لله جميعًا وللمؤمنين.

والنفس الراضية المطمئنة إلى هذا الإيمان لا تستريح إلا في الدأب لمعرفة أسرار الكون وسننه كيما تزداد بالله اتصالًا. وسبيلها إلى هذه المعرفة البحث والنظر في خلق الله مما في الكون نظرًا علميًّا دعا القرآن إليه وجد المسلمون الأولون فيه، وهو الطريقة العلمية الحديثة في الغرب. على أن الغاية منه تختلف في الإسلام عنها في الحضارة الغربية. فهي في الإسلام ترمي إلى أن يجعل الإنسان من سنَّة الله في الكون سنته ونظامه، على حين ترمي في الغرب إلى الاستفادة المادية مما في الكون. وهي في الإسلام ترمي أولًا وقبل كل شيء، إلى حسن العرفان بالله كلما ازداد زادنا إيمانًا به جل شأنه. وهي ترمي إلى حسن العرفان من جانب الجماعة كلها لا من جانب الفرد وحده. فالكمال الروحي ليس مسألة فردية صرفة، فلا محل لأن يعنِّي الناس أنفسهم جماعة بها، بل هو أساس الحضارة للجماعة الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها. وواجب لذلك على الإنسانية أن تدأب في سبيل هذا الكمال الروحي أكثر من دأبها للوقوف على حقيقة المحسوسات، وأن تجعل من معرفة أسرار الأشياء وسنن الكون وسيلتها إلى هذا الكمال أكثر مما تجعل من هذه المعرفة وسيلة للسلطان المادي على الأشياء.

ليس يكفي لبلوغ هذه المرتبة من الكمال الروحي أن نستعين بمنطقنا وحده، بل يجب أن نمهد لقلوبنا وعقولنا سبيل الوصول إلى أسمى ما نستطيع الوصول إليه من هذا المنطق. وإنما يكون ذلك بالتماس العون من الله واتجاه الإنسان إليه تعالى بقلبه وروحه، إياه يعبد، وإياه يستعين، للاهتداء إلى أسرار الكون وسنن الحياة. وهذا هو الاتصال بالله شكرًا لله على نعمته، ليزيدنا اهتداءً إلى ما لم نهتد إليه. قال تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون،٧ وقال جل شأنه: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.٨
الصلاة هي هذا الاتصال بالله إيمانًا به والتماسًا للعون منه. وليس القصد منها حركات الركوع والسجود، وتلاوة ما يتلى من القرآن، أو تلاوة التكبير والتعظيم لله جل شأنه، دون أن تمتلئ النفس إيمانًا به والقلب تقديسًا له والفؤاد سموًّا إليه، وإنما القصد منها، ومما فيها من تكبير وتلاوة وركوع وسجود إلى هذا السمو والتقديس والإيمان وإلى عبادته عبادة خالصة لوجهه نور السموات والأرض. يقول تعالى: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.٩

فالمؤمن الصادق الإيمان هو من يتوجه بقلبه إلى الله ساعة الصلاة، يُشهد على تقواه ويستعينه على أداء واجب الحياة، ويستمد منه هدايته، ويستلهمه توفيقه لإدراك سر الكون وسننه ونظامه.

والمؤمن الصادق الإيمان بالله يشعر بنفسه أثناء صلاته، ويشعر بها دائمًا شيئًا ضئيلًا أمام عظمة الله العلي الكبير. إننا إذ نرتفع في طائرة من الطائرات ألفًا أو بضعة آلاف من الأمتار، نرى الجبال والأنهار والمدن مظاهر صغيرة على هذه الأرض، ونراها ترتسي أمام باصرتنا وكأنها خطوط مرسومة على خريطة من الورق، وكأنها قد تساوى سطحها فلا ارتفاع لجبل ولا لبناء، ولا انخفاض لبئر ولا لنهر. ولا شيء أكثر من ألوان تتوالى وتتمازج وتزداد تمازجًا كلما ازددنا نحن ارتفاعًا. وأرضنا كلها ليست إلا كوكبًا صغيرًا في عالم ألوف الأفلاك والكواكب، وليست إلا كمًّا ضئيلًا جدًّا في لا نهاية هذا الكون. فما أصغرنا وما أضعفنا شأنًا أمام بارئ هذا الوجود ومدبِّره جلت عن أفهامنا عظمته! وما أجدرنا ونحن نتوجه بقلوب خالصة إلى جلال قدسه الأسمى نلتمس منه العون لتقوية ضعفنا وهدايتنا إلى الحق، أن نرى مبلغ تساوي الناس جميعًا في الضعف الذي لا يشد من أزره أمام الله مال ولا جاه، وإنما يشد من أزره الإيمان الصادق والخضوع لله والبر والتقوى.

شتان ما بين هذه المساواة التامة الصحيحة أمام الله، وبين ما كانت تتحدث عنه الحضارة الغربية في العصور الأخيرة من المساواة أمام القانون. ولقد بلغت هذه الحضارة الآن أن كادت تنكر هذه المساواة أمام القانون، ولا توجب احترامه على طائفة من الناس. شتان ما بين هذه المساواة أمام الله، مساواةً تمسها حقيقة ملموسة في ساعة الصلاة وتهتدي إليها برأيك الحر، وبين مساواة في النضال لكسب المال نضالًا يبيح الخديعة والنفاق، ثم ينجو صاحبه من سلطان القانون ما مهر في التحايل عليه وبرع في حسن العبث به.

هذه المساواة أمام الله تدعو إلى الإخاء الصادق؛ لأنها تُشعر الناس جميعًا بأنهم إخوة في العبودية لخالقهم والعبودية له وحده. وهذا إخاء يقوم على تقدير سليم ونظر حر وتدبر فرضه القرآن. وهل حرية وإخاء ومساواة أعظم من وقوف هذا الجمع أمام الله تعنو له جميعًا جباههم، إياه يكبِّرون وله يركعون ويسجدون، لا تفاوت في ذلك بين أحدهم وأخيه، وكلهم مستغفر تائب مستعين، وليس بين أحدهم وبين الله إلا عمله الصالح وما قدَّم من بر وتقوى؟! إخاء هذا شأنه يصفي القلوب ويطهرها من قذى المادة، ويكفل للناس السعادة كما يؤدِّي بهم إلى إدراك سنة الله في الكون ما هداهم الله بنوره إلى هذا الهدى.

الناس جميعًا ليسوا سواءً في القدرة على ما أمر الله به من التقوى. فقد يثقل جسمنا روحنا وتغطى ماديتنا على إنسانيتنا إذا لم ندم رياضة الروح ولم نتوجه بقلوبنا لله أثناء صلواتنا، واكتفينا بأوضاع الصلاة من ركون وسجود وتلاوة؛ لذلك وجب جهد الطاقة أن نكف عما يجعل الجسم يثقل الروح ويجعل المادية تطغى على الإنسانية. ولذلك فرض الإسلام الصوم وسيلة لبلوغ مرتبة التقوى. قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.١٠ والتقوى والبر سواء، فالبر من اتقى، والبر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين، وقام بما ورد في الآية التي أسلفنا.

وإذا كان القصد من الصوم ألا يُثقل الجسم الروح، وألا تطغى ماديتنا على إنسانيتنا، فالوقوف به عند الإمساك من الفجر إلى الليل والإمعان بعد ذلك في الاستمتاع باللذات تفويت لهذا القصد. فالإمعان في الاستمتاع مفسدة لذاته ومن غير صيام، ما بالك به إذا صام المرء أو أمسك طيلة نهاره عن كل طعام وشراب ولذة، فإذا انقضى وقت الصيام أسلم نفسه لما يحسبها حرمته أثناء النهار من نعمة؟! إنه إذن ليشهد الله على أنه لم يصم تطهيرًا لجسمه وسموًّا بإنسانيته، ولم يصم لذلك مختارًا إيمانًا منه بفائدة الصوم في حياتنا الروحية، بل صام أداءً لفرض لا يدرك بعقله ضرورته، ويرى فيه حرمانًا له من حرية سرعان ما يستردها آخر النهار حتى ينهمك في لذاته استعاضةً عما حُرم بالصوم منها. ومن يفعل ذلك فشأنه كشأن من لا يسرق لأن القانون يحرِّم عليه السرقة، لا لأنه يسمو بنفسه عنها ويحرِّمها على نفسه وعلى غيره مختارًا.

وفي الحق أن النظر إلى الصيام على أنه حرمان وحدٌّ من حرية الإنسان نظر خاطئ يجعل الصيام عبثًا لا محل له. إنما الصيام طهور للنفس يوجبه العقل عن اختيار من الصائم كي يسترد به حرية إرادته وحرية تفكيره. فإذا استردهما استطاع السمو بهما إلى عليا مراتب الإيمان الحق بالله. وهذا هو المقصود بقوله تعالى، بعد ذكره أن الصيام كُتب على المؤمنين كما كُتب على الذين من قبلهم: أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ.١١

قد يبدو غريبًا ما أقول من أنَّا نسترد بالصيام حرية الإرادة وحرية التفكير إذا قصدنا من الصيام إلى ما فيه من خير لحياتنا الروحية. وهو إنما يبدو غريبًا لأن التفكير الحديث أفسد في أذهاننا صورة الحرية، حين هدم حدودها الروحية والنفسية، ثم استبقى حدودها المادية التي ينفذها الجندي بسيف القانون. فالإنسان ليس حرًّا بحكم هذا التفكير الحديث في أن يعتدي على مال غيره أو على شخصه، ولكنه حرٌّ في أمر نفسه وإن جاوز في ذلك كل ما يقره العقل أو تمليه قواعد الخُلق. والواقع في الحياة غير هذا. والواقع أن الإنسان عبد العادة؛ فهو معتاد أن يتناول طعامه في الصباح وفي الظهيرة وفي المساء؛ فإذا قيل له: بل تناوله في الصباح وفي المساء فقط، اعتبر هذا اعتداءً على حريته، في حين هو اعتداء على عبوديته لعادته، إن صح هذا التعبير. ومن اعتاد أن يُدخِّن إلى حد استعباد التدخين إياه؛ فإذا قيل له: اقض نهارك لا تدخن، اعتبر هذا اعتداءً على حريته، في حين هو لا يزيد على أنه اعتداء على عبوديته لعادته. ومنهم من اعتاد تناول القهوة أو الشاي أو غيرهما من ألوان الشراب في أوقات معينة له؛ فإذا قيل له اعدل عن هذه الأوقات إلى غيرها عدَّ الاعتداء على عبوديته لعادته اعتداءً على حريته. وهذه العبودية للعادة مفسدة للإرادة، مفسدة للفكرة الصحيحة من الحرية في صورتها الصادقة. وهي بعد مفسدة لسلامة التفكير؛ لأنها تخضعه للتأثر بضرورات الجسم المادية التي طبعتها العادة فيه. ولهذا يعكف كثيرون على ألوان مختلفة من الصوم يزاولونها في فترات من كل أسبوع أو من كل شهر. لكن الله أراد بالناس اليسر، إذ كتب عليهم الصيام أيامًا معدودات يكونون أثناءها جميعًا سواءً، وإذ جعل لهم الفدية وإذ أعفى من كان منهم مريضًا أو على سفر على أن يؤدي هذا الصيام في أيام أخر.

ولفرض الصيام أيامًا معدودات من توطيد معنى الإخاء والمساواة أمام الله ما له من رياضة روحية. فالناس إذ يمسكون جميعًا من مطلع الفجر إلى الليل، تتم بينهم المساواة كما تتم في صلاة الجماعة، ويشعرون خلال ذلك بإخائهم شعورًا يضعفه تفاوتهم في الاستمتاع بما رزق الله كلًّا منهم من أسباب الاستمتاع في الحياة. ومن ثم كان الصيام موطدًا لمعاني الحرية والإخاء والمساواة في نفس الإنسان مثلما توطدها الصلاة.

إذا أقبلنا على الصيام مختارين، مدركين أن أمر الله لا يمكن أن يختلف عن حكم العقل ما أدرك العقل أغراض الحياة في أسمى صورها قَدَرْنَا ما في الصيام من تحرير لنا من رق العادة، ومن رياضة لإرادتنا وحريتنا، وذكرنا أن ما يفرضه الإنسان على نفسه بإذن الله، من حدود روحية ونفسية لحريته بالتحرير من بعض عاداته وشهواته، هو خير ما يكفل لتفكيره أن يبلغ مراتب الإيمان العليا. وإذا كان التقليد في الإيمان ليس إيمانًا بل هو إسلام من غير إيمان، فالتقليد في الصوم ليس صومًا، ولذلك يعتبره المقلد حرمانًا وحدًّا من حريته، بدل أن يدرك ما فيه من تحرير من قيود العادة ومن غذاء نفسي وروحي عظيم.

إذا بلغ الإنسان، من طريق هذه الرياضة الروحية، أن اهتدى إلى سنن الكون وأسراره، وأن عرف مكانه ومكان بني الإنسان منه، ازداد لإخوانه بني الإنسان حبًّا، وتحاب بنو الإنسان جميعًا في الله، وتعاونوا على البر والتقوى، ورحم قويهم ضعيفهم، ونزل غنيهم لفقيرهم عن حظ من ماله، وهذه هي الزكاة والمزيد عليها هو الصدقة.

والقرآن يقرن الزكاة إلى الصلاة في كثير من المواضع. وقد تلوت قوله تعالى: وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ.١٢ ويقول تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ.١٣ ويقول جل شأنه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ.١٤

والآيات التي تقرن الزكاة إلى الصلاة كثيرة.

وما ورد في القرآن عن الزكاة وعن الصدقة مستفيض قويٌّ غاية القوة. وهو يضع الصدقة في المكان الأول من فعل الخير الذي يُجزَى الإنسان عليه الجزاء الأوفى. بل هو يضعها إلى جانب الإيمان بالله حتى لتشعر بأنها تكاد تعدله بقوله تعالى: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ.١٥ ويقول جل شأنه: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَىٰ مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ.١٦ ويقول تبارك وتعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.١٧
ولا يقف القرآن عند ذكر الصدقات، ومثوبة صاحبها عند الله كمثوبة من آمن به وأقام الصلاة، بل ينظم أدب هذه الصدقات تنظيمًا هو السمو كله. يقول تعالى: إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ.١٨ ويقول: قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ.١٩ ويقول جل شأنه في بيان من تكون لهم الصدقات: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.٢٠

الزكاة والصدقة فريضة من فرائض الإسلام، وركن من أركانه، لكن أعبادةٌ هذا الفرض، أم هو أدخل في الأخلاق وتهذيبها؟ هو عبادة لا ريب؛ فالمؤمنون إخوة، ولا يتم إيمان المرء حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. فالمؤمنون يتحابون بنور الله بينهم. وفريضة الزكاة والصدقة تتصل بهذا الإخاء، ولا تتصل بالأخلاق وتهذيبها ولا بالمعاملات وتنظيمها. وما اتصل بالإخاء اتصل بالإيمان بالله. وكل ما اتصل بالإيمان فهو عبادة. ولذلك كانت الزكاة ركنًا من أركان الإسلام الخمسة. ومن أجل ذلك قام أبو بكر بعد وفاة النبي يطالب المسلمين بأدائها، فلما رأى بعضهم النكول عنها، رأى خليفة محمد في هذا النكول ضعفًا في إيمانهم وتفضيلًا للمال عليه، وخروجًا على النظام الروحي الذي نزل به القرآن، وارتدادًا بذلك عن الإسلام، فكانت حروب الردة التي ثبَّت بها أبو بكر رسالة الإسلام كاملة، والتي بقيت فخرًا على الأيام.

واعتبار الزكاة والصدقة فرضًا متصلًا بالإيمان، يجعلهما بعض النظام الروحي الذي يجب أن ينتظم حضارة العالم. وهذا أسمى ما تبلغ إليه الحكمة وما يكفل للناس سعادتهم. فالمال والحرص عليه والاستكثار منه واتخاذه وسيلة لاستعلاء الإنسان على الإنسان، كان ولا يزال سببًا لشقاء العالم ومصدرًا للثورات والحروب فيه. وعبادة المال كانت ولا تزال سبب التدهور الخُلقي الذي أصاب العالم، والذي لا يزال العالم يرزح تحت أعبائه. والاستكثار من المال والحرص عليه هو الذي قضى على الإخاء الإنساني، وجعل الناس بعضهم لبعض عدوًّا. ولو أنهم كانوا أصح نظرًا وأسمى تفكيرًا؛ لرأوا الإخاء أدعى للسعادة من المال، ولرأوا بذل المال للمحتاج أكبر جاهًا عند الله والناس من إذلال الناس لهذا المال. ولو أنهم آمنوا بالله حقًّا لتآخوا فيما بينهم، ولكان أدنى مظاهر تآخيهم إغاثة الملهوف، وإعانة المحتاج، ومحو الشقاء عمن تجرُّ المتربة ويجرُّ الفقر عليهم هذا الشقاء. وإذا كانت بعض الدول السامية الحضارة، في وقتنا الحاضر، تقيم شعوبها المستشفيات والمنشآت الخيرية لإيواء البائس، والبر بالمحروم، ورعاية الفقير، باسم الشفقة الإنسانية، فإن إقامة هذه المنشآت بدافع الإخاء والتحابِّ في الله والشكر له على نعمته أسمى في الفكرة وأدعى إلى سعادة الناس جميعًا. قال تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ.٢١

هذا الإخاء الإنساني يزيد الناس بعضهم لبعض محبة. وليس يجوز في الإسلام أن تقف هذه المحبة عند حدود وطن بالذات، ولا أن تنتهي إلى حدود قارة من القارات، بل يجب ألا تعرف حدودًا البتة.

لذلك يجب أن يتعارف الناس من أطراف الأرض جميعًا، ليزداد بعضهم لبعض في الله محبة، ولتزيدهم محبتهم هذه بالله إيمانًا. ووسيلة ذلك أن يجتمعوا من أطراف الأرض في صعيد واحد. وخير مكان يجتمعون فيه، إنما هو المكان الذي انبثق فيه نور هذه المحبة، وهذا المكان هو بيت الله بمكة؛ وهذا هو الحج. والمؤمنون إذ يجتمعون فيه وإذ يؤدون شعائره، يجب أن تكون حياتهم مثلًا أثناءه ساميًا للإيمان بالله وإخلاص القصد في التوجه إليه. يقول تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَاب.٢٢

في هذا الصعيد الذي يحج المؤمنون إليه ليتعارفوا، وليرتبطوا بأقوى روابط الإخاء فيزيدهم إخاؤهم إيمانًا، يجب أن تسقط كل الفوارق وألا يكون بين هؤلاء المؤمنين جميعًا تفاوت ما، ويجب أن يشعروا بأنهم جميعًا أمام الله سواسية، وأن يتوجهوا إليه بقلوبهم مستجيبين لدعوته، مؤمنين بوحدانيته، شاكرين لنعمته. وأية نعمة أكبر من نعمة الإيمان به جل شأنه مصدر كل خير ونعمة؟! أمام نور هذا الإيمان تنقشع أوهام الحياة، ويزول باطل غرورها من مال وبنين وجاه وسلطان. وبفضل نوره يصل الإنسان إلى إدراك ما في الوجود من حق وخير وجمال، وما يجري عليه الكون من سنن الله الخالدة لا تحويل لها ولا تبديل. وهذا الاجتماع العام يحقق معاني الإخاء والمساواة بين المؤمنين جميعًا في أوسع صورها وأكثرها سموًّا وصفاءً.

هذه قواعد الإسلام وفرائضه كما نزل بها الوحي على محمد عليه السلام. وهي أركان الإيمان كما رأيت في الآيات التي أثبتناها هنا، وأركان الحياة الروحية الإسلامية. ومن اليسير عليك أن تقدر بعد ذلك ما يمكن أن تقوم على هذا الأساس من قواعد الخلق. هي قواعد سامية غاية السمو، بلغت من ذلك ما لا نظير له في أية حضارة من الحضارات ولا في أي عصر من العصور. وقد نص القرآن فيها على ما يصل بالإنسان إلى غاية كماله إذا هو هذَّب نفسه على موجبها وأدَّبها بأدبها. وهي لم ترد في سورة واحدة من سور القرآن، بل وردت متفرقة فيه، فلا تكاد تتلو سورة منه حتى تسمو بنفسك إلى ذروة من الرقي لم تبلغها حضارة من قبل ولا يمكن أن تبلغها حضارة من بعد. وحسبك قيام أدب النفس على أساس روحي مصدره الإيمان بالله ورياضة العقل والقلب على هذا الأساس، دون النظر إلى أية منفعة مادية يجنيها الإنسان من وراء التأدُّب بهذا الأدب، لترى رفعة هذه الذروة التي بلغتها.

لقد طالما صوَّر الكتَّاب في مختلف العصور والأمم صورة الرجل الكامل. صوَّره الشعراء والكُتَّاب والفلاسفة والمسرحيون. صوَّروا هذه الصورة في العصور القديمة وما يزالون يصورونها حتى اليوم. مع ذلك لن تجد صورة لهذا الرجل الكامل كهذه الصورة الفذة التي وردت في سياق سورة الإسراء؛ وهي ليست إلا ما أوحى الله إلى رسوله من الحكمة، لا يقصد بها إلى تصوير الرجل الكامل، وإنما يقصد بها أن يذكر الناس بعض ما يجب عليهم. يقول تعالى: وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا * وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا * وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا * وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا * وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَىٰ ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا * وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۚ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا * وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا * وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا * كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا.٢٣

أي سمو بالنفس كهذا السمو، وأيُّ كمال لها كهذا الكمال، وأيُّ طهر للذيل كهذا الطهر؟! وإن كل آية من هذه الآيات لتقف قارئها أمامها، مقدسًا لما جمعت بين القوة والروعة وسحر البيان وسمو المعنى والإعجاز في التصوير. وليت المقام هنا يتسع لهذه الوقفات! ولكن كيف يتسع والحديث عما تنطوي عليه هذه الآيات الست عشرة جديرة بأن يستوعب مؤلفًا ضخمًا؟!

ولو شئنا أن نجيء بطرف مما في القرآن في أدب النفس، وتهذيب الأخلاق، لانفسح المجال إلى ما لا تنفسح له خاتمة الكتاب. وحسبنا أن نذكر أنه ما حض كتاب على الخير والفضل ما حض القرآن، وما سما كتاب بالنفس الإنسانية ما سما بها القرآن، وما تحدث كتاب عن البر والرحمة، وعن الإخاء والمودة، وعن التعاون والوفاق، وعن الصدقة والإحسان، وعن الوفاء وأداء الأمانة، وعن سلامة القلب وصدق الطوية، وعن العدل والمغفرة، وعن الصبر والثبات، وعن التواضع والإذعان، وعن الخير والمعروف، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالقوة والإقناع والإعجاز في الأداء، ما تحدث القرآن. وما نهى كتاب عن الضعف والجبن، وعن الأثرة والحسد، وعن البغض والظلم، وعن الكذب والنميمة، وعن التبذير والبخل، وعن البهتان واللمز، وعن الاعتداء والإفساد، وعن الغدر والخيانة، وعن كل رذيلة ومنكر، ما نهى القرآن، وبالقوة والإقناع والإعجاز التي نزل بها الوحي على النبي العربي.

وما من سورة تتلوها إلا وجدت فيها من الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتوجه إلى الكمال، ما تسمو به نفسك غاية السمو. واسمع إلى قوله تعالى في التسامح: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ۚ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ.٢٤ ويقول تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ.٢٥ لكن هذا التسامح الذي يدعو القرآن إليه لا يدفع إليه ضعف، وإنما يدفع إليه الخُلق وحرص على استباق الخيرات وترفُّع عن الدنايا. يقول تعالى: وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا.٢٦ ويقول: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ.٢٧ وهذا صريح في أن الدعوة إلى التسامح دعوة إلى الفضل لا شيء من الضعف فيها، وإنما هي السمو النفساني الذي لا تشوبه شائبة.

هذا التسامح الذي يدعو القرآن إليه عن فضل، إنما أساسه الإخاء الذي جعله الإسلام دعامة حضارته. والذي أراد به أن يكون إخاءً بين الناس كافةً في مشارق الأرض ومغاربها. والإخاء الإسلامي يتضافر فيه العدل والرحمة من غير ضعف ولا استكانة. وهو إخاء متساوٍ في الحق والخير والفضل غير متأثر بالعاجلة من المنافع، بل يؤثر الآخذون به على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. والآخذون به يخشون الله ولا يخشون غيره. وهم لذلك الإباء والأنفة. وهم مع ذلك التواضع الجم. وهم الصادقون الموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرون في البأساء والضراء وحين البأس، الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، لا يصعر أحدهم خدَّه ولا يمشي في الأرض مرحًا، وقاهم الله شح أنفسهم، لا يقولون على الله ولا على عباده الكذب، ولا يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، وإذا ما غضبوا هم يستغفرون، يكظمون غيظهم ويعفون عن الناس، يجتنبون كثيرًا من الظن ولا يتجسسون ولا يغتاب بعضهم بعضًا، لا يأكلون أموالهم بينهم بالباطل ولا يُدلون بها إلى الحكام ليأكلوا فريقًا من أموال الناس بالإثم، تتنزه نفوسهم عن الحسد وعن الخديعة وعن لغو القول وعن كل منقصة.

وهذه الصفات والأخلاق التي يقوم عليها أدب النفس ويهذَّب الخلق على مقتضاها، إنما تستند — كما قدَّمنا — إلى النظام الروحي الذي نزل به القرآن والذي يتصل بالإيمان بالله. وهذا هو الأمر الجوهري فيها. وهذا هو ما يكفل تمكن هذا النظام الخلقي من النفس وبقاءه مطهَّرًا من كل دنس، بعيدًا عن أن تتسرب إليه أسباب تفسده. فالأخلاق التي تقوم على أساس من المنفعة وتبادلها يسرع إليها الضعف ما اطمأنت إلى أن هذا الضعف لا يجر على منافعها أذى. وهذه الأخلاق القائمة على تبادل المنفعة يغلب في صاحبها أن يكون باطنه غير ظاهره، ومكنون أمره غير ما يبدو للناس به؛ فهو يصطنع الأمانة وليس ما يمنعه أن يتخذها ذريعة لتصيد المنافع. وهو يتظاهر بالصدق، ولا يصدُّه عن مجافاته شيء ما كان في مجافاته جلب منفعة له. أخلاقٌ ذلك ميزانها ما أسرع ما يضعف صاحبها أمام المغريات، وما أسرع ما يجري وراء الأهواء والغايات!

وهذا الضعف هو الظاهرة البادية للعيان في عالمنا الحاضر. فما أكثر ما يسمع الناس بفضائح تقع في بلد أو في آخر من بلاد العالم المتحضر، سببها الحرص على المال وعلى السلطان أكثر من الحرص على الخُلق الكريم وعلى الإيمان الصادق. وكثيرون من هؤلاء الذين ينحدرون إلى مهاوي هذه المآسي الخلقية والذين يرتكبون أتعس الجرائم، تراهم أول أمرهم على خُلق كريم، لكن المنفعة كانت أساس هذا الخلق. كانوا يرون النجاح في الحياة رهنًا بالاستقامة، فاستقاموا لينجحوا، لا لأن الاستقامة متصلة بعقيدتهم؛ فهم يقفون عند حدودها ولو جنت عليهم. فلما رأوا الاستهانة بالاستقامة بعض أسباب النجاح في حضارة هذا العصر استهانوا بها. ومنهم من يظلُّ أمره مستورًا عن الناس، فلا تناله الفضيحة وسيظل مرموقًا بعين الإكبار، ومنهم من ينكشف أمره فيفتضح وتصل به الفضيحة إلى الانتحار أحيانًا.

بناء النظام الخُلقي على المنفعة يعرِّضه، إذن، لهذا البلاء ما بين حين وحين. أما بناؤه على هدى النظام الروحي على نحو ما نزل به القرآن، فهو الكفيل ببقائه متينًا لا يتسرب إليه وهن. فالنية التي يصدر العمل عنها هي قوام هذا العمل والمقياس الذي يجب أن يقاس به. والرجل الذي يشتري ورقة نصيب لبناء مستشفى من المستشفيات لا يشتريها بنية فعل الخير وبقصد الإحسان، بل يشتريها طمعًا في الربح. والرجل الذي يعطي لأن سائلًا ألحف عليه في المسألة فأراد التخلص منه، ليس كمن يعطي من تلقاء نفسه أولئك الذين لا يسألون الناس إلحافًا يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف. والرجل الذي يقول الحق للقاضي مخافة عقاب القانون لشاهد الزور، ليس كمن يقول الحق لأنه يؤمن بفضيلة الصدق. ولن تكون الأخلاق التي تقوم على أساس المنفعة وتبادلها في متانة الأخلاق التي يؤمن صاحبها بأنها متصلة بكرامته الإنسانية، متصلة بإيمانه بالله، قائمة في نفسه على الأساس الروحي الذي يقوم عليه الإيمان بالله.

وقد حرص القرآن على أن يظل حكم العقل سليمًا، لا يتسرب إليه ما يؤثر في حسن تصوُّره الإيمان والخُلق. لذلك اعتبر الخمر والميسر رجسًا من عمل الشيطان؛ ولئن كان فيها منافع للناس لإثمهما أكبر من نفعهما، ومن ثم وجب اجتنابهما. فالميسر يصرف ذهن المقامر عما سواه، ويستنفد من وقته ويغريه بما يلهيه عن موجب الخُلق الفاضل. والخمر تُذهب العقل والمال على حد تعبير عمر بن الخطاب حين دعا أن يبين الله فيها. وطبيعي أن يضل حكم العقل إذا ذهب أو تغير، وأن يهوِّن ضلاله على صاحبه مؤاتاة الدنيَّة بدل أن يسمو عن أن يمرَّ به طيف الفاحشة.

هذا النظام الخلقي الذي نزل به القرآن للمدينة الفاضلة، لا يدعو إلى حرمان النفس مما خلق الله من أنعم، حتى لا يؤدي بها الحرمان إلى ما يؤدي إليه الإمعان في التقشف من انصراف عن التفكير في الكون، وزهد في العلم بما فيه. وهو لا يرضى أن يسلم الإنسان نفسه للاستمتاع حتى لا يُغرقها في لجة الترف وينسيها كل ما سواه. بل هو يجعل الناس أمةً وسطًا، ويوجههم وجهة الفضيلة الخالصة ووجهة المعرفة للكون وكل ما فيه. والقرآن يتحدث عما في الكون من خلق الله حديثًا يوجهنا إلى غاية ما نستطيع معرفته من أمره. فهو يتحدث عن الأهلَّة، وعن الشمس والقمر، وعن الليل والنهار، وعن الأرض وما خلق فيها، والسماء وزينة كواكبها، وعن البحر يزجي الله الفلك فيه لنبتغي من فضله، وعن الأنعام التي نركبها وزينة، وعن كل ما في الكون من علم وفن. يتحدث القرآن عن هذا كله، ويدعو إلى النظر فيه وإلى دراسته، وإلى الاستمتاع بآثاره وثمراته شكرًا لله على نعمته. أما وقد أدَّب القرآن الناس بأدبه ودعاهم إلى السعي وإلى الدأب لمعرفة كل ما في الكون، فما أجدرهم أن يصلوا من نظرهم من طريق العقل إلى غاية ما يستطيع العقل إدراكه! وما أجدرهم أن يقيموا نظامه الاقتصادي على أساس فاضل!

النظام الاقتصادي، الذي يقوم على ما قدَّمنا من أسس خلقية وروحية، جدير بأن يصل بالناس إلى السعادة، وبأن يمحو من الأرض الشقاء. فهذه المبادئ السامية التي يحرص القرآن على أن تحل من النفس محل العقيدة والإيمان تأبى على صاحبها أن يرى في الأرض شقاءً أو نقصًا يستطيع إزالته ثم لا يزيله. وأول ما ينكره من تأدب بهذا الأدب، الربا: أساس الحياة الاقتصادية الحاضرة، ومصدر شقاء الناس جميعًا؛ ولذلك حرَّمه الإسلام تحريمًا قاطعًا. يقول تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ.٢٨ ويقول: وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللهِ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ.٢٩

تحريم الربا قاعدة أساسية للحضارة التي تكفل للعالم سعادته. فالربا في أقل صوره ضررًا إنما هو اشتراك رجل لا يعمل في ثمرات عمل غيره بلا سبب إلا أنه أقرضه مالًا، بحجة أنه أعان هذا الغير بما أقرضه على إدراك هذه الثمرات، وأنه لو لم يفعل لما استطاع مدينه أن يعمل وأن يجني هذه الثمرات. ولو أن هذه الصورة كانت وحدها صورة الربا لما كانت مع ذلك مسوَّغة له. فلو أن الذي يُقرض المال كان قديرًا على أن يُثمِّره بنفسه لما أقرضه غيره. ولو أنه أبقاه عنده لبقي معطلًا لا يؤتي ثمرة، ولأكله صاحبه شيئًا فشيئًا. فإذا أراد الاستعانة بغيره في تثمير ماله مقابل الحصول على حظ من ثمرته، لم تكن وسيلة ذلك أن تُفرَض لرأس المال فائدة معينة، وإنما تكون وسيلته أن يشارك صاحب المال من يُثمِّر هذا المال في مقابل حصته من الثمرة. فإن ربح المثمِّر كان لرب المال من ذلك الربح نصيبه، وإن خسر كان عليه من الخسارة نصيبه. فأما أن تُفرض لرأس المال فائدة ولو لم يُفِد من ثمَّره شيئًا فذلك هو الاستغلال غير المشروع.

ولا يعترض بأن المال عرض كغيره يؤجَّر كما تؤجر الأرض أو كما تؤجر الدابة، وأن فائدة النقل تقابل إيجار غيره من العروض؛ فبين المال الذي يصلح للإنفاق كما يصلح للتثمير والذي ينتفع به في الخير وتجلب به أسباب الإثم، وبين غيره من الأموال الثابتة والمنقولة فرق كبير. فالإنسان لا يستأجر أرضًا أو بيتًا أو دابةً أو أيًّا من العروض إلا لينتفع به فيما يصلح له ما لم يكن سفيهًا أو معتوهًا لا تلزمه تصرفاته. فأما رءوس الأموال فأكثر ما تقترض في خير الوجوه للتجارة. والتجارة عرضة دائمًا للكسب والخسارة. أما إجارة العقار أو المنقول لاستغلاله فقلَّ أن تتعرض للخسارة إلا في أحوال شاذة لا يوضع التشريع العادي لها. فإذا حدثت هذه الأحوال الشاذة تدخل المشروع بين الملاك والمستأجرين على نحو ما حدث في بلاد العالم كله غير مرة لرفع الحيف عن المستأجر، وإنقاذه من أن يأكل المالك ثمرة عمله. فأما تحديد فائدة النقد بسبعة أو تسعة في المائة أو بأكثر من ذلك أو أقل، فلا يغيِّر من أن المقترض معرَّض لخسارة المال نفسه فضلًا عن تعرضه لخسارة عمله. فإذا طولب مع ذلك بالفائدة كان هذا هو الإثم، وكان من أثر ذلك أن تقوم الشحناء بين الناس مقام الإخاء، وأن تحل البغضاء بينهم محل المحبة؛ وذلك مصدر الشقاء، ومبعث ما تعانيه الإنسانية في عصرنا الحاضر من أزمات.

وإذا كان هذا شأن الربا في أقل صوره ضررًا، وكانت هذه بعض النتائج التي تترتب عليه، فكيف به في صوره الأخرى حين يكون المقرض أدنى إلى الوحش المفترس منه إلى الإنسان، أو حين يكون المقترض في حاجة إلى المال لسبب غير التثمير؟! فقد يكون في حاجة إلى المال لإقامة أوَده ولإنفاقه في قوته وفي قوت عياله. حينذاك يكون إنظاره إلى ميسرة، حتى يتهيأ له عمل يطمئن به إلى العيش ويستطيع أن يردَّ منه ديونه، بعضَ ما توجبه الإنسانية في أولى مراتبها؛ وذلك ما يفرضه القرآن الكريم. أليس الإقراض بالربا في مثل هذه الأحوال عملًا وحشيًّا، وجريمة كجريمة القتل سواء؟! وأشنع من هذه الجريمة التحايل من طريق الربا على سلب ثروات الضعفاء الذين لا يحسنون القيام على أموالهم. هذا التحايل لا يقل إثمًا عن السرقة الدنيئة، ويجب أن يعاقب من يقدم عليه عقاب السارق أو أشد منه.

والربا هو بعض ما جرَّ على العالم مصائب الاستعمار، وما أدى الاستعمار إليه من شقاء. فالاستعمار يبدأ أكثر أمره بطائفة من المرابين أفرادًا أو شركات ينزلون بلدًا من البلاد يقرضون أهله أموالهم، ثم يتغلغلون حتى يصلوا إلى وضع أيديهم على منابع الثروة فيه، فإذا أفاق أهله وأرادوا الذود عن أنفسهم وأموالهم، استعدى هؤلاء الأجانب عليهم دولهم، فدخلت باسم حماية رعاياها، ثم تغلغلت هي كذلك، ثم وضعت يدها مستعمرة، وفرضت إرادتها حاكمة، وحرمت الناس حريتهم، واستولت على الكثير مما رزقهم الله في بلادهم. لذلك تضيع سعادتهم، ويخيم الشقاء على ربوعهم، ويمد البؤس يده إلى قلوبهم، ويرين الضلال على عقولهم، فتضعف أخلاقهم، ويتضعضع إيمانهم، وينزلون عن مرتبة الإنسانية الصحيحة إلى مكان من الضعة لا يرضاه لنفسه من يؤمن بالله، وبأن الله وحده هو الذي تجب له العبادة.

والاستعمار مصدر الحروب، ومصدر الشقاء الذي ينيخ بكلكله على الإنسانية كلها في هذا العصر الحاضر. وما دام الربا، وما دام الاستعمار، فلا أمل في العود إلى عهد إخاء ومحبة بين الناس؛ ولا أمل في العود إلى مثل هذا العهد إلا أن تقوم الحضارة على الأساس الذي جاء به الإسلام، ونزل به الوحي في القرآن.

وفي القرآن اشتراكية لم تبحث بعدُ. وهي اشتراكية لا تقوم على أساس من حرب رأس المال ونضال الطوائف، شأن الاشتراكية اليوم في الحضارة الغربية، وإنما تقوم على أساس خُلقي سامٍ يكفل إخاء الطوائف وتكافلها وتعاونها على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان. ومن اليسير أن يرى الإنسان قيام هذه الاشتراكية على الإخاء فيما فرضه القرآن من زكاة ومن صدقة، وأن يقدر أنها ليست اشتراكية تسود فيها طائفةٌ طائفةً أو تتحكم بها جماعة في جماعة.

فالحضارة التي صوَّر القرآن لا تعرف سيادة ولا تحكمًا، بل أساسها الإخاء الصادق عن إيمان ثابت بهذا الإخاء؛ إيمان يجعل من التحدث بنعمة الله إعطاء الفقير والبائس والمحروم ما يحتاجون إليه من غذاء ومأوى ودواء وتعليم وتهذيب، وإعطاءهم ذلك من غير مَنٍّ ولا أذى. بذلك يزول الشقاء ويتم الله نعمته على الناس وتسودهم السعادة.

والاشتراكية الإسلامية لا تقتضي إلغاء التملك إطلاقًا، كما تقتضيه الاشتراكية الغربية. وقد أثبت الواقع في روسيا البلشفية وفي كل بلاد سادتها الاشتراكية، أن إلغاء التملك أمر غير ممكن. لكن المرافق العامة يجب أن تكون ملكًا عامًّا مشاعًا بين الناس جميعًا. وتحديد المرافق العامة متروك أمره للدولة.

ولذلك وقع الخلاف على هذا التحديد منذ الصدر الأول للإسلام؛ فكان من بين أصحاب النبي غلاة في الاشتراكية يجعلون كل ما خلق الله ملكًا مشاعًا ومرفقًا عامًّا؛ ولذلك يجعلون شأن الأرض وما تحتويه شأن الماء والهواء، لا يجوز تملك شيء منه. وإنما يقع التملك على الثمرات ينال منها كل على قدر سعيه ومجهوده. وكان منهم من لا يرون هذا الرأي، ويقولون بجواز تملك الأرض، ويعتبرونها من العروض التي يقع عليها التبادل.

على أن الاتفاق منعقد بينهم على قاعدة اشتراكية مقررة اليوم في أوروبا، تقضي بأنه يجب على كل إنسان أن يبذل للجماعة كل كفاياته، ويجب على الجماعة أن تبذل لكل فرد منها ما يسد حاجاته. فلكل مسلم حق في أن ينال من بيت مال المسلمين ما يكفل حاجاته وحاجات من يعول ما دام لا يجد عملًا يرتزق منه، أو ما دام العمل الذي يزاوله غير كافٍ لرزقه ورزق عياله. وما دامت قواعد الخُلق التي قرر القرآن هي ما قدمنا فلن يكذب أحد، ولن يزعم أحد أنه متعطل على حين هو في الحقيقة لا يريد أن يعمل، ولن يزعم أحد أنه لا يجد من عمله ما يكفيه على حين يدرُّ عليه الكفاية. وقد كان أمراء المؤمنين في الصدر الأول يفرضون على أنفسهم أن يتفقدوا أمور المؤمنين ليبذلوا للمحتاج منهم حقه، وليدفعوا عنه عادية الحاجة.

ومن ثم نرى الاشتراكية في الإسلام ليست اشتراكية المال وتوزيعه، وإنما هي اشتراكية عامة أساسها الإخاء في الحياة الروحية، وفي الحياة الخلقية، وفي الحياة الاقتصادية. وإذا كان المرء لا يكمل إيمانه حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه، فالمرء لا يكمل إيمانه إذا لم يحضَّ على طعام المسكين ولم ينفق للخير العام مما رزقه الله سرًّا وعلانيةً. وكلما ازداد المرء إيثارًا على نفسه كان أقرب إلى الله وأدنى إلى رضاه، وكانت نفسه أكثر طمأنينة وقلبه أشد غبطة. وإذا كان الله قد جعل الناس بعضهم فوق بعض درجات، وكان يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر فإن الناس لا صلاح لهم إلا إذا وقَّر صغيرهم كبيرهم، ورحم كبيرهم صغيرهم، وأعطى غنيهم فقيرهم، ابتغاء وجه الله وشكرًا لله وتحدثًا بنعمته.

ما أحسبنا في حاجة إلى ذكر ما جاء في القرآن من تفاصيل النظام الاقتصادي في المواريث والوصية والعقود والتجارة وما إليها؛ فمحاولة الإشارة أوجزَ الإشارة إلى ما جاء فيه من هذه الشئون الفقهية ومن الشئون الاجتماعية، تقتضي عدة فصول كهذا الفصل. وحسبنا أن نذكر أن ما ورد فيه من ذلك لم يرد إلى اليوم ما هو خير منه في أية شريعة من الشرائع. بل إن الإنسان لتأخذ منه الدهشة كل مأخذ حين يجد بعض تفاصيل، كالكتابة في الدين إلى أجل مسمى إلا أن تكون تجارة، وكإرسال الحكمين إذا وقع الشقاق بين الزوجين خيفة الفرقة، وكالقيام بالإصلاح بين طائفتين اقتتلوا، ومقاتلة الطائفة التي تبغي ولا ترضى الصلح حتى تفيء إلى أمر الله — تأخذ الإنسان الدهشة إذ يرى هذه الأمور، ويوازن بينها وبين ما ورد في الشرائع المختلفة، فإذا أحسن التشريع ما وافق هذه القواعد التي وضعها القرآن. فلا عجب إذن — وما ذكرنا عن الربا وعن الاشتراكية الإسلامية هو أساس النظام الاقتصادي المصوَّر في القرآن، وهذه التفاصيل التشريعية هي خير ما وصل التشريع إليه في مختلف العصور — أن تكون الحضارة الإسلامية هي الحضارة الجديرة بالإنسانية الكفيلة حقًّا بإسعادها.

ربما ذهب بعض كتَّاب الغرب — بعد اطلاعهم على ما قدَّمنا من تصوير القرآن للحضارة وأساسها — إلى أن طبيعة الإنسان لا تألف هذا النظام الذي يكلِّفها من السمو إلى ما فوق فطرتها ما لا تطيق، وأن نظامًا ذلك شأنه ليس مقدورًا له أن يحيا أو أن يطول بقاؤه. فالإنسان في رأيهم إنما يحركه الخوف والرجاء، وتحركه الأهواء والشهوات، شأنه في ذلك شأن الحيوان، وهو بعدُ حيوان ناطق، فحمل الإنسانية على الأخذ بنظام كالذي صوَّره الإسلام للحضارة أمر غير مستطاع، أو هو على الأقل غير ميسور. وغاية ما نطيق في نظم هذه الحياة للجماعة الإنسانية أن نهذِّب الشهوات، وأن نحسِن توجيه فكرة الخوف والرجاء من الناحية الاقتصادية المادية البحتة. فأما ما وراء ذلك فأمر لا قِبَل للجماعة به. ولعل الدليل عندهم على ذلك أن النظام الإسلامي — على النحو الذي صوَّره القرآن وحاولتُ إيجازه هنا — لم يستقر في الجماعة الإسلامية نفسها إلا أيام النبي وفي الصدر الأول، ولو أن النظام كان صالحًا للحياة لاستقر في تلك الجماعات الإسلامية الأولى ولانتشر منها في أنحاء العالم. أما وذلك لم يحدث، بل حدث نقيضه، فالزعم بأن هذا النظام أجدر بالإنسانية وأكفل بسعادتها زعم لا يصدقه الواقع.

ويكفي لإدحاض هذا الاعتراض اعتراف أصحابه بأن النظام الإسلامي قام وطبِّق في عهد النبي وفي الصدر الأول. ولقد كان محمد خير أسوة في تطبيقه. واتبع خلفاؤه الأولون أسوته الحسنة وساروا بهذا النظام إلى حيث يجب أن يبلغ كماله. لكن الدسائس والأهواء ما لبثت بعد ذلك أن طغت شيئًا فشيئًا على أسسه الصحيحة من طريق الإسرائيليات تارة، ومن طريق الشعوبية أخرى وكان من أثر ذلك أن عاد الناس شيئًا فشيئًا إلى تغليب المادة على الروح، والحيوانية على الإنسانية، وإلى الوقوف في دائرة الحدود التي تقف المدنية الحاضرة فيها اليوم، والتي تجرُّ على الإنسانية شر أهوال الشقاء.

كان محمد خير أسوة في تطبيق الحضارة كما صوَّرها القرآن. وقد رأيت من ذلك خلال هذا الكتاب كيف كان إخاؤه لبني الإنسان جميعًا إخاءً تامًّا صادقًا؛ كان إخوانه بمكة متساوين وإياه في احتمال البأساء والضراء؛ وكان هو أشد منهم للبأساء والضراء احتمالًا، فلما هاجر إلى المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار فيها إخاءً جعل له حكم إخاء الدم. وكان إخاء المؤمنين عامةً إخاء محبة لإصلاح دعامة الحضارة الناشئة في ذلك العهد؛ وكان يقوِّي هذا الإخاء إيمان صادق بالله بلغ من قوَّته أن كان محمد يسمو به إلى الاتصال بالله جل شأنه. وموقفه في غزوة بدر حين ناشد ربه النصر الذي وعده إياه، وجعل يستنجزه هذا النصر، ويذكر له أن فئة بدر إن هُزِمَتْ لم يعبد، مظهر قويٌّ من مظاهر هذا الاتصال. ومواقفه في غير بدر من المواطن تدل على أنه كان دائم الاتصال بالله في غير الساعات التي ينزل فيها عليه الوحي. وكان اتصاله هذا من طريق إيمانه الصادق إيمانًا جعله يستهين بالموت ويقبل عليه ويتمناه. فكل صادق في إيمانه لا يهاب الموت بل يتمناه؛ فلكل أجل كتاب، والناس أينما يكونوا يدركهم الموت ولو كانوا في بروج مشيدة.

وهذا هو الذي جعل محمدًا يثبُت حين فرَّ المسلمون منهزمين عندما بدأت غزوة حنين، ويدعو الناس إليه غير آبه للموت المحيط به وبالعدد القليل الذين ثبتوا معه. وهذا الإيمان هو الذي جعله يعطي عطاء من لا يخشى فاقة، ويبر اليتيم وابن السبيل وكل بائس وكل محروم، ويسمو إلى ذروة ما دعا إليه كتاب الله من فضائل. ذلك كله، واحتذاء المسلمين مثاله في الصدر الأول، جعل الإسلام يُسرع إلى الانتشار في العقود الأولى من السنين التي تلت اختيار الله نبيه إلى جواره؛ وينتشر لينتشر في كل قطر رفرفت عليه أعلامه أسمى ما قررته هذه الحضارة، ولينشئ بذلك من هذه الأمم المنحلة المتهدمة شعوبًا قوية ودولًا ذات بأس تُقبل على العلم وتصل من طريقه إلى الاتصال بكثير من أسرار الكون، وتبدع لذلك في الحياة من المنشآت ما تفاخر به هذا العصر الحاضر الذي يزعمونه عصر النور والعلم، من غير أن يجني على سعادة الإنسانية بسبب عبادة المادة وضعف الإيمان بالله.

وإنما اندست في الحضارة الإسلامية أهواء الشعوبية والإسرائيليات، كما اندست في غيرها من الحضارات؛ لأن طائفة من العلماء الذين يجب عليهم أن يكونوا ورثة الأنبياء، قد آثرت السلطان على الحق، والجاه على الفضيلة؛ فاتخذت من علمها وسيلة تضلل بها سواد الناس وناشئتهم، كما يضلِّل كثيرون من علماء هذا العصر سواد أهله وناشئته. هؤلاء العلماء هم أنصار الشيطان، وهم لذلك أثقل الناس تبعة أمام الله. وأول واجب على كل عالم مخلص حقًّا لعلمه ولله أن يحاربهم وأن يستأصل بذور فسادهم؛ لأنهم يفتنون الناس عن الحق والهدى ويُضلونهم عن سواء السبيل. وإذا جاز أن يكون لهؤلاء العلماء المضلين مجال حيث تقتتل الكنيسة والعلم على السلطان في الغرب، فلا مجال لهم في البلاد الإسلامية حيث تُزاوج الحضارة بين الدين والعلم، وحيث يكون الدين بغير علم كفرًا، والعلم بغير دين تجديفًا. ولو أن العالم استظل بحضارة الإسلام على ما صورها القرآن، ولم تجن عليه فتوح المغول وغيرهم ممن دخلوا في الإسلام ولم يعملوا بمبادئه ولا عملوا على نشرها، بل اتخذوه وسيلة لحكم سواد المسلمين على مبادئ تناقض مبادئ الإخاء الإسلامي، لتبدَّل الأمر في العالم غير الأمر، ولنجت الإنسانية من كثير مما ترزح اليوم تحته من أهوال الشقاء.

وإني لواثق أن تسود الحضارة التي صوَّرها القرآن العالم إذا قام جماعة من العلماء يدعون إليها على طريقة علمية بعيدة عن الجمود والتعصب. فهذه الحضارة تخاطب القلب كما تخاطب العقل، وتكفل إقبال الناس من كل الأمم عليها إقبالًا لن تستطيع مطامع أصحاب المطامع صده. ولا يطلب إلى هؤلاء العلماء أكثر من أن يكونوا مؤمنين حقًّا، يدعون الناس إلى الله وإلى هذه الحضارة مخلصين له الدين حنفاء. يومئذ يسعد الناس بالإخاء في الله كما سعدوا به في عهد النبي.

وما كان في عهد النبي وفي الصدر الأول، ينهض دليلًا على ما قلته في مقدمة هذا الكتاب من أن البحث العلمي في الثورة الروحية التي أفاض محمد على العالم ضياءها جدير بأن يهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة الجديدة التي تتلمسها، وأنا لا أرتاب في ذلك لحظة. لكن لعلماء الغرب بعض اعتراضات يبدونها، ينسبونها إلى الروح الذي صدرت عنه فكرة الحضارة الإسلامية، ويقيمون على أساسها حكمهم بأن الإسلام كان سببًا في تدهور الأمم التي دانت به. وأهم هذه الاعتراضات ما يذهبون إليه من أن الجبرية الإسلامية أضعفت همة المسلمين، وقعدت بهم عن الكفاح في الحياة؛ فهانوا وذلوا. ودفع هذا الاعتراض وما يجري مجراه هو موضوع المبحث الثاني من هذه الخاتمة.

(٢) المستشرقون والحضارة الإسلامية

واشنجتون إيرفنج من أعلام الكتَّاب الذين فاخرت بهم الولايات المتحدة الأمريكية غيرها من الأمم في القرن التاسع عشر المسيحي. وقد كتب سيرة النبي العربي في كتاب عرض فيه هذه السيرة عرضًا فيه قوَّة بيانية تملك قارئه في كثير من أجزائه، وفيه إلى جانب هذه القوة إنصاف أحيانًا وتحامل أحيانًا أخرى. وقد وضع للكتاب خاتمة عرض فيها لقواعد الإسلام وما حسبه المصادر التاريخية التي استندت إليها هذه القواعد، وفي مقدمتها الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. ثم قال: القاعدة السادسة والأخيرة من قواعد العقيدة الإسلامية هي الجبرية. وقد أقام محمد جُلَّ اعتماده على هذه القاعدة لنجاح شئونه الحربية. فقد قرر أن كل حادث يقع في الحياة قد سبق في علم الله تقديره، فكُتِبَ في لوح الخلد قبل أن يبرأ الله العالم، وأن مصير كل إنسان وساعة أجله قد عُينت تعيينًا لا مرد له، فلا يمكن أن تتقدم أو أن تتأخر بأي مجهود من مجهودات الحكمة الإنسانية أو بعد النظر. بهذا الاقتناع كان المسلمون يخوضون غمار المعارك دون أن ينال منهم الخوف. فما دام الموت في هذه المعارك هو عِدل الاستشهاد الذي يسرع بصاحبه إلى الجنة؛ فقد كانت لهم الثقة بالفوز في حالي الاستشهاد أو الانتصار.

هذا المذهب الذي يقرر أن الناس غير قادرين بإرادتهم الحرة على اجتناب الخطيئة أو النجاة من العقاب، يعتبره بعض المسلمين منافيًا لعدل الله ورحمته. وقد تكوَّنت عدَّة فرق جاهدت وما تزال تجاهد لتهوين هذا المذهب المحيِّر وإيضاحه. لكن عدد هؤلاء المتشككة قليل. وهم لا يعتبرون من أهل السنة.

وقد أُلهم محمد مذهب الجبرية من وحي الساعة، فكان ذلك إلهامًا معجزًا لحدوثه في أنسب أوقاته. فقد حدث توًّا بعد غزوة أحُد المنكودة التي ذهبت فيها أرواح عدد غير قليل من أنصاره، ومن بينهم عمه حمزة. عندئذ، وفي ساعة وجوم وهلع تحطمت أثناءها قلوب أصحابه المحيطين به، أصدر هذا القانون ينبئهم أن لا مفر لإنسان من أن يتوفى في ساعة أجله، في فراشه كان أو في ساحة الوغى.

أية عقيدة يمكن أن يصورها صاحبها أدق من هذا التصوير ليدفع بها للغزو طائفة من الجنود الجهلاء الأغرار دفعًا وحشيًّا؛ إذ يقنعهم عن يقين بالفيء لمن يبقى، والجنة لمن يموت؟! ولقد جعلت هذه العقيدة جند المسلمين لا يكاد يغلبه غالب؛ لكنها احتوت كذلك السم الذي يقضي على سلطانه. فمنذ اللحظة التي كفَّ فيها خلفاء النبي عن أن يكونوا غزاة فاتحين، ومنذ أغمدوا سيوفهم بصفة نهائية، بدأت العقيدة الجبرية تعمل عملها الهدام، فقد أرهف السلم أعصاب المسلمين كما أرهفها المتاع المادي الذي أباحه القرآن، والذي يفصل فصلًا حاسمًا بين مبادئه ودين المسيح دين الطهر والإيثار؛ فصار المسلم ينظر إلى ما يصيبه من بأساء على أنها بعض ما قدر الله عليه وما لا مفر منه، وما يجب الإذعان له واحتماله، ما دام كل جهد وكل حكمة إنسانية عبثًا لا نفع له.

ولم تكن قاعدة «أعن نفسك يعنك الله.» مما يرى أتباع محمد تنفيذه، بل كان عكسها نصيبهم؛ من ثم محق الصليب الهلال. وبقاء الهلال إلى اليوم في أوروبا حيث كان يومًا ما بالغًا غاية القوة إنما يرجع إلى اختيار الدول المسيحية الكبرى، أو يرجع بالأحرى إلى تنافسها. ولعل الهلال باقٍ ليكون دليلًا جديدًا على أن «من أَخَذَ بالسيف فبالسيف يُؤخَذ.»

هذا كلام واشنجتون إيرفنج. وهو كلام رجل لم تمكنه دراسته من إدراك روح الإسلام وأساس حضارته؛ فذهب هذا المذهب الخاطئ في تأويل مسألة القضاء والقدر وكتاب الأجل. ولعل له من العذر أنه وقف في بعض الكتب الإسلامية على ما جعله يذهب هذا المذهب: فأما القرآن فلا تقاس إلى جانب ما ورد فيه عبارة «أعن نفسك يعنك الله.» من حيث القوة في الدعوة إلى التعويل على الذات، وأن الناس مجزيون بأعمالهم وبالنية التي تصدر هذه الأعمال عنها. قال تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا.٣٠ وقال تعالى: مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا.٣١ وقال: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ.٣٢ وقال: إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.٣٣

ومثل هذا في القرآن كثير. وهو صريح في الدلالة على أن إرادة الإنسان وعمله هما مصدر مثوبته وعقابه. وقد حضَّ الله الناس أن يسعوا في مناكب الأرض وأن يأكلوا من رزقه، وأمرهم بالجهاد في سبيله بآيات قوية غاية القوة تلوتَ شيئًا منها في أثناء هذا الكتاب. وهذا لا يتفق وما يقوله إيرفنج وما يقول بعض رجال الغرب من أن الإسلام دين تواكل وقعود، وأنه يعلِّم أهله أنهم لا يملكون لأنفسهم بعملهم نفعًا ولا ضرًّا، فلا فائدة لهم من السعي والإرادة؛ لأن السعي والإرادة معلقان بمشيئة الله؛ فإذا سعينا وكان مقدَّرًا ألا يثمر سعينا لم يثمر، وإذا لم نسع وكان مقدَّرًا أن نصبح أغنياء أو أقوياء أو مؤمنين أصبحنا كذلك من غير سعي ولا عمل. فالآيات التي قدَّمنا تناقض هذا الرأي وتنفيه.

ألم يعتمد هؤلاء الذين ينسبون تواكل المسلمين في هذه العصور الأخيرة إلى دينهم على ما جاء في القرآن من آيات القدر، كقوله تعالى: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا.٣٤ وكقوله: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ.٣٥ وكقوله: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ.٣٦ وكقوله: قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.٣٧

إن يكن ذلك ما يعتمدون عليه فقد فاتهم معنى هذه الآيات وأمثالها، وما تصوره من صلة وثيقة بين العبد وربه، ودعاهم ذلك إلى الظن بأن الإسلام يدعو إلى التواكل مع أنه الدين الذي يدعو إلى الجهاد وإلى الاستشهاد وإلى الإباء والأنفة، كما يقيم حضارته على أساس من الإخاء والرحمة.

والواقع أن هذه الآيات وما جرى مجراها تصور حقيقة عملية قررتها كثرة فلاسفة الغرب وعلمائه وأطلقوا عليها مذهب الجبرية كذلك، ونسبوا الجبر فيها إلى سنَّة الكون ومجموع الحياة فيه بدل أن ينسبوها إلى الله وعلمه وقدرته. وهذا المذهب الذي تقره كثرة فلاسفة الغرب أقل سعة وتسامحًا وانطباقًا على خير الجماعة الإنسانية من المذهب الفلسفي الذي يُستخلص من القرآن الكريم، كما سنرى من بعدُ. وهذه الجبرية العلمية تذهب إلى أن ما لنا من اختيار في الحياة إنما هو اختيار نسبي ضئيل القدر وأن القول بهذا الاختيار النسبي يرجع إلى ضرورات الحياة الاجتماعية من ناحية علمية أكثر مما يرجع إلى حقيقة علمية أو فلسفية. فلو لم يتقرر مذهب الاختيار لتعذَّر على الجماعة أن تجد أساسًا تقيم عليه تشريعها وحدودها، وتنظم بذلك حياتها، وتفرض به على كل إنسان جزاء تصرفاته جزاءً جنائيًّا أو مدنيًّا.

صحيح أن بين العلماء والفقهاء من لا يقيمون أساس الجزاء على الجبر ولا على الاختيار، وإنما يقيمون على ما يحدث من رد الفعل الذي تقوم به الجماعة محافظة على كيانها، كما يقوم الفرد بمثله محافظة على كيانه. وسيان عند الجماعة إذ تقوم برد الفعل هذا أن يكون الفرد مختارًا وأن يكون غير مختار. على أن الاختيار في التصرف ما يزال الأساس للجزاء عند أكثر الفقهاء، ودليلهم عليه أن مسلوب الحرية والاختيار، كالمجنون والصغير والسفيه، لا يُجزَى عن عمله ما يُجزَى الرشيد الذي يميز بين الخير والشر. فإذا تخطينا هذه الاعتبارات العملية في الفقه والتشريع وأردنا أن نخلص إلى الحقيقة العلمية والفلسفية، ألفينا الجبرية هي هذه الحقيقة. فليس لأحد اختيار للعصر الذي يولد فيه، ولا للأمة التي يولد من أبنائها، ولا للبيئة التي ينشأ بينها، ولا لأبويه وفقرهما وغناهما وفضلهما ونقصهما، ولا لأنه ذكر أو أنثى، ولا لما يحيط به من أحداث لها، أغلب الأمر، الأثر الأكبر في توجيه أعماله وحياته. وقد عبَّر الفيلسوف الفرنسي «هيبوليت تين» عن هذا المذهب بقوله: «المرء ثمرة بيئته.» وقد ذهب غير واحد من العلماء والفلاسفة في تأييد ذلك إلى حد القول بأن علمنا لو استطاع أن يصل من معرفة سنن الحياة الإنسانية وأسرارها إلى مثل ما وصل إليه من معرفة سنن الأفلاك، لاستطاع أن يحدد بالدقة مصير كل فرد وكل أمة، كما يحدد الفلكيون بالدقة مواقيت كسوف الشمس وخسوف القمر.

مع ذلك لم يقل أحد في الغرب ولا في الشرق بأن هذا المذهب الجبري يحول بين المرء والسعي للنجاح في الحياة أو يحول بين الأمم والوثوب إلى خير مكان، ولم يقل أحد بأن هذا المذهب يؤدي إلى تدهور الأمم التي تأخذ به. هذا مع أن المذهب الجبري في الغرب لا تؤيده في السعي والعمل آيات كالتي تلوت من آيات القرآن عن تبعة الإنسان عن عمله وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ. أفلا ينهض هذا وحده دليلًا على تحامل المستشرقين الذين يزعمون أن جبرية الإسلام قد أدت إلى تدهور الأمم الآخذة به؟

بل إن الجبرية الإسلامية لأكثر حضًّا على السعي إلى الخير والفضل وإلى ابتغاء الرزق من الجبرية الغربية. فكلتاهما متفقة على أن للكون سننًا لا تحويل لها ولا تبديل، وأن ما في الكون جميعًا خاضع لهذه السنن، وأن الإنسان خاضع لها خضوع سائر ما في الكون. لكن الجبرية الغربية تُخضع المرء لبيئته ووراثته خضوع إذعان لا محيص عنه ولا مفر منه، وتجعل إرادة الإنسان بعض ما يخضع لبيئته، فلا سبيل له لذلك إلى أن يغير نفسه. فأما القرآن فيدعو إرادة كل فرد لتتوجه بحكم العقل إلى ناحية الخير، ويذكر لهم أنه إذا كان قد قدِّر لهم الخير فبما كسبت أيديهم، وأنهم لا ينالون هذا الخير اعتباطًا من غير سعي.

يقول تعالى: إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ.٣٨

ففي مقدورهم إذن أن يفكروا وأن يتدبروا بعد أن هداهم الله بكتبه إلى الواجب عليهم، وبعد أن دلهم أنبياؤه ورسله على طريق الحق، وبعد أن دُعوا إلى النظر في الكون وتدبر سننه ومشيئة الله فيه. ومن يؤمن بهذا، ومن يوجه نفسه وجهته، فلن يصيبه إلا ما كتب الله عليه. فإذا كان قد كتب عليه أن يموت في سبيل الحق أو الخير الذي أمر الله به فلا خوف عليه، وهو وأمثاله أحياء عند ربهم يرزقون. أية دعوة إلى الإقدام وإلى السعي وإلى الإرادة كهذه الدعوة؟ وأين فيها ما يزعم إيرفنج والمستشرقون من تواكل؟!

التواكل ليس من التوكل على الله في شيء. فالتوكل على الله لا يكون بقعود المرء والتخلف عن أمر ربه، بل بالعمل الجدي لما أمر به. وذلك قوله تعالى: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ. فالعزم والإرادة يجب إذن أن يسبقا التوكل. وأنت ما عزمت ثم توكلت على الله بالغ نهاية أمرك بفضل منه. وأنت ما ابتغيت وجهه وحده، وما خشيته وحده، وما سلكت سبيله وحده، مهتد إلى الخير بحكم سنة الله في الكون، وسنة الله لا تحويل لها ولا تبديل. وأنت بالغ هذا الخير، أدى بك سعيك إلى النجاح والفوز، أو أدى بك إلى الموت. وما ينالك من الخير فمن عند الله. أما ما يصيبك من مكروه فبما كسبت يداك وباتباعك سبيلًا غير سبيل الله. فالخير كله بيد الله، والضلال والشر من نزغ الشيطان وعمله …

أما علم الله بكل ما يقع في الوجود قبل أن يبرأ الله الوجود، وأنه جل شأنه لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ،٣٩ فيرجع إلى أن الله برأ للكون سننًا لا تحويل لها ويجب أن تنشأ عنها آثارها. وإذا كان العلماء يذهبون إلى ما قدمنا من أن العلم الواقعي يستطيع إذا عرف أسرار الحياة الإنسانية وسننها، أن يعرف ما قدِّر لكل فرد ولكل أمة على وجه اليقين، كما يعرف مواقيت الكسوف والخسوف، فإن الإيمان بالله يقتضي حتمًا الإيمان بعلمه بكل شيء من قبل أن يبرأ العالم. وإذا كان المهندس الذي يصنع «تصميم» دار أو قصر ويراقب تنفيذ هذا التصميم، يستطيع أن يعلم مدى ما يعيش هذا البناء وما قد تتعرض له أجزاؤه المختلفة على مضيِّ السنين، وكان علماء الاقتصاد يذهبون إلى أن السنن الاقتصادية تهديهم على سبيل القطع إلى معرفة ما ينشأ في حياة العالم الاقتصادية من أزمة أو رخاء، فإن مناقشة علم الله بكل صغيرة وكبيرة مما خلق في الكون تجديف لا يقبله عقل منطقي. وهذا العلم لا يصح أن يقف الناس عن التفكير في مآلهم، والعمل جهد الطاقة لاتباع جادة الحق وتنكب طريق الضلال؛ فعلم الله غيب عليهم وهم مهتدون آخر الأمر إلى الحق ولو بعد حين. والله قد كتب على نفسه الرحمة، وهو يقبل توبة التائب من عباده ويعفو عن كثير. وما دامت رحمته وسعت كل شيء فليس لإنسان أن ييأس من الاهتداء إلى الحق والخير ما دام ينظر في الكون ويتدبر ما فيه. وليس لإنسان أن يقنط من رحمة الله إذا هداه نظره آخر الأمر إلى سبيل الله. وإنما الويل لمن ينكر إنسانيته ويستكبر عن النظر والتفكير ابتغاء الهدى. أولئك يعاندون الله ولا يبتغون وجهه، وأولئك ختم الله على قلوبهم، فلهم جهنم ولهم سوء الدار.

أفيرى أولئك المستشرقون سمو الجبرية الإسلامية وانفساح مداها؟! وهل يرون فساد ما يزعمونه من أنها تدعو إلى القعود عن السعي أو قبول المذلة أو الرضا بالخضوع لغير الله؟! ثم هي من بعد تجعل باب الرجاء في مغفرة الله ورحمته مفتوحًا دائمًا لمن تاب وأناب. فما يزعمونه من أنها تدعو المسلم إلى النظر لما يصيبه من خير أو شر على أنه بعض ما كتب الله فيقعد لذلك صابرًا محتملًا الضر والمذلة، بعيد عن الحقيقة في أمر هذه الجبرية التي تدعو إلى دوام الدأب ابتغاء رضا الله، وإلى عزم الأمر قبل التوكل على الله. فإذا لم يوفق الإنسان للخير اليوم، فليعمل لعله يوفق له غدًا؛ وله من دائم الرجاء في الله أن يسدد خطاه أو يتوب عليه وأن يغفر له، خير حافز إلى التفكير المتصل والسعي الدائب لبلوغ الغاية من رضا الله، إياه يعبد وإياه يستعين، منه جل شأنه الهدى، وإليه يرجع الأمر كله.

ما أعظم القوة التي تبعثها هذه التعاليم السامية إلى النفس! وما أوسع أفق الرجاء الذي تفتتحه أمامها! فأنت موفق للخير ما ابتغيت بعملك وجه الله. وأنت إن أضلك الشيطان مقبولة توبتك ما غالب عقلك هواك فغلبه وعاد بك إلى الصراط المستقيم. والصراط المستقيم هو سنة الله في خلقه، سنة نهتدي إليها بقلوبنا وعقولنا، وبتفكيرنا فيما خلق الله، وبدأبنا في السعي لمعرفة أسراره. فإذا ظل من الناس بعد ذلك من يشرك بالله، ومن يبغي الفساد في الأرض، ومن يعميه الاستئثار عن كل معنى من معاني الأخوة، فإنما هو المثل الذي يضربه الله للناس ليروا عاقبة أمر الله فيه لتكون لهم العبرة من مثله. وهذا عدل الله في الناس ورحمته بهم جميعًا، لا يحول دونهما ولا يحد منهما أن يضل ضال فيناله العذاب جزاء ما قدمت يداه.

ولكن! لماذا يفكر الناس ولماذا يعملون والموت لهم بالمرصاد، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون؟ ولماذا يفكر الناس ولماذا يعملون وقد كتب للسعيد منهم أن يكون سعيدًا وعلى الشقي منهم أن يكون شقيًّا؟ هذا تكرار للسؤال الذي أجبنا عنه سقناه قصدًا، لننظر في مسألة كتاب الأجل من ناحية أخرى: فما كتب الله إنما هو سنَّة الكون من قبل أن يبرأ الكون، ومن قبل أن يقول له كن فيكون، ولا أدل على دقة هذا التصوير من قوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ. ومعنى هذا أن الرحمة صفة لله وسنة من سننه في الكون وليست فرضًا فرضه على نفسه؛ فالفرض لا يجوز عليه جل شأنه. ويقول الله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا. فإذا ضل قوم لم يبعث الله لهم رسولًا قضت سنة الله ألا يعذب منهم أحدًا. وعلم الله بآثار سنته في الكون بديهي لكل من آمن بأن الله هو الذي خلق الكون. فإذا بعث الله لقوم رسولًا ثم قضت سنة الكون ومشيئة الله فيه أن يصر إنسان من هؤلاء القوم على الضلال بعد إذ دُعِيَ إلى الهدى، فإساءته على نفسه وهو لغيره عبرة ومثل.

ومن السذاجة القول بأن هذا الذي ضلَّ فجوزي بضلاله قد ظُلم ما دام الضلال قد كُتب عليه. نقول من السذاجة بدل أن نقول من التجديف؛ لأن أبسط قسط من التفكير يهدينا إلى أن من ضلَّ يظلم نفسه ولا يظلمه الله. وقد يكفينا في بيان ذلك مثل الأب البار العطوف يدني النار من طفله، فإذا أراد أن يمسكها بَعُدَ بها عنه مشيرًا إليه أنها تحرقه. ثم هو يدنيها منه مرة بعد مرة، ولا بأس بأن تحترق إصبع الطفل كي يكون له من حسه الذاتي ما ينبهه إلى الحقيقة الملموسة التي تظل ماثلة أمامه طيلة حياته. فإذا أقدم بعد رشاده فأمسك بالنار أو ألقى بنفسه فيها فجزاؤه ما يصيبه منها، ولا تثريب على أبيه، ولا يطلب أحد إلى هذا الأب أن يحول بينه وبينها.

كذلك مثل الأب الذي يدل ابنه على مضرة القمار أو الخمر، فإذا بلغ الابن رشاده واجترح ما نهاه عنه أبوه فأصابه الشر لم يكن أبوه ظالمًا إياه، وإن كان في مقدوره أن يحول بينه وبين ما يصنع. وأبوه أبعد عن ظلمه إن كان قد ترك الابن يجترح من ذلك ما يجترح مزدجر وعبرة لأهله وإخوته، فإذا كان الأهل والإخوة يعدون بالمئات أو بالألوف في مدينة كثرت فيها أسباب الغواية بطبيعة نواميسها، فمن الخير ومن العدل أن يكون فيما يصيب بعض هؤلاء من الآثار المحتومة جزاء أعمالهم ما تستقيم به أمور هذه الجماعة على أسف منها لما أصاب الظالمين من أبنائها. وهذه أبسط صور العدل على ما نتصوره في جماعتنا الإنسانية، فما بالك بها حين نتصورها بالنسبة للعالم كله وملايين الملايين من خلائقه في لا نهايات الزمان والمكان؟! إن ما يُصيب فردًا أو جماعة بظلمهم، في هذه الصورة التي يكاد يعجز عن تصورها خيالنا، إنما هو العدل في أبسط صوره.

لو أننا نسبنا الظلم لأب ترك ابنه الذي ضل يلقى جزاء ضلاله ما دام الضلال قد كتب عليه، لَحَقَّ علينا أن ننسب الظلم لأنفسنا لأننا نقتل برغوثًا يؤذينا اتقاءً وخوفًا من عدوى ينقلها إلينا قد تكون وبالًا علينا وعلى الجماعة إذا انتقلت منا إلى غيرنا، أو لأننا نفتت حصاة في المرارة أو الكلى خيفة ما تجره علينا من آلام وشقوة، أو لأننا نبتر عضوًا من أعضائنا مخافة أن يستشري منه الفساد إلى سائر الجسم فيقتله، ولو أننا لم نفعل؛ لأن ذلك قد كتب علينا، ثم شقينا أو هلكنا فلا نلومنَّ إلا أنفسنا بما يصيبنا من السوء ما دام الله قد فتح لنا باب الشفاء كما فتح للمذنب باب التوبة. والجاهلون وحدهم هم الذين يقبلون الألم والشقاء زعمًا منهم أنه كُتب عليهم؛ وذلك حماقة منهم وسخف. فكيف بنا ونحن نرى قتل البرغوث واستئصال الحصاة وبتر العضو المريض عدلًا كل العدل، وإن كان قد كُتب في سنة الكون أن يؤذي البرغوث وأن ينقل إلى الإنسان العدوى وأن تفسد الحصاة وأن يُفسد العضو المريض سائر الجسد فيقضي عليه؛ كيف بنا ونحن نرى هذا ألا نعتبر سذاجة بلهاء لا مسوغ لها إلا الاستئثار الضيق الأفق أن نقف من أمر هذه العدالة عند ذواتنا، وألا نعدِّيها إلى الجماعة الإنسانية كلها، وألا نعديها أكثر من ذلك إلى الكون كله؟!

وما البرغوث وما الحصاة وما الإنسان إلى جانب الكون؟! بل ما الإنسانية كلها إلى جانب الكون؟ هذا الكون الفسيح يحاول خيالنا العاجز تصوير حدوده بالزمان والمكان وبالأزل والأبد، وبأمثال هذه الألفاظ التي لا سبيل لنا غيرها إلى أن نرسم لأنفسنا صورة من الكون ناقصة غاية النقص، يتفق نقصها مع ما أوتينا من العلم، وما أوتينا من العلم إلا قليلًا. وهذا القليل قد هدانا إلى أن سنَّة الله في الكون سنَّة نظام وعدل لا تبديل لها ولا تحويل. وإنما نهتدي إلى هذه السنة وقد جعل الله لنا السمع والأبصار والأفئدة لنشهد بديع صنعه ونقف في الكون على سنَّته، فنسبِّح بحمده ونعمل الخير بأمره. وعمل الخير عن إيمان هو أرقى مظهر لعبادة الله لقوم يعقلون.

فأما الموت فخاتمة حياة وبدء حياة؛ لذلك لا يجزع منه إلا الذين ينكرون الحياة الآخرة ويخشونها لسوء صنيعهم في الحياة الدنيا. أولئك لا يتمنون الموت بما كسبت أيديهم؛ وإنما يتمنى الموت صدقًا المؤمنون حقًّا والذين عملوا في الدنيا صالحًا.

يقول تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ.٤٠ ويقول جل شأنه مخاطبًا نبيه: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ.٤١ ويقول: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ۚ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.٤٢ ويقول: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَىٰ أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.٤٣

هذه الآيات قوية غاية القوة تنقض ما يقال عن دعوة الجبرية الإسلامية للقعود وعدم السعي. فالله خلق الموت والحياة ليبلو الناس أيهم أحسن عملًا. وعملهم في الحياة، وجزاؤهم عنه بعد الموت. فإذا لم يعملوا، وإذا لم يمشوا في مناكب الأرض ويأكلوا من رزق الله، وإذا لم يصَّدَّقوا مما آتاهم الله، وإذا لم يؤثروا على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، عصوا الله، وكان من يفعل ذلك كله أحسن منهم عند الله عملًا وأحسن في الآخرة جزاءً ومثوبةً. والله يبلونا في الحياة بالخير والشر فتنة. وعلينا أن نميِّز بعقولنا بين الخير والشر. فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومنم يعمل مثقال ذرة شرًّا يره. ولئن لم يصبنا إلا ما كتب الله لنا ليكونن ذلك أشد إمعانًا بنا في سبيل الخير لنرى الخير. وسواء علينا بعد ذلك اختارنا الله إليه أقوياء عاملين مجاهدين، أم رُددنا إلى أرذل العمر لكيلا نعلم من بعد علم شيئًا. فليس مقياس الحياة عدد السنين التي يقضي المرء فيها، وإنما مقياسها ما يقوم به الإنسان فيها من أعمال باقيات صالحات. والذين يتوفون في سبيل الله أحياء عند ربهم، وهم أحياء بيننا بذكرهم. وكم من أسماء باقية على مرِّ الدهور والقرون لأن أصحابها وهبوا أنفسهم ومجهوداتهم للخير؛ فهم بيننا معشر الأحياء وإن كان الله قد اختارهم إليه منذ مئات السنين.

فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ. هذا هو الحق، وهو وحده الذي يتفق مع سنة الكون. فللإنسان أجلٌ لا يعدوه، كما أن للشمس وللقمر مواقيت للكسوف والخسوف لا تتغير، لا تستقدم ولا تستأخر. وهذا الأجل المحتوم أدعى إلى أن يسارع الإنسان إلى الخيرات، وأن يعمل صالحًا، وأن يبذل في ذلك كل جهده؛ فهو لا يدري متى تكون منيَّته، فإذا جاءت فجزاؤه ما قدَّم. وإن أمامنا كل يوم لدليلًا على أن الأجل قدرٌ لا مفر منه، فمن الناس من يأتيه الموت فجأة ولا يعرف أحدٌ له مرضًا، ومنهم المريض الذي يكافح مرضه ويئن من أهواله عشرات السنين حتى يُرد إلى أرذل العمر. وطائفة من الأطباء اليوم يقولون: إن الإنسان يولد وفي تكوينه جرثومة انتهاء حياته، وإن الأمد الذي تعمل فيه هذه الجرثومة لتبلغ غايتها يمكن معرفته لو استطعنا معرفة الجرثومة نفسها. ومعرفة هذه الجرثومة ليس بالأمر المستطاع، فهي قد تكون مادية في الجسم كامنة في عضو من أعضائه الرئيسية أو غير الرئيسية، وقد تكون معنوية في التفكير متصلة بتلافيف المخ تدفع صاحبها إلى المغامرة وإلى المخاطرة، أو إلى الشجاعة والإقدام. والله الذي أحاط بكل شيء علمًا، عنده علم الساعة التي تحين فيها منية كل إنسان بحكم سنَّة الكون التي لا تحويل لها ولا تبديل.

ومن آيات رحمته جلَّ شأنه أنه لا يعذِّب حتى يبعث رسولًا يهدي الناس إلى الحق ويبين لهم سبيل الخير، ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة، لكنه يؤخِّرهم إلى أجل مسمى ليسمعوا إلى الرسل فيتبعوا الهدى ولا تغرَّهم الحياة الدنيا بزخرفها … ولم يبعث الله رسله من الملوك ولا من الأغنياء وذوي الجاه ولا من العلماء؛ وإنما بعثهم من أبناء الشعب؛ فإبراهيم نجَّار وأبوه نجَّار، وعيسى نجَّار الناصرة، وغير واحد من الأنبياء كانوا رعاة غنم؛ ومن هؤلاء خاتمهم عليه الصلاة والسلام. وإنما يبعث الله رسله من أبناء الشعب ليدل عباده على أن الحقيقة ليست في ملك الأغنياء ولا الأقوياء، بل هي في ملك من يبتغي الحق لوجه الحق وحده. والحقيقة الأزلية الخالدة أن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم؛ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ولا تُجزون إلا ما كنتم تكسبون. والحقيقة الكبرى أن الله حق، لا إله إلا هو.

الموت خاتمة حياة وبدء حياة؛ خاتمة الحياة الدنيا وبدء الحياة الآخرة. ولسنا نعلم من أمر الحياة الدنيا إلا قليلًا. لسنا نعلم إلا ما تتصل به حواسنا، وترشدنا إليه عقولنا، وتكشف لنا عنه قلوبنا. أما الحياة الآخرة فلا علم لنا من أمرها إلا ما علَّمنا الله منه. وسنن الكون فيها غيب علينا، علمه عند عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال. فحسبنا ما ذكر الله في كتابه العزيز من أمرها وأنها دار الجزاء، ولنعِدَّ أنفسنا في الدار الدنيا بعملنا وبعزمنا أمورنا وبتوكلنا بعد ذلك على الله لهذا الجزاء العدل؛ فأما ما وراء ذلك فأمره لله وحده.

أفيرى الذين يلفون لفَّ واشنطون إيرفنج من المستشرقين وغير المستشرقين مبلغ خطئهم في تصوير الجبرية الإسلامية؟ إننا لم نثبت هنا شيئًا غير ما ورد في القرآن الكريم؛ لأننا لا نريد أن نضع الأمر موضع مجادلة في آراء المتكلمين والمتصوفة وغيرهم من فِرَق المسلمين وفلاسفتهم. وإيرفنج أبلغ خطأً حين يزعم أن القضاء والقدر وكتاب الأجل إنما نزل ما نزل من القرآن فيه بعد غزوة أحُد ومقتل حمزة سيد الشهداء فيها. فمن الآيات التي اقتبسنا هنا آيات مكية نزلت قبل الهجرة وقبل أن تبدأ غزوات المسلمين. وإنما يقع إيرفنج ومن على شاكلته في هذا الخطأ لأنهم لا يُعنُّون أنفسهم ببحث مسألة هذا مبلغ خطرها بحثًا علميًّا دقيقًا، بل يصوِّرون لأنفسهم عن الإسلام الفكرة التي تتفق مع ميولهم المسيحية ثم يلفقون لها الدليل بما تهوى أنفسهم، ظنًّا منهم أن دليلهم يُقنع قرَّاءهم ثم لا يفنِّده بعدهم أحد.

ولو أدرك المستشرقون الجبرية الإسلامية على نحو ما صوَّرنا هنا لقدَّروا فكرتها الفلسفية البالغة غاية السموِّ، العميقة غاية العمق، والتي تصوِّر الحياة تصويرًا يصف أدق النظريات العلمية والفلسفية التي وصل إليها التفكير في مختلف عصوره، وما ناله فيها من تطور وتقدم. وهذه الفكرة الفلسفية الإسلامية فكرة توفيقية لا تضيق بالجبرية العلمية، ولا بالعالم كإرادة وتمثُّل، ولا بالتطور المنشئ،٤٤ بل هي تُسلك هذه المذاهب جميعًا في نظامها على أنها بعض سنن الكون والحياة. ولئن لم يتسع المقام هنا لبسط هذه الصورة لأحاولنَّ مع ذلك إيجازها بكل ما أستطيع من دقة ووضوح. وأحسب الذين يتلون ما أكتب يوافقونني على أن سمو الفكرة وانفساح مداها وعمقها قد بلغ الغاية من كل ما نعرف من نظريات حتى اليوم، وأنها تفسح الطريق إلى ما قد يسمو إليه الفكر الإنساني من بعد.

وأريد قبل أن أبدأ هذا الإيضاح الوجيز أن أثبت هنا ملاحظتين أرجو ألا ينساهما في هذا المقام أحد: أولاهما أنني لا أقصد من ذلك إلى معارضة نظرية مسيحية. فما جاء به عيسى قد أقرَّه الإسلام كما ذكرت غير مرة في غضون هذا الكتاب. وإنما جاء الإسلام جامعًا ومتوجًا للنبوات والرسالات التي سبقته. ولقد أثبتت الأناجيل قول المسيح لأصحابه: «ما جئت لأنقض الناموس ولكن جئت لأكمله.» كذلك أثبت القرآن إيمان المسلمين بإبراهيم وموسى وعيسى والنبيين من قبل. وإنما جاء الإسلام مكملًا لما أرسلهم الله به، مصححًا لما حدث من تحريف أتباعهم الكلم عن مواضعه. والثانية أن المذهب الفلسفي الإسلامي الذي استنبطته من القرآن قد سبقني إليه غيري، ولكن على نحو غير النحو الذي أقرره اليوم؛ وإنما اهتديت في هذا النحو بهدي القرآن، ونهجت فيه نهج الطريقة العلمية الحديثة، فإن وفَّقني الله للصواب فله جل شأنه الفضل والمنة. وإن جفاني التوفيق في شيء منه كان من أكبر التحدث بنعمة الله أن يهديني أولو العلم إلى ما جفاني التوفيق فيه.

وأول ما يقرره القرآن أن لله في الكون سننًا ثابتة لا تحويل لها ولا تبديل. والكون ليس أرضنا وما عليها وكفى، ولا هو محصور فيما يقع عليه حسُّنا من كواكب وأفلاك، وإنما الكون مجموع ما خلق الله من محسوس وغير محسوس، حاضر وغيب. وحسبك أن تتصور هذا لتدرك حقًّا أننا لم نؤتَ من العلم إلا قليلًا. فهذا الأثير بيننا وبين الكواكب، وهذه الكهربا التي تملأ الأثير وتملأ أرضنا، وهذه الأبعاد الشاسعة التي تفصل بيننا وبين الشمس وما هو أبعد من الشمس من أفلاك، وما وراء الأفلاك التي تبعد عن الشمس بألوف السنين الضوئية، ثم ما وراء ذلك من لا نهايات لا سبيل لخيالنا أن يحيط بها وعند الله علمها — هذا كله يجري على سنَّة ثابتة لا تتغير. وما نعرفه من هذا كله معرفة علمية — على حدِّ تعبيرنا اليوم — قليل يختلط فيه الخيال بالواقع، ثم يتضاءل الواقع إلى جانب الخيال حتى يبلغ غاية الضآلة، ثم يبقى هذا الواقع مع ذلك غاية ما نعلم وما نقيم عليه أقيستنا وما نقرر على ضوئه ما نسميه سنن الكون والحياة. ولو أننا أردنا أن نطلق للخيال عنانه لنتصور ضآلة هذا الذي نعرف لانفسح أمامنا مجال الأمثال بما يضيق عنه هذا المقام. افترض مثلًا أن أهل المريخ أقاموا عندهم «مذيعًا» قوته مائة مليون كيلوات ليسمعونا — أهل الأرض — ما يدور عندهم وليرونا إياه من طريق «التليفزيون» أترانا بعد ذلك نستطيع أن نمسك علينا عقولنا؟ والمريخ ليس أبعد الكواكب عنا ولا أشدها ازورارًا عن الاتصال بنا.

وهذا الكون الذي لم نؤت من علمه إلا قليلًا يؤثر كلُّ ما فيه في وجود أرضنا وما عليها. فلو أن واحدًا من هذه الأفلاك اختلف بقدر من الله مداره، لتغيرت سنة الكون، ولتغيرت لذلك حياتنا القصيرة الضئيلة المتأثرة، بكل ما حولنا، وبأتفه ما حولنا. وهي أكثر تأثرًا وخضوعًا بطبيعة الكون لعظائم ما في الكون وجلائله. وهي في تأثرها ذاك قد تسلك سبيل الخير وقد تنحرف عنها. وهي في سلوكها هذه السبيل وفي انحرافها عنها لا تندفع في هذه أو تلك من الناحيتين بحكم ما يؤثر فيها من عوامل الحياة وحده، بل بحكم استعدادها كذلك لتلقي آثار الحياة، وسلطانها على ذاتها في تلقي هذه الآثار. ورب عامل معيَّن أثَّر في نفوس كثيرين آثارًا مختلفة، فاندفعت كل واحدة منها إلى ناحية، كانت إحداها الفيصل بين الخير والشر، ثم كانت سائرها درجاتٍ نحو الخير ودرجات نحو الشر.

فما في الحياة من خير أو شر إنما هو أثر لما يقع بين عوامل الحياة والنفس الإنسانية من تفاعل؛ ومن ثم كان الخير والشر بعض ما في الكون من آثار سنته الثابتة، وكانا لذلك من مستلزمات وجوده، كما أن السالب والموجب من مستلزمات وجود الكهربا، وكما أن وجود بعض المكروبات من مستلزمات الحياة لجسم الإنسان.

وليس شيء شرًّا لذاته ولا خيرًا لذاته، بل للغاية التي يوجَّه إليها، وللأثر الذي يترتب عليه. فما يكون شرًّا أحيانًا يكون ضرورة ملحة وخيرًا محضًا أحيانًا أخرى. ومن المدمرات التي تستعمل في الحروب لإهلاك ملايين بني الإنسان وتخريب أبدع ما أقام الإنسان من الآثار ما له أيام السلم أكبر الفائدة. فلولا الديناميت لتعذر شق الأنفاق ومد السكك الحديدية خلالها؛ ولتعذر الكشف عن المناجم التي تحتوي أثمن الكنوز وأنفس الأحجار والمعادن. والغازات الخانقة التي يُلقي المحاربون قذائفها على الوادعين من أبناء الأمة التي تحاربهم، والتي تعتبر لذلك عارًا وشنارًا على الإنسانية ومظهرًا من مظاهر وحشيتها وجبنها؛ هذه الغازات تصلح في السلم لأغراض نافعة أعظم النفع، منقذة للإنسانية من كثير من الأمراض المعدية وأهوالها. فمن هذه الغازات ما تنقى به المياه من المكروبات الضارة كغاز الكلور، ومنها ما يصلح في حياة السفن إذ يقتل بعضه الجرذان فيها، ويدل بعضه على مواطن الغازات الأخرى التي تعرِّض حياة الملاحين للخطر.

وقديمًا خُيِّل إلى الناس أن من الحشرات والطيور والحيوان ما لا فائدة البتة من وجوده، ثم تبين لهم بعد البحث والدرس ما لهذه الحشرات والطيور والحيوان من فائدة للإنسان، حتى لقد صدرت في ممالك مختلفة قوانين تحمي هذه الخلائق من القتل أو الصيد تقديرًا لخيرها للإنسانية. والذين درسوا هذه الخلائق قد لاحظوا أنها أشد حرصًا على مسالمة الحياة المحيطة بها في حدود الاحتفاظ بوجودها كي تقوم بقسطها من الخير الذي فُطِرت على القيام به، وأنها لا تؤذي إلا دفاعًا عن نفسها حين يهاجمها مهاجم أو يُغريها مُغرٍ بالأذى.

وأعمالنا — نحن بني الإنسان — ليست خيرًا كذلك لذاتها ولا شرًّا لذاتها، بل للغاية التي توجَّه إليها والأثر الذي يترتب عليها. أليس القتل إثمًا محرَّمًا؟! ولكن الله مع ذلك إذ يحرِّم القتل يقول: وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ. والقتل بالحق لا إثم فيه. وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ. والجلَّاد الذي يقتل مجرمًا حكم عليه بالقتل، والرجل الذي يقتل نفسًا دفاعًا عن نفسه، والجندي الذي يقتل دفاعًا عن وطنه، والمؤمن الذي يقتل حتى لا يفتنه أحد عن دينه، هؤلاء جميعًا لا يرتكبون إثمًا ولا معصية حين يقتلون. هم إنما يؤدون لله حقًّا فرضه الله عليهم ولهم عنه جزاء المحسنين. وما يقال في القتل يقال كذلك في غيره من الأعمال المتداولة بين الخير والشر. فالعالم الذي يكتشف بعض المدمرات للدفاع عن وطنه أو لما تفيد هذه المدمرات العالم حين السلم، وصانع الأسلحة وكل عامل وكل إنسان على الأرض، إنما يعمل الخير أو يرتكب المعصية حسب الوجهة التي يولي وجهه شطرها والأثر الذي يترتب على عمله.

هذه إرادة الله وهي سنته في الكون، ولما كان الله قد خلق الناس بعضهم فوق بعض درجات في الاستعداد لإدراك هذه السنة، فجعل منهم من يحصرون كل نشاطهم في البقعة التي ينشئون فيها وهي تثميرها والقيام عليها، ووهب آخرين موهبة الصناعة، وجعل لغير هؤلاء وأولئك من المواهب في الأعمال والفنون والعلوم ما لا يتيسر لهم معه الاهتداء إلى هذه السنة، ولما كانت معرفتها أساسية للإنسان كي يهتدي في الحياة، فقد وهب لأفراد موهبة النبوة واصطفى آخرين لرسالاته ليبينوا لنا الخير والشر، ووهب لآخرين مواهب العلم والمنطق ليكونوا ورثة الأنبياء فيهدونا إلى ما يجب علينا أن نعمله وما يجب علينا أن نتجنبه، وركَّب فينا قوى العقل والعاطفة لندرك ما يُلقى إلينا من التعاليم، فنروِّض أنفسنا برياضتها كي نحسن التوجه في الحياة إلى الخير وكي نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر. فإذا التبس الأمر مع ذلك على بعض الناس فارتكبوا المعصية فجزتهم الجماعة عن معصيتهم، احتفاظًا بكيانها أن تجني هذه المعصية عليه، لم يكن ذلك سدًّا بينهم وبين التوبة والأوبة إلى الحق. فمن ارتكب الخطيئة أو الإثم بجهالة ثم حاسب نفسه وغيَّر ما بها وعاد إلى الله طائعًا منيبًا، غفر الله له ما تقدم من ذنبه وتاب عليه. ومن ثم كان للخاطئ والآثم أن يستفيد من عِبَر الأيام وأن يطهِّر قلبه، وأن يرجع إلى طريق الحق تائبًا فيقبل الله منه؛ إنه هو التواب الرحيم.

هذا التصوير للحياة، يوفِّق ما بين مذاهب فلسفية شتى يحسب أصحابها أن لا سبيل إلى التوفيق بينها، فهو صريح في أن الوجود إرادة إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ. والكون يمثل ما يقع عليه الحس وما ينقطع الحس دونه. وللكون سنن ثابتة نستطيع في حدود علمنا الواقعي أن نقف منها على ما يهدينا العقل إليه، وما يزداد بازدياد مجهودنا للكشف عنه. والخير قوام الكون. ولكن الشر يغالبه فيه ويكاد يتغلب عليه أحيانًا. ومغالبة الخير للشر هي هذا التطور المنشئ الذي خطا بالكون وبالإنسانية خطوات واسعة حتى بلغت من طريقها إلى الكمال ما بلغته اليوم.

وأنت ترى أن هذا التصوير ينطوي على فكرة التقدم إلى الكمال كخير ما عرف التفكير الفلسفي تصويرًا من نوعه. يدلك على ذلك، فضلًا عما سبق تصوير القرآن للتطور الروحي في الحياة منذ خلق الله الأرض ومن عليها. فقد خلق الله السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش. أفهذه الأيام الستة من أيامنا على الأرض أم هي أيام يصح فيها قوله تعالى: وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ؟٤٥ ليس هذا محل بحثنا وإن وَجدت فيه نظرية التطور — وإنه بعض سنة الله في الكون — مجالًا للقول فسيحًا. وخلق الله آدم وحواء وقال للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى. ولم يردَّ إبليس عن إبائه أن علَّم الله آدم الأسماء كلها. قال تعالى: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ * يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ.٤٦ وهبط آدم وحواء من الجنة بعض ذريتهما لبعض عدو. هبطوا يجاهدون في الحياة بما وهب لهم الله من قوة، وتتعاقب فيها أجيالهم حتى تتم كلمة ربك.
وكانت القسوة وكان التعصب أول مظهر لحياة الإنسان على الأرض. يقول تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَىٰ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ * مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ.٤٧

وظاهر ما في قتل الأخ أخاه من استئثار وحسد وقسوة طبع وغلظة كبد. لكن الأخ التقي الذي يخاف الله لم يرد، حين قال له أخوه: لأقتلنك، أن يستغفر الله له، بل قال له: إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وهذه غلبة الطبيعة الإنسانية ومنطق القصاص على السمو الروحي وجمال العفو.

وكثُر بنو آدم على الأرض، وأرسل الله إليهم النبيين مبشرين ومنذرين. لكنهم أصروا على ضلالهم، وبقيت حياتهم الروحية جامدة وقلوبهم مقفلة. أرسل نوحًا إلى قومه فنادى فيهم: أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم، فكذَّبه قومه وما آمن معه إلا قليل. وتواترت النبوات بعد نوح، وتواترت الرسالات بالدعوة إلى الله وحده؛ فتغلب جمود الناس عليها وقعدت عقولهم دون إدراكها، واتخذوا من مظاهر الخلق آلهة. وكلما جاءهم رسول من عند ربهم ففريقًا كذبوا وفريقًا يقتلون. لكن جمودهم تزعزع بتواتر الرسالات التي كانت بذورًا صالحة أبطأ نباتها، غير أنها تركت مع ذلك أثرها. وهل ذهبت كلمة الحق ضياعًا أو هباءً في يوم من الأيام؟! ولئن دفع الغرور الناس لينأوا بجانبهم عنها وليستهزئوا أكثر الأمر بصاحبها لقد كانوا يستعيدونها إذا خلوا إلى أنفسهم يسألونها عن مبلغ الحق فيها. وكان الذين يدركون ما تنطوي عليه من حق قلة وكانوا يستكبرون.

كانت مصر على عهد الفراعنة يؤمن كهنتها بالوحدانية، ويعلِّمون الناس غيرها ويعددون لهم آلهتهم. وإنما دعاهم إلى ذلك حرصهم على الاحتفاظ بسلطانهم على الناس وجاههم فيهم؛ حتى لقد حاربوا موسى وأخاه هارون حين جاءا يدعوان فرعون إلى الله ويطلبان إليه أن يرسل معهما بني إسرائيل.

ويذكر القرآن نبأ هؤلاء الأنبياء الذين تعاقبوا على الإنسانية أجيالًا طوالًا فظلت ممعنة في الضلال إلا قليلًا هدى الله إلى الحق. وفي قصص الأنبياء ظاهرة يقف عندها النظر، ويحسُن بنا — لبيانها — أن نرجع إلى عهد موسى وعيسى وما كان بعدهما من رسالة محمد عليه السلام.

هذه الظاهرة هي الانفصال أو ما يشبهه أول الأمر بين حكم العقل ومنطقه والإيمان القائم على المعجزات والخوارق. فقد آزر الله كلًّا من أنبيائه بمعجزة لقومه حتى يصدقوه، ولم يصدقه مع ذلك منهم إلا قليل. ولم تكفهم عقولهم ومنطقها ليدركوا أن الله خلق كل شيء، وأنه الملك الحق لا إله إلا هو.

ولما قضى الله أن يبعث موسى من مصر، خرج منها قبل بعثه خائفًا يترقب حتى ورد ما مدين وتزوج من أهلها. فلما أذن الله له أن يعود نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ۖ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ۚ يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ ۖ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ۖ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ.٤٨ ولم يؤمن سحرة فرعون بدعوة موسى حتى لقفت عصاه ما صنعوا؛ إذ ذاك ألقي السحرة سجدًا قالوا: آمنا برب هارون وموسى. ومع ذلك ظل بنو إسرائيل في غيهم حتى قالوا لموسى: أرنا الله جهرةً. ولما قبض موسى عادوا يذكرون عبادة العجل. وجاءهم أنبياؤهم من بعد موسى يدعونهم إلى الله فقتلوهم بغير حق. فلما عادوا من بعد ذلك إلى ذكر الله انتظروا أن يقوم فيهم نبي يرد إليهم ملكًا يحكمون به العالم حكمًا زمنيًّا.

وليس هذا الحادث بالبعيد عنا في ظلمات التاريخ؛ فهو لا يرجع إلى أكثر من خمسة وعشرين قرنًا. وهو مع ذلك صريح في الدلالة على غلبة منطق الحس على منطق العقل، والتصور المادي على التصور الروحي؛ وبعد أن انقضت عليه خمسة قرون أو ستة جاء عيسى يدعو قومه إلى الله يؤيده الله بروح القدس من عنده. ولما كان عيسى يهوديًّا، حسب اليهود أول ما نمى إليهم خبره أنه نبيهم المنتظر ليرد إلى أرض المعاد ملكها المضاع، وكانوا أكثر لهفة على هذا الملك بعد أن طال عليهم حكم الرومان وقسوتهم. على أنهم انتظروا ليتبينوا الحق من أمر عيسى. أفتراه خاطبهم بمنطق العقل وحده؟ كلا! بل كانت المعجزة طريقه إلى إقناعهم. ولئن صحت الرواية المسيحية لقد كان تحويله الماء خمرًا في عرس «قانا الجليل» أول ما لفت نظر الناس إليه. وبعد ذلك كانت معجزة الأرغفة والسمكات ومعجزات إبراء المرضى وإحياء الموتى هي التي طوَّعت له أن يقوم بتعليم الناس من طريق القلب والعاطفة دون أن يكون للعقل ومنطقه الحظ الأول في تعاليمه. لكن هذا الحظ كان مع ذلك أوفر من حظ من سبقه من الرسل. كانت تختلط في تعاليمه دعوة العاطفة إلى الرحمة والمغفرة والمحبة بدعوة عقلية غير مدعومة بالدليل المنطقي إلى ملكوت الله. فإذا تسرب الشك إلى النفوس في أمر هذه الدعوة العقلية أذن الله بمعجزة جديدة تزيد الناس بالمسيح تعلقًا وعليه إقبالًا. وكان من معجزاته إبراء الأبرص والأكمه وإحياء الميت أن بلغت بمن اتبعوه في تعلقهم به مدًى بعيدًا، حتى حسبه بعضهم ابن الله، وحسب آخرون أنه الله تجسد على الأرض ليفتدي خطايا البشر. وهذا صريح في الدلالة على أن منطق العقل لم يكن إلى ذلك العهد قد بلغ من النضج ما يجعله وحده قديرًا على إدراك الحقيقة العليا في أمر الخالق جل شأنه، وأنه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد.

في هذا الزمن الذي جاء فيه موسى وعيسى كانت علوم مصر الفرعونية وفلسفتها وتشريعها قد انتقلت إلى اليونان وإلى رومية، وغزت بسلطانها وبمنطقها الأفكار، وأوحت إلى الفلسفة اليونانية وإلى الأدب اليوناني خير ما فيهما. وكانت يقظة العقل ومنطقه قد نبهت الناس إلى أن الخوارق لا تنهض بذاتها دليلًا عقليًّا على شيء. وكان من أثر ذلك أن جعلت الفلسفة اليونانية من جوارها للمسيحية في مصر وفلسطين والشام ما عدَّد مذاهب المسيحية، على ما أشرنا إليه في أثناء هذا الكتاب. وقد كتب الله في سنته أن يكون منطق العقل تاج هذه الحياة الإنسانية، على ألا يكون منطقًا جافيًا خاليًا من العاطفة ومن الروح، بل على أن يكون منطقًا توفيقيًّا، ينتظم العقل والعاطفة والروح جميعًا حتى يستطيع اكتناه غاية ما تستطيعه الإنسانية من أسرار الكون. وكذلك كتب الله في لوح هذا الوجود أن يقوم نبي الإسلام داعيًا إلى الحق بمنطق العقل تؤازره العاطفة والروح، وأن تكون معجزة هذا المنطق البالغة في الكتاب الكريم الذي أوحاه إلى نبيه، به أكمل الله للناس دينهم وأتم عليهم نعمته، وبه توَّج الرسالات وختمها. وإنما كان ذلك بعد هذا المجهود العظيم المتصل الذي قام به الأنبياء والرسل ووجهوا به الإنسانية في تطورها الروحي حتى بلغت الدعوة الإسلامية إلى صفاء التوحيد وإلى الإيمان بالله وحده.

ولتكمل هذه العقيدة أحيط الإيمان بها بما ذكرنا من فرائض في البحث الأول من هذه الخاتمة. وليصل المؤمن إلى الذروة منها يجب أن يدأب للوقوف على سنة الله في الكون دأبًا يتصل حتى يبعث الله الأرض ومن عليها. وهذا ما بدأ به المسلمون في الصدر الأول وفي العصر الذي تلاه حتى آن للزمن أن يدور دورته.

هذه الحجج التي قدمت تُدحض ما أوَّل به المستشرقون الجبرية الإسلامية، وما أوَّلوا به ما جاء في القرآن عن القضاء والقدر وكتاب الأجل. وهي تثبت بوجه لا يحتمل أي ريب، أن الإسلام دين سعي وكفاح وجهاد في نواحي الحياة الروحية والعلمية والدينية والدنيوية جميعًا، وأن الله كتب في سنة الكون أن الإنسان إنما يجزى بعمله، وأنه جل شأنه لا يظلم أحدًا ولكن الناس أنفسهم يظلمون، وهم يظلمون أنفسهم حين يظنون أنهم يصلون إلى رضا الله بالقعود والتواكل باسم التوكل على الله.

ومع أن هذه الحجج دامغة في الغرض الذي سقتها له، فإنني لا أستطيع أن أغفل حجة أخيرة أعتبرها بالغة، تلك هي الحجة المستفادة من قوله تعالى: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا.٤٩

فليس شيء في الحياة يحفزنا للعمل والسعي كما يحفزنا كسب الرزق وطلب المال. ففي سبيل الله ينفق الأكثرون من الناس أعظم الجهد ويقومون بما يفوق الطاقة أحيانًا. ونظرة يلقيها الإنسان على عالمنا الحاضر تنبئ عما يهتز به هذا العالم من دأب ومشقة، ومن سلم وحرب، ومن ثورات واضطرابات، في سبيل المال. في سبيله تقلب الملوكيات جمهوريات، وفي سبيله تراق الدماء وتزهق الأنفس والبنون! أفلاذ أكبادنا التي تمشي على الأرض، أية مشقة لا نحتملها من أجلهم؟! وأي مُرٍّ لا يحلو مذاقه ما دام يؤدي إلى طمأنينتهم وإلى كفالة رخائهم ومجدهم؟! كل عسير يصبح في جانب سعادتهم يسيرًا، وكل صعب يصبح في سبيل رضاهم سهلًا. بل إن من الناس من يستهين في سبيل المال والبنين بما يحسبه مستحيلًا عليه لولا المال والبنون. ومن الناس من يبالغ في ذلك ليضحي في سبيله بهناءته، بل بحياته.

ومع ذلك فالمال والبنون زينة الحياة الدنيا. وليست الزينة شيئًا إلى جانب الجوهر. ولا يضحي بالجوهر في سبيل الزينة إلا الجهلاء والحمقى: إلا المرأة التي تستهين بصحتها لتظهر جميلة سويعة أو سويعات من زمان، وإلا الشاب المغرور الذي يضحي بعقله وبكرامته وسط صحب يسخرون منه حين يحسب أنه سيدهم لأنه يبعثر بينهم ماله، وإلا أمثال هؤلاء من المأفونين الذين يخدعهم المظهر عن الحقيقة، واليوم عن الغد. والذين يسعون لزينة الحياة من مال وبنين وينسون ما سواهما ليسوا أقل من هؤلاء أفنًا وحمقًا. فالمال والبنون زينة. أما جوهر الحياة فالباقيات الصالحات من أعمال الخير. ولهذه الباقيات الصالحات يجب أن نبذل من السعي والجهد أكثر مما نبذل لزينة الحياة من مال وبنين.

أرأيت سمو الغاية التي تصورها هذه الآية من الذكر الحكيم؟ فأنت إذا بذلت جهودك ودمك في سبيل الزينة؛ وجب أن تبذل روحك وقلبك في سبيل الجوهر، ووجب أن تخضع الزينة للجوهر، ووجب لذلك أن تجعل كل حياتك وكل مالك وكل بنيك مقصودًا بها هذا الجوهر من الباقيات الصالحات، فهي خير عند ربك ثوابًا وخيرٌ أملًا.

كيف انقلب الأمر في تفكير المسلمين من هذا المنطق السليم الواضح إلى اعتقادات لا تتفق معه في شيء؟ أشرنا إلى ذلك لمامًا في البحث الأول من هذه الخاتمة حين أشرنا إلى تبدل الأمر عند المسلمين بحكم الغزاة الذين توالوا على الإمبراطورية الإسلامية منذ انتهاء العهد العباسي، كما أشرنا في تقديم الطبعة الثانية إلى ما كان من تبدل من الشورى في الصدر الأول إلى ذلك الملك العضوض أيام الأمويين، فإلى الحق الإلهي أيام العباسيين. وندع الكلمة الآن في شيء من تفصيل ذلك إلى المغفور له الأستاذ الإمام محمد عبده؛ إذ يقول في كتاب «الإسلام والنصرانية» ما نصه:

كان الإسلام دينًا عربيًّا، ثم لحقه العلم فصار علمًا عربيًّا بعد أن كان يونانيًّا، ثم أخطأ خليفة في السياسة فاتخذ من سعة الإسلام سبيلًا إلى ما كان يظنه خيرًا له. ظن أن الجيش العربي قد يكون عونًا لخليفة علوي؛ لأن العلويين كانوا ألصق ببيت النبي . فأراد أن يتخذ له جيشًا أجنبيًّا من الترك والديلم وغيرهم من الأمم التي ظن أنه يستعبدها بسلطانه، ويصطنعها بإحسانه، فلا تساعد الخارج عليه ولا تعين طالب مكانه من الملك، وفي سعة أحكام الإسلام ما يبيح له ذلك. هنالك استعجم الإسلام وانقلب عجميًّا.

خليفة عباسي أراد أن يصنع لنفسه ولخلفه، وبئس ما صنع بأمته ودينه. أكثَرَ من ذلك الجند الأجنبي وأقام عليه الرؤساء منه؛ فلم تكن إلا عشية أو ضحاها حتى تغلب رؤساء الجند على الخلفاء واستبدوا بالسلطان دونهم وصارت الدولة في قبضتهم. ولم يكن لهم ذلك العقل الذي راضه الإسلام، والقلب الذي هذبه الدين، بل جاءوا إلى الإسلام بخشونة الجهل يحملون ألوية الظلم. لبسوا الإسلام على أبدانهم، ولم ينفذ منه شيء إلى وجدانهم. وكثير منهم كان يحمل إلهه معه يعبده في خلوته، ويصلي مع الجماعات لتمكين سلطته. ثم عدا على الإسلام آخرون كالتتار وغيرهم ومنهم من تولى أمره. أيُّ عدو لهؤلاء أشد من العلم الذي يعرِّف الناس منزلتهم، ويكشف لهم قبح سيرهم؟! فمالوا على العلم وصديقه الإسلام ميلتهم، أما العلم فلم يحفلوا بأهله، وقبضوا عنه يد المعونة. وحملوا كثيرًا من أعوانهم أن ينتظموا في سلك العلماء وأن يتسربلوا بسرابيله ليُعَدُّوا من قبيله، ثم يضعوا للعامة في الدين ما يبغض إليهم العلم ويبعد بنفوسهم عن طلبه. ودخلوا عليهم وهم أغرار من باب التقوى وحماية الدين. زعموا الدين ناقصًا ليكملوه، أو مريضًا ليعللوه، أو متداعيًا ليدعموه، أو يكاد أن ينقض ليقيموه.

نظروا إلى ما كانوا عليه من فخفخة الوثنية، وفي عادات من كان حولهم من الأمم النصرانية، فاستعاروا من ذلك للإسلام ما هو براء منه. لكنهم نجحوا في إقناع العامة بأن في ذلك تعظيم شعائره، وتفخيم أوامره. والغوغاء عون القائم، وهم يد الظالم؛ فخلقوا لنا هذه الاحتفالات، وتلك الاجتماعات، وسنوا لنا من عبادة الأولياء والعلماء والمتشبهين بهم ما فرق الجماعة، وأركس الناس في الضلالة، وقرروا أن المتأخر ليس له أن يقول بغير ما يقول المتقدم، وجعلوا ذلك عقيدة حتى يقف الفكر وتجمد العقول. ثم بثوا أعوانهم في أطراف الممالك الإسلامية ينشرون من القصص والأخبار والآراء ما يقنع العامة بأنه لا نظر لهم في الشئون العامة، وأن كل ما هو من أمور الجماعة والدولة فهو مما فُرِضَ فيه النظر على الحكام دون من عداهم؛ ومن دخل في شيء من ذلك من غيرهم فهو متعرض لما لا يعنيه؛ وأن ما يظهر من فساد الأعمال؛ واختلال الأحوال، ليس من صنع الحكام وإنما هو تحقيق لما ورد في الأخبار من أحوال آخر الزمان، وأنه لا حيلة في إصلاح حال ولا مآل، وأن الأسلم تفويض ذلك إلى الله، وما على المسلم إلا أن يقتصر على خاصة نفسه. ووجدوا في ظواهر الألفاظ لبعض الأحاديث ما يُعينهم على ذلك، وفي الموضوعات والضعاف ما شد أزرهم في بث هذه الأوهام. وقد انتشر بين المسلمين جيش من هؤلاء المضلين، وتعاون ولاة الشر على مساعدتهم في جميع الأطراف، واتخذوا من عقيدة القدر مثبطًا للعزائم، وغُلًّا للأيدي عن العمل. والعامل الأقوى في حمل النفوس على قبول هذه الخرافات إنما هو السذاجة وضعف البصيرة في الدين وموافقة الهوى. أمور إذا اجتمعت أهلكت. فاستتر الحق تحت ظلام الباطل، ورسخ في نفوس الناس من العقائد ما يضارب أصول دينهم ويباينها على خط مستقيم، كما يقال.

هذه السياسة — سياسة الظلمة وأهل الأثرة — هي التي روَّجت ما أدخل على الدين مما لا يعرفه، وسلبت من المسلم أملًا كان يخترق به أطباق السموات، وأخلدت به إلى يأس يجاور به العجماوات … فجل ما تراه الآن مما تسميه إسلامًا فهو ليس بإسلام، وإنما حفظ من أعمال الإسلام صورة الصلاة والصوم والحج ومن الأقوال قليلًا منها حرِّفت عن معانيها. ووصل الناس بما عرض على دينهم من البدع والخرافات إلى الجمود الذي ذكرته وعدُّوه دينًا. نعوذ بالله منهم ومما يفترون على الله ودينه. فكل ما يعاب الآن على المسلمين ليس من الإسلام وإنما هو شيء آخر سمَّوه إسلامًا.٥٠

هذه الحال التي صوَّرها الشيخ محمد عبده أدت إلى ذيوع مبادئ متناقضة نشرها أصحابها على أنها من الإسلام وأنها بعض ما أمر به الله ورسوله. من هذه المبادئ مذهب الجبرية الذي صوَّره المتأخرون تصويرًا يخالف ما جاء في القرآن. قد رأيت تصوير القرآن لهذا المذهب فيما سبق. أما أولئك المتأخرون فدعوا إلى القعود والاستسلام، وقالوا: إن العيش ليس بالسعي ولا التدبير، وإنما هو بالرزق والتقدير، دون أن يكون لعمل الإنسان فيه فضل. وهذه جبرية مخطئة أتاحت لبعض أهل الغرب أن يتهم الإسلام بها باطلًا من غير حق. ومن هذه المبادئ مذهب ازدراء المادة وعدم الأخذ منها بأي نصيب. وهذا مذهب الرواقيين اليونانيين، وهو مذهب انتشر في بعض العصور عند طوائف المسلمين مع مخالفته لقوله تعالى: وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا. ومع هذه المخالفة كان لهذا المذهب أدب مترامي الأطراف في العصر العباسي وما بعده، والقرآن إنما يدعو إلى قصد السبيل؛ فلا يرضى هذا الحرمان، كما أنه لا يرضى الإباحية التي زعم إيرفنج أنها غمست المسلمين في الترف وصرفتهم عن الجهاد، وهوت بالأمم الإسلامية إلى حيث هي اليوم.

ويزعم الكاتب الأمريكي أن المسيحية تدعو إلى الطهر والإيثار على نقيض ما يتقوله هو على الإسلام. ولست أريد أن أوازن بين الإسلام والمسيحية في هذه المسألة؛ لأنهما فيها متفقان غير مختلفين. وكثيرًا ما تجرُّ الموازنة إلى جدل وتنابز لا خير للمسيحية ولا للإسلام فيه. لكني ألاحظ — وأقف عند الملاحظة — أن بين سيرة عيسى — عليه السلام — وما ينسب إلى المسيحية، من دعوة إلى الرواقية والإمعان في الزهد، اختلافًا بينًا. فلم يكن المسيح رواقيًّا؛ بل كانت أولى معجزاته أن أحال الماء خمرًا في عرس «قانا الجليل» حيث كان مدعوًّا، وحيث أراد ألا يحرم الناس الخمر بعد نفادها. وهو لم يكن يأبى دعوة الفريسيين إلى مآدبهم الفخمة ولا كان يأبى على الناس أن يستمتعوا بأنعم الله. وسيرة محمد في ذلك أشد إمعانًا في قصد السبيل. صحيح أن عيسى كان يدعو الأغنياء إلى البر بالفقراء ومحبتهم من غير مَنٍّ. والقرآن في هذا وفي الدعوة إليه أبلغ ما عرف البشر. وقد تلا القارئ من ذلك عند الكلام عن الزكاة وعن الصدقة، ما يغنينا عن معاودة القول فيه.

وحسبنا ردًّا على إيرفنج وأمثاله أن القرآن دعا إلى قصد السبيل في كل شيء.

بقيت العبارة الأخيرة من كلام إيرفنج: هذه العبارة التي يعيرنا الغرب بمثلها على حين هي عار الغرب ووصمته وجرثومة القضاء على كبريائه وعلى حضارته. يقول إيرفنج: «إن بقاء الهلال حتى اليوم في أوروبا، حيث كان يومًا ما بالغًا غاية القوة، إنما يرجع إلى اختيار الدول المسيحية الكبرى، أو يرجع بالأحرى إلى تنافسها. ولعله الهلال باقٍ ليكون دليلًا جديدًا على أن: «من أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ».»

«من أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ.» هذه آية الإنجيل يوجهها إيرفنج باسم المسيحية إلى الإسلام. يا عجبًا! لعل لإيرفنج من العذر أنه قالها منذ قرن مضى حيث لم يكن الاستعمار الغربي في تعبيرنا — المسيحي في تعبيره — قد بلغ من الشره والجشع ومن الأخذ بالسيف ما بلغ اليوم. ولكن الماريشال اللنبي، الذي استولى على بيت المقدس في سنة ١٩١٨ باسم الحلفاء، قد قال مثل هذه العبارة إذ نادى عند هيكل سليمان: «اليوم انتهت الحروب الصليبية.» وقال الدكتور بيترسن سميث في كتابه عن سيرة المسيح: «إن هذا الاستيلاء على بيت المقدس كان حربًا صليبية ثامنة أدركت المسيحية فيها غايتها.» ولقد يكون من الحق أن هذا الاستيلاء لم ينجح بمجهود المسيحيين، وإنما نجح بمجهود اليهود الذين سخَّروهم ليحققوا حلم إسرائيل القديم فيجعلوا أرض المعاد وطنًا قوميًّا لليهود.

«من أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ.» لئن صدقت كلمة الإنجيل هذه على قوم لهي أشد ما تكون صدقًا اليوم على أوروبا المسيحية. أما الإسلام فلم يأخذ بالسيف، ولن يؤخذ لذلك بالسيف. وأوروبا المسيحية قد أخذت بالسيف في العصر الأخير إمعانًا في الإباحية والترف مما ينسبه إيرفنج باطلًا للإسلام والمسلمين. أوروبا المسيحية تقوم اليوم بالدور الذي قام به المغول والتتار حين اتشحوا ظاهرًا برداء الإسلام ثم فتحوا الممالك دون أن يبعثوا بتعاليم الإسلام فيها، فحقت عليهم وعلى المسلمين الكلمة، وكان هذا التدهور والانحلال الذي أصاب الشعوب الإسلامية. وأوروبا المسيحية اليوم أقل فضلًا من أولئك التتار والمغول. فالممالك التي فتحها هؤلاء سرعان ما دخلت في الإسلام حين رأت عظمته وبساطته. أما أوروبا فلا تغزو لتنشر عقيدة ولا لتدعو إلى حضارة. إنما هي تريد استعمارًا، وتريد أن تجعل من العقيدة المسيحية مطية هذا الاستعمار؛ لذلك لم تنجح الدعاية التبشيرية الأوروبية لأنها دعاية غير مخلصة. وهي لم تنجح ولن تنجح في الأمم الإسلامية خاصةً؛ لأن عظمة الإسلام وبساطته وأخذه بحكم العقل والعلم لا تجعل لأية دعاية دينية أملًا في النجاح بين أبنائه.

«من أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ.» هذا حق. وهو إن انطبق على المتأخرين من المسلمين الذين غزوا ليفتحوا الممالك وليستعمروا لا ليدفعوا عن أنفسهم وعن عقيدتهم، لهو اليوم أشد انطباقًا على هذا الغرب الذي يغزو ويفتح ليذل الشعوب ويستعمرها، فأما المسلمون الأولون من عهد النبي وخلفائه ومن جاءوا بعدهم فلم يغزوا للفتح والاستعمار، وإنما غزوا دفاعًا عن عقيدتهم حين هددتها قريش وحين هددها العرب، ثم حين هددها الروم وهددها الفرس، وهم في هذا الغزو لم يفرضوا على أحد دينهم؛ فلا إكراه في الدين. وهم في هذا الغزو لم يقصدوا إلى الاستعمار، فقد ترك النبي ملوك العرب وأمراءها على إماراتهم وممالكهم؛ إنما أرادوا حرية الدعوة للعقيدة. ولما كانت العقيدة الإسلامية قوية بالحق الذي تنادي به، قوية بأنها لا تجعل فضلًا لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وبأنها لا تجعل لغير الله على الإنسان سلطانًا، أسرعت إلى الانتشار في ربوع الأرض كلها كما تسرع كل حقيقة صادقة إلى الانتشار. فلما جاء المتأخرون ممن دخلوا في الإسلام وغزوا للفتح وأخذوا بالسيف أُخذوا من بعد ذلك بالسيف. لكن الإسلام لم يأخذ بالسيف ولن يؤخذ بالسيف. هو لم يأخذ بالسيف شيئًا قط، بل استولى على العقول والقلوب والضمائر بقوة سلطانه؛ لذلك تعاقبت على أممه دول حكمتها وقهرتها وتحكمت فيها، فلم يغير ذلك من إسلامها ولا غير من إيمانها. وما تزال أوروبا اليوم تحكم الشعوب الإسلامية وتتحكم فيها، ولن يغير ذلك من إيمانها بالله شيئًا. فأما الذين يأخذون المسلمين اليوم بالسيف فمصيرهم، كي تصدَّق عليهم كلمة الإنجيل، أن يؤخذوا بالسيف جزاءً وفاقًا.

رد النبي الأمراء إلى إماراتهم والملوك إلى ممالكهم. ولقد كانت بلاد العرب في آخر عهده عصبة أمم عربية إسلامية، ولم تكن فيها مستعمرة خاضعة لمكة أو ليثرب. كان العرب يومئذ جميعًا سواسية أمام الله في إيمانهم المتين به وكانوا جميعًا يدًا واحدة على من اعتدى عليهم أو حاول فتنتهم عن دينهم. وظلت الأمم الإسلامية من بعد ذلك وإلى عهد الانحلال عصبة أمم إسلامية، مقر الخليفة فيها هو مقر العصبة. لم تستأثر دار الخلافة بالسلطة الروحية ولا استأثرت بالعلم ونوره؛ بل كانت كل الأمم الإسلامية لا تعرف سلطة روحية غير أمر الله. وكانت العواصم الإسلامية كلها عواصم للعلم والفن والصناعة؛ وظل ذلك شأنها حتى تغير المسلمون للإسلام، وأنكروا مبادئه الكريمة، ونسوا أخوَّة المؤمنين، ونسوا أن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. هنالك غلبت عليهم الأثرة.

وهنالك لعبت السياسة المدمرة أدوارها فصار السيف حكمًا. ومن يأخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ؛ لذلك نهضت أوروبا المسيحية منذ القرن الخامس عشر الميلادي إلى حياة روحية جديدة، ربما كانت تفيد العالم حقًّا لولا أن أسرع إليها الفساد الذي لم يكن منه بد بسبب تفرق المسيحية شيعًا. على أنها في فترة النهوض هذه واجهت الأمم الإسلامية التي نسيت الإسلام فأخذتها بالسيف وظلت ممعنة في أخذها به، ثم جعلته بينها وبين الأمم الإسلامية حكمًا. ومتى حكم السيف فقل على العقل وعلى العلم وعلى الخير وعلى المحبة وعلى الإيمان، بل على الإنسانية نفسها، العفاء.

وحكم السيف العالم اليوم هو سبب هذه الأزمة الروحية والنفسية التي يجتازها العالم ويئن من هولها. وقد آمنت الدول التي تحكم العالم بالسيف أثناء الحرب الكبرى الماضية — أي منذ عشرين سنة — بهذه الحقيقة؛ فأرادت أن تقر حكم السلام في العالم، وأقامت عصبة الأمم لتحقيق هذه الغاية. وعهدة هذه العصبة تتخلص كلها في قوله تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.٥١

لكن روح السلام لم تسد العالم بعد؛ لأن أساس الحضارة الغالبة فيه هو الاستعمار؛ الاستعمار القائم على أساس القوميات وتنافسها ومحاولة كل دولة قوية استغلال الدول الضعيفة. ومن حق كل أمة مغلوبة على أمرها، بل أول واجب عليها أن تعمل لتحطيم نير الغالب؛ ولذلك كان الاستعمار بذرة الثورة والحرب ونواتهما. فما بقي الاستعمار فلن يكون للسلام الغلب ولن تضع الحرب أوزارها إلا ظاهرًا، وستظل الأمم ينظر بعضها إلى بعض نظرة التوجس والحذر، بل نظرة التربص للاغتيال. وأنَّى يكون سلام وهذه النفسية باقية؟! إنما يكون السلام يوم يغير الناس في مختلف أمم الأرض ما بأنفسهم، ويوم يؤمنون بالسلام إيمانًا حقًّا، ويقيمون على أساسه تعاليمهم، ويجمعون أمرهم بإخلاص على الوقوف في وجه كل محاول تعكير صفوه.

وإنما يكون ذلك يوم لا يكون الاستعمار أساس حضارة العالم، ويوم يرى الناس جميعًا في مختلف بقاع الأرض أن واجبهم الأول أن يعين قويهم ضعيفهم، وأن يرحم كبيرهم صغيرهم، وأن يهذب عالمهم جاهلهم، وأن ينشروا لواء العلم في نواحي الأرض جميعًا، حرصًا على أن يسعد الناس به، لا على أن يُتخذ أداة لاستغلال الشعوب باسم العلم، وباسم الصناعة التي تستفيد من العلم.

يوم يؤمن العالم كله بهذا المبدأ، ويوم يشعر الناس جميعًا بأن العالم كله وطن لهم وأنهم جميعًا إخوة يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه؛ يومئذ يسود بين الناس التسامح وتسود بينهم المودة، ويومئذ يتخاطبون بلغة غير التي يتخاطبون اليوم بها، ويتبادلون الثقة فيما بينهم وإن بعد بينهم المزار، ويعملون الخير جميعًا لوجه الله؛ ويومئذ تنتفي الخصومة والبغضاء، وتعلو كلمة الحق ويسود السلام الوجود كله، ويرضى الله عن الناس ويرضون عنه.

يقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.٥٢
أرأيت في باب التسامح أفسح من هذا الأفق؟! من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم، لا فرق بين المؤمنين ومن لم تبلغهم دعوة الإسلام على حقيقتها من غير تشويه من اليهود والنصارى والصابئين.٥٣
ويقول جل شأنه: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ.٥٤

أين هذا مما يسود العالم اليوم باسم الحضارة الغربية، من تعصب للقومية وللدين وما يجره هذا التعصب من حروب وكوارث؟!

هذا الروح السامي في تسامحه هو الذي يجب أن يسود العالم إذا أريد أن تستقر في العالم كلمة السلام ليسعد الناس به. وهذا الروح هو الذي يجعل كل دراسة لحياة من أوحى الله هذا الكلام إليه، دراسة علمية خالصة لوجه العلم وحده، جديرةً بأن تجلو أمام العلم من المسائل النفسية والروحية ما يهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة الجديدة التي تلتمسها. وكل تعمق في هذه الدراسة يكشف عن أسرار كثيرة ظن الناس زمنًا أن لا سبيل إلى تعليلها تعليلًا علميًّا، ثم إذا مباحث علم النفس تفسرها وتجلوها واضحة للمتعقلين. فحياة محمد — كما رأيت — حياة إنسانية بلغت من السمو غاية ما يستطيع إنسان أن يبلغ، وكانت لذلك أسوة حسنة لمن هداه القدر أن يحاول بلوغ الكمال الإنساني من طريق الإيمان والعمل الصالح. أي سمو في الحياة كهذا السمو الذي جعل حياة محمد قبل الرسالة مضرب المثل في الصدق والكرامة والأمانة، كما كانت بعد الرسالة كلها التضحية في سبيل الله وفي سبيل الحق الذي بعثه الله به، تضحيةً استهدفت حياته من جرائها للموت مرات، فلم يصده عنه أن أغراه قومه، وهو في الذروة منهم حسبًا ونسبًا، بالمال وبالملك وبكل المغريات؟!

بلغت هذه الحياة الإنسانية من السمو ومن القوة ما لم تبلغه حياة غيرها، وبلغت هذا السمو في نواحي الحياة جميعًا. وما بالك بحياة إنسانية اتصلت بحياة الكون من أزله إلى أبده، واتصلت بخالق الكون بفضل منه ومغفرة؟! ولولا هذا الاتصال، ولولا صدق محمد في تبليغ رسالة ربه، لرأينا الحياة على كر الدهور تنفي مما قال شيئًا. لكن ألفًا وثلاثمائة وخمسين سنة انقضت وما يزال بلاغ محمد عن ربه آية الحق والهدى. وبحسبنا على ذلك مثلًا واحدًا نضربه: ذلك ما أوحى الله إلى محمد أنه خاتم الأنبياء والمرسلين. انقضت أربعة عشر قرنًا لم يقل أحد خلالها إنه نبي أو إنه رسول رب العالمين فصدَّقه الناس. قام في العالم أثناء هذه القرون رجال تسنموا ذروة العظمة في غير ناحية من نواحي الحياة فلم توهب لأحدهم هبة النبوة والرسالة. ومن قبل محمد كانت النبوات تتواتر والرسل يتتابعون فينذر كلٌّ قومه أنهم ضلوا ويردهم إلى الدين الحق، ولا يقول أحدهم إنه أرسل للناس كافة أو إنه خاتم الأنبياء والمرسلين، أما محمد فيقولها فتصدِّق القرون كلامه. ما كان حديثًا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وهدى ورحمة للعالمين.

وغاية ما أرجو أن أكون قد وفقت لما قصدت إليه من هذا البحث، وأن أكون قد مهَّدت به السبيل إلى مباحث في موضوعه أكثر استفاضة وعمقًا. ولقد بذلت من الجهد في ذلك ما وسعته طاقتي وما يسَّره الله لي. لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ.٥٥
١  سورة البقرة آية ١٧١.
٢  سورة البقرة آية ١٦٤.
٣  سورة يس من الآية ٣٣ إلى ٤٤.
٤  سورة الإسراء آية ٨٥.
٥  سورة الحجرات آية ١٤.
٦  سورة الحجرات آية ١٧.
٧  سورة البقرة آية ١٨٦.
٨  سورة البقرة آيتا ٤٥، ٤٦.
٩  سورة البقرة آية ١٧٧.
١٠  سورة البقرة آية ١٨٣.
١١  سورة البقرة آية ١٨٤.
١٢  سورة البقرة آية ١٧٧.
١٣  سورة البقرة آية ٤٣.
١٤  سورة المؤمنون الآيات من ١ إلى ٤.
١٥  سورة الحاقة الآيات من ٣٠ إلى ٣٤.
١٦  سورة الحج آيتا ٣٤ و٣٥.
١٧  سورة البقرة آية ٢٧٤.
١٨  سورة البقرة آية ٢٧١.
١٩  سورة البقرة آيتا ٢٦٣ و٢٦٤.
٢٠  سورة التوبة آية ٦٠.
٢١  سورة القصص آية ٧٧.
٢٢  سورة البقرة آية ١٩٧.
٢٣  سورة الإسراء الآيات من ٢٣ إلى ٣٨.
٢٤  سورة المؤمنون آية ٩٦.
٢٥  سورة فصلت آية ٣٤.
٢٦  سورة النساء آية ٨٦.
٢٧  سورة النحل آية ١٢٦.
٢٨  سورة البقرة آية ٢٧٥.
٢٩  سورة الروم آية ٣٩.
٣٠  سورة يونس آية ١٠٨.
٣١  سورة الإسراء آية ١٥.
٣٢  سورة الشورى آية ٢٠.
٣٣  سورة الرعد آية ١١.
٣٤  سورة آل عمران آية ١٤٥.
٣٥  سورة الأعراف آية ٣٤.
٣٦  سورة الحديد آية ٢٢.
٣٧  سورة التوبة آية ٥١.
٣٨  سورة الرعد آية ١١.
٣٩  سورة سبأ آية ٣.
٤٠  سورة الملك آية ٢.
٤١  سورة الأنبياء آيتا ٣٤، و٣٥.
٤٢  سورة الجمعة الآيات من ٥ إلى ٧.
٤٣  سورة الأنعام آية ٦٠.
٤٤  الجبرية العلمية، والعالم كإرادة وتمثل، والتطور المنشئ، مذاهب فلسفية غربية يقول بأولها الفلاسفة الواقعيون Positivistes، ويقول شوبنهور بالثاني، ويقول برجسن بالثالث، ولا يتسع المقام لشرحها.
٤٥  سورة الحج آية ٤٧.
٤٦  سورة الأعراف، الآيات من ١٩–٢٧.
٤٧  سورة المائدة، الآيات من ٢٧–٣٢.
٤٨  سورة القصص آيات من ٣٠ إلى ٣٢.
٤٩  سورة الكهف آية ٤٦.
٥٠  الإسلام والنصرانية من صفحة ١٢٢ إلى ١٢٥.
٥١  سورة الحجرات آيتا ٩ و١٠.
٥٢  سورة البقرة آية ٦٦.
٥٣  روى الطبري في تفسير هذه الآية: أن الذين آمنوا هم الذين صدقوا رسول الله، والذين هادوا هم اليهود، وإنما سموا اليهود من قولهم: إنا هدنا إليك؛ أي تُبنا. والنصارى هم أتباع عيسى، وتسميتهم النصارى هي في قولٍ نسبة إلى الناصرة، وهي القرية التي ولد بها عيسى بفلسطين، وفي قول آخر لقول عيسى: من أنصاري إلى الله؟ فسمي أنصاره نصارى.
والصابئون هم في رأي: الذين يعبدون الملائكة، وفي رأي آخر: قوم يقولون لا إله إلا الله، وليس لهم كتاب ولا نبي ولا عمل إلا قول لا إله إلا الله. وفي رأي ثالث: أن الصابئين لا دين لهم.
وفسر ابن جرير الآية بأنه تعالى يعني بقوله: مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ من صدق وأقر بالبعث بعد الممات يوم القيامة وعمل صالحًا فأطاع الله فلهم أجرهم عند ربهم؛ أي فلهم ثواب عملهم الصالح عند ربهم وأما قوله: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ فإنه يعني به جل ذكره: لا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال القيامة، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وعيشها عند معاينتهم ما أعد الله لهم من الثواب والنعيم المقيم عنده.
وقد أورد ابن جرير بعد ذلك أن هذه الآية نزلت في نصارى هدوا سلمان الفارسي إلى دينهم وذكر له أحدهم أن نبيًّا سيظهر في بلاد العرب، ودلَّه على أمارات نبوته، ونصح له أن يتبعه إن لحقه. فلما أسلم سلمان وذكر للنبي أمر هؤلاء النصارى قال له النبي: هم يا سلمان من أهل النار، فاشتد ذلك على سلمان فأنزل الله هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا إلخ …
وفي رأي: أن الله نسخ هذه الآية بقوله: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ، لكن ابن جرير يضيف: إن الذي قلنا من التأويل الأول أشبه بظاهر التنزيل؛ لأن الله — جل ثناؤه — لم يخصص بالأجر على العمل الصالح مع الإيمان بعض خلقه دون بعض منهم. والخبر بقوله من آمن بالله واليوم الآخر عن جميع ما ذكر في أول الآية.
وربما أمكن القول تأييدًا لرأي ابن جرير في تأويل الآية: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ: إنها إنما تنصرف إلى المسلمين الذين يبتغون غير الإسلام دينًا بعد أن ولدوا في الإسلام أو آمنوا به. فأما من ولد غير مسلم ولم تبلغه رسالة الدعوة الإسلامية على حقيقتها من غير تشويه، فشأنه شأن الذين سبقوا رسالة محمد أو عاصروه ولم يعرفوا رسالته على حقيقتها (راجع تفسير الطبري الجزء الأول صفحة ٢٥٣ إلى ٢٥٧).
٥٤  سورة آل عمران آية ١٩٩.
٥٥  سورة البقرة آية ٢٨٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤