الفصل الحادي عشر

أول العهد بيثرب

(استقبال يثرب للمهاجر العظيم – بناء المسجد ومنزل النبي – تفكير محمد في حرية العقيدة لأهل يثرب جميعًا – يهود المدينة – مؤاخاة محمد بين المهاجرين والأنصار – معاهدته مع اليهود لتقرير حرية الاعتقاد – زواج محمد بعائشة – الأذان للصلاة – مثل محمد وتعاليمه – قوة الدين الجديد وخوف اليهود منها – تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام – وفد نصارى نجران إلى المدينة – التقاء الأديان الثلاثة بيثرب – تفكير المسلمين في موقفهم من قريش)

***

خرج أهل يثرب لاستقبال محمد زرافات ووحدانًا، رجالًا ونساءً، بعد الذي ترامى إليهم من أخبار هجرته ومن ائتمار قريش به، ومن احتماله أشد القيظ في هذه الرحلة المضنية بين كثبان تهامة وصخورها التي ترد ضوء الشمس لظًى وسعيرًا. وخرجوا يُثيرهم تطلعهم، لما انتشر من خبر دعوته في أنحاء شبه الجزيرة وما تقضي عليه هذه الدعوة من عقائد ورثها أهلها عن آبائهم، وكانت عندهم موضع التقديس. لكن خروجهم لم يكن راجعًا إلى هذين السببين وكفى، بل كان راجعًا أكثر من ذلك إلى أنه هاجر من مكة إلى يثرب ليقيم بها. فكل طائفة وكل قبيلة من أهل يثرب كانت ترتب على هذا المقام — من الناحية السياسية والاجتماعية — آثارًا شتى، هي التي استخفتهم أكثر مما استخفهم التطلع ليخرجوا فينظروا إلى هذا الرجل، وليروا هل تؤيد سيماه حدسهم، أو هي تدعوهم إلى تعديله؛ لذلك لم يكن المشركون ولا كان اليهود أقل إقبالًا من المسلمين — مهاجريهم والأنصار — على استقبال النبي.

ولذلك أحاطوا به جميعًا وكلٌّ يخفق قلبه خفقانًا مختلفًا عن غيره باختلاف ما يجول بنفسه إزاء القادم العظيم. وقد اتبعوه إذ ألقى بخطام ناقته على غاربها في شيء من عدم النظام أدى إليه حرص كلٍّ على أن يجتلى محياه، وأن يحيط نواحيه جميعًا بنظرة ترسم في نفسه صورة من هذا الذي عقد بيعة العقبة الكبرى مع من بايعه من أهل هذه المدينة على حرب الأسود والأحمر من الناس، والذي هجر وطنه وفارق أهله واحتمل عداوتهم وأذاهم ثلاث عشرة سنة متتابعة، في سبيل توحيد الله توحيدًا أساسه النظر في الكون، واجتلاء الحقيقة من طريق هذا النظر.

بركت ناقة النبي — عليه السلام — على مربد سهل وسهيل ابني عمرو، فابتاعه ليبنيه مسجدًا له. وأقام أثناء بنائه في دار أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري. وعمل محمد في بناء المسجد بيديه، ودأب المسلمون من المهاجرين والأنصار على مشاركته في بنائه، حتى أتموه وأقاموا من حوله مساكن الرسول. وما كان بناء المسجد ولا كان بناء المساكن ليُرهق أحدًا وقد كانت كلها البساطة بما يتفق وتعاليم محمد. كان المسجد فناءً فسيحًا، بنيت جدرانه الأربعة من الآجر والتراب، وسُقف جزء منه بسعف النخل، وتُرك الجزء الآخر مكشوفًا، وخصصت إحدى نواحيه لإيواء الفقراء الذين لم يكونوا يملكون سكنًا. ولم يكن المسجد يضاء ليلًا إلا ساعة صلاة العشاء؛ إذ توقد فيه أنوار من القش أثناءها. وكذلك ظل تسع سنوات متتالية شُدت بعدها مصابيح إلى جذوع النخل التي كان يعتمد سقفه عليها. ولم تكن مساكن النبي أكثر من المسجد ترفًا، وإن كانت بطبيعتها أكثر منه استتارًا.

بنى محمد مسجده ومساكنه، وأوى من بيت أبي أيوب إليها. ثم جعل يفكر في هذه الحياة الجديدة التي استفتح، والتي نقلته ونقلت دعوته خطوة جديدة واسعة. فقد ألفى هذه المدينة وبين عشائرها من التنافر ما لم تعرف مكة؛ لكنه ألفى قبائلها وبطونها تصبو إلى حياة فيها من السكينة ما يجنبها الخلاف والحزازات التي مزقتها في الماضي شر ممزَّق، وما يهيئ لها في المستقبل طمأنينة تطمع معها أن تكون أوفر من مكة ثروةً وأعظم جاهًا. وما كانت ثروة يثرب ولا كان جاهها أول ما يعني محمدًا وإن كان بعض ما يعنيه. إنما كان همه الأول والآخر هذه الرسالة التي عهد الله إليه في تبليغها والدعوة إليها والإنذار بها. لقد حاربها أهل مكة من يوم بعثه إلى يوم هجرته أهول الحرب، فحال ذلك دون امتلاء كل القلوب بنورها وكل الأنفس إيمانًا بها من خوف أذى قريش وعنتها. والأذى والعنت يحولان بين الإيمان والقلوب التي لما يدخل الإيمان فيها. فيجب أن يؤمن المسلمون وأن يؤمن غيرهم بأن من اتبع الهدى ودخل في دين الله بمأمن من أن يصيبه الأذى، ليزداد المؤمنون إيمانًا، وليُقبل على الإيمان المتردد والخائف والضعيف.

في هذا كان يفكر محمد أول طمأنينته إلى مسكنه بيثرب، وإلى هذا كانت تتجه سياسته، وفي هذا الاتجاه يجب أن يُترجم لحياته. هو لم يكن يفكر في ملك ولا في مال ولا في تجارة؛ بل كان كل همه توفير الطمأنينة لمن يتبعون رسالته، وكفالة الحرية لهم في عقيدتهم ككفالتها لغيرهم في عقيدتهم. يجب أن يكون المسلم واليهودي والنصراني سواءً في حرية العقيدة، وفي حرية الرأي وحرية الدعوة إليه. فالحرية وحدها هي الكفيلة بانتصار الحق وبتقدم العالم نحو الكمال في وحدته العليا، وكل حرب على الحرية تمكين للباطل ونشر لجيوش الظلام لتقضي على جذوة النور المضيئة في النفس الإنسانية، والتي تصل بينها وبين الكون كله، من أزله إلى أبده، صلة اتساق ومحبة ووحدة، لا صلة نفور وفناء.

هذه الوجهة في التفكير هي التي نزل بها الوحي على محمد منذ الهجرة، وهي التي جعلته جنوحًا للسلم، راغبًا عن القتال، مقتصدًا طول حياته أشد القصد فيه، غير لاجئ إليه إلا لضرورة تقتضيه الدفاع عن الحرية دفاعًا عن الدين وعن العقيدة. ألم يقل له أهل يثرب ممن بايعوه في العقبة الثانية حين سمعوا المتجسس عليهم يصيح بقريش ينبهها لأمرهم: «والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل منًى غدًا بأسيافنا.» فكان جوابه: «لم نؤمر بذلك»؟ ألم تكن أول آية نزلت في القتال: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ؟١ ألم تكن الآية التي تلت هذه في أمر القتال قوله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ؟٢

فتفكير محمد إذن إنما كان متجهًا إلى غاية واحدة عليا؛ هي كفالة حرية العقيدة والرأي كفالة في سبيلها وحدها أُحِلَّ القتال، ودفاعًا عنها أبيح دفع المعتدي حتى لا يُفتن أحد عن دينه، ولا يظلم أحد بسبب عقيدته أو رأيه.

بينما كانت هذه وجهة محمد في التفكير في أمر يثرب وما يجب لكفالة الحرية فيها، كان أهل هذه المدينة ممن استقبلوه يفكرون، وإن كان كل فريق يفكر على نحو يخالف تفكير غيره. فقد كان بيثرب يومئذ من مهاجرين وأنصار؛ وكان بها المشركون من سائر الأوس والخزرج، وكان بين هؤلاء وأولئك ما علمت. ثم كان بها اليهود، يقيم منهم بنو قينقاع في داخلها، ويقيم بنو قريظة في فدك، وبنو النضير على مقربة منها، ويهود خيبر في شمالها.

أما المهاجرون والأنصار فقد ألف الدين الجديد بينهم بأوثق رباط، وإن بقيت في نفس محمد بعض المخاوف أن تثور البغضاء القديمة بينهم يومًا؛ مما جعله يفكر في وسيلة للقضاء على كل شبهة من هذا النوع تفكيرًا كان له من بعدُ أثره. وأما المشركون من سائر الأوس والخزرج، فقد ألفوا أنفسهم بين المسلمين واليهود ضعافًا نهكتهم الحروب الماضية، فاتجه همهم للوقيعة بين هؤلاء وأولئك. وأما اليهود فبادروا بادئ الرأي إلى حسن استقبال محمد ظنًّا منهم أن في مقدورهم استمالته إليهم وإدخاله في حلفهم والاستعانة به على تأليف جزيرة العرب حتى تقف في وجه النصرانية التي أجلت اليهود، شعب الله المختار، عن فلسطين أرض المعاد ووطنهم القومي. وانطلق كلٌّ على أساس تفكيره يمهد أسباب النجاح لبلوغ غايته.

هنا يبدأ طور جديد من أطوار حياة محمد لم يسبقه إليه أحد من الأنبياء والرسل. هنا يبدأ طور السياسي الذي أبدى محمد فيه من المهارة والمقدرة والحنكة ما يجعل الإنسان يقف دهشًا ثم يطأطئ الرأس إجلالًا وإكبارًا. كان أكبر همه أن يصل بيثرب — موطنه الجديد — إلى وحدة سياسية ونظامية لم تكن معروفة من قبلُ في سائر أنحاء الحجاز، وإن كانت قد عرفت قبل ذلك بكثير في بلاد اليمن. فتشاور هو ووزيراه أبو بكر وعمر؛ فكذلك كان يسميهما. وقد كان أول ما انصرف إليه تفكيره بطبيعة الحال تنظيم صفوف المسلمين وتوكيد وحدتهم، للقضاء على كل شبهة في أن تثور العداوة القديمة بينهم. ولتحقيق هذه الغاية دعا المسلمين ليتآخوا في الله أخوين أخوين. فكان هو وعليُّ بن أبي طالب أخوين. وكان عمه حمزة ومولاه زيد أخوين، وكان أبو بكر وخارجة بن زيد أخوين.

وكان عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك الخزرجي أخوين. وتآخى كذلك كل واحد من المهاجرين الذين كثر عددهم بيثرب، بعد أن تلاحق إليها سائر من كان منهم بمكة في أعقاب هجرة الرسول إياها، مع واحد من الأنصار إخاءً جعل له الرسول حكم إخاء الدم والنسب. وبهذه المؤاخاة ازدادت وحدة المسلمين توكيدًا.

وأظهر الأنصار من كرم الضيافة لإخوانهم المهاجرين ما تقبله هؤلاء أول الأمر مغتبطين؛ ذلك أنهم تركوا مكة، وتركوا وراءهم ما يملكون فيها من مال ومتاع، ودخلوا المدينة ولا يكاد الكثيرون منهم يجدون قوتهم. ولم يكن منهم على جانب من الثراء والنعمة غير عثمان بن عفان؛ أما الآخرون فقليل منهم من احتمل من مكة شيئًا ينفعه. وقد ذهب حمزة عم الرسول يومًا يطلب إليه أن يجد له ما يقتات به. وكان عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين، ولم يكن عبد الرحمن يملك بيثرب شيئًا. فعرض عليه سعد أن يشاطره ماله؛ فأبى عبد الرحمن وطلب إليه أن يدله على السوق، وفيها بدأ يبيع الزبد والجبن، واستطاع بمهارته التجارية أن يصل إلى الثروة في زمن قصير وأن يمهر إحدى نساء المدينة، وأن تكون له قوافل تذهب في التجارة وتجيء. وصنع كثيرٌ غير عبد الرحمن من المهاجرين صنيعه؛ فقد كان لهؤلاء المكيين من الدراية في شئون التجارة ما قيل معه عن أحدهم: إنه ليُحيل بالتجارة رمل الصحراء ذهبًا.

أما الذين لم يشتغلوا بالتجارة، ومن بينهم أبو بكر وعمر وعليُّ بن أبي طالب وغيرهم. فقد عملت أسرهم في الزراعة في أراضي الأنصار مُزارعة مع ملاكها. وكان غير هؤلاء وأولئك يلقون من الحياة شدة وبأساء؛ لكنهم كانوا يأبون أن يعيشوا كلًّا على غيرهم؛ فكانوا يجهدون أنفسهم في العمل أشد الجهد، ويجدون في ذلك من لذة الطمأنينة لأنفسهم ولعقيدتهم ما لم يكونوا يجدونه بمكة. على أن جماعة من العرب الذين وفدوا على المدينة وأسلموا، كانوا في حال من العوز والمتربة، حتى لم يكن لأحدهم سكن يلجأ إليه. هؤلاء أفرد محمد لهم صُفة المسجد (وهي المكان المسقوف منه) يبيتون بها ويأوون إليها؛ ولذلك سُموا أهل الصُّفة، وجعل لهم رزقًا من مال المسلمين والأنصار الذين آتاهم الله رزقًا حسنًا.

اطمأن محمد إلى وحدة المسلمين بهذه المؤاخاة. وهي لا ريب حكمة سياسية تدل على سلامة تقدير وبعد نظر، نتبين مقدارهما حين نقف على ما كان من محاولة المنافقين الوقيعة بين الأوس والخزرج من المسلمين وبين المهاجرين والأنصار لإفساد أمرهم. لكن العمل السياسي الجليل حقًّا والذي يدل على أعظم الاقتدار، ذلك ما وصل به محمد إلى تحقيق وحدة يثرب وإلى وضع نظامها السياسي بالاتفاق مع اليهود على أساس متين من الحرية والتحالف. وقد رأيت اليهود كيف أحسنوا استقباله أملًا في استدراجه إلى صفوفهم. وقد بادر هو إلى رد تحيتهم بمثلها، وإلى توثيق صلاته بهم؛ فتحدث إلى رؤسائهم وتقرَّب إليه كبراؤهم، وربط بينه وبينهم برابطة المودة باعتبار أنهم أهل كتاب موحدون. وبلغ من ذلك أن كان يصوم يوم صومهم، وكانت قبلته في الصلاة ما تزال إلى بيت المقدس قبلة أنظارهم ومثابة بني إسرائيل جميعًا. وما كانت الأيام لتزيده باليهود أو لتزيد اليهود به إلا مودة وقربى. كما أن سيرته، وعظيم تواضعه، وجميل عطفه، وحسن وفائه، وفيض بره بالفقير والبائس والمحروم، وما أورثه ذلك من قوة السلطان على أهل يثرب؛ كل ذلك وصل بالأمر بينه وبينهم وإلى عقد معاهدة صداقة وتحالف وتقرير لحرية الاعتقاد.

معاهدة هي — في اعتقادنا — من الوثائق السياسية الجديرة بالإعجاب على مر التاريخ. وهذا الطور من حياة الرسول لم يسبقه إليه نبي أو رسول. فقد كان عيسى وكان موسى وكان من سبقهما من الأنبياء يقفون عند الدعوة الدينية يبلغونها للناس من طريق الجدل ومن طريق المعجزة، ثم يتركون لمن بعدهم من الساسة وذوي السلطان أن ينشروا هذه الدعوة بالمقدرة السياسية وبالدفاع عن حرية الناس في الإيمان بها، ولو دفاعًا مسلحًا فيه الحرب والقتال. انتشرت المسيحية على يد الحواريين من بعد عيسى، فظلوا ومن تبعهم يعذبون، حتى جاء من الملوك من لان قلبه لهذا الدين فآواه ونشره. وكذلك كان أمر سائر الأديان في شرق العالم وغربه. فأما محمد فقد أراد الله أن يتم نشر الإسلام وانتشار كلمة الحق على يديه، وأن يكون الرسول والسياسي والمجاهد والفاتح، كل ذلك في سبيل الله، وفي سبيل كلمة الحق التي بُعث بها. وهو قد كان في ذلك كله عظيمًا، وكان مَثَلَ الكمال الإنساني على ما يجب أن يكون.

كتب محمد بين المهاجرين والأنصار كتابًا واعد فيه اليهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم، واشترط عليهم وشرط لهم. وهذا الكتاب:

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا كتاب محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم؛ أنهم أمة واحدة من دون الناس. المهاجرون من قريش على ربعتهم٣ يتعاقلون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين — ثم ذكر كل بطن من بطون الأنصار وأهل كل دار: بني الحارث، وبني ساعدة، وبني جُشم، وبني النجار، وبني عمرو بن عوف وبني النبيت، إلى أن قال — وأن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحًا٤ بينهم أن يُعطوه بالمعروف في فداء أو عقل. ولا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه. وأن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيعة،٥ ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعًا ولو كان ولد أحدهم ولا يقتل مؤمن مؤمنًا في كافر، ولا ينصر كافرًا على مؤمن، وأن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم، وأن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس، وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة٦ غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وأن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم، وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضًا، وأن المؤمنين يبيء٧ بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله، وأن المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه، وأنه لا يُجير مشرك مالًا لقريش ولا نفسًا ولا يحول دونه على مؤمن، وأنه من اعتبط٨ مؤمنًا قتلًا عن بينة فإنه قودٌ به إلا أن يرضى وليُّ المقتول، وأن المؤمنين عليه كافةً، ولا يحل لهم إلا قيامٌ عليه، وأنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر مُحدِثًا٩ ولا يؤويه، وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يُؤخَذ منه صرف ولا عدل، وأنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله وإلى محمد — عليه الصلاة والسلام — وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يهود بني عوف أمة من المؤمنين.
لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ١٠ إلا نفسه وأهل بيته، وأن ليهود بني النجار ويهود بني الحارث ويهود بني ساعدة ويهود بني جُشم ويهود بني الأوس ويهود بني ثعلبة ولجفنة ولبني الشطيبة١١ مثل ما ليهود بني عوف، وأن موالي ثعلبة كأنفسهم، وأن بطانة يهود كأنفسهم، وأنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد — عليه الصلاة والسلام — وأنه لا يتحجز١٢ على ثأر جرح، وأنه من فتك فبنفسه وأهل بيته إلا من ظلم، وأن الله على أبر هذا، وأن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم. وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم، وأنه لم يأثم امرؤ بحليفه، وأن النصر للمظلوم، وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وأن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة، وأن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم، وأنه لا تُجار حرمة إلا بإذن أهلها، وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يُخاف فسادُه فإن مردَّه إلى الله وإلى محمد رسول الله ، وأن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا تجار قريش ولا من نصرها، وأن بينهم النصر على من دهم يثرب، وإذا دُعُوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه، وأنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين؛ على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قِبَلهم، وأن يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة، وأن البر دون الإثم، لا يكسب كاسبٌ إلا على نفسه، وأن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره، وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم، وأن من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم وأثم، وأن الله جارٌ لمن برَّ واتقى.

هذه هي الوثيقة السياسية التي وضعها محمد منذ ألف وثلاثمائة وخمسين سنة، والتي تقرر حرية العقيدة وحرية الرأي وحرمة المدينة وحرمة الحياة وحرمة المال وتحريم الجريمة. وهي فتح جديد في الحياة السياسية والحياة المدنية في عالم يومئذ؛ هذا العالم الذي كانت تعبث به يد الاستبداد، وتعيث فيه يد الظلم فسادًا. ولئن لم يشترك في توقيع هذه الوثيقة من اليهود بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع، فإنهم ما لبثوا بعد قليل أن وقعوا بينهم وبين النبي صُحُفًا مثلها. وكذلك أصبحت المدينة وما وراءها حرمًا لأهلها؛ عليهم أن ينضحوا عنها ويدفعوا كل عادية عليها، وأن يتكافلوا فيما بينهم. لاحترام ما قررت هذه الوثيقة فيها من الحقوق ومن صور الحرية.

طاب محمد نفسًا بهذه النتيجة، وسكن المسلمون إلى دينهم، وجعلوا يقيمون فرائضه مجتمعين ويقيمونه فرادى، لا يخافون أذى ولا يخشون فتنة. إذ ذاك بنى النبي محمد بعائشة بنت أبي بكر، وكانت في العاشرة أو الحادية عشرة من عمرها، وكانت فتاة رقيقة حلوة القسمات محبَّبة العشرة، وكانت تخطو دراكًا من الطفولة إلى الصبا، وكانت ذات ولع باللعب والمرح، وكانت نامية نموًّا حسنًا. ووجدت في محمد أول انتقالها إليه بمسكنها إلى جانب مسكن سودة في جوار المسجد أبًا برًّا عطوفًا، وزوجًا مشفقًا رفيقًا، لا يأبى عليها أن تعبث وتلهو بألاعيبها؛ وتسليه بذلك عن دائم تفكيره في العبء العظيم الذي ألقي عليه، وفي سياسة يثرب التي بدأ يوجهها إلى خير وجهة.

في هذه الفترة التي سكن فيها المسلمون إلى دينهم فرضت الزكاة وفرض الصيام وقامت الحدود، وتمكنت بيثرب شوكة الإسلام. وكان محمد حين قدم المدينة إنما يجتمع إليه الناس للصلاة لحين مواقيتها بغير دعوة؛ ففكر في أن يدعو للصلاة ببوق كالبوق الذي يدعو به اليهود لصلاتهم. لكنه كره البوق فأمر بالناقوس، فنُحِت ليضرب به للصلاة، كما تفعل النصارى. على أنه بعد مشورة عمر وطائفة من المسلمين على رواية، وبأمر الله على لسان الوحي في رواية أخرى، عدل عن الناقوس أيضًا إلى الأذان، وقال لعبد الله بن زيد بن ثعلبة: «قم مع بلال فألقها عليه — أي صيغة الأذان — فليؤذِّن بها فإنه أندى صوتًا منك.» وكان لامرأة من بني النجار منزل إلى جانب المسجد أعلى منه، فكان بلال يرقاه فيؤذن عليه. وكذلك صار أهل يثرب جميعًا يسمعون منذ الفجر في كل يوم دعوة إلى الإسلام مرتلة ترتيلًا حسنًا بصوت رطب جميل يوجهها بلال مع كل ريح إلى كل النواحي، ويُلقي في أذن الحياة نداءه: «الله أكبر الله أكبر. أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدًا رسول الله. حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح. الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله.»

وكذلك انقلبت مخاوف المسلمين أمنًا، وأصبحت يثرب مدينة الرسول، وأصبح غير المسلمين من أهلها يشعرون بقوة المسلمين قوة منبعثة من أعماق قلوب عرفت التضحية في سبيل الإيمان وذاقت الأذى بسببه ألوانًا، وها هي ذي اليوم تجني ثمرة الصبر، وتستمتع من حرية العقيدة بما قرر الإسلام من أن ليس لإنسان على إنسان سيادة، ومن أن الدين لله وحده، والعبودية له وحده، والناس أمام وجهه الأكرم سواسية، لا يجزون إلا بأعمالهم وبالنية التي تصدر هذه الأعمال عنها.

وانفسح المجال أمام محمد ليعلن تعاليمه، وليكون بذاته وبتصرفاته المثل الأسمى لهذه التعاليم، وليصبح بذلك حجر الأساس للحضارة الإسلامية.

وحجر الأساس هذا هو الإخاء الإنساني، إخاء يجعل المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وحتى يصل به هذا الإخاء إلى غاية البر والرحمة من غير ضعف ولا استكانة. سأل رجل محمدًا: أي الإسلام خير؟ فقال: «تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.» وفي أول خطبة ألقاها بالمدينة قال: «من استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشقة من تمر فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها تُجزى الحسنة عشر أمثالها.» وفي خطبته الثانية قال: «اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، واتقوه حق تقاه، واصدقوا الله صالح ما تقولون، وتحابوا بروح الله بينكم: إن الله يغضب أن ينتكث عهده.» بهذا وبمثله كان يحدِّث أصحابه وكان يخطب الناس في مسجده، مستندًا إلى جذع من جذوع النخل التي يعتمد عليها سقفه، حتى أمر فصنع له منبر من ثلاث درجات، كان يقوم على درجته الأولى خطيبًا. وكان يجلس في درجته الثانية.

ولم تكن أقواله وحدها دعامة الدعوة إلى هذا الإخاء الذي جعل منه حجر الزاوية في حضارة الإسلام، بل كانت أعماله وكان مثله هو هذا الإخاء في أسمى صور كماله. كان رسول الله، لكنه كان يأبى أن يظهر في أي من مظاهر السلطان أو الملك أو الرياسة الزمنية. كان يقول لأصحابه: «لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ إنما أنا عبد الله، فقولوا عبد الله ورسوله.» وخرج على جماعة من أصحابه متوكئًا على عصًا فقاموا له، فقال: «لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضًا.» وكان إذا بلغ في مسيره أصحابه جلس منهم حيث انتهى به المجلس. وكان يمازح أصحابه ويخالطهم ويحادثهم ويداعب صبيانهم ويُجلسهم في حجره ويجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر، ويبدأ من لقيه بالسلام، ويبدأ أصحابه بالمصافحة، ولا يجلس إليه أحد وهو يصلي إلا خفف صلاته وسأله عن حاجته، فإذا فرغ عاد إلى صلاته، وكان أطيب الناس نفسًا وأكثرهم تبسمًا ما لم ينزل عليه قرآن أو يعظ أو يخطب.

وكان في بيته في مهنة أهله يطهر ثوبه ويرقعه ويحلب شاته، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويعقل البعير، ويأكل مع الخادم، ويقضي حاجة الضعيف والبائس والمسكين. وكان إذا رأى أحدًا في حاجة آثره على نفسه وأهله ولو كان بهم خصاصة. وكان لذلك لا يدخر شيئًا لغده؛ حتى لقد توفي ودرعه مرهونة عند يهودي في قوت عياله. وكان جم التواضع، شديد الوفاء، حتى لقد وفد للنجاشي وفد فقام بخدمتهم؛ فقال له أصحابه: يكفيك. فقال: إنهم كانوا لأصحابنا مُكرِمين وإني أحب أن أكافئهم. وبلغ من وفائه أنه ما ذُكرت خديجة إلا ذكرها أطيب الذكر؛ حتى كانت عائشة تقول: ما غرت من امرأة ما غِرت من خديجة لما كنت أسمعه يذكرها. ودخلت عليه امرأة فهش لها وأحسن السؤال عنها؛ فلما خرجت قال: إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان. وبلغ من طيبة نفسه ورقة قلبه أنه كان يدع بني بناته يداعبونه أثناء صلاته. بل لقد صلى بأمامة ابنة بنته زينب يحملها على عاتقه، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها.

ولم يقف بالبر والرحمة اللذين جعلهما دعامة الإخاء الذي قامت الحضارة الجديدة على أساسه عند الإنسان، بل عدَّاهما إلى الحيوان كذلك؛ كان يقوم بنفسه فيفتح بابه لهرة تلتمس عنده ملجأً، وكان يقوم بنفسه على تمريض ديك مريض، وكان يمسح لجواده بكم قميصه. وركبت عائشة بعيرًا فيه صعوبة فجعلت تردِّده؛ فقال لها: عليك بالرفق. وكذلك شملت رحمته كل ما اتصل بها، وأظلت كل من كان في حاجة إلى تفيُّؤ ظلالها.

وهي لم تكن رحمة ضعف ولا استكانة، ولم تشبها شائبة مَنٍّ ولا استعلاء، إنما كانت إخاءً في الله بين محمد والذين اتصلوا به جميعًا. ومن ثم يفترق أساس حضارة الإسلام عن كثير من سائر الحضارات. الإسلام يضع العدل إلى جانب الإخاء ويرى أن الإخاء لا يكون إخاءً إلا به. فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ،١٣وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ.١٤

يجب أن يكون الدافع النفساني وحده والإرادة الحرة المطلقة وابتغاء وجه الله — دون أي اعتبار آخر — مصدر الإخاء وما يدعو إليه من بر ورحمة. ويجب أن يصدر ذلك عن نفس قوية لا تعرف لغير الله إسلامًا ولا تضعف ولا تتهالك باسم الورع أو التقوى، ولا يتسرب إليها خوف أو وهن إلا عن معصية تجترحها أو إثم تقترفه. ولا تكون النفس قوية إذا كانت في حكم غيرها، ولا تكون قوية إذا خضعت لحكم أهوائها وشهواته. وقد هاجر محمد وأصحابه من مكة حتى لا يكونوا في حكم قريش ولا يُوهن أذاها نفس أحد منهم. والنفس إنما تخضع لحكم الأهواء والشهوات إذا تحكم الجسد في الروح وغلبت الشهوة العقل، وأصبحنا نقيم للحياة الخارجة عنا سلطانًا على حياتنا نحن، على حين أنَّا في غنًى عنها وأنَّا أصحاب السلطان عليها.

وكان محمد المثل الأعلى في القوة على الحياة، قوة جعلته لا يأبى أن يعطي غيره كل ما عنده؛ وحتى قال أحدهم: إن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى فاقة. ولكي لا يكون لشيء مما في الحياة سلطان عليه، وليكون له هو كل السلطان عليها، كان شديد الزهد في مادتها، على شدة رغبته في الإحاطة بها وفي معرفة أسرارها، وتوقه إلى غاية الحقيقة من أمرها. بلغ من زهده فيها أن كان في فراشه الذي ينام عليه أدم حشوه ليف، وأنه لم يشبع قط، ولم يطعم خبز الشعير يومين متواليين، وكان السويق طعام أكلته الكبرى، وكان التمر طعام سائر أيامه. وكان الثريد مما لا يكثر له ولأهله تناوله. ولقد عانى الجوع غير مرة، حتى كان يشد على بطنه حجرًا يكظم به على صيحات معدته. ذلك كان المعروف عنه في طعامه، وإن لم يمنعه ذلك من أن ينال في بعض الأحايين من أطايب الرزق، وأن يُعرف عن حبه زند الخروف والقرع والعسل والحلوى.

وكان زهده في اللباس كزهده في الطعام. أعطته امرأة يومًا ثوبًا كان في حاجة إليه، فطلب إليه أحدهم ما يصلح كفنًا لميت فأعطاه الثوب. وكان معروف ثيابه القميص والكساء، وكانا من صوف أو قطن أو تيل. على أنه في بعض الأحيان لم يكن يأبى أن يلبس من أنسجة اليمن لباسًا فخمًا يناسب المقام إذا اقتضاه المقام ذلك. وكان يحتذي حذاءً بسيطًا، ولم يلبس خفًّا إلا حين أهدى إليه النجاشي خفين وسراويل.

لم يكن هذا الزهد، ولا هذه الرغبة عن الدنيا تقشفًا للتقشف، ولا كانا من فرائض الدين؛ فقد جاء في القرآن: كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ١٥ وجاء: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ.١٦

وفي الأثر: «احرث لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا.» لكن محمدًا أراد أن يضرب للناس المثل الأعلى في القوة على الحياة قوة لا يتطرق إليها ضعف، ولا يستعبد صاحبها متاع أو مال أو سلطان أو أيٌّ مما يجعل لغير الله عليه سيادة. والإخاء الذي يستند إلى هذه القوة ويكون له من المظهر ما ضرب محمد له المثل الأعلى فيما رأيت، إخاء محض بالغ غاية الإخلاص والسمو، إخاء لا تشوبه شائبة؛ لأن العدل يتضافر فيه مع الرحمة، لأن صاحبه لا يرضى أن تحمله عليه إلا إرادته الحرة المطلقة. لكن الإسلام إذ يضع العدل إلى جانب الرحمة يضع العفو إلى جانب العدل، على أن يكون عفوًا عن مقدرة؛ ليكون مظهر الرحمة صريحًا صحيحًا، وليكون القصد منه إلى الإصلاح صادقًا.

هذا الأساس الذي وضعه محمد للحضارة الجديدة التي يقيمها يتلخص بصورة واضحة فيما رُوي عن علي بن أبي طالب أنه سأل رسول الله عن سنته فقال: «المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني، والحب أساسي، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة كنزي، والحزن رفيقي؛ والعلم سلاحي، والصبر ردائي، والرضا غنيمتي، والفقر فخري، والزهد حرفتي، واليقين قُوتي، والصدق شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خُلقي، وقُرَّة عيني في الصلاة.»

تركت تعاليم محمد هذه وترك مثله وقدوته في النفوس أعمق الأثر؛ حتى لقد أقبل كثيرون على الإسلام، وازداد المسلمون في المدنية شوكة وقوة. هنالك بدأ اليهود يفكرون من جديد في موقفهم من محمد وأصحابه. لقد عقدوا معه عهدًا، وكانوا يطمعون في أن يضموه إلى صفوفهم وفي أن يزدادوا به على النصارى منعة وقوة. وهذا هو أقوى من هؤلاء وأولئك جميعًا، وهذه كلمته تزداد ثباتًا. بل ها هو ذا يفكر في أمر قريش وإخراجها إياه وإخراجها المهاجرين من مكة، وفتنتها من استطاعت فتنته من المسلمين عن دينه، أترى اليهود يتركون دعوته تنتشر وسلطانه الروحي يمتد؛ مكتفين بالأمن في جواره أمنًا يزيد تجارتهم سعةً وثروتهم ربحًا؟ لعلهم كانوا يقنعون بهذا لو أنهم أمِنوا ألا تمتد دعوته إلى اليهود وألا تفشوا في عامتهم، على حين تقتضيهم تعاليمهم ألا يعترفوا بنبي من غير بني إسرائيل.

لكن حبرًا عالمًا من كبار أحبارهم وعلمائهم، هو عبد الله بن سَلَام، لم يلبث حين اتصل بالنبي أن أسلم، وأمر أهل بيته فأسلموا معه. وخشي عبد الله أن يقول اليهود فيه إذا علموا بإسلامه، غير ما اعتادوا. فطلب إلى النبي أن يسألهم عنه: ما شأنُه؟ قبل أن يعرف أحد منهم إسلامه. قالوا: سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا. فلما خرج عبد الله إليهم وتبينوا ما صنع ودعاهم هو إلى الإسلام، خافوا عاقبة أمره، فوقعوا فيه وأذاعوا عنه قالة السوء في أحياء اليهود كلها؛ وأجمعوا أمرهم على أن يكيدوا لمحمد ويُنكروا نبوته. وما كان أسرع أن اجتمع إليهم من بقي على الشرك من الأوس والخزرج ومن أسلم منهم نفاقًا، جريًا وراء مغنم أو إرضاءً لذي عُصبة وبأس.

وهنا بدأت حرب جدل بين محمد واليهود أشد لددًا وأكبر مكرًا من حرب الجدل التي كانت بينه وبين قريش بمكة. وفي هذه الحرب اليثربية تعاونت الدسيسة والنفاق والعلم بأخبار السابقين من الأنبياء والمرسلين. أقامتها اليهود جميعًا صفوفًا متراصة يهاجمون بها محمدًا ورسالته وأصحابه المهاجرين والأنصار. دسُّوا من أحبارهم من أظهر إسلامه ومن استطاع أن يجلس بين المسلمين يظهر غاية التقوى، ثم ما لبث الحين بعد الحين أن يُبدي من الشكوك والريب ويلقي على محمد من الأسئلة ما يحسبه يزعزع في أنفس المسلمين عقيدتهم به وبرسالة الحق التي يدعو إليها. وانضم إلى اليهود جماعة من الأوس والخزرج الذين أسلموا نفاقًا أيضًا ليسألوا وليُوقعوا بين المسلمين.

وبلغ من تعنتهم أن اليهود منهم كانوا ينكرون ما في التوراة، وأنهم جميعًا وكلهم يؤمنون بالله سواء منهم بنو إسرائيل والمشركون الذين يتخذون أصنامهم لتقربهم إلى الله زلفى. كانوا يسألون محمدًا: إذا كان الله قد خلق الخلق فمن خلق الله؟! وكان محمد يجيبهم بقوله تعالى: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ.١٧

وفطن المسلمون لأمر خصومهم وعرفوا غاية سعيهم. ورأوهم يومًا في المسجد يتحدثون بينهم خافضين أصواتهم قد لصق بعضهم ببعض، فأمر بهم محمد فأخرجوا من المسجد إخراجًا عنيفًا. ولم يثنهم ذلك عن كيدهم وسعيهم في الوقيعة بين المسلمين. مرَّ أحدهم «شاس بن قيس» على نفر من الأوس والخزرج في مجلس جمعهم؛ فغاظه صلاح ذات بينهم وقال في نفسه: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد؛ وما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار. وأمر فتى شابًّا من اليهود كان معهم أن ينتهر فرصة يذكر فيها يوم بُعاث وما كان من انتصار الأوس فيه على الخزرج. وتكلم الغلام، فذكر القوم ذلك اليوم وتنازعوا وتفاخروا واختصوا، وقال بعضهم لبعض: إن شئتم عُدنا إلى مثلها. وبلغ محمدًا الأمر، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه، فذكرهم بما ألَّف الإسلام بين قلوبهم وجعلهم إخوانًا متحابين. وما زال بهم حتى بكى القوم وعانق بعضهم بعضًا واستغفروا الله جميعًا.

بلغ الجدال بين محمد واليهود مبلغًا من الشدة يشهد به ما نزل من القرآن فيه. فقد نزل صدر سورة البقرة إلى الآية الحادية والثمانين منها، ونزل قسم عظيم من سورة النساء، وكله يذكر هؤلاء الكتابيين وإنكارهم ما في كتابهم ويلعنهم لكفرهم وإنكارهم أشد اللعنة: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ ۖ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَل لَّعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَّا يُؤْمِنُونَ * وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ.١٨
وبلغ الجدال بين اليهود والمسلمين حدًّا كان يصل أحيانًا — مع ما كان بينهم من عهد — إلى الاعتداء بالأيدي. وحسبك — لتقدر هذا — أن تعلم أن أبا بكر، على ما كان عليه من دماثة الخلق وطول الأناة ولين الطبع، تحدث إلى يهودي يدعى فنحاص، يدعوه إلى الإسلام؛ فرد فنحاص بقوله: «والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا. وإنا عنه أغنياء وما هو عنا بغني. ولو كان غنيًّا عنَّا ما استقرضَنا أموالنا كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان عنا غنيًّا ما أعطانا.» وفنحاص يشير هنا إلى قوله: مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً.١٩
لكن أبا بكر لم يطق على هذا الجواب صبرًا، فغضب وضرب وجه فنحاص ضربًا شديدًا، وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت رأسك يا عدو الله! وشكا فنحاص أمره إلى النبي، وأنكر ما قاله لأبي بكر في الله؛ فنزل قوله تعالى: لَّقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ ۘ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ.٢٠
لم يكتف اليهود بالوقيعة بين المهاجرين والأنصار وبين الأوس والخزرج من هؤلاء، ولم يكفهم فتنة المسلمين عن دينهم ومحاولة ردهم إلى الشك دون محاولة تهويدهم، بل زادوا على ذلك أن حاولوا فتنة محمد نفسه؛ ذلك أن أحبارهم وأشرافهم وسادتهم ذهبوا إليه وقالوا: «إنك قد عرفت أمرنا ومنزلتنا، وإنا إن اتبعناك اتبعك اليهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين بعض قومنا خصومة، فنحتكم إليك فتقضي لنا فنتبعك ونؤمن بك.» فنزل فيهم قوله تعالى: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ.٢١
ضاق اليهود ذرعًا بمحمد، ففكروا في أن يمكروا به، وأن يقنعوه بالجلاء عن المدينة كما أجلاه أذى قريش إياه وأصحابه عن مكة؛ فذكروا له أن من سبقه من الرسل ذهبوا جميعًا إلى بيت المقدس وكان به مقامهم، وأنه إن يكن رسولًا حقًّا فجديرٌ به أن يصنع صنيعهم، وأن يعتبر المدينة وسطًا في هجرته بين مكة ومدينة المسجد الأقصى. لكن محمدًا لم يحتج إلى طويل تفكير فيما عرضوا عليه ليعلم أنهم يمكرون به. وأوحى إليه الله يومئذ، على رأس سبعة عشر شهرًا من مقامه بالمدينة، أن يجعل قبلته إلى المسجد الحرام بيت إبراهيم وإسماعيل، فنزلت الآية: قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ.٢٢
وأنكر اليهود عليه ما فعل، وحاولوا فتنته مرة أخرى بقولهم إنهم يتبعونه إذا هو رجع إلى قبلته؛ فنزل قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ۚ قُل لِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ.٢٣
في هذا الوقت الذي اشتد فيه الجدال بين محمد واليهود، وفَد على المدينة وفد من نصارى نجران عدتهم ستون راكبًا؛ من بينهم من شَرُف فيهم ودرس كتبهم وحسن علمه في دينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرَّفوه وموَّلوه وأخدموا وبنوا له الكنائس وبسطوا عليه الكرامات. ولعل هذا الوفد إنما جاء إلى مدينة النبي حين علم بما بينه وبين اليهود من خلاف، طمعًا في أن يزيد هذا الخلاف شدة حتى يبلغ به العداوة، فيريح النصرانية المتاخمة في الشام وفي اليمن من دسائس اليهود وعدوان العرب. واجتمعت الأديان الثلاثة الكتابية بمجيء هذا الوفد وبجداله النبي وبقيام ملحمة كلامية عنيفة بين اليهودية والمسيحية والإسلام. فأما اليهود فكانوا ينكرون رسالة عيسى ومحمد إنكارًا فيه من العنت ما رأيت، ويزعمون أن عزيرًا ابن الله، وأما النصارى فكانوا يقولون بالتثليث وألوهية عيسى. وأما محمد فكان يدعو إلى توحيد الله، وإلى الوحدة الروحية تنتظم العالم من أزله إلى أبده. كان اليهود والنصارى يسألونه عمن يؤمن بهم من الرسل فيقول: آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.٢٤

وكان ينكر عليهم أشد الإنكار كل ما يُلقى أية شبهة على وحدة الله، ويذكر لهم أنهم حرَّفوا الكلم مما في كتبهم عن مواضعه، وأنهم يذهبون إلى غير ما ذهب إليه النبيون والرسل الذين يقرُّون لهم بالنبوة، وأن ما جاء به عيسى وموسى ومن سبقهم لا يختلف في شيء عما جاء هو به؛ لأن ما جاءوا به إنما هو الحقيقة الأزلية الخالدة التي تتكشف في جلال وضوحها وعظمة بساطتها لكل من نزَّه نفسه عن الخضوع لغير الله في عظمة وحدته، ونظر في الكون على أنه وحدة متصلة نظرةً سامية فوق أهواء الساعة ومطامع العاجلة وشهوات المادة، مجردة من الخضوع الأعمى لأوهام العامة ولما وجد عليه آباءه وأجداده.

أي مؤتمر أعظم من هذا المؤتمر الذي شهدت يثرب، تلتقي فيه الأديان الثلاثة التي تتجاذب حتى اليوم مصاير العالم، وتلتقي فيه لأسمى فكرة وأجل غاية؟! لم يكن مؤتمرًا اقتصاديًّا، ولا كان مرماه أي غرض من هذه الأغراض المادية التي ينطح عالمنا اليوم عبثًا صخرتها؛ إنما كان مرماه غاية روحية تقف من ورائها في أمر النصرانية واليهودية مطامع السياسة ومآرب أرباب المال وذوي الملك والسلطان، ويقف فيه محمد لغاية روحية إنسانية بحتة يُملي عليه الله في سبيلها الصيغة التي يُلقي بها إلى اليهود والنصارى وإلى الناس كافة، يقول لهم فيها: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.٢٥

ماذا يستطيع اليهود أو النصارى أو يستطيع غيرهم أن يقولوا في هذه الدعوة: ألا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئًا، ولا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله؟! فأما الروح المخلصة الصادقة، فأما النفس الإنسانية التي كرِّمت بالعقل والعاطفة فلا تستطيع إلا أن تؤمن بهذا دون غيرها. لكن في الحياة الإنسانية إلى الجانب النفساني جانبها المادي. فيها هذا الضعف الذي يجعلنا نقبل لغيرنا علينا سلطانًا بثمن يشتري به أنفسنا وأرواحنا وقلوبنا. فيها هذا الغرور القتَّال للكرامة وللعاطفة ولنور النفس العاقلة. هذا الجانب المادي المصور في المال وفي الجاه وفي كاذب الألقاب والرتب، هو الذي جعل أبا حارثة أكثر نصارى نجران علمًا ومعرفةً يُدلي إلى رفيق له باقتناعه بما يقول محمد، فلما سأله رفيقه: فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟ كان جوابه: يمنعني ما صنع بنا هؤلاء القوم؛ شرفونا ومَوَّلونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه، فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى.

دعا محمد اليهود والنصارى إلى هذه الدعوة أو يلاعن النصارى؛ فأما اليهود فكان بينه وبينهم عهد الموادعة. إذ ذاك تشاور النصارى ثم أعلنوا إليه أنهم رأوا ألا يلاعنوه وأن يتركوه على دينه ويرجعوا على دينهم. ولكنهم رأوا حرص محمد على العدل حرصًا احتذى أصحابه فيه مثاله، فطلبوا إليه أن يبعث معهم رجلًا يحكم بينهم في أشياء اختلفوا عليها من أقوالهم. وبعث محمد معهم أبا عبيدة بن الجراح ليقضي بينهم فيما اختلفوا فيه.

وجعل محمد يمكِّن للحضارة التي وضع حجر الأساس فيها بتعاليمه ومثله؛ وجعل يفكر هو وأصحابه من المهاجرين فيما لم يفتهم التفكير لحظة فيه منذ هجرتهم من مكة: فيما يجب أن يكون موقفهم من قريش وأمرهم معهم. ولقد كان يدفعهم إلى هذا التفكير دوافع عدة؛ ففي مكة كانت الكعبة بيت إبراهيم ومكان حجهم وحج العرب جميعًا. أفتراهم ينقطعون عن هذا الواجب المقدس الذي كانوا يقومون به إلى يوم أخرجوا من مكة؟! وفيها ما يزال لهم أهل تهوي إليهم نفوسهم وتشفق من بقائهم على الشرك أفئدتهم وقلوبهم. وفيها بقيت أموالهم ومتاعهم وتجارتهم مما منعتهم قريش منه حين هجرتهم. ثم إنهم إذ حضروا المدينة كانت موبوءة بالحمَّى فأصابهم منها عنت شديد، وبلغت منهم حتى جُهِدُوا مرضًا وكانوا يصلون قعودًا؛ فزاد ذلك في تحنانهم إلى مكة. وهم قد أخرجوا من مكة، كارهين فكأنهم خرجوا مغلوبين على أمرهم. وليس في طبع هؤلاء القرشيين أن يصبروا على الضيم أو أن يذعنوا للغلب دون تفكير في الثأر لأنفسهم منه.

وإلى جانب هذه الدوافع جميعًا كان يحركهم الدافع الطبيعي دافع الحنين إلى الوطن، إلى هذا المكان الذي منه نبتنا وفيه نشأنا ولأرضه وسهله وجبله ومائه كان أول حديثنا وأول صداقتنا وأول وُدنا. هذه البقعة من الأرض نمَّتنا صغارًا فإليها مثوانا كبارًا، بها تتعلق قلوبنا وعواطفنا، وعنها نذود بقوتنا وبمالنا، ونضحي بمجهودنا وبحياتنا، وفيها نود أن ندفن بعد موتنا لنعود إلى ترابها الذي خرجنا منه. هذا الدافع الطبيعي أذكي في أنفس المهاجرين سائر الدوافع، وجعلهم لا ينفكون يفكرون في قريش وفيما يجب أن يكون موقفهم منها. لن يكون هذا الموقف موقف استسلام أو استخذاء وقد صبروا فيها على الأذى ثلاثة عشر عامًا سويًّا. والدين الذي احتملوا فيه هذا الأذى والذي هاجروا في سبيله لا يقر الضعف ولا اليأس ولا الاستكانة. وإذا كان يمقت الاعتداء وينكره، ويقرر الإخاء ويدعو إليه، فإنه يفرض الدفاع عن النفس وعن الكرامة وعن حرية العقيدة وعن الوطن. ولهذا الدفاع أتم محمد مع أهل يثرب بيعة العقبة الكبرى. فكيف يؤدي المهاجرون هذا الفرض عليهم لله ولبيته الحرام ولوطنهم مكة المحبَّب إلى قلوبهم؟ هذا ما ستتجه إليه سياسة محمد والمسلمين معه، حتى يتم له فتح مكة، وحتى يعلو دين الله وتعلو كلمة الحق فيها.

١  سورة الحج آية ٣٩.
٢  سورة الأنفال آية ٣٩.
٣  على ربعتهم؛ أي على استقامتهم، يريد على أمرهم الذي كانوا عليه.
٤  المفرح: المثقل بالدين والعيال.
٥  دسيعة ظلم: طبيعته.
٦  أي المساواة في المعاملة.
٧  يقال: أبأت فلانًا بفلان: إذا قتلته به، يريد أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض فيما ينال دماءهم.
٨  اعتبطه؛ أي قتله بلا جناية كانت منه ولا جريرة توجب قتله.
٩  محدثًا: جانيًا.
١٠  يوتغ: يهلك ويفسد.
١١  في البداية والنهاية لابن كثير: «ولبني الشطنة.»
١٢  يريد: لا يلتئم جرح على ثأر.
١٣  سورة البقرة آية ١٩٤.
١٤  سورة البقرة آية ١٧٩.
١٥  سورة البقرة آية ٥٧.
١٦  سورة القصص آية ٧٧.
١٧  سورة الإخلاص.
١٨  سورة البقرة الآيات من ٨٧ إلى ٨٩.
١٩  سورة البقرة آية ٢٤٥.
٢٠  سورة آل عمران آية ١٨١.
٢١  سورة المائدة آيتا ٤٩ و٥٠.
٢٢  سورة البقرة آية ١٤٤.
٢٣  سورة البقرة آيتا ١٤٢ و١٤٣.
٢٤  سورة البقرة آية ١٣٦.
٢٥  سورة آل عمران آية ٦٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤