الفصل الحادي والعشرون

خيبر والرسل إلى الملوك

(الإسلام والتنظيم الاجتماعي – تحريم الخمر – رسل محمد إلى الملوك والأمراء – المسلمون واليهود – غزوة خيبر – القضاء الأخير على سلطة اليهود – رد الملوك على رسل النبي – في انتظار عمرة القضاء)

***

عاد محمد والمسلمون معه من الحديبية قافلين إلى المدينة بعد ثلاثة أسابيع من تمام الصلح بينهم وبين قريش على ألا يدخلوا مكة هذا العام، وأن يدخلوا العام الذي يليه. عادوا وفي نفوسهم من أمر هذا الصلح شيء، أن اعتبره بعضهم غير متفق مع كرامة المسلمين، حتى نزلت سورة الفتح وهم في الطريق وتلاها النبي عليهم. وجعل محمد يفكر أثناء مقامهم بالحديبية وبعد عودهم منها ماذا عساه يصنع للمزيد من تثبيت أصحابه ولزيادة انتشار دعوته. وانتهى به التفكير إلى إرسال رسله إلى هرقل وكسرى والمقوقس ونجاشي الحبشة وإلى الحارث الغساني وإلى عامل كسرى في اليمن، كما انتهى به إلى ضرورة القضاء قضاءً أخيرًا على شوكة اليهود في شبه جزيرة العرب.

والحق أن الدعوة الإسلامية كانت قد بلغت يومئذ من النضج ما يجعلها دين الناس كافةً. فهي لم تقف عند التوحيد وما يقتضيه التوحيد من عبادات، بل انفرج ميدانها وتناولت من صور النشاط الاجتماعي كلها ما يوازي بينها وبين سمو فكرة التوحيد وما يجعل صاحبهما أدنى إلى بلوغ مراتب الكمال الإنساني وإلى تحقيق المثل الأعلى في الحياة. ولذلك نزلت الأحكام في كثير من أمور الاجتماع.

اختلف مؤرخو السيرة في تحريم الخمر متى كان، وذهب بعضهم إلى أنه كان في السنة الرابعة للهجرة، ولكن أكثرهم على أنه كان عام الحديبية. والفكرة في تحريم الخمر اجتماعية غير متصلة بالتوحيد من حيث هو التوحيد. ولا أدل على ذلك من أن التحريم لم ينزل به القرآن إلا بعد انقضاء عشرين سنة أو نحوها على بعث النبي، وأن المسلمين ظلوا يشربونها إلى أن نزل التحريم. ولا أدل على ذلك من أن التحريم لم ينزل مرة واحدة، بل نزل على فترات جعلت المسلمين يخففون منها، حتى كان التحريم فانتهوا عن شربها. فقد رُوي عن عمر بن الخطاب أنه سأل عن الخمر وقال: اللهم بيِّن لنا فيها، فنزلت الآية: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا.١
فلما لم يكف المسلمون بعد هذه الآية، وكان بعضهم يقضي ليله متوفرًا على شرابه حتى كان إذا ذهب إلى صلاته لا يعلم ما يقول فيها، عاد عمر فقال: اللهم بين لنا في الخمر، فإنها تذهب العقل والمال، فنزلت الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ.٢
ومن يومئذ كان منادي الرسول ينادي وقت الصلاة: لا يقربن الصلاة سكران. وعلى رغم ما كان يقضي هذا الأمر من الإقلال من الشراب، وما كان له في هذه الناحية من أثر بالغ جعل الكثيرين يقلون من الخمر ما استطاعوا، عاد عمر بعد زمن يقول: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا فإنها تُذهب العقل والمال. وقد كان عمر في حل من قولها أن كان العرب، والمسلمون من بينهم، يصل بهم الشراب إلى حد يجعلهم يعربدون، يأخذ بعضهم بلحية بعض، ويهوي بعضهم على رأس بعض. دعا بعضهم جماعة إلى طعام وشراب، فلما ثملوا ذكروا المهاجرين والأنصار، فأبدى أحدهم التعصب للمهاجرين فأخذ متعصب للأنصار بعظمة من عظام رأس الجزور التي يأكلونها فجرح بها أنف المهاجري. وثمل حيان فتشاجرا فشج بعضهم بعضًا فوقعت في أنفسهم الضغائن، وكانوا من قبل ذلك أحبة متصافين. إذ ذاك نزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ۖ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ.٣
وقد كان أنس الساقي يوم حرمت الخمر، فلما سمع المنادي بتحريمها بادر فأراقها. ولكن أناسًا لم يرقهم هذا التحريم فقالوا: أتكون الخمر رجسًا وهي في بطن فلان وفلانٌ قُتِل يوم أحد وفي بطن فلان وفلانٌ قُتِل يوم بدر؟! فنزل قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَّآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَّآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا وَّأَحْسَنُوا ۗ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.٤

وما أمر به الإسلام من البر والرحمة، وما دعا إليه من عمل الخير، وما في عبادته من رياضة النفس والطبع، وما يصل إليه الركوع والسجود في الصلاة من قتل غرور القلب، كل ذلك جعله الكمال الطبيعي للأديان التي سبقته، وجعل الدعوة إليه للناس كافة.

كان هرقل وكسرى يومئذ على رأس دولتي الرومان والفرس أقوى دول العصر وصاحبتي الإملاء في سياسة العالم ومصاير أممه جميعًا. وكانت الحرب سجالًا بين الدولتين كما رأيت؛ وكانت الفرس صاحبة الغلب أول الأمر فاستولت على فلسطين وعلى مصر ووضعت يدها على بيت المقدس ونقلت منه الصليب. ثم دارت على الفرس الدائرة، فعادت أعلام بزنطية تخفق مرة أخرى على مصر وعلى سورية وفلسطين، واسترد هرقل الصليب بعد أن نذر، إن هو تم له النصر، أن يحج إلى بيت المقدس ماشيًا حتى يردَّ الصليب فيه إلى مكانه. ومن اليسير عليك إذ تذكر مكانة الدولتين أن تقدر ما يبعثه اسمهما من الرهبة إلى النفوس ومن الهيبة إلى القلوب، حتى لا تفكر دولة في التعرض لهما، ولا يدور بخلد أحد أن يفكر في غير خطبة ودِّهما. أما وذلك شأن دول العالم المعروفة يومئذ جميعًا، فقد كان أجدر ببلاد العرب أن يكون ذلك شأنها.

فقد كانت اليمن والعراق تحت نفوذ فارس، وكانت مصر والشام تحت نفوذ هرقل؛ فكان الحجاز وسائر شبه الجزيرة محصورًا في دائرة نفوذ الإمبراطوريتين. وكانت حياة العرب وقفًا على تجارة مع اليمن ومع الشام، فكانوا بذلك محتاجين أشد الحاجة إلى مصانعة كسرى وهرقل جميعًا حتى لا يفسد بسلطانهما عليها تجارتهم. ثم إن العرب إن يكونوا يزيدون على قبائل تشتد الخصومة بينها حينًا وتهدأ حينًا آخر، ولا تربط بعضها ببعض رابطة تجعل منها وحدة سياسية تستطيع أن تفكر في مواجهة نفوذ الدولتين العظيمتين؛ ولذلك كان عجيبًا أن يفكر محمد يومئذ في أن يُرسل رسله إلى الملكين العظيمين وإلى غسَّان واليمن ومصر والحبشة يدعوهم إلى دينه، دون خشية لما قد يترتب على عمله هذا من نتائج ربما تجرُّ على بلاد العرب كلها الخضوع لنير فارس أو بزنطية.

لكن محمدًا لم يتردد في دعوة هؤلاء الملوك جميعًا إلى دين الحق. بل خرج يومًا على أصحابه فقال: «أيها الناس، إن الله قد بعثني رحمةً للناس كافةً فلا تختلفوا عليَّ كما اختلف الحواريون على عيسى ابن مريم.» قال أصحابه: «وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله؟» قال: «دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه، فأما من بعثه مبعثًا قريبًا فرضي وسلَّم، وأما من بعثه مبعثًا بعيدًا فكره وجهه وتثاقل.» ثم ذكر لهم أنه مرسل إلى هرقل، وكسرى، والمقوقس، والحارث الغساني — ملك الحيرة — والحارث الحميري — ملك اليمن — وإلى نجاشي الحبشة يدعوهم إلى الإسلام، وأجابه أصحابه إلى ما أراد. فصنع له خاتمًا من فضة نقش عليه: «محمد رسول الله.» وبعث بكتبه يقول فيها ما نضع منه مثلًا أمام القارئ كتابه إلى هرقل إذ جاء فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله إلى هرقل عظيم الروم. سلامٌ على من اتبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين. فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيِّين.٥

قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا لله وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ لله ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.

ودفع بكتاب هرقل إلى دحية بن خليفة الكلبي، وبكتاب كسرى إلى عبد الله بن حذافة السهمي. وبكتاب النجاشي إلى عمرو بن أمية الضمري، وبكتاب المقوقس إلى حاطب بن أبي بلتعة، وبكتاب ملكي عمان إلى عمرو بن العاص السهمي، وبكتاب ملكي اليمامة إلى سليط بن عمرو، وبكتاب ملك البحرين إلى العلاء الحضرمي، وبكتاب الحارث الغساني — ملك تخوم الشام — إلى شجاع بن وهب الأسدي، وبكتاب الحارث الحميري — ملك اليمن — إلى المهاجر بن أمية المخزومي. وانطلق هؤلاء جميعًا كل إلى حيث أرسله النبي. انطلقوا في وقت واحد على قول أكثر المؤرخين، وانطلقوا في أوقات مختلفة على قول بعضهم.

أليس إرسال محمد هؤلاء الرسل عجبًا يثير الدهشة؟! أوَليس أشد إثارة للدهشة ألا تمضي ثلاثون عامًا بعد ذلك حتى تصبح هذه البلاد التي أرسل محمد إليها رسله وقد فتحها المسلمون ودان أكثرها بالإسلام؟! لكن هذه الدهشة ما تلبث أن تزول حين تذكر أن الإمبراطوريتين العظيمتين اللتين كانتا تزعمان تحضير عالم ذلك العصر، وكانت حضارتهما هي الغالبة على العالم كله، إنما كانتا تتنازعان الغلب المادي، على حين كانت القوة الروحية فيهما جميعًا قد انحلت واضمحلت؛ فقد كانت فارس مقسمة بين الوثنية والمجوسية. وكانت مسيحية بزنطية قد اضطربت بين مختلف المذاهب والفرق فلم تظل عقيدة سليمة تحرك القلوب وتقويها، بل انقلبت رسومًا وتقاليد يهيمن بها رجال الدين على عقول السواد لحكمه واستغلاله. أما الدعوة الجديدة التي يدعو محمد إليها فكانت روحية صرفة وكانت ترتفع بالإنسان إلى أسمى مراتب الإنسانية، وحيثما التقت المادة والروح، وحيثما تعارض هم الحاضر وأمل الخلود، انهزمت المادة وعنا وجه الحاضر.

ثم إن فارس وبزنطية كانتا — على عظم سلطانهما — قد فقدتا قوة الابتكار وملكة الإنشاء، ونزلنا في عالم التفكير وفي عالم الشعور وفي عالم العمل إلى دَرَك التقليد واحتذاء السلف، واعتبار كل جديد بدعة، وكل بدعة ضلالة. والجماعة الإنسانية كالفرد الإنساني وككل كائن حيٍّ، تتجدد كل يوم؛ فإما كانت ما تزال فتية شابة فكان تجددها خلقًا وإنشاءً ومزيدًا في الحياة، وإما كانت قد بلغت الذروة ولم تعد قادرة على الإنشاء والخلق، فهي تنفق من رأس مال حياتها؛ فحياتها لذلك في نقص مستمر، وفي انحدار إلى درك النهاية. والجماعة الإنسانية التي تنحدر إلى درك النهاية مصيرها أن يخلقها عنصر خارجي، فيه فتوة الحياة، خلقًا جديدًا. العنصر الخارجي المليء بقوة الحياة الفتية إلى جانب فارس وبزنطية لم يكن في ناحية الصين أو الهند، ولا كان في ناحية أواسط أوروبا؛ إنما كان هذا العنصر محمدًا.

كانت دعوته في شباب فتوتها جديرة بأن تعيد إلى هذه النفوس، المنهدم داخلها بحكم التقاليد الدينية والخرافات القائمة منها مقام الإيمان والعقيدة، حياة فتية تجددها وتردها إلى الحياة. وشعلة الإيمان الجديد التي كانت تضيء نفس الرسول، وقوة نفسه التي سمت فوق كل قوة، هي التي هدت إلهامه إلى أن يبعث هؤلاء الرسل يدعون عظماء الأرض بدعاية الإسلام دين الحق، دين الكمال، دين الله جل شأنه؛ يدعوهم إلى الدين الذي يحرر العقول لترى، والقلوب لتبصر، والذي يضع للإنسان في حياة العقيدة، كما يضع له في نظام الجماعة، قواعد عامة توازي بين سلطان الروح وقوة المادة التي تنطوي على الروح، لتبلغ بالإنسان من طريق هذه الموازاة إلى غاية ما يستطيع بلوغه من قوة على الحياة، قوة لا يشوبها وهن ولا غرور، ولتبلغ بالجماعة الإنسانية بفضل ذلك النظام إلى خير مكان أُعِدَّ لها بعد أن تسلك ما قدَّر لها من ضروب التطور بين كائنات الوجود جميعًا.

أفيرسل محمد رسله إلى هؤلاء الملوك وهو ما يزال يخشى غدر اليهود الذين لا يزالون مقيمين شمال المدينة؟ صحيح أنه قد عَهِد عَهْد الحديبية، فأمن قريشًا وأمن الجنوب كله؛ لكنه لن يأمن من ناحية الشمال أن يستعين هرقل أو يستعين كسرى بيهود خيبر، وأن يحرِّك في نفوسهم ثاراتهم القديمة، وأن يذكِّرهم إخوانهم في الدين من بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع، وقد أجلاهم محمد عن ديارهم بعد أن حصرهم بها وقاتلهم فيها وقتل منهم وسفك دماءهم. واليهود أشد من قريش عداوة له؛ لأنهم أحرص منهم على دينهم، ولأن فيهم ذكاءً وعلمًا أكثر مما في قريش. وليس من اليسير أن يوادعهم بصلح كصلح الحديبية، ولا أن يطمئن لهم وقد سبقت بينه وبينهم خصومات لم ينتصروا في إحداها. فما أجدرهم أن يثأروا لأنفسهم إذا هم وجدوا من ناحية هرقل مددًا. لا بد إذن من القضاء على شوكة هؤلاء اليهود قضاءً أخيرًا؛ حتى لا تقوم لهم من بعد ببلاد العرب قائمة أبدًا. ولا بد من المسارعة إلى ذلك حتى لا يكون لديهم من الوقت متسع للاستعانة بغطفان أو بغيرها من القبائل المعادية لمحمد والموالية لها.

وكذلك فعل؛ فإنه لم يقم بالمدينة بعد عوده من الحديبية إلا خمس عشرة ليلة على قول، وشهرًا على قول آخر، ثم أمر الناس بالتجهيز لغزو خيبر على ألا يغزو معه إلا من شهد الحديبية، إلا أن يكون غازيًا متطوعًا ليس له من الغنيمة شيء. وانطلق المسلمون في ألف وستمائة ومعهم مائة فارس، وكلهم واثق بنصر الله، ذاكر قوله تعالى في سورة الفتح التي نزلت في عهد الحديبية: سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَىٰ مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَٰلِكُمْ قَالَ اللهُ مِن قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا.٦

وقطعوا مراحل الطريق ما بين خيبر والمدينة في ثلاثة أيام لم تكد خيبر تحسهم أثناءها، حتى لقد باتوا أمام حصونها. وأصبح الصباح وغدا عمال خيبر خارجين إلى مزارعهم ومعهم مساحيهم ومكاتلهم؛ فلما رأوا جيش المسلمين ولوا الأدبار يتصايحون: هذا محمد والجيش معه! وقال الرسول حين سمع قولهم: «خربت خيبر! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذَرين.»

على أن يهود خيبر كانوا يتوقعون أن يغزوهم محمد، وكانوا يودون أن يجدوا الوسيلة إلى الخلاص منه. أما بعضهم فنصح لهم أن يبادروا إلى تأليف كتلة منهم ومن يهود وادي القرى وتيماء تغزو يثرب، دون اعتماد على البطون العربية في الغزو، وأما آخرون غيرهم فكانوا يرون أن يدخلوا في حلف مع الرسول لعل ذلك يمحو ما ثبت من كراهيتهم في نفوس المسلمين والأنصار منهم خاصة، بعد اشتراك حيي بن أخطب وجماعة من اليهود معه في تأليب العرب لاقتحام المدينة وأخذها عنوة في غزوة الخندق. لكن النفوس من الجانبين كانت ملأى، حتى لقد سبق المسلمون قبل غزوة خيبر بقتل كل من سلام بن أبي الحقيق واليسير بن رزام من زعماء خيبر. لذلك كانت اليهود على اتصال دائم بغطفان، ولذلك استعانوا بهم أول ما ترامى إليهم خبر اعتزام محمد غزوهم. ويختلف الرواة فيما كان من غطفان: أأعانتهم، أم حالت جيوش المسلمين بينها وبين خيبر.

وسواء أكانت غطفان قد أعانت اليهود أم كانت قد وقفت بمعزل بعد أن وعدها محمد حظًّا من الغنائم، فقد كانت هذه الموقعة من أكبر المواقع، أن كانت جموع اليهود في خيبر من أقوى الطوائف الإسرائيلية بأسًا، وأوفرها مالًا وأكثرها سلاحًا، وأن كان المسلمون مؤمنين بأنه ما بقيت لليهود شوكة في شبه الجزيرة فستظل المنافسة بين دين موسى والدين الجديد حائلًا دون تمام الغلب لهم؛ لذلك ذهبوا مستقتلين لا يعرف التردد إلى نفوسهم سبيلًا. ووقفت قريش ووقفت شبه جزيرة العرب كلها متطلعة إلى هذه الغزوة؛ حتى لقد كان من قريش من يتراهنون على نتائجها ولمن يتم الغلب فيها. وكان كثيرون من قريش يتوقعون أن تدور الدائرة على المسلمين، لما عُرف من قوة حصون خيبر وقيامها فوق الصخور والجبال، ولطول ممارسة أهلها للحرب والقتال.

وقف المسلمون أمام حصون خيبر متأهبين كاملي العُدة. وتشاور اليهود فيما بينهم، فأشار عليهم زعيمهم سلام بن مِشْكم، فأدخلوا أموالهم وعيالهم حصني الوطيح والسلالم، وأدخلوا ذخائرهم حصن ناعم، ودخلت المقاتلة وأهل الحرب حصن نطاة، ودخل سلام بن مشكم معهم يحرضهم على الحرب، والتقى الجمعان حول حصن نطاة واقتتلوا قتالًا شديدًا، حتى قيل: إن عدد الجرحى من المسلمين في هذا اليوم بلغ خمسين، فكم كان إذن عدد الجرحى من اليهود؟! وتوفي سلام بن مشكم، فتولى الحارث بن أبي زينب قيادة اليهود، وخرج من حصن ناعم يريد منازلة المسلمين؛ فدحره بنو الخزرج واضطروه أن يرتد إلى الحصن على أعقابه. وضيق المسلمون الحصار على حصون خيبر واليهود يستميتون في الدفاع إيمانًا منهم بأن هزيمتهم أمام محمد هي القضاء الأخير على بني إسرائيل في بلاد العرب.

وتتابعت الأيام فبعث الرسول أبا بكر إلى حصن ناعم كي يفتحه، فقاتل ورجع دون أن يفتح الحصن. وبعث الرسول عمر بن الخطاب في الغداة، فكان حظه كحظ أبي بكر. فدعا الرسول إليه عليَّ بن أبي طالب، ثم قال له: خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك. ومضى عليٌّ بالراية، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه من يده، فتناول عليٌّ بابًا كان عند الحصن فتترس به فلم يزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الحصن، ثم جعل الباب قنطرة اجتاز المسلمون عليها إلى داخل أبنية هذا الحصن. وإنما سقط حصن ناعم بعد أن قُتل الحارث بن أبي زينب؛ مما يدل على استماتة اليهود في القتال واستماتة المسلمين في الحصار وفي الهجوم.

وبعد حصن ناعم فتح المسلمون القموص بعد قتال شديد، وبعد أن قلت المئونة عندهم قلة توجه بسببها جماعة منهم يشكون إلى محمد أمرهم، ويطلبون إليه ما يسدون به رمقهم؛ فلم يجد شيئًا يعطيهم إياه، وأذن لهم في أكل لحوم الخيل. وقد رأى أحد المسلمين قطيعًا من الغنم يدخل إلى أحد حصون اليهود، فاختطف منه شاتين فذبحوهما وأكلوهما. على أنه بعد أن تم لهم فتح حصن الصعب بن معاذ قلَّت حاجتهم، أن وجدوا فيه طعامًا كثيرًا مكن لهم متابعة قتال اليهود وحصارهم في سائر حصونهم. واليهود أثناء ذلك كله لا يسلِّمون في شبر أرض ولا يسلمون حصنًا إلا بعد أن يدافعوا عنه دفاع الأبطال، وبعد ألا يبقى لهم على صد هجوم المسلمين قوة. خرج مرحب اليهودي من أحد الحصون وقد جمع للحرب سلاحه وأكمل عُدته وهو يرتجز:

قد علمت خيبر أني مرحب
شاكي السلاح بطل مجرَّب
أطعن أحيانًا وحينًا أضرب
إذا الليوث أقبلت تحرَّب٧
إن حماي للحمى لا يقرب
يحجم عن صولتي المجرب

فصاح محمد بأصحابه: مَنْ لهذا؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله. أنا والله الموتور الثائر! قُتل أخي بالأمس. وقام إليه بإذن النبي، وتصاولا حتى كاد مرحب يقتله، لكن ابن مسلمة اتقى سيفه بالدرقة فوقع السيف فيها فعضت به فأمسكته، وضربه محمد بن مسلمة حتى قتله. وكذلك كانت هذه الحرب بين اليهود والمسلمين ضروسًا قاسية، وكانت منعة حصون اليهود تزيدها شدةً وقسوة.

حاصر المسلمون حصن الزبير وطال حصارهم إياه وقاتلوا قتالًا شديدًا، ومع ذلك لم يستطيعوا فتحه حتى قطعوا الماء عنه واضطروا اليهود فيه إلى الخروج منه وإلى قتال المسلمين قتالًا انتهى بالأولين إلى أن يلوذوا بالفرار. وكذلك جعلت الحصون تقع واحدًا بعد الآخر في أيدي المسلمين، حتى انتهوا إلى الوطيح والسلالم بمنطقة الكتيبة، وكانا آخر حصنين منيعين لهم. هنالك استولى على نفوسهم اليأس، فطلبوا الصلح بعد أن حاز النبي أموالهم كلها بالشق ونطاة والكتيبة، على أن يحقن دماءهم، وقبل محمد وأبقاهم على أرضهم التي آلت له بحكم الفتح، على أن يكون لهم نصف ثمرها مقابل عملهم.

عامل محمد يهود خيبر بغير ما عامل به بني قينقاع وبني النضير حين أجلاهم عن أرضهم؛ لأنه أمن بسقوط خيبر بأس اليهود، وآمن بأنهم لن تقوم لهم بعد ذلك قائمة أبدًا. ثم إن ما كان بخيبر من الحدائق والمزارع والنخيل كان يحتاج إلى الأيدي العاملة الكثيرة لاستغلاله وحسن القيام على زراعته. ولئن كان أنصار المدينة أهل زراعة، لقد كانت أرضهم بها في حاجة إلى أذرعهم كما أن النبي كان في حاجة إلى جيوشه للحرب، فهو لا يرضى أن يتركها للزرع. وكذلك ظل يهود خيبر يعملون بعد أن انهار سلطانهم السياسي انهيارًا جنى على نشاطهم؛ حتى لقد أسرعت خيبر من ناحية الزراعة نفسها إلى البوار والخراب، مع ما كان من حسن معاملة النبي أهلها، ومن عدل عبد الله بن رواحة رسوله إليهم كل عام بينهم في القسمة. وكان من إحسان النبي معاملة يهود خيبر أنه كان من بين ما غنم المسلمون حين غزوها عدة صحائف من التوراة، فطلب اليهود ردها فأمر النبي بتسليمها لهم، ولم يصنع صنيع الرومان حين فتحوا أورشلِيم وأحرقوا الكتب المقدسة وداسوها بأرجلهم، ولا هو صنع صنيع النصارى في حروب اضطهاد اليهود في الأندلس حين أحرقوا كذلك صحف التوراة.

ولما طلب يهود خيبر الصلح، أثناء محاصرة المسلمين إياهم في حصني الوطيح والسلالم، بعث النبي إلى أهل فدك ليسلِّموا برسالته أو يسلِّموا أموالهم. ووقع في نفوس أهل فدك الرعب بعد الذي علموا من أمر خيبر، فتصالحوا على نصف أموالهم من غير قتال. فكانت خيبر للمسلمين لأنهم قاتلوا لاستخلاصها، وكانت فدك خالصة لمحمد لأن المسلمين لم يجلبوا عليها بخيل ولا ركاب.

وتجهَّز الرسول بعد ذلك كله للعود إلى المدينة عن طريق وادي القرى؛ فتجهَّز يهودها لقتال المسلمين، وقاتلوا. لكنهم اضطروا إلى الإذعان والصلح كما صنعت خيبر. أما يهود تيماء فقبلوا الجزية من غير حرب ولا قتال. وبذلك دانت اليهود كلها لسلطان النبي، وانتهى كل ما كان لهم من سلطان في شبه الجزيرة، وأصبح محمد بمأمن من ناحية الشمال إلى الشام، كما صار من قبل ذلك بمأمن من ناحية الجنوب بعد صلح الحديبية. وبانهيار سلطان اليهود خفت بغضاء المسلمين، والأنصار منهم خاصةً، لهم، وتغاضوا عن رجوع بعضهم إلى يثرب، ووقف النبي مع اليهود الذين بكوا عبد الله بن أبيٍّ وعزَّى ابنه؛ وأوصى معاذ بن جبل بألا يفتن اليهود عن يهوديتهم؛ ولم يفرض الجزية على يهود البحرين وإن ظلوا متمسكين بدين آبائهم؛ وصالح بني غازية وبني عريض على أن لهم الذمة وعليهم الجزية.

وعلى الجملة دان اليهود لسلطان المسلمين، وتضعضع في بلاد العرب مركزهم حتى اضطروا إلى مهاجرة تلك البلاد وكانوا من قبل بها أعزة، وحتى تم جلاؤهم في حياة الرسول على قول، وبعد وفاته على قول آخر.

على أن إذعان أهل خيبر وسائر اليهود لمصيرهم في شبه الجزيرة، لم يقع مرة واحدة بعد هزيمتهم، بل لقد كانت نفوسهم في أثر الهزيمة ملأى بالغل والغضب أخبث الغضب. أهدت زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم إلى محمد شاة — بعد أن اطمأن وبعد أن وقع الصلح بينه وبين أهل خيبر — فجلس وأصحابه حولها ليأكلوها، وتناول عليه السلام فلاك منها مضغة فلم يسغها، وكان بشر بن البراء معه قد تناول منها مثل ما تناول. فأما بشر فأساغها وازدردها. وأما الرسول فلفظها وهو يقول: إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم. ثم دعا بزينب فاعترفت وقالت: لقد بلغت من قومي ما لم يخف عليك فقلت: إن كان ملكًا استرحت منه، وإن كان نبيًّا فيسخبر. ومات بشر من أكلته هذه.

وقد اختلف الرواة، فذكر أكثرهم أن النبي عفا عن زينب وقدَّر لها عذرها بعد الذي أصاب أباها وزوجها. وذكر بعضهم أنها قتلت في بشر الذي مات مسمومًا.

وقد تركت فعلة زينب في نفوس المسلمين أعمق الأثر، وجعلتهم في أعقاب خيبر لا يثقون باليهود، بل يخشون غدرهم أفرادًا بعد أن قُضِي على جماعتهم القضاء الأخير. كانت صفية ابنة حيي بن أخطب النضيرية من بين السبايا اللائي أخذ المسلمون من حصون خيبر، وكانت زوجًا لكنانة بن الربيع، وكان عند كنانة مما يعرف المسلمون كنز بني النضير. فسأله النبي عنه فأقسم لا يعرف مكانه. فقال له محمد: إن وجدناه عندك أأقتلك؟ قال: نعم. وكان أحدهم قد رأى كنانة يطوف بخربة وذكر أمره للنبي، فأمر بالخربة فحفرت فأخرج منها بعض الكنز، فقتل في إنكاره. فلما خلصت صفية إلى المسلمين وصارت بين الأسرى، قيل للنبي: «صفية سيدة بني قريظة والنضير لا تصلح إلا لك.» فأعتقها وتزوجها مقتفيًا بذلك أثر الفاتحين العظماء الذين كانوا يتزوجون من بنات عظماء الممالك التي يفتحونها ليخففوا من مصابهم ويحفظوا من كرامتهم.

وقد خشي أبو أيوب خالد الأنصاري أن تتحرك في نفسها الضغينة على الرسول الذي قتل أباها وزوجها وقومها؛ لذلك بات حول الخيمة التي أعرس فيها محمد بصفية في طريق عودته من خيبر متوشحًا بسيفه. فلما أصبح الرسول ورآه سأله: ما لَكَ؟ قال: خفت عليك من هذه المرأة وقد قتلتَ أباها وزوجها وقومها وقد كانت حديثة عهد بكفر. على أن صفية أقامت على الوفاء لمحمد حتى قبضه الله إليه. وقد اجتمع نساؤه حوله في مرضه الأخير؛ فقالت صفية: أما والله يا نبي الله لوددت أن الذي بك بي. فتغامز بها أزواج النبي. فقال لهن: مضمضن. قلن: من أي شيء يا نبي الله؟ قال: من تغامزكن بصاحبتكن، والله إنها لصادقة. وبقيت صفية بعد النبي حتى خلافة معاوية، وفيها توفيت ودُفنت بالبقيع.

ماذا فعل الله بالرسل الذين أوفدهم محمد إلى هرقل وكسرى والنجاشي وغيرهم من الملوك المحيطين ببلاد العرب؟! هل سافروا قبل غزوة خيبر، أو هم حضروها حتى تم النصر للمسلمين فيها ثم سافروا من بعدها كلٌّ إلى ناحيته؟ يختلف المؤرخون في ذلك اختلافًا كبيرًا يصعب معه القطع في الأمر بقول. وأكبر ظننا أنهم لم يسافروا جميعًا في وقت واحد، وأن منهم من سافر قبل خيبر ومنهم من سافر بعدها. فقد جاء في غير رواية أن دحية بن خليفة الكلبي حضر خيبر وهو مع ذلك الذي ذهب برسالة هرقل. سافر إليه وكان هرقل يومئذ عائدًا يحفُّ به النصر بعد أن تغلب على الفرس واستنقذ منهم الصليب الأعظم الذي أخذ من بيت المقدس، وآن له أن يتم نذره وأن يحج إلى بيت المقدس ماشيًا ليرد الصليب الأعظم إلى مكانه، وكان قد بلغ من سياحته مدينة حمص حين حمل الخطاب إليه. هل حمله إليه جماعة من رجاله بعد أن أسلم دحية الخطاب إلى عامله على بصرى، أو أنه اطلع عليه بعد أن أدخل جماعة من البدو ودحية على رأسهم يقدم إليه الكتاب بنفسه؟ هذا ما تضطرب الرواية كذلك حوله. وتُلِيَ الخطاب عليه وترجم له، فلم يغضب ولم تثر ثائرته، ولم يفكر في إرسال جيش يغزو بلاد العرب، بل رد على الرسالة ردًّا حسنًا جعل بعض المؤرخين يزعمون خطأً أنه أسلم.

وفي الوقت نفسه بعث الحارث الغساني إلى هرقل يخبره أن رسولًا جاءه من محمد بكتاب، رأى هرقل شبهه بالكتاب الذي أرسل إليه يدعوه إلى الإسلام ويستأذن الحارث في أن يقوم على رأس جيش لمعاقبة هذا المدعي النبوة. لكن هرقل رأى الخير في أن يكون الحارث ببيت المقدس حين زيارته إياه ليزيد في جلال الحفلات برد الصليب إليه، ولم يعبأ بهذا الداعي إلى دين جديد، ولم يدر بخلده أنه لن تمضي سنوات قليلة حتى يكون بيت المقدس وتكون الشام في ظل الراية الإسلامية، وأن العاصمة الإسلامية ستنتقل إلى دمشق، وأن النضال بين دول الإسلام والإمبراطورية الرومية لن تهدأ ثائرته حتى يستولي الأتراك على القسطنطينية في سنة ١٤٥٣م، وحتى يحيلوا كنيستها الكبرى مسجدًا يكتب فيه اسم هذا النبي الذي حاول هرقل أن يظهره مظهر من لا يحفل به أو يعنى بأمره، وأن تظل هذه الكنيسة مسجدًا عدة قرون حتى يحيلها المسلمون الأتراك متحفًا للفن البزنطي.

أما كسرى عاهل الفرس فإنه ما لبث حين تُلِيَ عليه كتاب محمد يدعوه إلى الإسلام أن استشاط غضبًا وشق الكتاب، وكتب إلى بازان عامله على اليمن يأمره بأن يبعث إليه برأس هذا الرجل الذي بالحجاز. ولعله كان يحسب في هذا ما يخفف من آثار هزائمه أمام هرقل. فلما بلغت النبي مقالة كسرى وما فعل بكتابه قال: مزق الله ملكه. وأوفد بازان رسله برسالة إلى محمد. وفي هذه الأثناء كان كسرى قد خلفه شيرويه. وكان النبي قد عرف ذلك فأخبر رسل بازان به، وطلب إليهم أن يكونوا رسله إلى بازان يدعونه إلى الإسلام. وكان أهل اليمن قد عرفوا ما حل بفارس من هزائم وقد شعروا بانحلال سلطانها عنهم، وقد اتصلت بهم انتصارات محمد على قريش وقضاؤه على سلطة اليهود. فلما رجع رسل بازان إليه وأبلغوه رسالة النبي، كان سعيدًا بأن يُسلم وأن يبقى عامل محمد على اليمن. وماذا ترى يطلب محمد إليه وما تزال مكة بينه وبينه؟ إذن فله الغنم بعد أن تقلص ظل فارس في أن يحتمي بالقوة الناشئة الجديدة في بلاد العرب من غير أن تطلب إليه هذه القوة شيئًا.

ولعل بازان لم يقدر يومئذ أن انضمامه إلى محمد كان نقطة ارتكاز قوية للإسلام في جنوب شبه الجزيرة، كما دلت الأحوال عليه بعد عامين اثنين.

وكان رد المقوقس عظيم القبط في مصر غير رد كسرى، بل كان أجمل من رد هرقل. فقد بعث إلى محمد يخبره أنه يعتقد أن نبيًّا سيظهر، ولكنه سيظهر في الشام، وأنه استقبل رسوله بما يجب له من إكرام، وأنه بعث معه بهدية: جاريتين وبغلة بيضاء وحمار ومقدار من المال وبعض خيرات مصر. أما الجاريتان فمارية التي اصطفاها النبي لنفسه والتي ولدت له إبراهيم من بعد، وسيرين التي أهديت إلى حسان بن ثابت، وأما البغلة فأسماها النبي دُلْدَل، وكانت فريدة ببياضها بين البغال التي رأتها بلاد العرب. وأما الحمار فأُسمي غُفيرًا أو يعفورًا. وقبل محمد هذه الهدية، وذكر أن المقوقس لم يُسلم خشية أن يسلبه الروم ملك مصر، وأنه لولا ذلك لآمن ولكان من حظه الهدى.

وكان طبيعيًّا، بعد الذي عرفنا من صلات نجاشي الحبشة بالمسلمين، أن يكون رده جميلًا، حتى لقد ورد في بعض الروايات أنه أسلم وإن أثارت طائفة من المستشرقين الشك حول إسلامه هذا. على أن الرسول بعث له غير كتاب دعوته إلى الإسلام بكتاب آخر يطلب إليه رد المسلمين الذين أقاموا بالحبشة إلى المدينة. وقد جهَّز لهم النجاشي سفينتين حملتاهم وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب ومعهم أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان بعد أن مات زوجها عبد الله بن جحش الذي جاء إلى الحبشة مسلمًا ثم تنصر وبقي على نصرانيته حتى مات. وقد أصبحت أم حبيبة بعد عودتها من الحبشة من أزواج النبي ومن أمهات المؤمنين. ذكر بعض المؤرخين أن النبي تزوجها ليرتبط مع أبي سفيان برابطة النسب توكيدًا لعهد الحديبية. ورأى آخرون في زواج رملة من محمد وأبو سفيان على وثنيته، ما تألم له نفسه ويغص به حلقه.

وأما أمراء العرب فقد رد أمير اليمن وعمان على رسالة النبي ردًّا فاحشًا، ورد أمير البحرين ردًّا حسنًا وأسلم. ورد أمير اليمامة مظهرًا استعداده للإسلام إذا هو نصب حاكمًا؛ فلعنه النبي لمطامعه. ويذكرون أنه لم يلبث إلا عامًا بعد ذلك ثم مات.

يستوقف القارئ ما في إجابات أكثر هؤلاء الملوك والأمراء من رفق ومن حسن رأي، وأنه لم يقتل أحد من رسل محمد ولم يسجن، بل عادوا إليه كلهم بما حملوا من رسالات في أكثرها رقة وعطف، وفي بعضها غلظة وشدة. فكيف تلقى أولئك الملوك رسالة الدين الجديد من غير أن يتألبوا على صاحب الدعوة، ومن غير أن يتضافروا على سحقه؟ ذلك أن عالم يومئذ كان كعالمنا الحاضر، قد طغت فيه المادة على الروح، وأصبح فيه الترف غاية الحياة، وأصبحت الأمم تقتل حبًّا في الظفر، وإرضاءً لمطامع ملوكها وسادتها، وشفاءً لغرور أنفسهم، أو طمعًا في مزيد من الترف تبلغه وتستمتع به. ومثل هذا العالم تهوي فيه العقيدة إلى شعائر تقام في العلن ولا تؤمن النفوس التي تؤديها بشيء مما وراءها، ولا تُعنى إلا بأن تكون في حكم صاحب السلطان الذي يطعمها ويكسوها ويكفل لها رخاء العيش وعرض الجاه وكثرة المال. ولا تستمسك بهذه الشعائر إلا بمقدار ما تدر عليها من خير مادي.

فإذا فاتها هذا الخير، خارت عزيمتها، وتضعضعت همتها، ووهنت فيها قوة المقاومة؛ ولذلك لم يلبث الناس حين سمعوا دعوة جديدة للإيمان فيها بساطة وفيها قوة، وفيها مساواة أمام رب واحد، إياه نعبد وإياه نستعين، هو وحده الذي يملك ضر النفوس ونفعها، شعاع من رضاه يبدد غضب ملوك الأرض جميعًا، ومخافة غضبه تزعزع النفس وإن أغرقها الملوك كلهم في النعمة والرضا، والرجاء في مغفرته متصل لمن تاب وآمن وعمل صالحًا — لم يلبث الناس حين سمعوا هذه الدعوة، ورأوا صاحبها يقوى بها على الاضطهاد، وعلى الظلم، وعلى التعذيب، وعلى كل ما في الحياة المادية من قوى، ويمتد بها سلطانه، وهو اليتيم الفقير المحروم، إلى ما لم يحلم به أحد من قبله في بلده ولا بلاد العرب كلها، حتى اشرأبت الأعناق، وأرهفت الآذان، وشعرت النفوس بظمئها، وتطلعت الأرواح لمورد ريها، لولا بقية من الخوف والشك تقوم بينها وبين الحقيقة حجابًا. لذلك رد من رد من الملوك في رفق ورقة. وبذلك ازداد المسلمون إيمانًا على إيمانهم وقوةً في يقينهم.

عاد محمد من خيبر وعاد جعفر والمسلمون معه من الحبشة، وعاد رسل محمد من حيث أوفدهم، والتقوا جميعًا بالمدينة كرةً أخرى، والتقوا ليقضوا بقية عامهم هذا مشوقين ليوم في العام القابل يحجون فيه إلى مكة يدخلونها آمنين محلِّقين رءوسهم ومقصِّرين لا يخافون. وقد بلغ من غبطة محمد بلقيا جعفر أن ذكر أنه لا يدري بأي هو أشد اغتباطًا: بالنصر على خيبر أو بلقيا جعفر. وفي هذه الفترة تجري القصة التي تروى أن اليهود سحروا محمدًا بفعل لبيد، حتى كان يحسب أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله. وهي قصة اضطربت فيها الروايات اضطرابًا شديدًا يؤيد رأي القائل بأنها محض اختراع لا شيء فيها من الحق.

وأقام المسلمون آمنين بالمدينة، مستمتعين بالعيش، ناعمين بفضل من الله ورضوان، لا يفكرون من أمر الغزو في أكثر من إرسال بعض السرايا لمعاقبة من يفكر في الاعتداء على حقهم أو سلب شيء من مالهم ومتاعهم. فلما استدار العام، وكانوا في ذي القعدة خرج النبي في ألفين من رجاله لعمرة القضاء نفاذًا لعهد الحديبية، وإطفاءً لظمأ هذه النفوس الشديدة الظمأ لأداء فرائض البيت العتيق.

١  سورة البقرة آية ٢١٩.
٢  سورة النساء آية ٤٣.
٣  سورة المائدة آيتا ٩٠ و٩١.
٤  سورة المائدة آية ٩٣.
٥  اختلف في وزن هذه الكلمة ومعناها. ومن معاني الأريسيين الخدم والحشم. يريد أنه مسئول عن إثم رعيته لصده إياهم عن الدين. (راجع نهاية ابن الأثير ومعجمات اللغة مادة «أرس»).
٦  سورة الفتح آية ١٥.
٧  تحرب: تغضب، يقال: حربه إذا أغضبه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤