الفصل الثالث والعشرون

غزوة مؤتة

(اتجاه نظر محمد إلى الشام – توجيهه ثلاثة آلاف لغزوها – لواؤهم لزيد بن حارثة، فإن أصيب فلجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فلعبد الله بن رواحة – الروم في مائة ألف أو مائتي ألف – التقاء الجيشين بمؤتة – موت الثلاثة أصحاب اللواء على التعاقب – الراية لخالد بن الوليد – مداورته وانسحابه)

***

لم يكن محمد يستعجل فتح مكة وهو يعلم أن الزمن في صفه، كما أن عهد الحديبية لم يكن قد مضى عليه غير عام واحد، ولم يكن قد جدَّ ما يوجب نقضه. ومحمد رجل وفاء لا ينقض كلمة قال ولا عهدًا عقد. لذلك ذهب إلى المدينة فأقام بضعة أشهر لم تقع خلالها غير مناوشات صغيرة؛ كإرسال خمسين رجلًا إلى بني سليم ليدعوهم إلى الإسلام وغدر بني سليم بهم وقتلهم إياهم بغيًا بغير حق، حتى لم ينج رئيسهم إلا بمحض المصادفة؛ وكغزو جماعة من بني الليث والظفر بهم والغنم منهم؛ وكمعاقبة بني مُرة على ما غدروا من قبل، وكإرسال خمسة عشر رجلًا إلى ذات الطلح على حدود الشام يدعون إلى الإسلام دعوة كان جزاؤهم عنها القتل لم ينج منهم إلا رئيسهم. وقد كانت ناحية الشام وهذه الجهات الشمالية متجه نظر النبي منذ أمن الجنوب بعهده مع قريش وبإذعان عامل اليمن لدعوته؛ ذلك أنه كان يتوسم طريق انتشار دعوته إلى الإسلام أول مغادرتها حدود شبه الجزيرة، فيرى الشام والبلاد المجاورة هي المنفذ الأول لهذه الدعوة. لذلك لم تمض أشهر على مقامه بالمدينة بعد عوده من عمرة القضاء حتى وجَّه ثلاثة آلاف هم الذين قاتلوا في مؤتة مائة ألف في رواية، ومائتي ألف في رواية أخرى.

ويختلف الرواة في سبب غزوة مؤتة هذه؛ فيذهب بعضهم إلى أن قتل أصحابه في ذات الطلح كان سبب الغزو لتأديب هؤلاء الغادرين، ويذهب آخرون إلى أن النبي أرسل رسولًا من رسله إلى عامل هرقل على بصرى وأن أعرابيًّا من غسَّان قتل هذا الرسول باسم هرقل، فبعث محمد بالذين قاتلوا في مؤتة لتأديب هذا العامل ومن ينصره.

وكما كان عهد الحديبية مقدمة عمرة القضاء ففتح مكة، كانت غزوة مؤتة مقدمة تبوك وما كان بعد وفاة النبي من فتح الشام. وسواء أكان السبب الذي أدى إلى غزوة مؤتة هو قتل رسول النبي إلى عامل بصرى أم قتل رجاله الخمسة عشر في ذات الطلح، فإنه عليه السلام دعا إليه، في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة (سنة ٦٢٩م)، ثلاثة آلاف من خيرة رجاله، واستعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال: «فإن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب على الناس، وإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس.» وخرج هذا الجيش وخرج معه خالد بن الوليد متطوعًا ليدل بحسن بلائه في الحرب على حسن إسلامه. وودع الناس أمراء الجيش والجيش، وسار محمد معهم حتى ظاهر المدينة، يوصيهم ألا يقتلوا النساء ولا الأطفال ولا المكفوفين ولا الصبيان، ولا يهدموا المنازل ولا يقطعوا الأشجار.

ودعا عليه السلام ودعا المسلمون لهذا الجيش قائلين: صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا سالمين! وكان أمراء الجيش كلهم يفكرون في أخذ القوم من أهل الشام على غرة منهم، على عادة النبي في سابق غزواته، فيسرع إليهم النصر ويعودون بالغنيمة. وسار القوم حتى بلغوا معان من أرض الشام وهم لا يعلمون ما هو ملاقيهم. لكن أنباء مسيرتهم كانت قد سبقتهم. فقام شرحبيل عامل هرقل على الشام فجمع جموع القبائل ممن حوله، وأوفد من جعل هرقل يمده بجيوش من الإغريق ومن العرب. وتذهب بعض الروايات إلى أن هرقل نفسه تقدم بجيوشه حتى نزل مآب من أرض البلقاء على رأس مائة ألف من الروم، كما انضم إليه مائة ألف أخرى من لخم وجذام والقين وبهراء وبليَّ.

ويقال إن تيودور أخا هرقل هو الذي كان على رأس هذه الجيوش لا هرقل نفسه. وبلغ المسلمين وهم بمعان أمر هذه الجموع، فأقاموا بها ليلتين يفكرون ماذا يصنعون أمام هذا العدد الذي لا قبل لهم به. قال قائل منهم: نكتب إلى رسول الله فنخبره بعدد عدونا؛ فإما يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له. وكاد هذا الرأي يسود لولا أن تقدم عبد الله بن رواحة — وكان إلى جانب شهامته وفروسيته شاعرًا — فقال: يا قوم، والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به؛ فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة. وامتدت عدوى النخوة من الشاعر الشجاع إلى الجيش كله؛ فقال الناس: فوالله صدق ابن رواحة! ومضوا، حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية يقال لها مشارف. فلما دنا العدو انحاز المسلمون إلى قرية مؤتة أن رأوها خيرًا من مشارف لتحصنهم بها. وفي مؤتة بدأت المعركة حامية الوطيس بين مائة أو مائتي ألف من جيوش هرقل وثلاثة آلاف من المسلمين.

يا لجلال الإيمان وروعة قوته! حمل زيد بن حارثة راية النبي واندفع بها في صدر العدو وهو موقن أن ليس من موته مفر. لكن الموت في هذا المقام هو الاستشهاد في سبيل الله! وليس إلا الاستشهاد دون النصر والظفر مكانًا. وحارب زيد حرب المستميت حتى مزقته رماح العدو فتناول الراية من يده جعفر بن أبي طالب، وهو يومئذ في الثالثة والثلاثين من عمره، وهو شاب تعدل وسامته شجاعته. وقاتل جعفر بالراية، حتى إذا أحاط العدو بفرسه اقتحم عنها فعقرها، واندفع بنفسه وسط القوم منطلقًا انطلاقة السهم يهوي سيفه برءوسهم حيثما وقع. وكان اللواء بيمين جعفر فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قُتِل. يقال إن رجلًا من الروم ضربه يومئذ ضربة قطعته نصفين. فلما قتل جعفر أخذ ابن رواحة الراية، ثم تقدم بها وهو على فرسه؛ فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد ثم قال:

أقسمت يا نفس لتنزلنه
لتنزلن أو لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنة
ما لي أراك تكرهين الجنة

ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل.

هؤلاء زيد وجعفر وابن رواحة استشهدوا ثلاثتهم في سبيل الله في موقعة واحدة. لكن النبي لما علم بخبرهم كان على زيد وجعفر أكبر أسى، وقال: لقد رفعوا إليَّ الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارًا عن سرير صاحبيه؛ فسأل: لم هذا؟ فقيل: مضيا، وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى. أترى إلى هذه العبرة والموعظة الحسنة؟! فإنما معناها أن المؤمن لا يجوز له أن يتردد أو يخاف الموت في سبيل الله؛ بل يجب عليه، كلما مضى في أمر يؤمن بأنه لله والوطن، أن يحمل حياته على كفِّه، وأن يلقي بها في وجه من يقف في سبيله؛ فإما فاز وظفر فبلغ ما يؤمن به من حق الله والوطن، وإما استشهد فكان المثل الحي لمن بعده والذكر الباقي لروح عظيم عرف أن قيمة الحياة ما يضحَّى بالحياة في سبيله، وأن الإمساك على الحياة في مذلة إهدار للحياة، فما يستحق صاحبها بعد ذلك في الحياة ذكرًا؛ وأن الرجل يلقي بيديه إلى التهلكة إذا هو عرَّض حياته تعريضًا تذهب معه ضحية غرض وضيع، وأنه كذلك يلقي بيديه إلى التهلكة إذا هو أمسك على حياته حين يدعوه داعي الحق جل شأنه ليقذف بها في وجه الباطل ليسحقه، فيواريها هو بالحجاب ويخاف عليها الموت خوفًا هو شر من الموت.

وإذا كان التردد القليل من ابن رواحة مع إقدامه بعد ذلك واستشهاده، قد جعله في غير مكانة زيد وجعفر اللذين اقتحما صفوف الموت اقتحامًا وطارا للاستشهاد فرحًا، فما بالك بالذي ينكص على عقبيه طمعًا في جاه أو مال أو غرض من أغراض الحياة؟! إنه إذن للحشرة الحقيرة وإن عرُض عند السواد جاهه، وإن بز مالَ قارون مالُه. وهل لنفس إنسانية أن تغتبط حقًّا لشيء اغتباطها للتضحية في جانب ما تؤمن بأنه الحق، حتى تنتهي من ذلك إلى الاستشهاد في سبيل الحق، أو إلى تمليك الحق الحياة؟!

قُتل ابن رواحة بعد تردد ثم إقدام، فأخذ الراية ثابت بن أرقم أحد بني العجلان، فقال: يا معشر المسلمين، اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل. فاصطلح الناس على خالد بن الوليد. فأخذ خالد الراية مع ما رأى من تفرُّق صفوف المسلمين وتضعضع قوتهم المعنوية. وكان خالد قائدًا ماهرًا ومحركًا للجيوش قل نظيره. لذلك أصدر أوامره، فداور بالمسلمين حتى ضم صفوفهم، ووقف من محاربة العدو عند مناوشات امتدت به حتى أرخى الليل سدوله، ووضع الجيشان السلاح إلى الصباح. أثناء ذلك أحكم خالد تدبير خطته، فوزَّع عددًا غير قليل من رجاله في خط طويل من مؤخرة جيشه أحدثوا، إذا أصبح الناس، من الجلبة ما أدخل في روع عدوِّه أن مددًا جاءه من عند النبي. وإذا كان ثلاثة آلاف قد فعلوا بالروم الأفاعيل في اليوم الأول وقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وإن لم يستطيعوا أن يثبتوا، فما عسى أن يصنع هذا المدد الذي جاء لا يدري أحد عدَّته! لذلك تقاعس الروم عن مهاجمة خالد وسروا بعدم مهاجمته إياهم، وكانوا أكثر سرورًا بانسحابه ومن معه راجعين إلى المدينة، بعد معركة لم ينتصر فيها المسلمون وإن كان حقًّا كذلك أن عدوهم لم ينتصر عليهم فيها.

لذلك ما كاد خالد والجيش معه يدنون من المدينة حتى تلقاهم محمد والمسلمون معه. وطلب محمد فأتي بعبد الله بن جعفر فأخذه وحمله بين يديه. أما الناس فجعلوا يحثون على الجيش التراب ويقولون. يا فُرَّار، فررتم في سبيل الله! فيقول رسول الله: ليسوا بالفرَّار، ولكنهم الكرار إن شاء الله. ومع هذه التأسية من محمد للعائدين من مؤتة فقد ظل المسلمون لا يغفرون لهم انسحابهم وعودهم، حتى كان سلمة بن هشام لا يحضر الصلاة مع المسلمين خشية أن يسمع من كل من رآه: يا فرَّار فررتم في سبيل الله. ولولا ما كان بعد ذلك من فعال هؤلاء الذين حضروا مؤتة، ومن فعال خالد بنوع خاص، لظلت مؤتة معتبرة بعض ما لطَّخ به إخوانهم في الدين جبينهم من عار الفرار.

وقد بلغ الألم من نفس محمد منذ علم بقتل زيد وجعفر، وحز الأسى في نفسه من أجلهما. لما أصيب جعفر ذهب محمد إلى منزله ودخل على زوجه أسماء بنت عميس، وكانت قد عجنت عجينها وغسلت بنيها ودهنتهم ونظفتهم، فقال لها: ائتيني ببني جعفر. فلما أتته بهم تشممهم وذرفت عيناه الدمع. قالت أسماء في لهف وقد أدركت ما أصابها: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: نعم أصيبوا هذا اليوم! وازدادت عيناه بالدمع تهتانًا. فقامت أسماء تصيح حتى اجتمع النساء إليها. أما محمد فخرج إلى أهله فقال: لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعامًا فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم. ورأى ابنة مولاه زيد قادمة فربَّت على كتفيها وبكى. وأظهر بعضهم دهشة لبكاء الرسول على من استشهد؛ فقال ما معناه: إنما هي عبرات الصديق يفقد صديقه.

وفي رواية أن جثة جعفر حُملت إلى المدينة ودفنت بها بعد ثلاثة أيام من وصول خالد والجيش إليها. ومن يومئذ أمر الرسول الناس أن يكفوا عن البكاء؛ فقد أبدل الله جعفرًا من يديه اللتين قطعتا جناحين طار بهما إلى الجنة.

أراد محمد بعد أسابيع من عود خالد أن يسترد هيبة المسلمين في شمال شبه الجزيرة، فبعث عمرو بن العاص يستنفر العرب إلى الشام؛ ذلك أن أمًّا له كانت من قبائل تلك النواحي، فكان من اليسير عليه أن يتألفهم. فلما كان على ماء بأرض جُذام يقال له السلسل، خاف فبعث إلى النبي يستمده، فأمده بأبي عبيدة بن الجراح في المهاجرين الأولين فيهم أبو بكر وعمر. وخاف محمد أن يختلف عمرو، وهو حديث عهد بالإسلام، مع أبي عبيدة من المهاجرين الأولين؛ فقال لأبي عبيدة حين وجهه: لا تختلفا. وقال عمرو لأبي عبيدة: إنما جئت مددًا لي فأنا على قيادة الجيش. وكان أبو عبيدة رجلًا لينًا سهلًا هينًا عليه أمر الدنيا، فقال لعمرو: لقد قال رسول الله: لا تختلفا، وإنك إن عصيتني أطعتك. وصلى عمرو بالناس، وتقدَّم بالجيش فشتت جموع أهل الشام الذين أرادوا محاربته، وأعاد بذلك هيبة المسلمين في تلك الناحية.

وفي هذه الأثناء كان محمد يفكر في مكة ومآلها. لكنه كما قدَّمنا، كان وفيًّا بعهد الحديبية، فأقام ينتظر انقضاء السنتين. وجعل أثناء ذلك يبعث السرايا ليسكن بها ثائرة القبائل التي تحدِّثها نفوسها بالثورة. على أنه كان في غير حاجة إلى كبير عناء من هذه الناحية؛ فقد بدأت الوفود ترد إليه من مختلف النواحي تعلن إليه طاعتها وإذعانها. وإنه لكذلك إذ حدث ما كان مقدِّمة لفتح مكة، ولاستقرار الإسلام بها استقرارًا أسبغ عليها إلى أبد الدهر أعظيم التقديس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤