الفصل السابع والعشرون

تبوك وموت إبراهيم

(الخراج وجبايته – أنباء تهيؤ الروم – نفير محمد في المسلمين ليتهيئوا للقتال بالشام – الخوالف المنافقون – شدة محمد معهم – الجيش العرم – في لظى الطريق إلى الشام – انسحاب الروم خوفًا من محمد – عهده ليوحنا والأمراء الحدود – العود إلى المدينة – مرض إبراهيم ووفاته وبكاء محمد إياه)

***

لم يغير هذا الحادث المنزلي وهذا الإضراب والاضطراب بين النبي وأزواجه من سير الشئون العامة شيئًا. وكانت الشئون العامة بعد فتح مكة وإسلام أهلها قد بدأ يتضاعف خطرها، وقد بدأت العرب جميعًا تحس جلال هذا الخطر. فالبيت الحرام كان بيت العرب المقدس يحجون إليه منذ أجيال طويلة. وهذا البيت الحرام وما يتصل به من سدانة ورفادة وسقاية وما يتصل بالحج من مختلف الشعائر، قد أصبح في حكم محمد وفي حكم الدين الجديد. فلا جرم إذن أن تزداد شئون المسلمين العامة لفتح مكة، وأن يزداد المسلمون إحساسًا بسلطانهم في كل ناحية من شبه الجزيرة. وازدياد الشئون العامة يحتاج بطبعه إلى مزيد في النفقات العامة. لذلك لم يكن بد من أن يدفع المسلمون زكاة العشر، وأن يدفع العرب الذين أصروا على جاهليتهم ما يُفرض عليهم من خراج. قد يحرجهم ذلك، وقد يدعوهم إلى التذمر وإلى أكثر من التذمر؛ لكن ما اتصل بالدين الجديد من نظام في شبه الجزيرة جديد لم يجعل من جمع العشر والخراج مخرجًا.

ولهذه الغاية أوفد محمد عاشريه بعد قليل من عوده من مكة ليجمعوا له عشر إيراد القبائل التي دانت للإسلام من غير أن يتعرضوا لأصول أموالها. وذهب كل واحد من هؤلاء وجهته، فتلقتهم القبائل بالترحاب ودفعت لهم زكاة العشر طيبة بدفعها نفوسهم؛ لم يند عن ذلك غير فرع من بني تميم وغير بني المصطلق … فبينما كان العاشر يقتضي قبائل في جوار بني تميم زكاة العشر وهم يدفعونها من إبلهم وأموالهم، سارعت إليه بنو العنبر (فخذ من بني تميم) قبل أن يطالبها بزكاتها تحمل نبالها وسيوفها وطردته من أرضها. فلما بلغ الخبر محمدًا بعث إليهم عيينة بن حصن على رأس خمسين فارسًا انقضوا عليهم في سر منهم ففروا، وأصاب المسلمون الأسرى والسبايا وهم يزيدون على خمسين رجلًا وامرأة وطفلًا وعادوا موفورين إلى المدينة، وحبس النبي هؤلاء الأسرى.

وكان من بني تميم جماعة أسلموا وقاتلوا إلى جانب النبي عند فتح مكة وفي حنين. وكان منهم من لا يزال على جاهليته. فلما عرفوا ما أصاب أصحابهم من بني العنبر أرسلوا إلى النبي وفدًا من أشرافهم نزلوا إلى المدينة ودخلوا المسجد ونادوا النبي من وراء حُجراته أن اخرج إلينا يا محمد. وآذى نداؤهم النبي، فما كان ليخرج إليهم لولا أن أذِّن لصلاة الظهر. فلما رأوه ذكروا ما صنع عيينة بأهلهم، كما ذكروا ما كان لمن أسلم منهم من جهاد إلى جانبه، وما لقومهم من مكانة بين العرب. ثم قالوا له: إنا جئناك نفاخرك. فأذن لشاعرنا وخطيبنا، فقام خطيبهم عطارد بن حاجب؛ فلما فرغ دعا رسول الله ثابت بن قيس ليرد عليه. ثم قام شاعرهم الزبرقان بن بدر فأنشد، وأجابه حسَّان بن ثابت. فلما انتهت المفاخرة، قال الأقرع بن حابس: وأبي إنَّ هذا الرجل لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا. وأسلم القوم؛ فأعتق النبي الأسرى وردهم إلى قومهم.

فأما بنو المصطلق فإنهم لما رأوا الصيرف فرَّ هاربًا خافوا عاقبة أمرهم، وأوفدوا إلى النبي من ذكر له أن الخوف في غير محل له هو الذي أدى إلى ما وقع من سوء الفهم.

ولم تكن ناحية من نواحي شبه الجزيرة إلا بدأت تحس سلطان محمد. ولم تحاول طائفة أو قبيلة أن تقاوم هذا السلطان إلا بعث النبي إليها قوة تحملها على الإذعان بدفع الخراج والبقاء على دينها، أو الإسلام ودفع الزكاة.

وفيما كانت عينه على بلاد العرب جميعًا حتى لا ينتقض فيها منتقض، وحتى يستتب الأمن في ربوعها من أقصاها إلى أقصاها، إذ اتصل به نبأ من بلاد الروم أنها تهيئ جيوشًا لغزو حدود العرب الشمالية غزوًا يُنسي الناس انسحاب العرب الماهر في مؤتة، ويُنسي الناس ذكر العرب وسلطان المسلمين الزاحف في كل ناحية ليتاخم سلطان الروم في الشام وسلطان فارس في الحيرة. واتصل به هذا النبأ مجسمًا أيما تجسيم. فلم يتردد هنيهة في تقرير مواجهة هذه القوى بنفسه، والقضاء عليها قضاءً يقضي في نفوس سادتها على كل أمل في غزو العرب أو في التعرض لهم. وكان الصيف لما ينته والقيظ في أوائل الخريف يصل إلى درجات تجعله أشد من قيظ الصيف في هذه الصحاري إرهاقًا وقتلًا. ثم إن الشقة من المدينة إلى بلاد الشام طويلة شاقة تحتاج إلى الجلد وتحتاج إلى المئونة وإلى الماء.

إذن لا مفر من أن يطالع محمد الناس بعزمه السير إلى الروم وقتالهم، حتى يأخذوا لذلك عُدتهم. ولا مفر من أن يخالف بذلك تقاليده في سابق غزواته، حين كان يتوجه في كثير من الأحيان بجيشه إلى غير الناحية التي إليها يقصد، تضليلًا للعدو حتى لا يفشو خبر مسيرته. وأرسل محمد في القبائل جميعًا يدعوها للتهيؤ كيما تُعد أكبر جيش يمكن إعداده، وأرسل إلى أثرياء المسلمين ليشاركوا في تجهيز هذا الجيش بما آتاهم الله من فضله، وليحرِّضوا الناس على الانضمام إليه حتى يكون من الأهبة بما يدخل الروع في نفوس الروم الذين عرفوا بوفرة عُدتهم وكثرة عديدهم.

بم عسى أن يستقبل المسلمون هذه الدعوة إلى هجر أبنائهم ونسائهم وأموالهم في شدة القيظ ليقطعوا فيافي وصحاري مجدبة قليلة الماء، ثم ليلقوا عدوًّا غلب الفرس ولم يقهره المسلمون؟! أفيدفعهم إيمانهم وحبهم للرسول وشديد تعلقهم بدين الله إلى الإقبال على دعوته متدافعين بالمناكب حتى يضيق بهم فضاء الصحراء، دافعين أمامهم أموالهم وإبلهم، مدرعين بسلاحهم مثيرين أمامهم من النقع ما إن يكاد يبلغ العدو نبؤه حتى يولي الأدبار لا يلوي على شيء؟ أم تمسكهم مشقة الطريق وشدة الحر ومخافة الجوع والعطش فيتقاعسون ويتراجعون؟ لقد كان في المسلمين يومئذ من هؤلاء وأولئك: كان فيهم أولئك الذين أقبلوا على الدين بقلوب ممتلئة هدًى ونورًا. ونفوس غمرها ضياء الإيمان فلا تعرف غيره، وكان فيهم من دخل دين الله رغبًا ورهبًا؛ رغبًا في مغانم الحرب بعد أن أصبحت قبائل العرب كلها لا تثبت أمام غزو المسلمين فتسلم لهم وتؤدي إليهم الجزية عن يد وهي صاغرة، ورهبًا من هذه القوة التي تضرب أمامها كل قوة، ويخشى سلطانها كل ملك. فأما الأولون فأقبلوا يلبون دعوة رسول الله خفافًا مسرعين. ومنهم الفقير الذي لا يجد الدابة يحمل نفسه عليها، ومنهم الغني ماله بين يديه يقدمه في سبيل الله راضية نفسه طامعًا في الاستشهاد والانحياز إلى جوار الله، وأما الآخرون فتثاقلوا وبدءوا يلتمسون الأعذار، وجعلوا يتهامسون فيما بينهم. ويهزءون بدعوة محمد إياهم لهذا الغزو النائي في ذلك الجو المحرق. هؤلاء هم المنافقون الذين نزلت فيهم سورة التوبة، وفيها أعظم دعوة للجهاد وأشد تخويف من عذاب الله يصيب من تخلف عن إجابة رسوله.

قال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحر؛ فنزل قوله تعالى: وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.١
قال محمد للجد بن قيس أحد بني سلمة: «يا جدُّ، هل لك العام في جلاد بني الأصفر؟» فقال: «يا رسول الله، أوَتأذن لي ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عُجبًا بالنساء مني. وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر.» (وبنو الأصفر هم الروم). فأعرض عنه رسول الله. وفيه نزلت هذه الآية: وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي ۚ أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ۗ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ.٢

وانتهز الذين تنطوي قلوبهم على بغضاء محمد هذه الفرصة ليزيدوا المنافقين نفاقًا وليحرِّضوا الناس على التخلف عن القتال. هؤلاء لم ير محمد أن يتهاون معهم خيفة أن يستفحل أمرهم، ورأى أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. بلغه أن ناسًا منهم يجتمعون في بيت سويلم اليهودي، يثبطون الناس ويلقون في نفوسهم التخاذل والتخلف عن القتال؛ فبعث إليهم طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه، فحرَّق عليهم بيت سويلم، ففر أحدهم من ظهر البيت فانكسرت رجله، واقتحم الباقون النار فأفلتوا، ولكنهم لم يعودوا لمثلها، ثم كانوا مثلًا لغيرهم، فلم يجرؤ أحد بعدهم على مثل فعلهم.

وقد كان لهذه الشدة في أخذ المنافقين ومن معهم أثرها؛ فقد أقبل الأغنياء وذوو اليسار فأنفقوا نفقة عظيمة لتجهيز الجيش. أنفق عثمان بن عفان وحده ألف دينار، وأنفق كثيرون غيره، كلٌّ في حدود طاقته. وتقدم كلُّ قادر على نفقة نفسه بعدته ونفقته. وأقبل كثيرون من الفقراء يريدون أن يحملهم النبي معه، فحمل منهم من استطاع، واعتذر إلى الباقين وقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون. ولبكائهم هذا أطلق عليهم اسم البكائين. واجتمع لمحمد في هذا الجيش، الذي سمي جيش العسرة لشدة ما لاقى منذ يوم تكوينه، ثلاثون ألفًا من المسلمين.

اجتمع الجيش وقام أبو بكر فيه يؤم الناس للصلاة في انتظار عود محمد من تدبير شئون المدينة في أثناء غيبته. وقد استخلف عليها محمد بن مسلمة وخلف عليَّ بن أبي طالب على أهله وأمره بالإقامة فيهم، وأصدر ما رأى أن يصدر من الأوامر، ثم عاد إلى الجيش يتولى قيادته. وكان عبد الله بن أبيٍّ قد خرج في جيش من قومه يسير به إلى جانب جيش محمد. لكن النبي رأى أن يظل عبد الله وجيشه بالمدينة، لأنه كان بعد ضعيف الثقة به وبصحة إيمانه. وأمر فتحرك الجيش، وثار النقع، وصهلت الخيل، وارتقت نساء المدينة سقفها يشهدن هذا الجحفل الجرار، يتوجه مخترقًا الصحراء صوب الشام، مستهينًا في سبيل الله بالحر والظمأ والمسغبة، تاركًا وراءه القواعد والخوالف ممن آثروا الظل والنعمة واللذة على إيمانهم وعلى رضا الله عنهم.

ولقد حرَّك منظر الجيش يتقدمه عشرة آلاف فارس ومنظر النسوة مأخوذات بجلاله وقوَّته بعض نفوس لم تحركها دعوة الرسول فتقاعست ولم تتبعه. رجع أبو خيثمة بعد أن رأى هذا المنظر، فوجد امرأتين له قد رشت كل واحدة منهما عريشها وبردت له فيه ماءً وهيأ له فيه طعامًا. فلما رأى الرجل ما صنعتا قال: رسول الله في الضح والريح والحر وأبو خيثمة في ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم؟! هيئا لي زادًا حتى ألحق به. فهيأتا له زاده ولحق بالجيش. ولعل جماعة من الخوالف قد فعلوا فعل أبي خيثمة، بعد أن رأوا ما في التقاعس والخوف من شنار ومذلة.

وسار الجيش حتى بلغ الحجر، وبها أطلال لمنازل ثمود منقورة في الصخر. هنالك أمر رسول الله بالنزول، فاستقى الناس من بئرها. فلما راحوا قال لهم: لا تشربوا من مائها شيئًا ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فأعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئًا، ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له. ذلك أن المكان لم يكن أحد يمر به، وكان تعصف فيه أحيانًا عواصف الرمل تطمر الناس والإبل. ولقد خرج رجلان على خلاف أمر الرسول، فاحتملت أحدهما الريح وطمت الآخر الرمال. فلما أصبح الناس ألفوا هذه الرمال قد طمرت البئر فلم يبق بها ماء، ففزعوا خيفة الظمأ، وقدَّروا هول ما بقي من طول الطريق. وإنهم لكذلك إذ مرت بهم سحابة أمطرتهم، فارتووا وأصابوا من الماء ما شاءوا وزايلهم الفزع، وطار أكثرهم سرورًا، وأقبل بعض منهم على بعض يقولون إنها معجزة. أما آخرون فقالوا: إنما هي سحابة مارة.

وانطلق الجيش بعد ذلك قاصدًا تبوك، وكانت الروم قد بلغها أمر هذا الجيش وقوته، فآثرت الانسحاب بجيشها الذي كانت وجَّهت إلى حدودها ليحتمي داخل بلاد الشام في حصونها. فلما انتهى المسلمون إلى تبوك وعرف محمد أمر انسحاب الروم ونمى إليه ما أصابهم من خوف، لم ير محلًّا لتتبعهم داخل بلادهم.

وأقام عند الحدود يناجز من شاء أو ينازله أو يقاومه، ويعمل لكفالة هذه الحدود حتى لا يتخطى من بعد ذلك إليه أحد. وكان يوحنا بن رؤبة صاحب أيلة أحد الأمراء المقيمين على الحدود. ولقد وجَّه إليه النبي رسالة أن يذعن أو يغزوه فأقبل يوحنا وعلى صدره صليب من ذهب، وقدَّم الهدايا والطاعة، وصالح محمدًا وأعطاه الجزية، كما صالحه أهل الجرباء٣ وأذرح٤ وأعطوه الجزية.

وكتب رسول الله لهم كتب أمن، هذا نص أحدها — وهو ما كتب ليوحنا: «بسم الله الرحمن الرحيم هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله ليوحنة بن رؤبة وأهل أيلة سفنهم وسيارتهم في البر والبحر لهم ذمة الله ومحمد النبي ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر. فمن أحدث منهم حدثًا فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمحمد أخذه من الناس. وإنه لا يحل أن يمنعوا ماءً يردونه ولا طريقًا يريدونه من بر أو بحر.» وإيذانًا بالموافقة على هذا العهد أهدى محمد إلى يوحنا رداءً من نسج اليمن وأحاطه بكل صنوف الرعاية، بعد أن اتفق على أن تدفع أيلة جزية قدرها ثلاثمائة دينار في كل عام.

لم يبق محمد في حاجة إلى القتال بعد انسحاب الروم، وبعد معاهدة البلاد الواقعة على الحدود معه، وبعد أن أمنه عودة الجيوش البزنطية من هذه الناحية لولا خيفة انتقاض أكيدر بن عبد الملك الكندي النصراني أمير دومة،٥ ومعاونته جيوش الروم إذا جاءت من ناحيته. ولذلك بعث النبي إليه خالد بن الوليد في خمسمائة فارس وانقلب بجيشه راجعًا إلى المدينة. وأسرع خالد بالانتقاض على دومة في غفلة من مليكها الذي خرج في ليلة مقمرة ومعه أخ له يسمى حسَّان يطاردان بقر الوحش. ولم يلق خالد مقاومة تذكر، فقتل حسَّان وأخذ أكيدر أسيرًا وهدده بالقتل إن لم تفتح دومة أبوابها. وفتحت المدينة الأبواب فداءً لأميرها، وساق خالد منها ألفي بعير وثمانمائة شاة وأربعمائة وسق من بر وأربعمائة درع، وذهب بها ومعه أكيدر حتى لحق بالنبي في عاصمته. وعرض محمد الإسلام على أكيدر فأسلم وأصبح له حليفًا.

لم يكن عود محمد على رأس هذه الألوف من جيش العسرة من حدود الشام إلى المدينة بالأمر الهين. فلم يدرك كثيرون من هؤلاء مغزى الاتفاق الذي عقد مع أمير أيلة والبلاد المجاورة له، ولم يقيموا كبير وزن لما حققه محمد بهذه الاتفاقات من تأمين حدود شبه الجزيرة، وإقامة هذه البلاد معاقل بينه وبين الروم، بل كان كل الذي نظروا إليه أنهم قطعوا هذه الشقة الطويلة وتحملوا في قطعها ما تحملوا من الأذى، ثم عادوا لم يغنموا ولم يأسروا، بل لم يقاتلوا: وكل الذي فعلوا أن أقاموا بتبوك قرابة عشرين يومًا. فهل لهذا قطعوا الصحراء في شدة القيظ في حين كانت ثمار المدينة قد طابت وآن أن يستمتع الناس بها؟! وجعل جماعة منهم يستهزئون بما فعل محمد؛ ونقل من ملأ الإيمان قلوبهم نبأهم إليه. فأخذ المستهزئين بالشدة حينًا وباللين حينًا، والجيش يسير قافلًا إلى المدينة ومحمد يحفظ النظام في صفوفه. حتى إذا انتهى إليها لم يلبث ابن الوليد أن لحقه بها؛ لحقه ومعه أكيدر، وما حمل من دومة من إبل وشاة وبُر ودروع، وعلى أكيدر حُلة من ديباج موشًّى بالذهب بُهت أهل المدينة لمرآها.

هنالك اضطرب الذين تخلفوا عن اتباعه اضطرابًا رد المستهزئين إلى صوابهم. جاء المتخلفون يعتذرون وأكثرهم يشوب معاذيره الكذب. وأعرض محمد عما صنعوا تاركًا لله حسابهم. لكن ثلاثة صدقوا الله ورسوله فاعترفوا بتخلفهم واعترفوا بذنبهم. هؤلاء الثلاثة هم كعب بن مالك، ومُرارة بن الربيع، وهلال بن أمية. وهؤلاء الثلاثة أمر محمد فأعرض المسلمون عنهم خمسين يومًا لا يكلمهم أحد ولا تصل بينهم وبين مسلم تجارة. ثم تاب الله على هؤلاء الثلاثة وعفا عنهم ونزل فيهم قوله تعالى: لَّقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.٦

من يومئذ بدأ محمد يشتد في معاملة المنافقين شدة لم يألفوها من قبل؛ ذلك أن عدد المسلمين زاد زيادة تجعل عبث المنافقين بهم خطرًا يُخشى منه ويجب تلافيه وعلاجه. ولم يقم بنفس محمد ريب، بعد أن وعده ربه لينصرن دينه وليعلين كلمته في أنهم سيزدادون من بعد أضعاف زيادتهم اليوم، وعند ذلك يصبح المنافقون خطرًا عظيمًا. ولقد كان له من قبل. حين كان الإسلام محصورًا بالمدينة وما حولها أن يشرف بنفسه على ما يجري بين المسلمين. أما وقد انتشر الدين في أنحاء بلاد العرب جميعًا، وها هو ذا يشارف الانتقال منها فكل تهاون مع المنافقين شر تخشى مغبته، وخطرٌ ما أسرع ما يستشري إذا لم تجتث جرثومته. بنى جماعة مسجدًا بذي أوان، بينه وبين المدينة نحو ساعة؛ وإلى هذا المسجد كان يأوي جماعة من المنافقين يحاولون أن يحرِّفوا كلام الله عن مواضعه، وأن يفرِّقوا بذلك بين المؤمنين ضرارًا وكفرًا. وطلبت هذه الجماعة إلى النبي أن يفتتح المسجد بالصلاة فيه. وكان طلبهم هذا قبل تبوك، فاستمهلهم حتى يعود. فلما عاد وعرف أمر المسجد وحقيقة ما قُصِدَ إليه من إقامته أمر بإحراقه، فضرب بذلك مثلًا ارتعدت له فرائص المنافقين فخافوا وانزووا، ولم يبق لهم من يحميهم إلا عبد الله بن أبيٍّ شيخهم وقائدهم.

على أن عبد الله لم يعمَّر بعد تبوك غير شهرين مرض إثرهما ومات. ومع أن الحقد على المسلمين قد كان يأكل قلبه منذ نزل النبي المدينة؛ فقد آثر محمد ألا ينال المسلمون ابن أبيٍّ بسوء. ولم يلبث النبي حين دعي للصلاة عليه لما مات أن صلى وقام على قبره إلى أن دُفن وفُرغ منه. وبموته انهار ركن المنافقين، وآثر من بقي منهم أن يخلص لله توبته.

بغزوة تبوك تمت كلمة ربك في شبه الجزيرة كلها، وأمن محمد كلَّ عادية عليها، وأقبل سائر أهلها وفودًا عليه يقدمون الطاعة ويعلنون لله الإسلام. ولقد كانت هذه الغزوة خاتمة غزوات النبي — عليه السلام — ومن بعدها أقام محمد بالمدينة مغتبطًا بما أفاء الله عليه.

وكان ابنه إبراهيم قرة عينه له ستة عشر شهرًا أو ثمانية عشر شهرًا، فكان إذا فرغ من استقباله الوفود، ومن القيام بأمر المسلمين، ومن أداء حق الله ورسالته وحق أهله جميعًا لهم، اطمأنت نفسه برؤية هذا الطفل الذي ظل يترعرع وينمو ويزداد شبهه بمحمد وضوحًا مما يزيد أباه له حبًّا وبه تعلقًا. وخلال هذه الأشهر جميعًا كانت حاضنته أم سيف ترضعه وتسقيه لبن الماعز التي أهداها النبي إليها.

ولم يكن تعلُّق محمد بإبراهيم لغاية في نفسه لها اتصال برسالته أو بمن يخلفه؛ فقد كان — عليه السلام — في إيمانه بالله وبرسالته لا يفكر في ولده ولا فيمن يرثه؛ بل كان يقول: «نحن معاشر الأنبياء لا نورَث، ما تركناه صدقة.» إنما هي العاطفة الإنسانية في أسمى معانيها؛ العاطفة الإنسانية التي بلغت من السمو في نفس محمد ما لم تبلغه في نفس أحد غيره؛ العاطفة الإنسانية التي جعلت العربي يرى فيمن يخلفه من الذكران صورة من صور الخلود — هذه العاطفة التي جعلت محمدًا يخلع على إبراهيم كل هذا الحب؛ ويرمقه من العطف بما لا عطف بعده. ولقد زاد هذه العاطفة رقةً وقوةً في نفسه أن فقد ولديه القاسم والطاهر وهما ما يزالان طفلين في حجر أمهما خديجة، وأنه فقد بناته بعد خديجة واحدة بعد الأخرى بعد أن كبرن وصرن أزواجًا وأمهات؛ فلم تبق له منهن غير فاطمة. هؤلاء الأبناء والبنات الذين تساقطوا من حوله فدفنهم بيده تحت صفائح الثرى، تركوا في نفسه قرحة ألم اندملت بمولد إبراهيم وأثمرت مكانها رجاءً وأملًا؛ وكان حِلًّا له أن يمتلئ بهذا الأمل غبطةً واستبشارًا.

لكن هذا الأمل لم يكن ليطول إلا تلك الأشهر التي ذكرنا. فقد مرض إبراهيم بعدها مرضًا خيف منه على حياته، فنقل إلى نخل بجوار مشربة أم إبراهيم، وقامت من حوله مارية وأختها سيرين تمرِّضانه. ولم يطل بالطفل المرض. فلما كان في الاحتضار وأُخْبِرَ النبي بأمره، أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف يعتمد عليه لشدة ألمه، حتى أتيا إلى النخل بجوار العالية التي تقوم المشربة اليوم مكانها. فوجد إبراهيم في حجر أمه يجود بنفسه، فأخذه فوضعه وقلبه يَجِفُ ويده تضطرب وقد ملك الحزن عليه فؤاده، وبدت صورة الألم على قسمات وجهه، وضعه في حجره وقال: «إنا يا إبراهيم لا نغني عنك من الله شيئًا.» ثم وجم وذرفت عيناه، والغلام يجود بنفسه، وأمه وأختها تصيحان فلا ينهاهما رسول الله! فلما استوى إبراهيم جثمانًا لا حراك به ولا حياة فيه، وانطفأ بموته ذلك الأمل الذي تفتحت له نفس النبي زمنًا، زادت عينا محمد تهتانًا وهو يقول: «يا إبراهيم لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق بأولنا، لحزنا عليك أشد من هذا.» وبعد أن وجم هنيهة قال: «تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا يا إبراهيم عليك لمحزونون.»

ورأى المسلمون ما بمحمد من حزن، وحاول حكماؤهم أن يردوه عن الإمعان فيه، فذكروه بما نهى عنه؛ فقال: «ما عن الحزن نهيت وإنما نهيت عن رفع الصوت بالبكاء. وإن ما ترون بي أثر ما في القلب من محبة ورحمة. ومن لم يبدِ الرحمة لم يبد غيره عليه الرحمة.» أو كما قال. ثم إنه حاول كظم حزنه وتبريد لوعته، ونظر إلى مارية وإلى سيرين نظرة عطف، وطلب إليهما أن تهوِّنا عليهما قائلًا: «إن له لمرضعًا في الجنة.» ثم إن أم بردة غسلته — أو غسله الفضل بن عباس، في رواية — وحُمِلَ من بيتها على سرير صغير، وشيعه النبي وعمه العباس وطائفة من المسلمين إلى البقيع حيث دُفن بعد أن صلى النبي عليه. فلما تم دفنه أمر محمد بسد القبر ثم سوَّى عليه بيده ورشَّ الماء وأعلم عليه بعلامة وقال: «إنها لا تضر ولا تنفع، ولكنها تقر عين الحي. وإن العبد إذا عمل عملًا أحب الله أن يُتقنه.»

ووافق موت إبراهيم كسوف الشمس؛ فرأى المسلمون في ذلك معجزة وقالوا إنها انكسفت لموته. وسمعهم النبي: أتُرَى فرط حبه لإبراهيم وشديد جزعه لموته قد جعله يتعزى بسماع مثل هذه الكلمة، أو يسكت على الأقل عنها، أو يعذر الناس إذ يراهم مأخوذين بما يحسبونه المعجزة؟ كلا! فمثل هذا الموقف إن لاق بالذين يستغلون في الناس جهالتهم، أو لاق بالذين يُخرجهم الحزن عن رشادهم، فهو لا يليق بالنزيه الحكيم، فما بالك بالرسول العظيم؟! لذلك نظر محمد إلى الذين ذكروا أن الشمس انكسفت لموت إبراهيم فخطبهم فقال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تُخْسَفان لموت أحد ولا لحياته. فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله بالصلاة.» أية عظمة أكبر من ألا ينسى الرسول رسالته في أشد المواقف التي تملأ نفسه بالفجيعة والهول؟! لقد وقف من تناول من المستشرقين هذا الحديث لمحمد موقف الإجلال والإعظام، ولم يستطيعوا كتم إعجابهم وإكبارهم وإعلان عرفانهم بصدق رجل لا يرضى في أدق المواقف إلا الصدق والحق.

تُرى ماذا كان شعور أزواج النبي بفجيعته في إبراهيم وحزنه الشديد عليه؟ أمَّا هو فتعزَّى بفضل الله، وبمتابعته أداء رسالته، وبازدياد الإسلام انتشارًا في هذه الوفود التي كانت ما تفتأ تتوارد إليه من كل صوب؛ حتى لقد دُعيت هذه السنة العاشرة من الهجرة سنة الوفود، وهي السنة التي حج أبو بكر فيها كذلك بالناس.

١  سورة التوبة آيتا ٨١، ٨٢.
٢  سورة التوبة آية ٤٩.
٣  الجرباء: قرية من أعمال عمان بالبلقاء من أرض الشام.
٤  أذرح: بلد في أطراف الشام من نواحي البلقاء وعمان مجاورة لأرض الحجاز، وهي قريبة من الجرباء.
٥  دومة: هي المعروفة بدومة الجندل، على سبع مراحل من دمشق بينها وبين المدينة.
٦  سورة التوبة آيتا ١١٧ و١١٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤