الفصل الثامن والعشرون

عام الوفود وحج أبي بكر بالناس

(دخول العرب أفواجًا في دين الله – إسلام عروة بن مسعود الثقفي وقتل أهل الطائف له – أخذ القبائل المجاورة الطريق على ثقيف – وفدها إلى النبي وشروطه – إسلام الوفد وإسلام الطائف وهدم صنمها اللات – حج أبي بكر بالناس – لحاق علي بن أبي طالب به – سورة براءة – أساس الدولة الإسلامية المعنوي – الجهاد في الإسلام وتسويغه)

***

بغزوة تبوك تمت كلمة ربك في شبه جزيرة العرب كلها، وأمن محمد كل عادية عليها. والحق أنه لم يكد يستقر بعد أن عاد من هذه الغزوة إلى المدينة حتى بدأ كل من أقام على شركه من أهل شبه الجزيرة يفكر. ولئن كان المسلمون، الذين صحبوا محمدًا في مسيره إلى الشام كابدوا من صنوف المشاق واحتملوا من القيظ والظمأ أهوالًا، قد عادوا وفي نفوسهم شيء من السخط أن لم يقاتلوا ولم يغنموا بسبب انسحاب الروم إلى داخل الشام ليتحصنوا بمعاقلهم فيها. لقد ترك هذا الانسحاب في نفوس قبائل العرب المحتفظة بكيانها وبدينها أثرًا عميقًا، وترك في نفوس قبائل الجنوب باليمن وحضرموت وعُمان أثرًا أشد عمقًا. أليس الروم هؤلاء هم الذين غلبوا الفرس واستردوا منهم الصليب وجاءوا به إلى بيت المقدس في حفل عظيم، وفارس كانت صاحبة السلطان على اليمن وعلى البلاد المجاورة لها أزمانًا طويلة؟!

فإذا كان المسلمون على مقربة من اليمن ومن غيرها من البلاد العربية جمعاء، فما أجدر هذه البلاد بأن تتضامَّ كلها في تلك الوحدة التي تستظل بعلم محمد، علم الإسلام، لتكون بمنجاة من تحكم الروم والفرس جميعًا! وماذا يضر أمراء القبائل والبلاد أن يفعلوا وهم يرون محمدًا يثبِّت من جاءه معلنًا الإسلام والطاعة في إمارته وعلى قبيلته؟! فلتكن السنة العاشرة للهجرة إذن سنة الوفود، وليدخل الناس في دين الله أفواجًا، وليكن لغزوة تبوك ولانسحاب الروم أمام المسلمين من الأثر أكثر مما كان لفتح مكة والانتصار في حُنين وحصار الطائف.

ومن حسن صنيع القدر أن كانت الطائف — التي قاومت النبي في أثناء حصارها ما قاومت حتى انصرف المسلمون عنها دون اقتحامها — هي أول من أسرع إلى إعلان الطاعة بعد تبوك، وإن ترددت طويلًا في إعلان هذه الطاعة. فقد كان عروة بن مسعود — أحد سادة ثقيف المقيمين بالطائف — غائبًا باليمن في أثناء غزو النبي بلاده بعد موقعة حُنين. فلما عاد إلى موطنه ورأى النبي انتصر في تبوك وعاد إلى المدينة، أسرع إليه يعلن إسلامه وحرصه على دعوة قومه للدخول في دين الله. ولم يكن عروة ليجهل محمدًا وعظم أمره، وقد كان أحد الذين فاوضوه عن قريش في صلح الحديبية. وعرف النبي بعد إسلام عروة اعتزامه الذهاب إلى قومه يدعوهم إلى الدين الذي دخل فيه، وكان النبي يعرف من تعصب ثقيف لصنمها اللات ومن نخوتها وشدتها ما جعله يحذِّر عروة ويقول له: إنهم قاتلوك، لكن عروة اعتز بمكانه من قومه فقال: يا رسول الله، أنا أحَبُّ إليهم من أبصارهم.

وذهب عروة فدعا قومه إلى الإسلام؛ فتشاوروا فيما بينهم ولم يبدوا له رأيًا. فلما كان الصباح قام على عِلِّية له ينادي إلى الصلاة. هنالك صدقت فراسة الرسول، فلم يطق قومه صبرًا، فأحاطوا به ورموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم قاتل. واضطرب من حول عروة أهله، فقال وهو يسلم الروح: «كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليَّ. فليس فيَّ إلا ما في الشهداء الذين قُتلوا مع رسول الله قبل أن يرتحل عنكم.» ثم طلب أن يدفن مع الشهداء فدفنه أهله معهم.

ولم يذهب دم عروة هدرًا، فإن القبائل التي تحيط بالطائف كانت قد أسلمت كلها، ولذلك رأت فيما صنعت ثقيف بسيد من ساداتها إثمًا منكرًا. ورأت ثقيف من أثر ذلك أنهم صاروا لا يأمن لهم سرب. ولا يخرج منهم رجل إلا اقتطع، وأيقنوا أنهم إن لم يجدوا سبيلًا إلى صلح أو هدنة مع المسلمين فمصيرهم لا ريب إلى الفناء. وأتمر القوم فيما بينهم، وتحدثوا إلى كبير منهم (عبد ياليل)، كي يذهب إلى النبي يعرض عليه صلح ثقيف معه. وخشي عبد ياليل أن يصيبه من قومه ما أصاب عروة بن مسعود، فلم يقبل أن يخرج إلى محمد حتى أوفدوا معه خمسة آخرين، اطمأن إلى أنه إذا خرج معهم ثم عادوا شغل كل رجل منهم رهطه. ولقي المغيرة بن شعبة القوم حين دنوا من المدينة، فأسرع يريد أن يخبر النبي خبرهم. ولقيه أبو بكر يشتد في السير؛ فلما عرف منه ما جاء فيه طلب إليه أن يدع له هذه البشرى يزفها إلى رسول الله، ودخل أبو بكر فأخبر النبي بقدوم وفد ثقيف.

وكان هذا الوفد ما يزال يعتز بقومه، وما يزال يذكر حصار النبي للطائف وانصرافه عنها. فمع ما علمهم المغيرة كيف يحيون النبي بتحية الإسلام لم يرضوا حين قابلوه إلا أن يحيوه بتحية الجاهلية، ثم إنهم ضربت لهم قبة خاصة في ناحية من المسجد أقاموا بها يصرون على الحذر من المسلمين وعدم الطمأنينة إليهم. وكان خالد بن سعيد بن العاص هو الذي يمشي بينهم وبين رسول الله في مفاوضتهم إياه؛ فكانوا لا يطعمون طعامًا يأتيهم من عند النبي حتى يأكل منه خالد. وقام هذا بالسفارة، فأبلغ محمدًا أنهم مع استعدادهم للإسلام، يطلبون إليه أن يدع لهم صنمهم اللات ثلاث سنين لا يهدمها، وأن يعفيهم من الصلاة.

وأبى محمد عليهم ما طلبوا من ذلك أشد إباء. ولقد نزلوا يطلبون أن يدع اللات سنتين، ثم أن يدعها سنة، ثم أن يدعها شهرًا واحدًا بعد انصرافهم إلى قومهم، لكن إباءه ذلك كان حاسمًا لا تردُّد فيه ولا هوادة. وكيف تريد من نبي يدعو إلى دين الله الواحد القهار ويهدم الأصنام فلا يذر منها باقية، أن يتهاون في أمر صنم منها، وإن كان لقومه من المنعة ما كان لثقيف بالطائف؟! فالإنسان إما أن يؤمن، وإما ألا يؤمن، وليس بين الطرفين إلا الارتياب والشك. والشك والإيمان لا يجتمعان في قلب كما لا يجتمع الإيمان والكفر. وبقاء اللات طاغية ثقيف علمٌ على أنهم لا يزالون يداولون عبادتهم بينها وبين الله جل شأنه. وهذا إشراك بالله، والله لا يغفر أن يُشرك به.

وطلبت ثقيف إعفاءها من الصلاة؛ فرفض محمد قائلًا: إنه لا خير في دين لا صلاة فيه. ونزل الثقفيون عن بقاء اللات وقبلوا الإسلام وإقامة الصلاة، لكنهم طلبوا ألا يكسِروا أوثانهم بأيديهم. إنهم حديثو عهد بإيمان، وقومهم ما يزالون في انتظارهم ليروا ما صنعوا، فليجنبهم محمد تحطيم ما كانوا يعبدون وما كان يعبد آباؤهم، ولم ير محمد أن يشتد في هذه، فسيان أن يكسر الثقفيون الصنم وأن يكسره غيرهم؛ فهو سيهدم، وستقوم في ثقيف عبادة الله وحده. قال عليه السلام: أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، ثم أمَّر عليهم عثمان بن أبي العاص وكان من أحدثهم سنًّا. أمَّره عليهم على حداثة سنِّه؛ لأنه كان أحرصهم على الفقه في الإسلام وتعلم القرآن، بشهادة أبي بكر والسابقين إلى الإسلام. وأقام القوم مع محمد ما بقي من رمضان، وصاموا وإياه وهو يبعث لهم بفطورهم وسحورهم. فلما آن لهم أن ينصرفوا إلى قومهم أوصى محمد عثمان بن أبي العاص قائلًا: «تجاوز في الصلاة واقدر الناس بأضعفهم، فإن فيهم الكبير والصغير والضعيف وذا الحاجة.»

وعاد القوم إلى بلادهم، فوجَّه النبي معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة، وكانت لهما بثقيف مودة وحرمة، ليقوما بهدم اللات. وقدم أبو سفيان والمغيرة لهدم الصنم، فهدمه المغيرة ونساء ثقيف حُسَّرًا يبكين، ولا يجرؤ أحد أن يقترب منه بعد الذي كان من اتفاق وفد ثقيف والنبي على هدمه. وأخذ المغيرة مال اللات وحليها فقضى منه، بأمر الرسول وبالاتفاق مع أبي سفيان، دينًا كان على عروة والأسود. وبهدم اللات وبإسلام الطائف كانت الحجاز كلها قد أسلمت، وكانت سطوة محمد قد امتدت من بلاد الروم في الشمال إلى بلاد اليمن وحضرموت في الجنوب. وكانت هذه البلاد الباقية في جنوب شبه الجزيرة تتهيأ كلها لتنضم إلى الدين الجديد، ولتقف على الدفاع عنه وعن وطنها كل قوتها. وكانت وفودها تسير لذلك من جهات مختلفة، قاصدة كلها إلى المدينة لتعلن الطاعة ولتدين بالإسلام.

بينما كانت الوفود تُقبل تترى إلى المدينة، كانت الأشهر يتلو أحدها الآخر حتى اقترب موعد الحج، ولم يكن النبي — عليه السلام — أدى الفريضة على تمامها يومئذ كما يؤديها المسلمون اليوم، أفتراه يخرج في عامه هذا شكرًا لله على ما نصره على الروم، وما أدخل الطائف في حظيرة الإسلام، وما جعل الوفود تجيء إليه من كل فج عميق؟ إن شبه الجزيرة ما يزال بها من لم يؤمن بالله ورسوله، ما يزال بها الكفار وما يزال بها اليهود والنصارى. والكفار على عهدهم في الجاهلية ما يزالون يحجون إلى الكعبة في الأشهر الحرم. والكفار نجس. فليبق إذن بالمدينة حتى يُتم الله كلمته وحتى يأذن الله له بالحج إلى بيته، وليخرج أبو بكر في الناس حاجًّا.

وخرج أبو بكر في ثلاثمائة مسلم قاصدًا إلى مكة. ولكن العام قد يتلو العام والمشركون ما يزالون يحجون بيت الله الحرام. أليس بين محمد وبين الناس عهد عام ألا يُصَدَّ عن البيت أحد جاءه، ولا يُخاف أحد في الأشهر الحرم؟! أليست بينه وبين قبائل من العرب عهود إلى آجال مسمَّاة؟! فما دامت هذه العهود فسيظل بيت الله يحج إليه من يُشرك بالله ومن يعبد غير الله، وسيظل المسلمون يرون عبادة الجاهلية تؤدى بأعينهم حول الكعبة وهم بحكم هذه العهود الخاصة وهذا العهد العام لا قبل لهم بصد أحد عن حجه وعبادته.

وإذا كانت الأصنام التي يعبد العرب قد حُطم الكثير منها وحطم منها كل ما كان في الكعبة أو حولها، فإن هذا الاجتماع في بيت الله المقدس، اجتماعًا يضم الثائرين على الشرك وعلى الوثنية والمقيمين على هذا الشرك وهذه الوثنية، تناقض غير مفهوم. وإذا استطاع أحد أن يفهم حج اليهود والنصارى جميعًا إلى بيت المقدس على أن أرض المعاد لليهود ومولد المسيح للنصارى، فلن يستطيع أحد أن يفهم اجتماع عبادتين حول بيت تُحطم فيه الأصنام وتعبد فيه الأصنام التي حُطِّمت. لذلك كان طبيعيًّا أن يحال بين المشركين وبين الاقتراب من البيت الذي طُهر من الشرك ومحيت منه كل معالم الوثنية. وفي هذا نزلت الآيات من سورة براءة. لكن موسم الحج بدأ والمشركون قد أتى منهم من أتى من كل فج يقضي مناسك حجه. فليكن هذا الاجتماع أوان تبليغهم أمر الله بنقض كل عهد بين الشرك والإيمان إلا من عهد عُقِدَ لأجَل فإنه يبق إلى أجله.

ولهذه الغاية أوفد النبي عليَّ بن أبي طالب كي يلحق بأبي بكر، وكي يخطب الناس حين الحج يوم عرفة بما أمر الله ورسوله. وحضر عليٌّ، في أثر أبي بكر والمسلمين الذين برزوا إلى الحج معه، كي يؤدي رسالته. فلما رآه أبو بكر قال له: أمير أم مأمور! قال عليٌّ: بل مأمور. وأخبره بما جاء فيه، وأنَّ النبي إنما بعثه في الناس لأنه من أهل بيته. فلما اجتمع الناس بمنى يؤدُّون مناسك الحج، وقف عليُّ بن أبي طالب وإلى جانبه أبو هريرة، فنادى عليٌّ في الناس يتلو قوله تعالى: بَرَاءَةٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ ۙ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ ۚ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ ۗ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ * كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ ۚ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ * فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ۗ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ۙ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ۗ وَيَتُوبُ اللهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ۚ وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ ۚ أُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ * أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ ۚ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللهِ ۗ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ * لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا ۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ ۚ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ * يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ * إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ ۗ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ * إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.١

وقف عليٌّ في الناس وهم يؤدون مناسك الحج بمنى، فتلا عليهم هذه الآيات من سورة التوبة نقلناها كاملة لغرض سنبيِّنه. فلما أتم تلاوتها وقف هنيهة ثم صاح بالناس: «أيها الناس! إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحجُّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان. ومن كان له عند رسول الله عهد فهو إلى مدته.» صاح عليٌّ في الناس بهذه الأوامر الأربعة، ثم أجَّل الناس أربعة أشهر بعد ذلك اليوم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم. ومن يومئذ لم يحجَّ مشرك، ولم يطف بالبيت عُريان. ومن يومئذ وُضع الأساس الذي تقوم عليه الدولة الإسلامية.

هذا الأساس هو الذي جعلنا نسجل هنا صدر سورة التوبة كله. والحرص على أن يدرك العرب جميعًا هذا الأساس هو الذي دعا عليًّا إلى ألا يكتفي بقراءة هذه الآيات من براءة يوم الحج، على ما اتفقت عليه الرواية، بل جعله يقرؤها على الناس من بعد ذلك في منازلهم، على ما جاءت به روايات كثيرة. وإنك إذ تتلو صدر «براءة» وتُعيد تلاوته بإمعان وروية لتشعر حقًّا بأنه الأساس المعنوي في أقوى صورة لكل دولة ناشئة تقوم. ونزول «براءة» كلها بعد آخر غزوة من غزوات النبي، وبعد أن جاء أهل الطائف يعلنون انضمامهم إلى الدين الجديد. وبعد أن أصبح الحجاز كله ومعه تهامة ونجد منضويًا تحت راية الإسلام، وبعد أن أعلن كثير من قبائل الجنوب في شبه الجزيرة الإذعان لمحمد والانضواء إلى دينه، يجلو الحكمة التاريخية في نزول الآيات التي تنتظم أساس الدولة المعنوي في هذا الحين. فالدولة، لتكون قوية، يجب أن تكون لها عقيدة معنوية عامة يؤمن بها أهلوها ويدافعون جميعًا عنها بكل ما أوتوا من عتاد وقوة. وأية عقيدة أعظم من الإيمان بالله وحده لا شريك له؟! أية عقيدة أكبر سلطانًا على النفس من أن يحس الإنسان نفسه تتصل بالوجود في أسمى مظاهره، لا سلطان عليه لغير الله ولا رقيب غير الله على ضميره؟! فإذا وُجد الذين يقومون في وجه هذه العقيدة العامة التي يجب أن تكون أساس الدولة، فأولئك هم الفاسقون، وأولئك هم نواة الثورة الأهلية والفتنة الماحقة، وأولئك يجب لذلك ألا يكون لهم عهد، ويجب أن تقاتلهم الدولة. فإن كانوا ثائرين على العقيدة العامة ثورة جامحة، وجب قتالهم حتى يذعنوا. وإن كانت ثورتهم على العقيدة العامة غير جامحة، كما هو شأن أهل الكتاب، وجب أن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

النظر إلى المسألة من الجهة التاريخية والجهة الاجتماعية يهدينا إلى هذا التقدير لمغزى الآيات التي تلاها القارئ ههنا من سورة التوبة، وهو يهدي إلى هذا التقدير كل منصف نزيه القصد. لكن الذين أسرفوا في أحكامهم على الإسلام وعلى رسوله يذرون هذا النظر على نبأ ويعرضون لهذه الآيات القوية غاية القوة من سورة التوبة على أنها دعوة إلى التعصب لا تتفق مع ما ترضاه الحضارة الفاضلة من تسامح، دعوة إلى قتال المشركين وقتلهم حيث ثقفهم المؤمنون في غير رفق ولا هوادة، دعوة إلى إقامة الحكم على أساس البطش والجبروت. هذا كلام تقرؤه في كثير من كتب المستشرقين. وهو كلام تهوي إليه الأذهان التي لم تنضج فيها ملكة النقد الاجتماعي والتاريخي حتى من أبناء المسلمين، وهو كلام لا يتفق مع الحقيقة التاريخية ولا يتفق مع الحقيقة الاجتماعية في شيء، وهو لذلك يؤدي بأصحابه إلى تفسيرهم ما أوردنا من سورة التوبة، وما جاء من مشابهه في مواضع كثيرة من القرآن، تفسيرًا يأباه منطق الحوادث في سيرة الرسول تمام الإباء، وتأباه حياة النبي العظيم في تسلسلها من يوم بعثه الله للدعوة إلى دين الحق إلى يوم اصطفاه الله إليه.

ويجمل بنا لبيان ذلك أن نسأل عن الأساس المعنوي للحضارة الحاكمة اليوم، ثم نقيس به هذا الأساس المعنوي الذي دعا محمد إليه. فالأساس المعنوي للحضارة الحاكمة اليوم هو حرية الرأي حرية لا حد لها، ولا حد للتعبير عنها إلا بالقانون، وحرية الرأي هذه هي لذلك عقيدة يدافع الناس عنها ويضحُّون في سبيلها ويجاهدون لتحقيقها ويحاربون من أجلها، ويعتبرون ذلك كله آية من آيات المجد التي يفاخرون بها الأجيال ويتباهون بها على ما سبقهم من العصور. ومن أجل ذلك يقول المستشرقون الذين أشرنا إليهم: إن دعوة الإسلام لمقاتلة من لا يؤمن بالله واليوم الآخر دعوة إلى التعصب تتنافى وهذه الحرية. وهذه مغالطة مفضوحة إذا عرفت أن قيمة الرأي الدعوة له والعمل به. والإسلام لم يدع إلى مناوأة المشركين من أهل الجزيرة، إذا هم أذعنوا ولم يدعوا إلى شركهم ولم يعملوا به ويقيموا عبادته. والحضارة الحاكمة اليوم تحارب الآراء التي تناقض مواضع العقيدة منها بأشد مما كان يحارب المسلمون المشركين، وتفرض على من يعتبر كتابيًّا بالنسبة لهذه الحضارة الحاكمة ما هو شر من الجزية ألف مرة.

ولسنا نضرب المثل لذلك بما كان حين محاربة تجارة الرقيق، وإن آمن الذين كانوا يقومون بهذه التجارة بأنها غير محرَّمة. لا نضرب لهذا المثل حتى لا يقال: إننا لا نستنكر هذه التجارة وإن كان الإسلام لم يدعُ إلى أكثر من محاربة ما يستنكر. لكن أوروبا اليوم، أوروبا صاحبة الحضارة الحاكمة تؤيدها أمريكا وتعززها قوات الجنوب في آسيا والشرق الأقصى منها، قد حاربت البلشفية، وهي مستعدة لمحاربتها أشد الحرب. ونحن في مصر مستعدون للاشتراك مع الحضارة الحاكمة لمحاربة البلشفية. والبلشفية ليست مع ذلك إلا رأيًا في الاقتصاد يحارب الرأي الذي تدين به الحضارة الحاكمة اليوم. أفتكون دعوة الإسلام إلى محاربة المشركين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه دعوة وحشية إلى التعصب وضد الحرية، وتكون الدعوة إلى محاربة البلشفية الهادمة للنظام الاجتماعي في الحضارة الحاكمة دعوة إلى الحرية في العقيدة والرأي وإلى احترامها؟!

ثم إن قومًا رأوا في غير بلد من بلاد أوروبا أن التهذيب النفسي يجب أن يتصل به التهذيب الجسمي، وأن ما تواضع الناس عليه من ستر الجسم كله أو بعض أعضائه أشد إثارة للمعاني الجنسية في النفس، وأشد لذلك إفسادًا للخلق من أن يسير الناس وكلهم عريان. وبدأ أصحاب هذا الرأي ينفذونه وأقاموا محلات العري في بعض المدن، وأقاموا أماكن يغشاها من شاء للتدرب على هذا التهذيب الجسمي. لكن هذا الرأي ما بدأ ينتشر حتى رأى القائمون بالأمر في كثير من البلاد أن في انتشار مظاهره إفسادًا للتهذيب الخلقي يضر بالجماعة؛ فحرموا «محلات العري» وحاربوا القائمين بالرأي. ونهوا بالقانون عن إنشاء أماكن هذا التهذيب الجسمي. وما نشك في أن هذا الرأي، لو انتشر في أمة بأسرها لكان سببًا لإعلان الحرب عليها من أمم أخرى على أنه مفسدة للحياة المعنوية في الإنسان، كما أثيرت حروب بسبب الرقيق، وكما تثار حروب أو ما يشبهها بسبب تجارة الرقيق الأبيض وبسبب الاتجار بالمخدرات. لماذا ذلك كله؟ لأن حرية الرأي على إطلاقها يمكن أن تُحتمل ما بقيت حبيسة في حدود القول الذي لا يتصل منه بالجماعة ضرٌّ أو أذًى. فإذا أوشك هذا الرأي أن يثير في الجماعة الإنسانية الفساد فقد وجبت محاربة هذه الثائرات، ووجبت محاربة مظاهر الرأي جميعًا، بل وجبت محاربة الرأي نفسه، وإن اختلفت مظاهر هذه الحرب بمقدار ما يترتب على هذه المظاهر من فساد في الجماعة يخشى منه على قوامها الخلقي أو الاجتماعي أو الاقتصادي.

هذه هي الحقيقة الاجتماعية المعترف بها والمقررة لدى الحضارة الحاكمة اليوم. ولو أردنا أن نستقصي مظاهر ذلك وآثاره في مختلف الشعوب لطال بنا البحث. وليس ها هنا موضعه. على أنك تستطيع أن تقول إن كل تشريع يراد به قمع أية حركة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية إنما هو حرب للرأي الذي تصدر عنه هذه الحركة. وهذه الحرب تجد ما يسوِّغها في مبلغ ما يصيب الجماعة الإنسانية من ضرر إذا نُفِّذت الآراء تُشب الحرب عليها. فإذا أردنا أن نقدر دعوة الإسلام إلى مقاتلة الشرك وأهله وحربهم حتى يذعنوا، وهل هذه الحرب مسوَّغة أو غير مسوَّغة، وجب أن ننظر فيما تمثِّله فكرة الشرك هذه وما تدعو إليه. فإن اتفقت الكلمة على فادح ضررها بالجماعة الإنسانية في مختلف عصورها كان لإعلان الإسلام الحرب عليها ما يسوِّغه بل ما يوجبه.

والشرك الذي كان موجودًا حين قيام محمد — عليه السلام — بالدعوة إلى دين الله الحق لم يكن يمثِّل عبادة الأصنام وكفى، ولو أنه كان كذلك لوجبت محاربته؛ فمن الازدراء للعقل الإنساني وللكرامة الإنسانية أن يعبد الإنسان حجرًا. ولكن هذا الشرك كان يمثِّل مجموعة من التقاليد والعقائد والعادات، بل كان يمثِّل نظامًا اجتماعيًّا هو شر من الرق وشر من البلشفية وشر من كل ما يتصور العقل في هذا القرن المتم للعشرين. كان يمثِّل وأد البنات، وتعدُّد الزوجات إلى غير حدٍّ، حتى ليحلُّ للزوج أن يتزوج ثلاثين وأربعين ومائة وثلاثمائة امرأة وأكثر من ذلك. وكان يمثِّل الربا في أفحش ما يستطيع الإنسان أن يتصور الربا. وكان يمثِّل الإباحية الخلقية في أسفل صورها، وكانت جماعة الوثنيين العرب شر جماعة أخرجت للناس. ونودُّ من كل منصف أن يجيب على هذا السؤال: لو أن جماعة من الناس وضعت لنفسها اليوم نظامًا فيه من العقائد والعادات وأد البنات، وتعدُّد الزوجات وإباحة الرق لسبب أو لغير سبب، واستغلال الأموال استغلالًا فاحشًا، ثم قامت ثورة على ذلك كله تحاول تحطيمه والقضاء عليه. أتتهم هذه الثورة بالتعصب وبالعمل ضد حرية الرأي؟!

وإذا افترضنا أن أمة اطمأنت إلى هذا النظام الاجتماعي المنحط وأوشكت العدوى أن تنتقل منها إلى غيرها من الدول فآذنتها هذه الدول بحرب، أتكون الحرب مسوَّغة أم غير مسوَّغة؟! أوَلا تكون مسوَّغة أكثر من الحرب الكبرى الأخيرة التي طاحت بملايين من أهل هذا العالم لغير سبب إلا الشره والجشع من جانب دول الاستعمار؟! وإذا كان ذلك شأنها فما عسى أن تكون قيمة نقد المستشرقين للآيات التي تلاها القارئ من سورة براءة، ولدعوة الإسلام إلى حرب الشرك وأهله ممن يدعون إلى إقامة نظام فيه ما ذكرنا وشر مما ذكرنا؟!

وإذا كانت هذه هي الحقيقة التاريخية في شأن هذا النظام الذي كان قائمًا في بلاد العرب يُظِلُّه علم الشرك والوثنية، فهناك أيضًا حقيقة تاريخية أخرى مستمدة من حياة الرسول. فهو قد أنفق منذ بعثه الله برسالته ثلاثة عشرة سنة حسومًا يدعو الناس فيها إلى دين الله بالحجة ويجادلهم بالتي هي أحسن. وهو فيما قام به من غزوات لم يكن معتديًا قط، وإنما كان مدافعًا عن المسلمين دائمًا، مدافعًا عن حرِّيتهم في الدعوة إلى دينهم الذي يؤمنون به ويضحُّون بحياتهم في سبيله. هذه الدعوة القوية إلى قتال المشركين على أنهم نجسٌ، وأنهم لا عهد لهم ولا ميثاق، وأنهم لا يرعون في مؤمن إلًّا ولا ذمةً، وإنما نزلت بعد آخر غزوة غزا النبيُّ: تبوك. فإذا حلَّ الإسلام ببلاد تفشى فيها الشرك وحاول أن يقيم فيها هذا النظام الاجتماعي والاقتصادي الهدَّام الذي كان قائمًا في شبه الجزيرة حين بُعث النبي، فدعا المسلمون أهلها إلى ترك هذا النظام، وإلى الأخذ بما أحلَّ الله وتحريم ما حرَّم فلم يذعنوا، فليس من منصف إلا يقول بالثورة عليهم، وبقتالهم حتى تتم كلمة الحق، وحتى يكون الدين كله لله.

ولقد أثمر هذا الذي تلا عليٌّ من «براءة» وما نادى في الناس بألا يدخل الجنة كافر، وبألا يحُج بعد العام مشرك، وبألا يطوف بالبيت عريان، خير الثمرات، وأزال كل تردد من نفوس القبائل التي كانت ما تزال متباطئة في تلبية دعوة الإسلام.

وبذلك دخلت في الإسلام بلاد اليمن ومَهرة والبحرين واليمامة، ولم يبقَ من يناوئ محمدًا إلا عددًا قليلًا أخذتهم العزة بالإثم وغرَّهم بالله الغرور. من هؤلاء عامر بن الطفيل الذي ذهب مع وفد بني عامر ليستظلوا براية الإسلام؛ فلما كانوا عند النبي امتنع عامر ولم يُسلم، وأراد أن يكون للنبي ندًّا. وأراد النبي أن يقنعه كيما يسلم، فأصرَّ على إبائه، ثم خرج وهو يقول: أما والله لأملأنها عليك خيلًا ورجالًا. قال محمد: اللهم اكفني عامر بن الطفيل! وانصرف عامر يريد قومه، وإنه لفي بعض الطريق إذ أصابه الطاعون في عنقه وقضى عليه وهو في بيت امرأة من بني سلول؛ قضي عليه وهو يردِّد: «يا بني عامر! أغُدَّةً كغدَّة البعير وموتة في بيت سلولية؟!»

أما أربد بن قيس فقد أبى أن يسلم وعاد إلى بني عامر ولم يطل به المقام بل أحرقته صاعقة حين خرج على جمل له يبيعه. ولم يمنع إباء عامر وأربد قومهما من أن يسلموا. ومن هؤلاء بل هو شر منهم مكانًا مُسيلمة بن حبيب؛ فقد جاء في وفد بني حنيفة من أهل اليمامة وخلَّفه القوم على رحالهم وذهبوا إلى رسول الله فأسلموا وأعطاهم النبيُّ، فذكروا له مُسيلمة، فأمر له بمثل ما أمر للقوم، وقال: أما إنه ليس بشرِّكم مكانًا؛ وذلك لحفظه رحال أصحابه. فلما سمع مسيلمة قولهم ادَّعى النبوة، وزعم أن الله أشركه مع محمد في الرسالة، وجعل يسجع لقومه ويقول لهم فيما يقول محاولًا مضاهاة القرآن: «لقد أنعم الله على الحُبلى. أخرج منها نسمة تسعى. من بين صفاق وحشا.» وأحلَّ مسيلمة الخمر والزنا، ووضع عن قومه الصلاة، وانطلق يدعو الناس إلى تصديقه. فأما من عدا هؤلاء من العرب فأقبلوا يدخلون في دين الله أفواجًا من أطراف شبه الجزيرة، وعلى رأسهم رجال من أعز الرجال من أمثال عدي بن حاتم وعمر بن معدي كرب. وبعث ملوك حِمير رسولًا بكتاب منهم إلى النبي يعلنون فيه إسلامهم فأقرَّهم عليه وكتب إليهم بما لهم وما عليهم في شرع الله. فلما انتشر الإسلام في جنوب شبه الجزيرة، بعث محمد من السابقين إلى الإسلام من يفقههم في دينهم ويثبِّتهم فيه.

لم نُطل الوقوف عند وفود العرب إلى النبي كما فعل بعض الأقدمين من كتَّاب السيرة، لتشابه أمرهم في الانضواء تحت راية الإسلام. ولقد أفرد ابن سعد في طبقاته الكبرى لوفادات العرب على الرسول خمسين صفحة كبيرة، نكتفي بأن نذكر منها أسماء القبائل والبطون التي أوفدتها. فقد جاءت وفود من: مُزينة، وأسد، وتميم، وعبس، وفزارة، ومُرَّة، وثعلبة، ومُحارب، وسعد بن بكر، وكِلاب، ورُؤاس بن كلاب، وعُقيل بن كعب، وجَعدة، وقُشير بن كعب، وبني البكَّاء، وكنانة، وأشجع، وباهِلة، وسُليم، وهلال بن عامر، وعامر بن صعصعة، وثقيف. وجاءت وفود ربيعة من: عبد القيس، وبكر بن وائل، وتغلب، وحنيفة، وشيبان. وجاء من اليمن وفد من طيئ، وتُجيب، وخُولان، وجعفي، وصُداء، ومُراد، وزُبيد، وكِندة، والصَّدف، وخُشين، وسعد هُذيم، وبَليٍّ، وبهراء، وعُدرة، وسلامان، وجهينة، وكلب، وجرم، والأزد، وغسَّان، والحارث بن كعب، وهَمدان، وسعد العشيرة، وعنس، والداريين، والرَّهاويين (حي من مذجح)، وغامد، والنخع، وبجِيلة، وخثعم، والأشعرين، وحضرموت، وأزد عُمان، وغافق، وبارق، ودَوس، وثُمَالة، والحُدان، وأسلَم، وجُذام، ومهرة، وحمير، ونجران، وجيشان. وكذلك لم يبق في شبه الجزيرة بطن أو قبيلة حتى أسلم إلا من قدمنا.

وكان ذلك شأن المشركين من أهل شبه الجزيرة؛ سارعوا إلى الدخول في الإسلام، وتركوا عبادة الأوثان. وتطهرت بلاد العرب جميعًا من الأصنام وعبادتهم، وتم ذلك كله بعد تبوك طواعيةً واختيارًا، من غير أن تزهق نفس أن يهراق دم. فماذا صنع اليهود والنصارى مع محمد، وماذا صنع محمد معهم؟

١  سورة التوبة الآيات من ١ إلى ٣٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤