الفصل الخامس

من البعث إلى إسلام عمر

(حديث خديجة وورقة بن نوفل – فتور الوحي – إسلام أبي بكر – المسلمون الأولون – دعوة محمد أهلَه للإسلام – إغراء قريش شعراءها بمحمد – ذكر محمد آلهة قريش بالسوء – سفارة قريش إلى أبي طالب – موقف محمد من عمه – تعذيب قريش المسلمين – هجرة المسلمين للحبشة – إسلام عمر)

***

نام محمد وحدقت فيه خديجة وقد امتلأ قلبها إشفاقًا وأملًا لهذا الذي سمعت منه. فلما رأته استغرق في نوم مطمئن هادئ، تركته وخرجت تقلب في نفسها هذا الذي هز قلبها وأثار هواجسها، وتفكر في الغد ترجو خيرًا، وترجو أن يكون زوجها نبي هذه الأمة العربية التي غرقت في الضلال؛ يهديها دين الحق ويدلها على الصراط المستقيم. ولكنها، مع ذلك كانت تخشى هذا الغد أشد الخشية على هذا الزوج البار الوفي الحميم. وطفقت تعرض أمام بصيرتها ما قص عليها، وتتخيل الملك الجميل الذي تعرض له في السماء بعد أن أوحى إليه كلمات ربه، والذي ملأ عليه الوجود كله حينما كان يراه أينما صرف وجهه، وتستعيد الكلمات التي تلا محمد بعد أن نقشت في صدره. جعلت تعرض ذلك كله أمام بصيرتها فتفتر شفتاها طورًا عن ابتسامة الأمل، وتنكمش أساريرها طورًا آخر خيفة ما قد يكون أصاب الأمين. ولم تطق البقاء في وحدتها طويلًا، تنتقل من الأمل الحلو الباسم إلى الريبة والإشفاق المخوف، ففكرت بأن تفضي بما في نفسها إلى من تعرف فيه الحكمة ومحض النصيحة.

لذلك انطلقت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل؛ وكان كما قدمنا قد تنصر وعرف الإنجيل ونقل بعضه إلى العربية. فلما أخبرته بما رأى محمد وسمع، وقصت عليه كل ما حدثها به، وذكرت له إشفاقها وأملها، أطرق مليًّا ثم قال: «قدوس قدوس، والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاء الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، وإنه لنبي هذه الأمة، فقولي له فليثبت.» وعادت خديجة فألفت محمدًا ما يزال نائمًا، فحدقت فيه وكلها الحب والإخلاص، وكلها الإشفاق والأمل. وفيما هو في هدأة نومه إذا به اهتز وثقل تنفسه وبلل العرق جبينه يقوم ليستمع إلى الملك يوحي إليه: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ.١

ورأته خديجة كذلك فازدادت إشفاقًا، وتقدمت إليه في رقة وضراعة أن يعود إلى فراشه وأن ينام ليستريح. فكان جوابه — أو كما قال — انقضى يا خديجة عهد النوم والراحة، فقد أمرني جبريل أن أنذر الناس وأن أدعوهم إلى الله وإلى عبادته. فمن ذا أدعو؟ ومن ذا يستجيب لي؟ فجهدت خديجة تهون عليه الأمر وتثبته. وسارعت فقصت عليه نبأ ورقة وما حدثها به، ثم أعلنت إليه في شوق ولهف إسلامها له وإيمانها بنبوته.

وكان طبيعيًّا أن تسارع إلى الإيمان به، وقد جربت عليه طول حياته الأمانة والصدق وعلو النفس وحب البر والرحمة، رأته في سنوات تحنثه كيف شغلت نفسه بالحق وحده، يطلبه مرتفعًا بقلبه وبروحه وبعقله فوق أوهام الناس ممن يعبدون الأصنام ويقربون لها القرابين، وممن يرون فيها آلهة يزعمونها تضر وتنفع، ويتوهمونها خليقة بالعبادة والإجلال. رأته في سنوات تحنثه كما رأت كيف كان حاله أول عوده من حراء بعد البعث وهو في أشد الحيرة من أمره. ولقد طلبت إليه متى جاءه الملك أن يخبرها. فلما رآه أجلسته على فخذها اليسرى ثم على فخذها اليمنى، ثم في حجرها وهو ما يزال يراه، فحسرت وألقت خمارها فإذا هو لا يراه؛ فلم يبق ريب عندها في أنه ملك وليس بشيطان.

وخرج محمد من بعد ذلك يومًا للطواف بالكعبة، فلقيه ورقة بن نوفل، فلما قص عليه محمد أمره قال ورقة: «والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة. ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى. ولتُكَذَّبَن، ولتؤذين، ولتُخرجنَّ ولتقاتَلَنَّ. ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرًا يعلمه.» ثم أدنى منه رأسه فقبل يافوخه. وشعر محمد بصدق ورقة في قوله وبثقل ما ألقي عليه، وطفق يفكر كيف يدعو قريشًا إلى ما آمن به وهو يعلم أنهم أحرص ما يكونون على باطلهم، حتى ليقاتلون في سبيله ويقتلون، وهم من بعد أهله وعشيرته الأقربون.

إنهم في ضلال، وإن ما يدعوهم إليه هو الحق، فهو يدعوهم إلى الارتفاع بقلوبهم وبأرواحهم لتتصل بالله الذي خلقهم وخلق من قبل آباءهم، ليعبدوه مخلصين له الدين طاهرة نفوسهم. وهو يدعوهم ليتقربوا إلى الله بالعمل الصالح وإيتاء ذي القربى حقه وابن السبيل، ولينبذوا عبادة هذه الأحجار التي اتخذوا منها أصنامًا يزعمون أنها تغفر لهم ما يمعنون فيه من لهو وفسوق، ومن أكل الربا ومال اليتيم، فإذا عبادتها تحيل نفوسهم وقلوبهم أشد من الأصنام تحجرًا وقسوة! وهو يهيب بهم أن ينظروا إلى ما في السموات والأرض من خلق الله لتمتثل نفوسهم ذلك كله وتدرك ما له من خطر وجلال، فتعظم بإدراكها سنة ما في السموات وما في الأرض، ثم تعظم بعبادتها خالق الوجود كله وحده لا شريك له، وتسمو لذلك عن كل وضيع، وتتعالى عن كل دون، وتأخذها الرحمة بكل ما لم يهده الله وتعمل لهدايته، وتكون البر لكل يتيم ولكل بائس أو ضعيف. نعم! إلى هذا أمره الله أن يدعوهم. لكن هذه القلوب القاسية، وهذه الأرواح الغلاظ قد يبست على عبادة ما كان يعبد آباؤها. ووجدت فيه تجارة تجعل مكة مركز حجيج عبدة الأصنام! أفيتركون دين آبائهم ويعرضون مكانة مدينتهم لما قد تتعرض له إذا لم يبق على عبادة الأصنام أحد؟! ثم كيف تطهر هذه القلوب وتخلص من أدران شهواتها، والشهوة تهبط بها إلى إرضاء بهيميتها، في حين هو ينذر الناس أن يرتفعوا فوق شهواتهم وفوق أصنامهم؟ وإذا هم لم يؤمنوا به فماذا عسى أن يفعل؟ هذه هي المسألة الكبرى؟

انتظر هداية الوحي إياه في أمره وإنارة سبيله، فإذا الوحي يفتر! وإذا جبريل لا ينزل عليه، وإذا ما حوله سكينة صامتة جعلته في وحدة من الناس ومن نفسه، وردته إلى مثل مخاوفه قبل نزول الوحي. وقد روي أن خديجة قالت له: ما أرى ربك إلا قد قلاك. وتولاه الخوف والوجل، فهما يبتعثانه من جديد يطوي الجبال وينقطع في حراء يرتفع بكل نفسه ابتغاء وجه ربه يسأله: لم قلاه بعد أن اصطفاه؟ ولم تكن خديجة أقل منه إشفاقًا ووجلًا. ويتمنى الموت صادقًا لولا أنه كان يشعر بما أمر به فيرجع إلى نفسه ثم إلى ربه. ولقد قيل: إنه فكر في أن يلقي بنفسه من أعلى حراء أو أبي قبيس. وأي خير في الحياة وهذا أكبر أمله فيها يذوي وينقضي؟! وإنه لكذلك تساوره هذه المخاوف إذ جاءه الوحي بعد طول فتوره.

ونزل عليه بقوله تعالى: وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَىٰ * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ.٢

يا لجلال الله! أية سكينة للنفس، وغبطة للقلب، وبهجة للفؤاد! انجابت مخاوف محمد وزال كل روعه، وارتسمت على ثغره ابتسامة الرضا، وافترت شفتاه عن معاني الحمد وآي التقديس والعبادة، لم يبق لما كانت تخشى خديجة من أن الله قلاه ولم يبق لفزعه وهلعه موضع، بل تولاه الله وتولاها برحمته، وأزال كل خشية أو ريبة من نفسه. لا انتحار إذن، ولكن حياة ودعوة إلى الله، وإلى الله وحده. إلى الله العلي الكبير تعنو له الجباه ويسجد له من في السموات والأرض جميعًا. وهو وحده الحق وكل ما يدعون من دون الباطل. إليه وحده يتوجه القلب، وبه وحده يجب أن تتعلق النفس، وفيه وحده يجب أن تفنى الروح، وللآخرة خير لك من الأولى؛ الآخرة التي تحيط فيها النفس بكل الوجود في كمال وحدته، والتي يتناهى إليها المكان والزمان وننسى فيها اعتبارات هذه الحياة الوضيعة الأولى. الآخرة التي يصير فيها الضحى ولألاء شمسه الباهرة والليل ودجاه الساجي، والسموات والكواكب والأرض والجبال كُلًّا واحدًا تتصل به الروح الراضية المرضية. هذه هي الحياة التي يجب أن تكون إليها الغاية من سفر هذه الحياة. هذا هو الحق وكل ما دونه صور منه لا تغني عنه. هذا هو الحق الذي أضاء بنوره روح محمد والذي ابتعثه من جديد ليفكر في الدعوة إلى ربه. وللدعوة إلى ربه يجب أن يطهر ثيابه، وأن يهجر المنكر، وأن يصبر على ما يلاقي من الأذى في سبيل الدعوة إلى الحق، وأن ينير للناس سبيل العلم بما لم يكونوا يعلمون، وألا ينهر من أجل ذلك سائلًا، ولا يقهر يتيمًا. حسبه اختيار الله إياه لكلمته فليتحدث عنها. وحسبه أن الله وجده يتيمًا فآواه في كفالة جده عبد المطلب وعمه أبي طالب؛ وأنه وجده فقيرًا فأغناه بأمانته ويسَّر له خديجة شريكة صباه، شريكة تحنثه، شريكة بعثه، شريكة المحبة، الناصحة الرءوف، وأنه وجده ضالًّا فهداه برسالته. حسبه هذا. وليدعُ إلى الحق جاهدًا ما استطاع. ذلك أمر الله إلى نبيه الذي اصطفاه، ما ودعه وما قلاه.

وعلَّم الله نبيه الصلاة فصلى وصلت خديجة معه. وكان يقيم معهما غير بناتهما علي بن أبي طالب الذي كان صبيًّا لما يبلغ الحلم؛ ذلك أن قريشًا أصابتهم أزمة شديدة؛ وكان أبو طالب كثير العيال. فقال محمد لعمه العباس — وكان من أكثر بني هاشم يسارًا: «إن أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة: فانطلق بنا إليه فلنخفف من عياله، آخذ من بنيه رجلًا وتأخذ أنت رجلًا فنكفلهما عنه …» وكفل العباس جعفرًا وكفل محمد عليًّا، فلم يزل معه حتى بعثه الله. وفيما محمد وخديجة يصليان يومًا دخل عليهما عليٌّ مفاجأة، فرآهما يركعان ويسجدان ويتلوان ما تيسر مما أوحاه الله يومئذ من القرآن. فوقف الشاب دهشًا حتى أتما صلاتهما، ثم سأل: لمن تسجدان؟ فأجابه محمد — أو كما قال: إنما نسجد لله الذي بعثني نبيًّا وأمرني أن أدعو الناس إليه. ودعا محمد ابن عمه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى دينه الذي بعث نبيَّه به، وإلى إنكار الأصنام من أمثال اللات والعزى، وتلا محمد ما تيسَّر من القرآن، فأُخِذ عليٌّ عن نفسه، وسحره جمال الآيات وإعجازها، واستمهل ابن عمه حتى يشاور أباه. ثم قضى ليله مضطربًا، حتى إذا أصبح أعلن إليهما أنه اتبعهما من غير حاجة لرأي أبي طالب، وقال: «لقد خلقني الله من غير أن يشاور أبا طالب، فما حاجتي أنا إلى مشاورته لأعبد الله.» وكذلك كان علي أول صبي أسلم، ومن بعده أسلم زيد بن حارثة مولى النبي. وبذلك بقي الإسلام محصورًا في بيت محمد: فيه وفي زوجته وابن عمه ومولاه. وظل هو يفكر كيف يدعو قريشًا إليه وهو يعلم ما هي عليه من شدة البأس وبالِغ التعلُّق بعبادات آبائها وأصنامهم.

وكان أبو بكر بن أبي قحافة التَّيْمي صديقًا حميمًا لمحمد، يستريح إليه ويعرف فيه النزاهة والأمانة والصدق؛ لذلك كان هو أول من دعاه إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأوثان، وأول من أفضى إليه بما رأى وبما أوحي إليه: ولم يتردد أبو بكر في إجابة محمد إلى دعوته وفي الإيمان بها، وأيُّ نفس تنشرح للحق تتردد ترك في عبادة الأوثان لعبادة الله وحده؟ وأيُّ نفس فيها شيء من السمو ترضى عن عبادة الله عبادة حجر أيًّا كانت صورته؟ أو أي نفس تقية تتردد في طهر الثياب وطهر النفس وإعطاء السائل والبر باليتيم؟! وأذاع أبو بكر بين أصحابه إيمانه بالله وبرسوله. وكان أبو بكر رجلًا وسيمًا «مَأْلَفًا لقومه محبَّبًا سهلًا، وكان أنسب قريش لقريش وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشر. وكان رجلًا تاجرًا ذا خلق ومعروفٍ، وكان رجال قومه يألفونه لغير واحد من الأمر، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته.»

وجعل أبو بكر يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه، فتابعه على الإسلام عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، ثم أسلم من بعد ذلك أبو عبيدة بن الجراح وكثيرون غيره من أهل مكة.

وكان أحدهم إذا أسلم ذهب إلى النبي فأعلن إليه إسلامه وتلقى عنه تعاليمه. وكان المسلمون الأولون يستخْفون؛ لعلمهم بما تضمر قريش من عداوة لكل خارج على أوثانها، فكانوا إذا أرادوا الصلاة انطلقوا إلى شعاب مكة وصلوا فيها. وظلوا على ذلك ثلاث سنوات ازداد الإسلام فيها انتشارًا بين أهل مكة، ونزل على محمد فيها من الوحي ما زاد المسلمين إيمانًا وتثبيتًا.

وكان مَثَل محمد خير ما يزيد الدعوة انتشارًا: كان برًّا رحيمًا، جم التواضع كامل الرجولية، عذب الحديث، محبًّا للعدل، يعطي كل ذي حق حقه، وينظر إلى الضعيف واليتيم وإلى البائس والمسكين نظرة كلها الأبوة والحنان والعطف والمودة. وكان تهجده وسهره الليل وترتيله ما أنزل عليه ودوام نظره في السموات والأرض والتماس العبرة من الوجود كله وكل ما فيه، وفي توجهه الدائم لله وحده، والتماسه حياة الكون كله في أطواء نفسه ودخيلة حياته، مثلًا جعل الذين آمنوا به وأسلموا له أحرص على إسلامهم وأشد يقينًا بإيمانهم، على ما في ذلك من إنكار ما كان عليه آباؤهم واحتمال تعرضهم لأذى المشركين ممن لم يدخل الإيمان في قلوبهم. آمن بمحمد من تجار مكة وأشرافها من عرفت نفوسهم الطهر والنزاهة والمغفرة والرحمة، وآمن به كل ضعيف وكل بائس وكل محروم، وانتشر أمر محمد بمكة، ودخل الناس في الإسلام أرسالًا رجالًا ونساءً.

وتحدَّث الناس عن محمد وعن دعوته. على أن أهل مكة من قساة الأكباد ومَنْ على قلوبهم أقفالها لم يعبئوا به أول أمره، وظنوا أن حديثه لن يزيد على حديث الرهبان والحكماء أمثال قُسٍّ وأمية وورقة وغيرهم، وأن الناس عائدون لا محالة إلى دين آبائهم وأجدادهم، وأن هُبل واللات والعُزَّى، وإسافًا ونائلة اللذين كانا يُنحر عندهما، ستكون آخر الأمر صاحبة الغلب، ناسين أن الإيمان الصادق لا يغلبه غالب، وأن الحق قد كتب له الفوز أبدًا.

بعد ثلاث سنين من حين البعث أمر الله رسوله أن يظهر ما خفي من أمره وأن يصدع بما جاء منه، ونزل الوحي: وأنذر عشيرتك الأقربين * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ،٣فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.٤

ودعا محمد عشيرته إلى طعام في بيته، وحاول أن يحدِّثهم داعيًا إياهم إلى الله؛ فقطع عمه أبو لهب حديثه واستنفر القوم ليقوموا. ودعاهم محمد في الغداة كرَّةً أخرى، فلما طعموا قال لهم: ما أعلم إنسانًا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة. وقد أمرني ربي أن أدعوكم إليه. فأيكم يؤازرني على هذا الأمر؟ فأعرضوا عنه وهمُّوا بتركه. لكن عليًّا نهض، وهو ما يزال صبيًا دون الحلم. وقال: «أنا يا رسول الله عونك. أنا حربٌ على من حاربت.» فابتسم بنو هاشم وقهقه بعضهم، وجعل نظرهم ينتقل من أبي طالب إلى ابنه، ثم انصرفوا مستهزئين.

انتقل محمد بعد ذلك بدعوته من عشيرته الأقربين إلى أهل مكة جميعًا. صعد الصفا يومًا ونادى: يا معشر قريش! قالت قريش: محمد على الصفا يهتف، وأقبلوا عليه يسألونه ما له؟ قال: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدِّقون؟ قالوا: نعم! أنت عندنا غير متهم وما جرَّبنا عليك كذبًا قطُّ. قال: فإني نذير بين يدي عذاب شديد، يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا بني زُهرة، يا بني تيم، يا بني مخزوم، يا بني أسد، إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وإني لا أملك لكم من الدنيا منفعة ولا من الآخرة نصيبًا إلا أن تقولوا: لا إله إلا الله، أو كما قال. فنهض أبو لهب — وكان رجلًا بدينًا سريع الغضب — فصاح: «تبًّا لك سائر هذا اليوم! ألهذا جمعتنا؟!»

وأرْتج على محمد فنظر إلى عمه، ثم ما لبث أن جاء الوحي بقوله تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَىٰ عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَىٰ نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ.٥
لم يحُل غضب أبي لهب ولا خصومة غيره من قريش دون انتشار الدعوة إلى الإسلام بين أهل مكة. فلم يكن يوم إلا أسلم فيه بعضهم لله وجهه. وكان الزاهدون في الدنيا أشد على الإسلام إقبالًا. أولئك لا تلهيهم التجارة ولا يلهيهم البيع عن التأمل فيما يدعوهم الداعي إليه. وهم قد رأوا محمدًا في غنى من مال خديجة وماله، وها هو ذا مع ذلك لا يعبأ بهذا المال ولا بالمزيد عليه والإكثار منه، ويدعو إلى الحب والعطف والمودة والتسامح. بل ها هو ذا يجيئه الوحي بأن في الإكثار من الثروة لعنةً للروح. أليس يقول: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ؟٦

وأي شيء خير مما يدعو إليه محمد؟! أليس هو يدعو إلى الحرية! إلى الحرية المطلقة التي لا حدود لها! إلى الحرية العزيزة على نفس العربي عزة حياته عليه؟! نعم! أليس يطلق الناس من التقيُّد بأية عبادة غير عبادة الله وحده؟! أليس يحطم كل ما بينهم وبينه من أغلال؟! لا هُبل ولا اللات ولا العُزَّى ولا نار المجوس ولا شمس المصريين ولا نجوم عُبَّاد النجوم ولا الحواريون ولا أحد من الإنس أو من الملائكة أو من الجان يحجب بين الله والإنسان. وأمام الله، أمامه وحده لا شريك له، يُسأل الإنسان عما قدَّم من خير أو شر. وأعمال الإنسان هي وحدها شفيعه. وضميره هو الذي يزن أعماله، وهو وحده صاحب السلطان عليه، وبه يُحاسَب يوم تُجزى كل نفس بما كسبت. أية حرية أوسع مدى من هذه الحرية التي يدعو محمد إليها؟! وهل يدعو أبو لهب وأصحابه إلى شيء من مثلها؟! أم هم يدعون الناس لتظل نفوسهم في رقٍّ وعبودية بما تكدَّس عليها من خُرافات حجبت عنها نور الحق أو ضياء الهدى؟

على أن أبا لهب وأبا سفيان وأشراف قريش وأمجادها، وأشراف المال وأمجاد اللهو، بدءوا يشعرون بما في دعوة محمد من خطر على مكانتهم، فرأوا بادئ الرأي أن يحاربوه بالحط من شأنه، وبتكذيبه فيما يزعم من نبوَّته. وكان أول ما صنعوا من هذا أن أغروا به شعراءهم: أبا سفيان بن الحارث، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبعرى، يهجونه ويقارعونه. وتولَّت طائفة من شعراء المسلمين الرد على هؤلاء من غير أن يكون محمد في حاجة إلى مساجلتهم. هنالك تقدَّم غير الشعراء يسألون محمدًا عن معجزاته التي يُثبت بها رسالته؛ معجزات كمعجزات موسى وعيسى.

فما باله لا يُحيل الصفا والمروة ذهبًا، ولا ينزل عليه الكتاب الذي يتحدَّث عنه مخطوطًا من السماء؟! ولم لا يبدو لهم جبريل الذي يطول حديث محمد عنه؟! ولم لا يحيي الموتى ولا يسير الجبال حتى لا تظل مكة حبيسة بينها؟! ولِمَ لا يفجر ينبوعًا أعذب من زمزم ماءً وهو أعلم بحاجة أهل بلده إلى الماء؟! ولَمْ يقف أمر المشركين عند التهكم بالمسألة في هذه المعجزات، بل كانوا يزدادون تهكمًا ويسألونه: لم لا يوحي إليه ربه أثمان السلع حتى يضاربوا على المستقبل. وطال بهم اللجاج، فرد الوحي لجاجهم بما أنزل على محمد من قوله تعالى: قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.٧
figure
جانب من المسجد الحرام.

نعم! ما محمد إلا نذير وبشير. فكيف يطالبونه بما لا يقبل العقل وهو لا يطلب إليهم إلا ما يقبله العقل بل يُمليه ويحتمه؟! وكيف يطلبون إليه ما تأنف منه النفس الفاضلة وهو لا يطالبهم إلا أن يستجيبوا لوحي النفس الفاضلة؟! وكيف يطلبون إليه المعجزات وهذا الكتاب الذي يوحَى إليه، والذي يهدي إلى الحق، معجزة المعجزات؟! وما لهم يطلبون إليه إثبات رسالته بالخوارق ليترددوا من بعد ذلك أيتبعونه أم لا يتبعونه، وهذه التي يزعمونها آلهتهم ليست إلا حجارة أو خشبًا مُسَنَّدة أو أنصابًا قائمة في عُرض الفلاة لا تملك لهم نفعًا ولا ضرًّا، وهم مع ذلك يعبدونها دون أن يطلبوا إليها ما يُثبت ألوهيتها؟! ولو أنهم طلبوا لظلت خشبًا أو حجارة لا حياة فيها ولا حركة لها، لا تستطيع لنفسها ضرًّا ولا نفعًا، ولا تستطيع إذا حطمها محطم عن نفسها دفعًا.

وبادأهم محمد بذكر آلهتهم وكان من قبلُ لا يذكرها، وعابها وكان من قبل لا يعيبها. هنالك عظم الأمر على قريش وحزَّ في صدورهم؛ وبدءوا يفكرون التفكير الجد في أمر هذا الرجل وما هو لاقٍ منهم وما هم لاقون منه، لقد كانوا إلى يومئذ يسخرون من قوله، وكانوا إذا جلسوا في دار الندوة أو حول الكعبة وأصنامهم فجرى ذكره على ألسنتهم لم يُثر أكثر من ابتسامات استخفافهم واستهزائهم. أما وقد حقَّر من شأن آلهتهم وسخر مما يعبدون وما كان يعبد آباؤهم، ونال من هُبل ومن اللات والعُزَّى ومن الأصنام جميعًا، فلم يبق الأمر موضع استخفاف وسخرية، بل أصبح موضع جدٍّ وتدبير. أوَلو أتيح لهذا الرجل أن يؤلب عليهم أهل مكة وأن يصرفهم عن عبادتهم فماذا تئول إليه تجارة مكة؟ وماذا يكون مقامها الديني؟

لم يكن عمُّه أبو طالب قد دخل في دين الله، لكنه ظل حاميًا لابن أخيه قائمًا دونه، معلنًا استعداده للدفاع عنه. لذلك مشى رجال من أشراف قريش على أبي طالب، وفي مقدمتهم أبو سفيان بن حرب، فقالوا: «يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سبَّ آلهتنا وعاب ديننا وسفَّه أحلامنا وضلَّل آباءنا، فإما أن تكفَّه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه؛ فإنك على مثل ما نحن عليه من خلاف فسنكفيكه.» فردهم أبو طالب ردًّا جميلًا. ومضى محمد يشتد في الدعوة إلى رسالته، ويزداد لدعوته أعوانًا. وائتمرت قريش بمحمد ومشوا إلى أبي طالب مرةً أخرى ومعهم عمارة بن الوليد بن المغيرة، وكان أنهد فتى في قريش وأجمله، وطلبوا إليه أن يتخذه ولدًا ويسلمهم محمدًا، فأبى.

ومضى محمد في دعوته ومضت قريش في ائتمارها. ثم ذهبوا إلى أبي طالب مرة ثالثة وقالوا له: «يا أبا طالب، إن لك سنًّا وشرفًا ومنزلةً فينا، وقد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا. وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وعيب آلهتنا حتى تكفَّه عنا أو ننازله وإياك حتى يهلك أحد الفريقين.» وعظُم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم، ولم يطب نفسًا بإسلام ابن أخيه ولا خذلانه. ماذا تراه يصنع؟ بعث إلى محمد فقصَّ عليه رسالة قريش، ثم قال له: «فأبق عليَّ وعلى نفسك ولا تحمِّلني من الأمر ما لا أطيق.»

وأطرق محمد إطراقةً وقف إزاءها تاريخ الوجود كله برهةً مبهوتًا لا يدري بعدها ما اتجاهه. وفي الكلمة التي تفترُّ عنها شفتا هذا الرجل حكمٌ على العالم: أهو يظلُّ في الضلال يُمَدُّ له فيه، فتطغى المجوسية على النصرانية المتخاذلة المضطربة وترفع الوثنية بباطلها رأسها الخرِف الأفن، أم هو يضيء أمامه نور الحق، تعلن فيه كلمة التوحيد، وتحرر فيه العقول من رق العبودية والقلوب من أسر الأوهام، وترفع فيه النفس الإنسانية لتتصل بالملأ الأعلى؟ وهذا عمه كأنه ضعف عن نصرته والقيام معه، فهو خاذله ومسلمه. وهؤلاء المسلمون ما يزالون ضعافًا لا يقوون على حرب ولا يستطيعون مقاومة قريش ذات السلطان والمال والعُدَّة والعدد. إذن لم يبق له دون الحق الذي ينادي الناس باسمه نصير، ولم يبق له سوى إيمانه بالحق عُدَّة. ليكن! إن الآخرة خير له من الأولى. فليؤد رسالته وليدعُ إلى ما أمره ربه. ولخيرٌ له أن يموت مؤمنًا بالحق الذي أوحي إليه من أن يخذله أو يتردد فيه. لذلك التفت إلى عمِّه ممتلئ النفس بقوة إرادته وقال له: «يا عمُّ، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.»

يا لعظمة الحقِّ وجلال الإيمان به! اهتز الشيخ لما سمع من جواب محمد، ووقف كذلك مبهوتًا أمام هذه القوة القدسية والإرادة السامية فوق الحياة وما في الحياة. وقام محمد وقد خنقته العَبرة مما فاجأه به عمه وإن لم تدُر بنفسه خلجة ريب في السبيل الذي يسلك. ولم تك لحظة اهتز فيها وجود أبي طالب متحيرًا بين غضبة قومه وموقف ابن أخيه حتى نادى محمدًا أن أقبل، فلما أقبل قال له: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء تكرهه أبدًا! وأفضى أبو طالب إلى بني هاشم وبني المطلب بقول ابن أخيه وبموقفه، وحديثه عنه يتدفق بروعة ما شهد وجلال ما شعر به، وطلب إليهم أن يمنعوا محمدًا من قريش؛ فاستجابوا له جميعًا إلا أبا لهب؛ فإنه صارحهم بالعداوة وانضم إلى خصومهم عليهم. وهم لا ريب قد منعوه متأثرين بالعصبية القومية وبالخصومة القديمة بين بني هاشم وبني أمية.

لكن العصبية لم تكن وحدها التي حفزتهم إلى الوقوف هذا الموقف من قريش كلها في أمر له من جلال الخطر ما للدعوة إلى نبذ دينهم والخروج على عقائدهم التي وجدوا عليها آباءهم؛ بل كان موقف محمد منهم وشدة إيمانه بينهم ودعوته الناس بالحسنى إلى عبادة الواحد الأحد، وما كان شائعًا يومئذ بين قبائل العرب جميعًا من أن لله دينًا غير دينهم الذي هم عليه؛ مما جعلهم يرون حقًّا لابن أخيهم محمد أن يعالن الناس برأيه كما كان يفعل أمية بن أبي الصلت وورقة بن نوفل وغيرهما. فإن يكن محمد على الحق — وذلك ما لا ثقة لهم به — فسيظهر الحق من بعدُ وسيكون لهم من مجده نصيب، وإلا يكن على الحق فسينصرف الناس عنه كما انصرفوا من قبل عن غيره، ثم لن يكون لدعوته من الأثر أن يخرجوا على تقاليدهم وأن يُسلموه لخصومه كي يقتلوه.

اعتصم محمد بقومه من أذى قريش، كما اعتصم بخديجة في داره من هم نفسه. فقد كانت له بصدق إيمانها وعظيم حبها، وزير صدق تسرِّي عنه كل همِّه، وتقوِّي فيه كل عارض ضعف من أثر أذى خصومه وإمعانهم في مناوأته وإيصال الأذى لأتباعه. وفي الحق أن قريشًا لم تنم ولم تَعُد لما عرفت من قبل من دعة النعيم؛ بل وثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذّبونهم ويفتنونهم عن دينهم، حتى ألقى أحدهم عبده الحبشي بلالًا على الرمل تحت الشمس المحرقة ووضع حجرًا على صدره وتركه ليموت، لا لشيء إلا أنه أصر على الإسلام! ولم يزد بلال وهو في هذه الحال على أن يكرر كلمة: «أَحَدٌ أَحَدٌ.» محتملًا هذا العذاب في سبيل دينه. وقد رآه أبو بكر يومًا يُعاني هذا العذاب فاشتراه وأعتقه. واشترى أبو بكر كثيرًا من الموالي الذين كانوا يعذبون، ومن بينهم جارية لعمر بن الخطاب اشتراها منه قبل إسلامه.

وعُذِّبت امرأة حتى ماتت لأنها لم ترض أن ترجع عن الإسلام إلى دين آبائها. وكان المسلمون من غير الموالي يُضرَبون وتُوَجَّه إليهم أشد صور المهانة. ولم يَسْلَم محمد — مع منع بني هاشم وبني المطلب له — من هذه الإساءات. كانت أم جميل زوج أبي لهب تلقي النجس أمام بيته فيكتفي محمد بأن يزيله. وكان أبو جهل يلقي عليه أثناء صلواته رحم شاة مذبوحة ضحية للأصنام فيحتمل الأذى ويذهب إلى ابنته فاطمة لتعيد إليه نظافته وطهارته. هذا إلى جانب ما كان المسلمون يسمعون من لغو القول وهُجْر الكلام حيثما ذهبوا. واستمر الأمر على ذلك طويلًا، فلم يزدادوا إلا حرصًا على دينهم وابتهاجًا بالأذى والتضحية في سبيل عقيدتهم وإيمانهم.

هذه الفترة من فترات حياة محمد عليه السلام هي من أشد ما عرف التاريخ الإنساني روعة في العصور جميعًا. فما كان محمد والذين اتبعوه طلَّاب مال ولا جاه ولا حكم أو سلطان؛ إنما كانوا طلاب حق وإيمان به. وكان محمد طالب هدى للذين يصيبونه بالأذى وتحرير لهم من ربقة الوثنية الوضيعة التي تنحدر بالنفس الإنسانية إلى خزي المذلة والهوان. في سبيل هذه الغاية الروحية السامية، لا في سبيل شيء آخر، كان الأذى يصله، وكان الشعراء يسبونه، وكانت قريش تأتمر به حتى حاول رجل قتله عند الكعبة. وكان منزله يُرجم، وكان أهله وأتباعه يُهدَّدون، فلا يزيده ذلك إلا صبرًا وإمعانًا في الدعوة.

وامتلأت نفوس المؤمنين الذين اتَّبعوه بقوله: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.» وهانت عليهم جميعًا التضحيات الجسام، وهان عليهم الموت في سبيل الحق وهداية قريش له. وقد تَعْجَب لهذا الإيمان الآخذ بنفوس أولئك المكيين ولمَّا يكن الدين قد كمل، ولما يكن قد نزل من القرآن إلا القليل. وقد تحسب أن شخصية محمد ودماثة طبعه وجميل خُلقه وما عُرف من صدقه وما بدا من صلابة عوده وقوة عزمه وثبات إرادته، كان السبب في كل هذا، ولا ريب قد كان لهذا كله حظه ونصيبه، لكن عوامل أخرى جديرة بالتقدير والاعتبار كان لها هي أيضًا نصيب في ذلك غير قليل.

فقد كان محمد في بلاد حُرَّة هي أشبه ما تكون بالجمهورية. وكان في الذروة والسنام منها حسبًا ونسبًا. وكان قد وصل من المال إلى ما يشاء. وكان إلى ذلك من بني هاشم. اجتمعت لهم سدانة الكعبة وسقاية الحاج وما شاءوا من مجد الألقاب الدينية. فلم يكن لذلك في حاجة إلى المال أو الجاه أو المكانة السياسية أو الدينية. وكان في ذلك على خلاف من سبقه من الرسل والأنبياء. فقد وُلد موسى في مصر وفيها فرعون يدين له أهلها بالألوهية وينادي هو فيهم: «أنا ربكم الأعلى.» وتعاونه طائفة رجال الدين على سَوْم الناس ألوان الظلم والاستغلال والعسف، فكانت الثورة التي قام بها موسى بأمر ربه ثورة نظام سياسي وديني معًا. أليس يريد أن يكون فرعون والرجل الذي يرفع الماء بالشادوف من النيل أمام الله سيَّين؟ إذن فما هي ألوهية فرعون وما هذا النظام القائم؟! يجب أن يُحطم ذلك كله، ويجب أن تكون الثورة سياسية أولًا.

لهذا لقيت الدعوة الموسوية منذ بداءتها حربًا من فرعون شعواء، ولذلك آزرت المعجزات موسى ليؤمن الناس بدعوته. ألقى عصاه فإذا هي حيَّة تسعى تلقف ما صنع سحرة فرعون. ولم يُجْدِ ذلك موسى شيئًا، فاضطر إلى مغادرة وطنه مصر، وقد آزرته في هجرته معجزة انفلاق الطريق في البحر خلال الماء. وقد وُلد عيسى في الناصرة من أعمال فلسطين، وهي يومئذ ولاية رومانية خاضعة لحكم القياصرة ولظلم المستعمرين بها ولآلهة رومية، فدعا الناس إلى الصبر على الظلم، وإلى المغفرة للتائب المنيب، وإلى ألوان من الرحمة اعتبرها القائمون بالأمر ثورة على تجبرهم، فآزرت عيسى معجزات إحياء الموتى وإبراء المرضى وسائر ما أيده به روح القُدُس من عنده. صحيح أن تعاليمهم تنتهي في جوهرها إلى ما تنتهي إليه تعاليم محمد في جوهرها، مع خلاف في التفاصيل ليس هنا موضع إيضاحه. لكنَّ هذه العوامل المختلفة، والعامل السياسي في مقدمتها، وجَّهت دعوتهما اتجاهها. أما محمد — وكانت ظروفه ما قدَّمنا — فكانت رسالته عقلية روحية أساسها الدعوة إلى الحق والخير والجمال، دعوة مجردة في بدئها وفي غايتها. ولبعدها عن كل خصومة سياسية لم تزعج النظام الجمهوري الذي كان قائمًا بمكة بأية صورة من صور الإزعاج.

وقد تأخذ القارئ الدهشة إذا ذكر ما بين دعوة محمد والطريقة العلمية الحديثة من شبه قوي، فهذه الطريقة العلمية تقتضيك إذا أردت بحثًا أن تمحو من نفسك كل رأي وكل عقيدة سابقة لك في هذا البحث، وأن تبدأ بالملاحظة والتجربة، ثم بالموازنة والترتيب ثم بالاستنباط القائم على المقدمات العلمية، فإذا وصلت إلى نتيجة من ذلك كانت نتيجة علمية خاضعة بطبيعة الحال للبحث والتمحيص، ولكنها تظل علمية ما لم يثبت البحث العلمي تسرُّب الخطأ إلى ناحية من نواحيها. وهذه الطريقة العلمية هي أسمى ما وصلت إليه الإنسانية في سبيل تحرير الفكر، وها هي ذي مع ذلك طريقة محمد وأساس دعوته، فكيف اقتنع الذين اتبعوه بدعوته وآمنوا بها؟ نزعوا من نفوسهم كل عقيدة سابقة وبدءوا يفكرون فيما أمامهم.

لقد كان لكل قبيلة من قبائل العرب صنم. فأي صنم هو الحق وأي صنم هو الباطل؟ وكان في بلاد العرب وفي البلاد التي تجاورها صابئة ومجوس يعبدون النار، وكان فيها الذين يعبدون الشمس فأيُّ هؤلاء على الحق، وأيهم على الباطل؟ لنذر هذا كله إذن جانبًا، ولنمح أثره من نفوسنا، ولنتجرد من كل رأي ومن كل عقيدة سابقة ولننظر. والنظر والملاحظة بطبيعة الحال سيان. مما لا شبهة فيه أن لكل موجود بسائر الموجودات اتصالًا؛ فالإنسان تتصل قبائله بعضها ببعض وأممه بعضها ببعض. والإنسان يتصل بالحيوان والجماد. وأرضنا تتصل بالشمس وبالقمر وبسائر الأفلاك. وذلك كله يتصل في سنن مطردة لا تحويل لها ولا تبديل. لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار.

ولو أن إحدى موجودات الكون تحولت لتبدل ما في الكون، فلو أن الشمس لم تُسعد الأرض بالنور والحرارة، على السنَّة التي تجري عليها منذ ملايين السنين، لتبدلت الأرض غير الأرض والسماء. وما دام ذلك لم يحدث، فلا بد لهذا الكل من روح يمسكه؛ منه نشأ، وعنه تطور، وإليه يعود. هذا الروح وحده هو الذي يجب أن يخضع له الإنسان. أما سائر ما في الكون فهو خاضع لهذا الروح كالإنسان سواء. والإنسان والكون والزمان والمكان وحدة، وهذا الروح جوهرها ومصدرها. وإذن فلتكن لهذا الروح وحدة العبادة. ولهذا الروح يجب أن تتجه القلوب والأفئدة. وفي الكون كله يجب أن نلتمس من طريق النظر والتأمل سُننه الخالدة. وإذن فما يعبد الناس من دون الله أصنامًا وملوكًا وفراعنةً ونارًا وشمسًا إنما هو وهم باطل غير جدير بالكرامة الإنسانية، ولا هو يتفق مع عقل الإنسان وما كرِّم به من القدرة على استنباط سُنَّة الله من طريق النظر في خلقه.

هذا جوهر الدعوة المحمدية على ما عرفها المسلمون الأولون. وقد أبلغهم الوحي إياها على لسان محمد في آي من البلاغة كانت ولن تزال معجزة؛ فجمع لهذا بذلك بين الحق وتصويره في كمال جماله. وهنالك ارتقت نفوسهم وسمت قلوبهم تريد الاتصال بهذا الروح الكريم؛ فهداهم محمد إلى أن الخير هو طريق الوصول، وأنهم مجزيُّون عن هذا الخير يوم يتمون واجبهم في الحياة بالتقوى، ويوم تُجزى كلُّ نفس بما كسبت. فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.٨

أيُّ سمو بالعقل الإنساني أعظم من هذا السمو؟! وأي تحطيم لقيوده أشدُّ من هذا التحطيم؟! حسبُ الإنسان أن يفهم هذا وأن يؤمن به وأن يعمل عليه ليبلغ الذروة من مراتب الإنسان. وفي سبيل هذه المكانة تهون كل تضحية على من يؤمن بها.

وقد كان من جلال موقف محمد ومن اتبعه أن ازداد بنو هاشم وبنو المطلب منعًا له ودفعًا للأذى عنه. مر أبو جهل بمحمد يومًا فآذاه وشتمه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتوهين من أمره، فأعرض محمد عنه وانصرف ولم يكلمه. وكان حمزة عمه وأخوه من الرضاعة، لا يزال على دين قريش، وكان رجلًا قويًّا مخوفًا. وكان ذا ولع بالصيد، فإذا رجع من صيده طاف بالكعبة قبل أن يعود إلى داره. فلما جاء في ذلك اليوم وعلم بما أصاب ابن أخيه من أذى أبي جهل ملأه الغضب، وذهب إلى الكعبة ولم يقف مسلمًا على أحد ممن كان عندها كعادته، ودخل المسجد فألفى أبا جهل فقصد إليه، حتى إذا بلغه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة. وأراد الرجال من بني مخزوم أن ينصروا أبا جهل فمنعهم حسمًا للشر ومخافة استفحاله معترفًا أنه سب محمدًا سبًّا قبيحًا، ثم أعلن حمزة إسلامه، وعاهد محمدًا على نصرته والتضحية في سبيل الله حتى النهاية.

ضاقت قريش ذرعًا بمحمد وأصحابه؛ إذ رأتهم يزدادون كل يوم قوةً، ثم لا يثنيهم الأذى ولا يصرفهم العذاب عن إيمانهم والجهر به، وعن صلواتهم وأداء فرضها؛ فخُيِّل إليهم أن يتخلصوا من محمد بما توهَّموا من إرضاء مطامعه، ناسين عظمة الدعوة الإسلامية ونزاهة جوهرها الروحي السامي عن الخصومة السياسية. فقد رغب عتبة بن ربيعة، وكان من سادات العرب، إلى قريش وهم في ناديهم أن يكلم محمدًا وأن يعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها فيعطونه أيها شاء ويكف عنهم. وكلم عتبة محمدًا فقال: «يا بن أخي، إنك منَّا حيث قد علمت من المكان في النسب. وقد أتيت قومك بأمر عظيم فرَّقت به جماعتهم. فاسمع مني أعرض عليك أمورًا لعلك تقبل بعضها … إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا. وإن كنت تريد تشريفًا سوَّدناك علينا، فلا نقطع أمرًا دونك. وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا. وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا٩ تراه لا تستطيع ردَّه عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ.»

فلما فرغ من قوله تلا محمد عليه سورة السجدة وعُتبة منصت يستمع إلى أحسن القول، ويرى أمامه رجلًا لا مطمع له في مال ولا تشريف ولا في مُلك ولا هو بالمريض، وإنما يُدلي بالحق، ويدعو إلى الخير، ويدفع بالتي هي أحسن، مع الإعجاز في العبارة، فلما انتهى محمد انصرف عتبة إلى قريش مأخوذًا بجمال ما رأى وسمع، مأخوذًا بعظمة هذا الرجل وسحر بيانه. ولم يرُقْ قريشًا أمر عتبة ولا راقها رأيه أن تترك للعرب محمدًا، فإن تغلبت عليه استراحت قريش، وإن تبعته فلها فخاره. فعادت تناوئ محمدًا وتناوئ أصحابه وتصيبهم من البلاء مما كان هو في منجاة منه بمكانته من قومه ومنعته بأبي طالب وبني هاشم وبني المطلب.

وزاد ما ينزل بالمسلمين من الأذى، وبلغ منهم القتل والتعذيب والتمثيل، هنالك أشار عليهم محمد أن يتفرَّقوا في الأرض. فلما سألوه أين نذهب؟ نصح إليهم أن يذهبوا إلى بلاد الحبشة المسيحية «فإن بها ملكًا لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجًا مما أنتم فيه.» فخرج فريق من المسلمين عند ذلك إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفرارًا إلى الله بدينهم. وخرجوا في هجرتين؛ كانوا في الأولى أحد عشر رجلًا وأربع نساء تسللوا من مكة لواذًا، ثم أقاموا في خير جوار من النجاشي، حتى ترامى إليهم أن المسلمين بمكة أصبحوا بمأمن من أذى قريش فعادوا، كما سنقصُّه من بعدُ. فلما لقوا عنت قريش وأذاهم أبلغ مما كان عادوا إلى الحبشة في ثمانين رجلًا غير نسائهم وأطفالهم، وأقاموا بها إلى ما بعد هجرة النبي إلى يثرب. وهذه الهجرة إلى الحبشة كانت أول هجرة في الإسلام.

من حق من يؤرخ لمحمد أن يسأل: أكان كل القصد من هذه الهجرة، التي قام بها المسلمون بأمره ورأيه، الفرار من كفَّار مكة وما يُلحقون بهم من الأذى؟ أما أنها كان لها كذلك غرض سياسي إسلامي رمى محمد من ورائه إلى غاية عُليا؟ من حق مؤرخ محمد أن يسأل عن هذا بعد ما ثبت من تاريخ هذا النبيِّ العربي في أطوار حياته جميعًا أنه كان سياسيًّا بعيد الغور، كما كان صاحب رسالة وأدب نفس لا يدانيه فيهما في السموِّ والجلال والعظمة مُدانٍ. ويدعونا إلى هذه المسألة ما تجري به الرواية من أن أهل مكة لم يستريحوا إلى خروج من خرج من المسلمين إلى الحبشة، بل بعثوا رجلين إلى النجاشي ومعهما الهدايا النفيسة ليقنعوه بأن يردَّ المسلمين من مواطنيهم إليهم. والحبشة ونجاشيها كانوا نصارى، فليس تخشى قريش عليهم من الناحية الدينية أن يتبعوا محمدًا. فهل تراهم عُنُوا بالأمر وبعثوا يستردون المسلمين لأنهم رأوا أن حماية النجاشي إياهم بعد سماعه أقوالهم قد تكون ذات أثر في إقبال أهل جزيرة العرب على دين محمد واتباعهم إياه؟ أم هم خافوا — إن بقي هؤلاء في الحبشة — أن تشتد شوكتهم، فإذا عادوا بعد ذلك لمعونة محمد عادوا أقوياء بالمال والرجال؟

كان الرسولان عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة. وقد دفعا إلى النجاشي وإلى بطارقته بالهدايا كي يرد المهاجرين من أهل مكة إليها. ثم قالا: «أيها الملك إنه قد ضَوَى١٠ إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت. وقد بعثَنَا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردَّهم إليهم؛ فهم أعلى بهم عينًا وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.» وكان السفيران قد اتفقا مع بطارقة النجاشي بعد أن أتحفاهم بهدايا أهل مكة أن يعاونوهم على ردِّ المسلمين إلى قريش دون أن يسمع النجاشي كلامهم، فأبى النجاشي أن يفعل حتى يسمع ما يقولون، وبعث في طلبهم. فلما جاءوا سألهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به في ديني ولا دين أحد من هذه الملل؟

فكان الذي كلَّمه جعفر بن أبي طالب، قال: «أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونُسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف. فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه، من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكفِّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئًا. وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام — وعدَّد عليه أمور الإسلام — فصدقناه به واتَّبعناه على ما جاء به من الله. فعبدنا الله وحده لا نشرك به شيئًا. وحرَّمنا ما حرَّم علينا، وأحللنا ما أحلَّ لنا، فعدا علينا قومنا فعذَّبونا وفتنونا عن ديننا ليردُّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث. فلما قهرونا وظلمونا وضيَّقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك؛ ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نُظلَم عندك.»

فقال النجاشي: «هل معك مما جاء به عن الله من شيء تقرؤه عليَّ؟»

قال جعفر: نعم! وتلا عليه سورة مريم من أوَّلها إلى قوله تعالى: فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا.١١

فلما سمع البطارقة هذا القول مصدقًا لما في الإنجيل أُخِذوا وقالوا: هذه كلمات تصدر من النبع الذي صدرت منه كلمات سيدنا يسوع المسيح. وقال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا والله لا أسلمهم إليكما. فلما كان الغد عاد ابن العاص إلى النجاشي فقال له: إن المسلمين يقولون في عيسى ابن مريم قولًا عظيمًا، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه. فلما دخلوا عليه قال جعفر بن أبي طالب: فيه نقول الذي جاء به نبينا، يقول: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فأخذ النجاشي عودًا وخطَّ به على الأرض وقال — وقد بلغت منه المسرَّة أكبر مبلغ: ليس بين دينكم وديننا أكثر من هذا الخط. وكذلك تبيَّن للنجاشي بعد سماع الفريقين أنَّ هؤلاء المسلمين يعترفون بعيسى ويقرُّون النصرانية ويعبدون الله. ووجد المسلمون في جوار النجاشي أمنًا ودعة حتى رجعوا إلى مكة للمرة الأولى ومحمد ما يزال بها، حين بلغهم أن خصومة قريش هدأت. فلما رأوا المكيين ما يزالون يُنزلون به وبأعوانه الأذى عادوا إلى الحبشة في ثمانين رجلًا غير نسائهم وأطفالهم. أفكانت هجرتاهم هاتان لمجرَّد الفرار من الأذى، أم كان لهما — ولو في تدبير محمد وحده — غاية سياسية يجمُل بالمؤرِّخ أن يجلوها؟

ومن حق مؤرخ محمد أن يسأل: كيف أمن محمد على أصحابه هؤلاء أن يذهبوا إلى أرض الحبشة والنصرانية دين أهلها، دين كتاب، ورسولها عيسى يقرُّ الإسلامُ رسالته، ثم لا يخاف عليهم فتنة كفتنة قريش وإن تكن من نوع آخر؟ وكيف أمن هذه الفتنة والحبشة بلاد بها من الخصب ما ليس بمكة؛ فهي أشد من قريش فتنة؟ ولقد تنصَّر بالفعل أحد المسلمين الذين ذهبوا إلى الحبشة، فدل تنصُّره على أن خوف هذه الفتنة كان جديرًا بأن يُساور محمدًا وقد كان لا يزال ضعيفًا، ولا يزال الذين اتَّبعوه في أشد الريب من قدرته على حمايتهم أو الانتصار به على عدوهم.

وأكبر الظن أن يكون ذلك قد دار بخاطر محمد، أن كانت سعة ذهنه وذكاء فؤاده وبعد نظره عدلًا لسموِّ روحه وكرم نفسه وحسن أدبه ورقة عاطفته. لكنه كان مطمئنًّا من هذه الناحية تمام الطمأنينة؛ فقد كان الإسلام يومئذ، وإلى يوم مات صاحب الرسالة، في صفاء جوهره لم تشب نقاءه ولا سموَّه شائبة. وكانت نصرانية الحبشة كنصرانية نجران والحيرة والشام قد اندس إليها من شوائب الخلاف بين مؤلِّهي مريم ومؤلهي عيسى والمخالفين لهؤلاء وأولئك ما لا يخشى معه على أولئك الذين كانوا ينهلون من نبع الرسالة المصفَّى.

وفي الحق أن أكثر الأديان ما كانت تتخطى على الأزمان أجيالًا معدودة حتى يندس إليها نوع من الوثنية، إن لم يكن من هذا الطراز الوضيع الشائع يومئذ في بلاد العرب فإنه وثنية على كل حال. والإسلام نزل عدوَّ الوثنية اللدود في جميع صورها وأوضاعها. ثم إن النصرانية تعترف من ذلك التاريخ لطائفة رجال الدين بمكانة خاصة لم يعرفها الإسلام قطُّ، وكان يومئذ أشدَّ ما يكون عليها سموًّا، ومنها براءة. ثم إنه كان يومئذ وبقي في جوهره دينَ السمو بالنفس الإنسانية إلى الذروة العليا من السمو. فلم يدع صلة بين المرء وربه غير العمل الصالح والتقوى، وأن يحبَّ الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه. لم تبق أصنام ولم يبق كهنة ولم يبق عرَّافون ولم يبق شيء يحول دون أن تسمو الروح الإنسانية لتتصل بالوجود كله صلةً خير ومعروف، ليكون جزاؤها عند الله أكبر من عملها أضعافًا مضاعفة.

والروح! الروح الذي هو أمر الله! الروح المتصل بأزل الزمن وأبده! هذا الروح ما عمل صالحًا فلا حجاب بينه وبين وجه الله ولا سلطان لغير الله. يستطيع الأغنياء والأقوياء والشريرون أن يعذِّبوا الجسد وأن يحولوا بينه وبين ملاذه وشهواته وأن يُهلكوه، لكنهم لن يصلوا إلى الروح ما دام صاحبه يريد به سموًّا فوق سلطان المادة وفوق سلطان الزمن واتصالًا بالوجود كله. إنما يُجزى الإنسان عن أعماله يوم تُجزى كل نفس بما كسبت، يومئذ لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئًا، ويومئذ لا ينفع الأغنياء مالهم، ولا الأقوياء قوَّتهم، ولا المتكلمين كلامهم؛ إنما هي الأعمال وحدها تشهد لصاحبها أو تشهد عليه. ويومئذ يقف هذا الوجود جميعًا متسقة وحدته مجتمعًا أزله وأبده، لا يظلم ربك أحدًا. ولا تُجزون إلا ما كنتم تعملون.

كيف يخاف محمد الفتنة على من علمهم هذه المعاني ومن بثَّها في نفوسهم فحلَّت منهم في سويداء القلب ومكان العقيدة والإيمان؟! ثم كيف يخاف عليهم الفتنة ومثله حاضر أمامهم بشخصه المحبوب، حتى ليحبُّه أحدهم أكثر من حبِّه نفسه وبنيه وأهله. شخصه الذي يضع هذه العقيدة فوق ملك الأرض والسماء والشمس والقمر ويقول لعمه: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.» شخصه الذي يضيء بنور الإيمان والحكمة والعدل والخير والحق والجمال، الممتلئ إلى جانب ذلك تواضعًا وبرًّا ومودةً ورحمة. لذلك كان مطمئنًّا إلى هجرة أصحابه هؤلاء إلى الحبشة كل الاطمئنان. وكان أمنهم عند النجاشي وسكينتهم إلى دينهم بين قوم لا تربطهم بهم أواصر قربى أو عطف، مما جعل قريشًا تشعر بما في إيذائها للمسلمين — وهم منهم وهم أهلوهم وأنسابهم — من ظلم ومن عنت ومن إمعان في الفجور، ومن تحميل كل ألوان الأذى لهؤلاء الذين ارتفعت نفوسهم فوق الأذى، فأصبح لا ينالهم سوء، وأصبحوا يرون في الصبر على البأساء قربى إلى الله ومغفرة منه.

وكان عمر بن الخطاب يومئذ رجلًا في فتوَّة الرجولة، بين الثلاثين والخامسة والثلاثين. وكان مفتول العضل، قويَّ الشكيمة، حاد الطبع، سريع الغضب، محبًّا للهو والخمر، وفيه إلى ذلك برٌّ بأهله ورقة لهم. وكان من أشد قريش أذًى للمسلمين ووقيعة فيهم. فلما رآهم هاجروا إلى الحبشة ورأى النجاشي حماهم، شعر لفراقهم بوحشة، وبما لفراقهم وطنهم من ألم يحزُّ في الكبد ويفري المهجة. وكان محمد يومًا مجتمعًا مع أصحابه الذين لم يهاجروا في بيت عند الصفا، ومن بينهم عمُّه حمزة وابن عمه عليُّ بن أبي طالب وأبو بكر بن أبي قحافة وغيرهم من سائر المسلمين. وعرف عمر اجتماعهم، فقصد إليهم يريد أن يقتل محمدًا كي تستريح قريش وتعود إليها وحدتها بعد أن فرَّق أمرها وسفَّه أحلامها وعاب آلهتها، ولقيه نعيم بن عبد الله في الطريق وعرف أمره فقال له: «والله لقد غشتك نفسك من نفسك يا عمر! أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على وجه الأرض وقد قتلت محمدًا؟! أفلا ترجع إلى أهل بيتك وتقيم أمرهم؟!»

وكانت فاطمة أخت عمر وزوجها سعيد بن زيد قد أسلما. فلما عرف عمر من نُعَيْم أمرهما كرَّ راجعًا إليهما ودخل البيت عليهما، فإذا عندهما من يقرأ عليهما القرآن. فلما أحسوا دنوَّ داخل عليهم اختفى القارئ وأخفت فاطمة الصحيفة. وسأل عمر: ما هذه الهينمة التي سمعتُ؟ فلما أنكرا صاح بهما: لقد علمتُ أنكما تابعتما محمدًا على دينه، وبطش بسعيد. فقامت فاطمة تحمي زوجها فضربها فشجها. فهاج إذ ذاك هائج الزوجين وصاحا به: نعم أسلمنا، فاقض ما أنت قاض. واضطرب عمر حين رأى ما بأخته من الدم، وغلبه برُّه وعطفه، فارعوى وسأل أخته أن تعطيه الصحيفة التي كانوا يقرءون. فلما قرأها تغيَّر وجهه وأحس الندم على صنيعه، ثم اهتزَّ لما قرأ في الصحيفة وأخذه إعجازها وجلالها وسموُّ الدعوة التي تدعو إليها، فزاد جانب البر غلبةً عليه.

وخرج وقد لان قلبه واطمأنت نفسه؛ فقصد إلى مجلس محمد وأصحابه عند الصفا. فاستأذن وأعلن إسلامه، فوجد المسلمون فيه وفي حمزة للإسلام منعةً وللمسلمين حمًى.

وفتَّ إسلام عمر في عضد قريش، فأتمرت مرةً أخرى ما تصنع. والحقُّ أن هذا الحادث عزَّز المسلمين بعنصر جديد قويٍّ غاية القوة، جعل موقف قريش منهم وموقفهم من قريش غير ما كان، واستتبع ما بين الطرفين سياسة جديدة مليئة بأحداث وتضحيات وقوى جديدة أدت إلى الهجرة وإلى ظهور محمد السياسي إلى جانب محمد الرسول.

١  سورة المدثر الآيات من ١ إلى ٧.
٢  سورة الضحى.
٣  سورة الشعراء الآيات من ٢١٤ إلى ٢١٦.
٤  سورة الحجر آية ٩٤.
٥  سورة المسد من ١ إلى ٣.
٦  سورة التكاثر.
٧  سورة الأعراف آية ١٨٨.
٨  سورة الزلزلة آيتا ٧ و٨.
٩  الرئي: النابع من الجن.
١٠  ضوى: أتى.
١١  سورة مريم الآيات من ٢٩ إلى ٣٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤