الفصل السادس

قصة الغرانيق

(عود مهاجري الحبشة – الغرانيق العلا – تمسُّك المستشرقين بقصتها – أسانيدهم في ذلك – ضعف هذه الأسانيد – القصة ظاهرة الكذب ينفيها التمحيص العلمي)

***

أقام المسلمون الذين هاجروا إلى الحبشة ثلاثة أشهر أسلم أثناءها عمر بن الخطاب. وعلم هؤلاء المهاجرون ما حدث على أثر إسلامه من رجوع قريش عن إيذائها محمدًا ومن اتبعه، فعاد كثير منهم في رواية، وعادوا كلهم في رواية أخرى إلى مكة. فلما بلغوها رأوا قريشًا عادت إلى إيذاء المسلمين وإلى الإمعان في عداوتهم أشدَّ مما عرف هؤلاء المهاجرون من قبل، فعاد إلى الحبشة من عاد، ودخل مكة من دخل مستخفيًا أو بجوار. ويقال: إن الذين عادوا استصحبوا معهم عددًا آخر من المسلمين أقاموا بالحبشة إلى ما بعد الهجرة وإلى حين استتباب الأمر للمسلمين بالمدينة.

أي داع حفز مسلمي الحبشة إلى العودة بعد ثلاثة أشهر من مُقامهم بها؟ هنا يرد حديث الغرانيق الذي أورده ابن سعد في طبقاته الكبرى والطبري في تاريخ الرسل والملوك، كما أورده كثيرون من المفسرين المسلمين وكتَّاب السيرة، والذي أخذ به جماعة المستشرقين ووقفوا يؤيدونه طويلًا. وحديث الغرانيق أن محمدًا لما رأى تجنب قريش إياه وأذاهم أصحابه تمنَّى فقال: ليته لا ينزل عليَّ شيء ينفرهم مني، وقارب قومه ودنا منهم ودنوا منه، فجلس يومًا في ناد من تلك الأندية حول الكعبة فقرأ عليهم سورة النجم حتى بلغ قوله تعالى: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ.١ فقرأ بعد ذلك: تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى. ثم مضى وقرأ السورة كلها وسجد في آخرها، وهنالك سجد القوم جميعًا لم يتخلف منهم أحد. وأعلنت قريش رضاها عما تلا النبي، وقالوا: قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده. أما إذ جعلت لها نصيبًا فنحن معك. وبذلك زال وجه الخلاف بينه وبينهم. وفشا أمر ذلك في الناس حتى بلغ الحبشة؛ فقال المسلمون بها: عشائرنا أحبُّ إلينا، وخرجوا راجعين. فلما كانوا دون مكة بساعة من نهار لقوا ركبًا من كنانة فسألوهم، فقالوا: ذكر آلهتهم بخير فتابعه الملأ، ثم ارتدَّ عنها فعاد لشتم آلهتهم فعادوا له بالشرِّ. وأْتمر المسلمون ما يصنعون، فلم يطيقوا عن لقاء أهلهم صبرًا فدخلوا مكة.
وإنما ارتدَّ محمد عن ذكر آلهة قريش بالخير — في مختلف الروايات التي أثبتت هذا الخبر — لأنه كَبُر عليه قول قريش: «أمَّا إذ جعلت لآلهتنا نصيبًا فنحن معك.» ولأنه جلس في بيته، حتى إذا أمسى أتاه جبريل فعرض النبيُّ عليه سورة النجم، فقال جبريل: أوَجئتك بهاتين الكلمتين؟! مشيرًا إلى «تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى.» قال محمد: قلتُ على الله ما لم يقل! ثم أوحى الله إليه: وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا.٢ وبذلك عاد يذكر آلهة قريش بالشر ويسبهم، وعادت قريش لمناوأته وإيذاء أصحابه.

وهذا حديث الغرانيق، رواه غير واحد من كتَّاب السيرة، وأشار إليه غير واحد من المفسرين، ووقف عنده كثيرون من المستشرقين طويلًا. وهو حديث ظاهر التهافت ينقضه قليل من التمحيص. وهو بعدُ حديث ينقض ما لكل نبيٍّ من العصمة في تبليغ رسالات ربه. فمن عجب أن يأخذ به بعض كتَّاب السيرة وبعض المفسرين المسلمين: ولذلك لم يتردد ابن إسحاق حين سئل عنه في أن قال: إنه من وضع الزنادقة.

ولكن بعض الذين أخذوا به حاولوا تسويغه فاستندوا إلى الآيات: وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ، وإلى قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ ۗ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ۗ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ.٣

ويفسر بعضهم كلمة «تمنى» في الآية بمعنى قرأ، ويفسرها آخرون بمعنى الأمنية المعروفة. ويذهب هؤلاء وأولئك، ويتابعهم المستشرقون، إلى أن النبي بلغ منه أذى المشركين أصحابه؛ إذ كانوا يقتلون بعضهم ويلقون بعضًا في الصحراء يلفحهم لظى الشمس المحرقة، وقد أوقروهم بالحجارة كما فعلوا ببلال، حتى اضطر إلى الإذن لهم في الهجرة إلى الحبشة. كما بلغ منه جفاء قومه إيَّاه وإعراضهم عنه. ولما كان حريصًا على إسلامهم ونجاتهم من عبادة الأصنام، تقرَّب إليهم وتلا سورة النجم وأضاف إليها حكاية الغرانيق، فلما سجد سجدوا معه، وأظهروا له الميل لاتباعه ما دام قد جعل لآلهتهم نصيبًا مع الله.

ويضيف سير وليم موير إلى هذه الرواية التي وردت في بعض كتب السيرة وكتب التفسير، حجة يراها قاطعة بصحة حديث الغرانيق. ذلك أن المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة لم يك قد مضى على هجرتهم إليها غير ثلاثة أشهر، أجارهم النجاشي أثناءها، وأحسن جوارهم. فلو لم يكن قد ترامى إليهم خبر الصلح بين محمد وقريش لما دفعهم دافع إلى العود حرصًا على الاتصال بأهلهم وعشائرهم. وأنى يكون صلح بين محمد وقريش إذ لم يسع محمد إليه، وقد كان في مكة أقل نفرًا وأضعف قوة، وقد كان أصحابه أعجز من أن يمنعوا أنفسهم من أذى قريش ومن تعذيبهم إياهم!

هذه هي الحجج التي يسوقها من يقولون بصحة حديث الغرانيق، وهي حجج واهية لا تقوم أمام التمحيص. ونبدأ بدفع حجة المستشرق موير؛ فالمسلمون الذين عادوا من الحبشة إنما دفعهم إلى العود إلى مكة سببان: أولهما أن عمر بن الخطاب أسلم بعد هجرتهم بقليل. وقد دخل عمر فى دين الله بالحميَّة التي كان يحاربه من قبلُ بها، لم يُخف إسلامه ولم يستتر، بل ذهب يعلنه على رءوس الملأ ويقاتلهم في سبيله. ولم يرض عن استخفاء المسلمين وتسللهم إلى شعاب مكة يقيمون الصلاة بعيدين عن أذى قريش، بل دأب على نضال قريش حتى صلى عند الكعبة وصلى المسلمون معه. هنالك أيقنت قريش أن ما تنال به محمدًا وأصحابه من الأذى يوشك أن يثير حربًا أهلية لا يعرف أحد مداها ولا على من تدور دائرتها. فقد أسلم من قبائل قريش وبيوتاتها رجال تثور لقتل أي واحد منهم قبيلته وإن كانت على غير دينه. فلا مفر إذن من الالتجاء في محاربة محمد إلى وسيلة لا يترتب عليها هذا الخطر. وإلى أن تتفق قريش على هذه الوسيلة، هادنت المسلمين فلم تنل أحدًا منهم بأذى، وهذا هو ما اتصل بالمهاجرين إلى الحبشة. ودعاهم إلى التفكير في العود إلى مكة.

وربما ترددوا في هذا العود لو لم يكن السبب الثاني الذي ثبَّت عزمهم؛ ذلك أن الحبشة شبَّت بها يومئذ ثورة على النجاشي، كان دينه وكان ما أبدى من عطف على المسلمين بعض ما أذيع فيها من تهم وجهت إليه. ولقد أبدى المسلمون أحسن الأماني أن ينصر الله النجاشي على خصومه؛ لكنهم لم يكونوا ليشاركوا في هذه الثورة وهم أجانب، ولم يك قد مضى على مقامهم بالحبشة غير زمن قليل.

أما وقد ترامت إليهم أنباء الهدنة بين محمد وقريش، هدنة أنجت المسلمين مما كان يصيبهم من الأذى، فخير لهم أن يدعوا الفتنة وراء ظهورهم وأن يلحقوا بأهليهم؛ وهذا ما فعلوه كلهم أو بعضهم. على أنهم ما كادوا يبلغون مكة حتى كانت قريش قد ائتمرت ما تصنع بمحمد وأصحابه، واتفقت عشائرها وكتبوا كتابًا تعاقدوا فيه على مقاطعة بني هاشم مقاطعة تامة؛ فلا يَنْكِحوا إليهم ولا يُنكحوهم، ولا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم. وبهذا الكتاب عادت الحرب العوان بين الفريقين، ورجع الذين عادوا من الحبشة، وذهب معهم من استطاع اللحاق بهم. وقد وجدوا هذه المرة عنتًا من قريش إذ حاولت أن تمنعهم من الهجرة.

ليس الصلح — الذي يشير إليه المستشرق موير — هو إذن الذي دعا المسلمين إلى العودة من بلاد الحبشة؛ إنما دعاهم هذه الهدنة التي حدثت على إثر إسلام عمر وحماسته في تأييد دين الله. فتأييد حديث الغرانيق إذن بحجة الصلح تأييد غير ناهض.

أما احتجاج المحتجين من كتاب السيرة والمفسرين بالآيات: وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ، ووَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، فهو احتجاج أشدُّ تهافتًا من حجة السير موير، ويكفي أن نذكر من الآيات الأولى قوله تعالى: وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا لنرى أنه إن كان الشيطان قد ألقى في أمنية الرسول حتى لقد كاد يركن إليهم شيئًا قليلًا فقد ثبته الله فلم يفعل، ولو أنه فعل لأذاقه الله ضعف الحياة وضعف الممات. وإذن فالاحتجاج بهذه الآيات احتجاج مقلوب. فقصة الغرانيق تجري بأن محمدًا ركن إلى قريش بالفعل. وأن قريشًا فتنته بالفعل فقال على الله ما لم يقل. والآيات هنا تفيد أن الله ثبته فلم يفعل. فإذا ذكرت كذلك أن كتب التفسير وأسباب النزول جعلت لهذه الآيات موضعًا غير مسألة الغرانيق، ورأيت أن الاحتجاج بها في مسألة تتنافى مع عصمة الرسل في تبليغ رسالاتهم، وتتنافى مع تاريخ محمد كله، احتجاج متهافت، بل احتجاج سقيم.

أما الآيات وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ فلا صلة لها بحديث الغرانيق البتة، فضلًا عن ذكرها أن الله ينسخ ما يلقي الشيطان ويجعله فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم، ويُحكِم الله آياته والله عليم حكيم.

وندع هذا إلى تمحيص القصة التمحيص العلمي الذي يُثبِت عدم صحتها. وأول ما يدل على ذلك تعدد الروايات فيها، فقد رويت — كما سبق القول — على أنها: تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى. ورواها بعضهم: «الغرانقة العلا إن شفاعتهم ترتجى.» وروى آخرون: «إن شفاعتهم ترتجى.» دون ذكر الغرانقة أو الغرانيق. وفي رواية رابعة: «وإنها لهي الغرانيق العلا.» وفي رواية خامسة: «وإنهن لهن الغرانيق العلا. وإن شفاعتهم لهي التي ترتجى.» وقد وردت في بعض كتب الحديث روايات أخرى غير هذه الروايات الخمس. وهذا التعدد في الروايات يدل على أن الحديث موضوع، وأنه من وضع الزنادقة، كما قال ابن إسحاق، وأن الغرض منه التشكيك في صدق تبليغ محمد رسالات ربه.

ودليل آخر أقوى وأقطع؛ ذلك سياق سورة النجم وعدم احتماله لمسألة الغرانيق. فالسياق يجري بقوله تعالى: لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ * أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّىٰ * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَىٰ * أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَىٰ * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ.٤

وهذا السياق صريح في أن اللات والعزى أسماء سماها المشركون هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، فكيف يحتمل أن يجري السياق بما يأتي: «أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى. تلك الغرانيق العلا. إن شفاعتهن ترتجى. ألكم الذكر وله الأنثى. تلك إذن قسمة ضيزى. إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان.» إن في هذا السياق من الفساد والاضطراب والتناقض، من مدح اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وذمها في أربع آيات متعاقبة، ما لا يسلِّم به عقل ولا يقول به إنسان، ولا تبقى معه شبهة في أن حديث الغرانيق مفترى وضعه الزنادقة لغاياتهم، وصدَّقه من يسيغون كل غريب ومن تقبل عقولهم ما لا يسيغ العقل المنطقي.

وحجة أخرى ساقها المغفور له الأستاذ محمد عبده حين كتب يفند قصة الغرانيق. تلك أن وصف العرب لآلهتهم بأنها الغرانيق لم يرد في نظمهم ولا في خطبهم، ولم ينقل عن أحد أن ذلك الوصف كان جاريًا على ألسنتهم، وإنما ورد الغرنوق والغرنيق على أنه اسم لطائر مائي أسود أو أبيض، والشابُّ الأبيض الجميل. ولا شيء من ذلك يلائم معنى الآلهة أو وصفها عند العرب.

بقيت حجة قاطعة، نسوقها للدلالة على استحالة قصة الغرانيق هذه من حياة محمد نفسه؛ فهو منذ طفولته وصباه وشبابه لم يجرَّب عليه الكذب قط، حتى سُمي الأمين ولما يبلغ الخامسة والعشرين من عمره. وكان صدقه أمرًا مسلَّمًا به عند الناس جميعًا، حتى لقد سأل قريشًا يومًا بعد بعثه: «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا بسفح هذا الجبل أكنتم تصدِّقوني؟» فكان جوابهم: «نعم! أنت عندنا غير متَّهم وما جرَّبنا عليك كذبًا قط.» فالرجل الذي عُرف بالصدق في صِلاته بالناس منذ نعومة أظفاره إلى كهولته كيف يصدِّق إنسان أنه يقول على ربه ما لم يقل، ويخشى الناس والله أحق أن يخشاه؟! هذا أمر مستحيل، يُدرك استحالته الذين درسوا هذه النفوس القوية الممتازة التي تعرف الصلابة في الحق ولا تداجي فيه لأي اعتبار. وكيف ترى يقول محمد لو وضعت قريش الشمس في يمينه والقمر في شماله على أن يترك هذا الأمر أو يموت دونه ما فعل، ثم يقول على الله ما لم يوح إليه، ويقوله لينقض به أساس الدين الذي بعثه الله به هدًى وبشرى للعالمين؟!

ومتى رجع إلى قريش ليمدح آلهتهم؟ بعد عشر سنوات أو نحوها من بعثه، وبعد أن احتمل هو وأصحابه في سبيل الرسالة من ألوان الأذى وصنوف التضحية ما احتمل، وبعد أن أعزَّ الله الإسلام بحمزة وعمر، وبعد أن بدأ المسلمون يصبحون قوة بمكة، ويمتد خبرهم إلى بلاد العرب كلها وإلى الحبشة وإلى مختلف نواحي العالم. إن القول بذلك حديث خرافة وأكذوبة ممجوجة. ولقد شعر الذين اخترعوها بسهولة افتضاحها، فأرادوا سترها بقولهم: إن محمدًا ما كاد يسمع كلام قريش إذ جعل لآلهتهم نصيبًا في الشفاعة حتى كبُر ذلك عليه، وحتى رجع إلى الله تائبًا أول ما أمسى ببيته وجاءه جبريل فيه. لكن هذا الستر أحرى أن يفضحها. فما دام الأمر قد كبر على محمد منذ سمع مقالة قريش، فما كان أحراه أن يراجع الوحي لساعته! وما كان أحراه أن يُجري الوحي الصواب على لسانه؟ وإذن فلا أصل لمسألة الغرانيق إلا الوضع والاختراع، قامت بهما طائفة الذين أخذوا أنفسهم بالكيد للإسلام بعد انقضاء الصدر الأول.

وأعجب ما في جرأة هؤلاء المفترين أنهم عرضوا للافتراء في أمِّ مسائل الإسلام جميعًا: في التوحيد! في المسألة التي بعث محمد لتبليغها للناس منذ اللحظة الأولى، والتي لم يقبل فيها منذ تلك اللحظة هوادة، ولا أماله عنها ما عرضت عليه قريش أن يعطوه ما يشاء من المال أو يجعلوه ملكًا عليهم. وعرضوا ذلك عليه حين لم يكن قد اتَّبعه من أهل مكة إلا عدد يسير. وما كان أذى قريش لأصحابه ليجعله يرجع عن دعوة أمره ربه أن يبلغها للناس. فاختيار المفترين لهذه المسألة التي كانت صلابة محمد فيها غاية ما عُرف عنه من الصلابة، يدل على جرأة غير معقولة، ويدلُّ في الوقت نفسه على أن الذين مالوا إلى تصديقهم قد خُدِعوا فيما لا يجوز أن يُخدع فيه أحد.

لا أصل إذن لمسألة الغرانيق على الإطلاق، ولا صلة البتة بينها وبين عودة المسلمين من الحبشة، إنما عادوا، كما قدَّمنا، بعد أن أسلم عمر ونصر الإسلام بمثل الحميَّة التي كان يحاربه من قبلُ بها، حتى اضطرت قريش لمهادنة المسلمين. وعادوا حين شبَّت في بلاد الحبشة ثورة خافوا مغبتها. فلما علمت قريش بعودتهم ازدادت مخاوفها أن يعظُم أمر محمد بينهم، فأتمرت ما تصنع. وقد انتهت بوضع الصحيفة التي قرَّروا فيها فيما قرروا ألا يناكحوا بني هاشم ويبايعوهم ولا يخالطوهم، كما أجمعوا فيما بينهم أن يقتلوا محمدًا إن استطاعوا.

١  آيتا ١٩، ٢٠.
٢  سورة الإسراء الآيات من ٧٣ إلى ٧٥.
٣  سورة الحج آيتا ٥٢ و٥٣.
٤  الآيات من ١٨ إلى ٢٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤