الفصل الثامن

من نقض الصحيفة إلى الإسراء

(فرار المسلمين من مكة إلى شعاب الجبل – عدم اختلاطهم بالناس إلا في الأشهر الحرم – قيام زهير وأصحابه في نقض الصحيفة – وفاة أبي طالب وخديجة – إيذاء قريش محمدًا – ذهاب محمد إلى الطائف ورد ثقيف إياه – الإسراء والمعراج)

***

ظلت الصحيفة التي تعاقدت قريش فيها على مقاطعة محمد وحصار المسلمين نافذة ثلاث سنوات متتابعة، احتمى محمد وأهله وأصحابه خلالها في شعب من شعاب الجبل بظاهر مكة، يعانون الحرمان ألوانًا، ولا يجدون في بعض الأحايين وسيلة إلى الطعام يدفعون به جوعهم. ولم يكن يتاح لمحمد ولا للمسلمين الاختلاط بالناس والتحدث إليهم إلا في الأشهر الحرم، حين يفد العرب إلى مكة حاجين، وحين تضع الخصومات أوزارها، فلا قتل ولا تعذيب ولا اعتداء ولا انتقام. في هذه الأشهر كان محمد ينزل إلى العرب يدعوهم إلى دين الله ويبشرهم بثوابه وينذرهم عقابه. وكان ما أصاب محمدًا من الأذى في سبيل دعوته شفيعه عند كثيرين؛ حتى لقد زادهم ما سمعوا من ذلك عليه عطفًا، وعلى دعوته إقبالًا. وهذا الحصار الذي أوقعته قريش واحتماله إياه صابرًا في سبيل رسالته، كسب له كثيرًا من القلوب التي لم تبلغ منها القسوة ما بلغت من قلب أبي جهل وأبي لهب وأمثالهما.

على أن طول الزمن وكثرة ما أصاب المسلمين من عنت قريش — وهم منهم إخوانهم وأصهارهم وأبناء عمومتهم — جعل كثيرين يشعرون بفدح ما ارتكبوا من ظلم وقسوة. فلولا أن كان من أهل مكة رجال، لديهم على المسلمين عطف، يحملون إليهم الطعام في الشعب الذي احتموا به لهلكوا جوعًا. وكان هشام بن عمرو من أحسن قريش في هذه البأساء عطفًا على المسلمين؛ كان يأتي بالبعير قد أوقره طعامًا أو برًّا فيسير به جوف الليل، حتى إذا استقبل فم الشعب خلع خطامه ثم ضرب على جنبه فيدخل البعير الشعب عليهم. ولما ضاق بما يحتمل محمد وأصحابه من الأذى صدرًا، مشى إلى زهير بن أبي أمية، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا زهير، أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت، ولا يبتاعون ولا يُبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم؟! أما إني أحلف بالله أن لو كان أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدًا. وتعاهد الرجلان على نقض الصحيفة، على أن يستعينوا على ذلك بغيرهم يقنعونهم به سرًّا. واتفق معهما المطعم بن عدي وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود، وأجمع الخمسة أمرهم وتعاهدوا على القيام في أمر الصحيفة حتى ينقضوها.

وغدا زهير بن أمية فطاف بالبيت سبعًا. ثم نادى في الناس: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم؟! والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة! وما كاد أبو جهل يسمعه حتى صاح به كذبت والله لا تُشق! فتصايح زمعة وأبو البختري والمطعم وهشام بن عمرو كلهم يكذبون أبا جهل ويؤيدون زهيرًا. وأدرك أبو جهل أن الأمر قضي بليل، وأن القوم اتفقوا عليه، وأن مخالفتهم قد تثير شرًّا، فأوجس خيفةً وتراجع، وقام المطعم ليشق الصحيفة فوجد الأرضة قد أكلتها إلا فاتحتها «باسمك اللهم». وبذلك أتيح لمحمد وأصحابه أن يعودوا من الشعب إلى مكة، وأن يبيعوا قريشًا ويبتاعوا منها، وإن بقيت صلات الفريقين كما كانت وبقي كل منهم متحفزًا ليوم يستعلي فيه على صاحبه.

ذهب بعض كتاب السيرة إلى أن الذين قاموا في نقض الصحيفة، ممن كانوا لا يزالون على عبادة الأوثان، ذهبوا إلى محمد يسألونه، منعًا للشر، أن يتصالح وقريشًا على شيء، كأن يُسلِّم بآلهتهم ولو بطرف أصابعه. فمالت نفسه إلى شيء من هذا تقديرًا لجميلهم، وقال فيما بينه وبين نفسه: «وما عليَّ لو فعلت والله يعلم أن بار؟!» أو إلى أن هؤلاء الذين نقضوا الصحيفة وجماعة معهم خلوْا بمحمد ذات ليلة إلى الصبح يكلمونه ويفخمونه ويسودونه ويقاربونه ويقولون له: أنت سيدنا، يا سيدنا؛ وأنهم ما زالوا به حتى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون. وهاتان الروايتان هما بعض ما حدَّث به سعيد بن جبير في الأولى وقتادة في الثانية. ويذكرون أن الله عصم محمدًا بعد ذلك، وأنزل عليه قوله: وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا.١

وهذه الآيات قد نزلت — في زعم أصحاب قصة الغرانيق — في تلك القصة المكذوبة كما قد رأيت، وهذان المحدثان يردانها إلى قصة نقض الصحيفة. وقد نزلت هذه الآيات في حديث عطاء عن ابن عباس في وفد ثقيف؛ إذ طلبوا إلى محمد أن يحرم واديهم كما حرمت مكة شجرها وطيرها ووحشها؛ فتردد النبي عليه السلام حتى نزلت. ومهما تكن الحقيقة الثابتة التي لا تختلف الروايات عليها للواقعة أو الوقائع التي نزلت الآيات فيها، فإنها تصور ناحية من نواحي العظمة النفسية لمحمد، كما تصور صدق إخلاصه تصويرًا قويًّا. وهذه الناحية تصورها كذلك الآيات التي نقلنا من سورة «عبس» ويشهد بها تاريخ محمد كله. تلك أنه يصارح الناس بأنه بشر مثلهم يوحي ربه إليه لهدايتهم، وأنه وهو بشر مثلهم معرض للخطأ لولا عصمة الله إياه. فهو قد أخطأ حين عبس لابن أم مكتوم وتولى عنه، وهو قد كاد يخطئ فيما نزلت آيات الإسراء في شأنه، وكاد يفتن عن الذي أوحي إليه ليفتري غيره. فإذا نزل عليه الوحي ينبهه إلى ما صنع في أمر الأعمى، وفي أمر هذه الفتنة التي كادت قريش تدفعه إليها، وصدق في تبليغ هذا الوحي إلى الناس صدقه في تبليغ رسالات ربه ولم يقف حائل من أنفة أو كبرياء ولا وقف اعتبار إنساني، حتى مما يسيغ الفضلاء، دون إعلان هذا الحق في أمر نفسه؛ فالحق إذن، والحق وحده، كان رسالته. وإذا كان احتمال أذى الغير في سبيل ما نؤمن به بعض ما تطيق النفوس الكبيرة، فإن إقرار العظيم بأنه كاد يفتن ليس مما ألف الناس صدوره حتى من العظماء. إنما يخفي هؤلاء أمثال ذلك من الأمور، ويكتفون بحساب النفس عليه ولو حسابًا عسيرًا، فهو شيء إذن أكبر من العظمة وأعظم من كل عظيم ذلك الذي يُتيح للنفس هذا السمو فتكشف عن الحق كله. ذلك الشيء الذي يسمو على العظمة ويفوق كل عظيم هو النبوة التي تملي على الرسول صدق الإخلاص في إبلاغ رسالة الحق جل شأنه.

عاد محمد ومن معه من الشعب بعد تمزيق الصحيفة، وجعل من جديد يذيع دعوته في مكة وفي القبائل التي تجيء إليها في الأشهر الحرم. ومع ما ذاع من أمر محمد بين قبائل العرب جميعًا وما كان من كثرة الذين اتبعوه، لقد ظل لا يسلم أصحابه من أذى قريش، ولا يستطيع هو لهم منعًا. ولم تمض إلا شهور على نقض الصحيفة حتى فجأت محمدًا في عام واحد فاجعتان اهتزت لهما نفسه؛ هما موت أبي طالب وخديجة دراكًا. وكان أبو طالب يومئذ قد نيف على الثمانين. فلما اشتكى وبلغ قريشًا أنه موفٍ على ختام حياته، خشيت ما يكون بينها وبين محمد وأصحابه من بعدُ، وفيهم حمزة وعمر المعروفان بشدتهما وبطشهما، فمشى أشرافها إلى أبي طالب وقالوا له: يا أبا طالب، أنت منا حيث قد علمت وحضرك ما ترى وتخوفنا عليك. وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه فخذ له منا وخذ لنا منه، ليكفَّ عنا ونكف عنه، وليدعنا وديننا وندعه ودينه. وجاء محمد والقوم في حضرة عمه. فلما عرف ما جاءوا فيه قال: نعم؛ كلمة واحدة تعطونيها تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم! قال أبو جهل: نعم وأبيك، وعشر كلمات. قال. تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه. قال بعضهم: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟! ثم قال بعضهم لبعض: والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئًا مما تريدون؛ وانطلقوا. وتوفي أبو طالب والأمر بين محمد وقريش أشد مما كان.

ومن بعد أبي طالب توفيت خديجة؛ خديجة التي كانت سند محمد بما توليه من حبها وبرها، ومن رقة نفسها وطهارة قلبها وقوة إيمانها. خديجة التي كانت تهوِّن عليه كل شدة وتزيل من نفسه كل خشية، والتي كانت مَلَك رحمة، يرى في عينيها وعلى ثغرها من معاني الإيمان به ما يزيده إيمانًا بنفسه. وتوفي أبو طالب الذي كان لمحمد حمًى وملاذًا من خصومه وأعدائه. أي أثر تركت هاتان الفاجعتان الأليمتان في نفس محمد عليه السلام؟! إنهما لجديرتان بأن تتركا أقوى النفوس كليمةً مضعضعة، يدس إليها اليأس سموم الضعف، ويدفع إليها الأسى والحزن من لواذع الهم المبرِّح ما يجعلها تنهدُّ أمامهما ولا تفكر في شيء سواهما.

ما لبث محمد بعد أن فقد هذين النصيرين أن رأى قريشًا تزيد في إيذائه، وكان من أيسر ذلك أن اعترضه سفيه من سفهاء قريش فرمى على رأسه ترابًا، أفتدري ما صنع؟ دخل إلى بيته والتراب على رأسه؛ فقامت إليه فاطمة ابنته وجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي. وليس أوجع لنفوسنا من أن نسمع بكاء أبنائنا، وأوجع منه أن نسمع بكاء بناتنا. كل دمعة ألم تسيل من مآقي البنت قطرة حُمَم تهوي على قلوبنا فينقبض انزعاجًا، حتى لنكاد من شدة الانزعاج نصيح ألمًا. وكل أنَّة حزن تثير في الحشا وفي الكبد أنَّات ما أقساها، تختنق لها حلوقنا وتكاد تهمي بالدمع مع وقعها عيوننا. وقد كان محمد أبرَّ أب ببناته وأحناه عليهن. فماذا تراه صنع لبكاء هذه البنت التي فقدت منذ قريب أمها، ولبكائها هي من أجل ما أصاب أباها؟ لم يزده ذلك كله إلا توجهًا بقلبه إلى الله وإيمانًا بنصره إياه. قال لابنته وعينها تهمي بالدمع: لا تبكي يا بنية! فإن الله مانع أباك. ثم كان يردد: والله ما نالت مني قريش شيئًا أكرهه حتى مات أبو طالب.

وكثرت مساءات قريش من بعد ذلك لمحمد حتى ضاق بهم ذرعًا. فخرج إلى الطائف وحيدًا منفردًا لا يعلم بأمره أحد، يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة بهم من قومه، ويرجو إسلامهم، لكنه رجع منهم بشرِّ جواب. فرجاهم ألا يذكروا من استنصاره بهم شيئًا حتى لا يشمت به قومه. ولم يسمعوا له بل أغروا به سفهاءهم يسبونه ويصيحون به؛ ففر منهم إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة فاحتمى به، فرجع السفهاء عنه. وجلس إلى ظل شجرة من عنب وابنا ربيعة ينظران إليه وإلى ما هو فيه من شدة الكرب. فلما اطمأن رفع عليه السلام رأسه إلى السماء ضارعًا في شكاية وألم وقال: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين. أنت رب المستضعفين وأنت ربي. إلى من تكلني! إلى بعيد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تُنزل بي غضبك أو تحل عليَّ سخطك. لك العتبى حتى ترضى؛ ولا حول ولا قوة إلا بك.»

figure
منظر عام لمنى.

وطال تحديق ابني ربيعة فيه، فتحركت نفساهما رحمة له وإشفاقًا من سوء ما لقي، وبعثا غلامهما النصراني عدَّاسًا إليه بقطف من عنب الحائط. فلما وضع محمد يده فيه قال: باسم الله، ثم أكل. ونظر عدَّاس دهشًا، وقال: هذا كلام لا يقوله أهل هذه البلاد! فسأله محمد عن بلده ودينه، فلما علم أنه نصراني من نينَوى قال له: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن مَتى؟ فسأله عدَّاس: وما يدريك ما يونس بن مَتى؟ قال محمد: ذاك أخي كان نبيًّا وأنا نبي. فأكبَّ عدَّاس على محمد يقبل رأسه ويديه وقدميه. وعجِب ابنا ربيعة لما رأيا وإن لم يصرفهما ذلك عن دينهما، ولم يمنعهما من التحدث إلى عدَّاس حين عاد إليهما يقولان: يا عدَّاس، لا يصرِفنك هذا الرجل عن دينك فهو خير من دينه.

وكأن ما أصاب محمدًا من أذًى خفَّف من سخط ثقيف وإن لم يغير من جمودهم عن متابعته. وعرفت قريش الأمر فازدادت لمحمد إيذاءً، فلم يصرفه ذلك عن الدعوة إلى دين الله. وجعل يعرِض نفسه في المواسم على قبائل العرب يدعوهم إلى الحق، ويخبرهم أنه نبي مرسل، ويسألهم أن يصدِّقوه. غير أن عمه عبد العُزى بن عبد المطَّلب أبا لهب لم يكن يَدَعه، بل كان يتبعه أينما ذهب ويحرِّض الناس ألا يستمعوا له. ولم يكتف محمد بعَرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج بمكة، بل أتى كندة في منازلها، وأتى كلبًا في منازلها، وأتى بني حنيفة وبني عامر بن صعصعة، فلم يسمع منهم أحد. وردُّوه جميعًا ردًّا غير جميل، بل ردَّه بنو حنيفة ردًّا قبيحًا. أما بنو عامر فطمِعوا إذا هو انتصر بهم أن يكون لهم الأمر من بعده. فلما قال لهم: إن الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء لَووا عنه وجوههم وردُّوه كما ردَّه غيرهم.

هل أصرت هذه القبائل على عناد محمد لمثل الأسباب التي أصرت قريش من أجلها على عناده؟ لقد رأيت بني عامر وكيف كانوا يطمعون في الملك إذا هم انتصروا وإياه. أما ثقيف فكان لها رأي آخر. فالطائف فضلًا عن أنها كانت مصيف أهل مكة لجمال جوِّها وحلو أعنابها، قد كانت مستقر عبادة اللات، وكان لها هناك صنم يُعبَد ويُحجُّ إليه. فلو أن ثقيفًا تابعت محمدًا لفقدت اللات مكانتها، ولقامت بينها وبين قريش خصومة تترك لا ريب أثرها الاقتصادي في موسم الاصطياف. وكذلك كانت لكل قبيلة علة محلية اقتصادية كانت أقوى أثرًا في إعراضها عن الإسلام من تعلُّقها بدينها ودين آبائها وبعبادة أصنامها.

زاد عناد هذه القبائل محمدًا عزلة، كما زاده إمعان قريش في أذى أصحابه ألمًا وهمًّا. وانقضى زمن الحداد على خديجة، ففكر في أن يتزوج؛ لعله يجد في زوجه من العزاء ما كانت خديجة تأسو به جراحه. على أنه رأى أن يزيد الأواصر بينه وبين السابقين إلى الإسلام متانة وقربى؛ فخطب إلى أبي بكر ابنته عائشة. ولما كانت لا تزال طفلة في السابعة من عمرها عقد عليها ولم يبن بها إلا بعد سنتين حين بلغت التاسعة. وفي هذه الأثناء تزوج من سودة أرملة أحد المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة وعادوا إلى مكة وماتوا بها. وأحسب القارئ يلمح ما في هاتين الصلتين من معنى يزداد وضوحًا من بعدُ في صلات زواج محمد ومصاهرته.

في هذه الفترة كان الإسراء والمعراج. وكان محمد ليلة الإسراء في بيت ابنة عمه هند ابنة أبي طالب، وكنيتها أم هانئ. وقد كانت هند تقول: «إن رسول الله نام عندي تلك الليلة في بيتي فصلى العشاء الآخرة، ثم نام ونمنا. فلما كان قبيل الفجر أهبَّنا رسول الله؛ فلما صلى الصبح وصلينا معه قال: يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه، ثم قد صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين. فقلت له: يا نبي الله لا تحدِّث به الناس فيكذبوك ويؤذوك. قال: والله لأحدِّثنَّهموه.»

يستند الذين يقولون بأن الإسراء والمعراج إنما كان بروح محمد إلى حديث أم هانئ هذا، وإلى ما كانت تقوله عائشة: ما فُقد جسد رسول الله ولكن الله أسرى بروحه. وكان معاوية ابن أبي سفيان إذا سئل عن مسرى الرسول قال: كانت رؤيا من الله صادقة. وهم يستشهدون إلى جانب ذلك كله بقوله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ.٢

وفي رأي آخرين أن الإسراء من مكة إلى بيت المقدس كان بالجسد، مستدلين على ذلك بما ذكر محمد أنه شاهد في البادية أثناء مسراه مما سيأتي خبره، وأن المعراج إلى السماء كان بالروح. ويذهب غير هؤلاء وأولئك إلى أن الإسراء والمعراج كانا جميعًا بالجسد. وقد كثرت مناقشات المتكلمين في هذا الخلاف حتى كتبت فيه ألوف الصحف. ولنا في حكمة الإسراء رأي نبديه. ولسنا ندري أسُبِقْنا إليه أم لم نسبق. لكنا قبل أن نبدي هذا الرأي — بل لكي نبديه — يجب أن نروي قصة الإسراء والمعراج على نحو ما جاءت به كتب السيرة.

سرد المستشرق درمنجم هذه القصة مستخلصة من مختلف كتب السيرة في عبارة طلية رائعة، هذه ترجمتها: في منتصف ليلة بلغ السكون فيها غاية جلاله، وصمتت فيه طيور الليل وسكتت الضواري، وانقطع خرير الغدران وصفير الرياح، استيقظ محمد على صوت يصيح به: أيها النائم قم. وقام فإذا أمامه الملك جبريل وضَّاء الجبين أبيض الوجه كبياض الثلج مُرسَلًا شعره الأشقر، واقفًا في ثيابه المزركشة بالدر والذهب، ومن حوله أجنحة من كل الألوان ترعش، وفي يده دابة عجيبة هي البراق، ولها أجنحة كأجنحة النسر انحنت أمام الرسول، فاعتلاها وانطلقت به انطلاق السهم فوق جبال مكة ورمال الصحراء متجهة صوب الشمال. وصحبه الملك في هذه الرحلة، ثم وقف به عند جبل سيناء حيث كلم الله موسى، ثم وقف به مرة أخرى في بيت لحم حيث وُلد عيسى، وانطلق بعد ذلك في الهواء في حين حاولت أصوات خفية أن تستوقف النبي الذي رأى في إخلاصه لرسالته أن ليس لغير الله أن يستوقف حيث شاء دابته. وبلغ بيت المقدس، فقيَّد محمد دابته وصلى على أطلال هيكل سليمان ومعه إبراهيم وموسى وعيسى، ثم أُتِيَ بالمعراج فارتكز على صخرة يعقوب وعليه صعد محمد سراعًا إلى السموات، وكانت السماء الأولى من فضة خالصة علقت إليها النجوم بسلاسل من ذهب، وقد قام على كل منها ملك يحرسها حتى لا تعرج الشياطين إلى علو عليها أو يستمع الجن منها إلى أسرار السماء. في هذه السماء ألقى محمد التحية على آدم، وفيها كانت صور الخلق جميعًا تسبِّح بحمد ربها. ولقي محمد في السموات الست الأخرى نوحًا وهارون وموسى وإبراهيم وداود وسليمان وإدريس ويحيى وعيسى. ورأى فيها ملك الموت عزرائيل، بلغ من ضخامته أن كان ما بين عينيه مسيرة سبعين ألف يوم، ومن سلطانه أن كانت تحت إمرته مائة ألف فرقة، وكان يسجل في كتاب ضخم أسماء من يُولدون ومن يموتون. ورأى ملك الدمع يبكي من خطايا الناس، وملك النقمة ذا الوجه النحاسي المتصرف في عنصر النار والجالس على عرش من لهب. وقد رأى كذلك ملكًا ضخمًا نصفه من نار ونصفه من ثلج وحوله من الملائكة فرقة لا تفتر عن ذكر الله قائلة: اللهم قد جمعت الثلج والنار، وجمعت كل عبادك في طاعة سنتك. وكان في السماء السابعة مقرُّ أهل العدل ملك أكبر من الأرض كلها، له سبعون ألف رأس، في كل رأس سبعون ألف فم، في كل فم سبعون ألف لسان، يتكلم كل لسان سبعين ألف لغة، من كل لغة سبعين ألف لهجة، وكلها تسبح بحمد الله وتقدس له.

وبينما هو يتأمل هذا الخلق الغريب إذا به ارتفع إلى قمة سدرة المنتهى، تقوم إلى يمين العرش وتُظل ملايين الملايين من الأرواح الملائكية. وبعد أن تخطى في أقل من لمح البصر بحارًا شاسعة ومناطق ضياء يُعشى وظلمة قاتمة وملايين الحجب من ظلمات ونار وماء وهواء وفضاء، يفصل بين كل واحد منها وما بعده مسيرة خمسمائة عام، تخطى حُجُب الجمال والكمال والسر والجلال والوحدة، قامت وراءها سبعون ألف فرقة من الملائكة سُجَّدًا لا يتحركون ولا يُؤْذَنُ لهم فينطقون. ثم أحس بنفسه يرتفع إلى حيث المولى جل شأنه، فأخذه الدهش وإذا الأرض والسماء مجتمعتان لا يكاد يراهما، وكأنما ابتلعهما الفناء فلم ير منهما إلا حجم سمسمة في مزرعة واسعة. وكذلك يجب أن يكون الإنسان في حضرة ملك العالم.

ثم كان في حضرة العرش وكان منه قاب قوسي أو أدنى، يشهد الله بعين بصيرته، ويرى أشياء يعجز اللسان عن التعبير عنها وتفوق كل ما يحيط به فهم الإنسان. ومدَّ العلِيُّ العظيم يدًا على صدر محمد والأخرى على كتفه، فأحس النبي كأنه أثلج إلى فقاره، ثم بسكينة راضية وفناء في الله مستطاب.

وبعد حديث لم تحترم كتب الأثر المدققة قدسيته أمر الله عبده أن يصلي كل مسلم خمسين صلاة في كل يوم. فلما عاد محمد يهبط السماء لقي موسى؛ فقال ابن عمران له: كيف ترجو أن يقوم أتباعك بخمسين صلاة في كل يوم؟! لقد بلوت الناس قبلك، وحاولت مع بني إسرائيل كل ما يدخل في الطوق محاولته؛ فصدِّقني وعُد إلى ربنا واطلب إليه أن ينقص الصلوات.

وعاد محمد فنقص عدد الصلوات إلى أربعين وجدها موسى فوق الطاقة، وجعل يردُّ خليفته في النبوُّة إلى الله مرات عدَّة حتى انتهت الصلوات إلى خمس.

وذهب جبريل بالنبي فزار الجنة التي أعدت للمتقين بعد البعث. ثم عاد محمد على المعراج إلى الأرض، ففك البُراق وامتطاه وعاد من بيت المقدس إلى مكة على الدابة المجنَّحة.

هذه رواية المستشرق درمنجم عن قصة الإسراء والمعراج. وأنت تقع على ما قصه منثورًا في كثير من كتب السيرة، وإن كنت تجد فيها جميعًا خلافًا بزيادة أو نقص في بعض نواحيها. من ذلك مثلًا ما روى ابن هشام على لسان النبي عليه السلام بعد أن لقي آدم في السماء الأولى، أنه قال: «ثم رأيت رجالًا لهم مشافر كمشافر الإبل، في أيديهم قطع من نار كالأفهار٣ يقذفونها في أفواههم فتخرج من أدبارهم. فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة مال اليتامى ظلمًا، ثم رأيت رجالًا لهم بطون لم أر مثلها قط بسبيل آل فرعون يمرون عليهم كالإبل المهيومة٤ حين يعرضون على النار يطئونهم لا يقدرون على أن يتحولوا عن مكانهم ذلك. قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا. ثم رأيت رجالًا بين أيديهم لحم سمين طيب إلى جانبه غث منتن، يأكلون من الغث المنتن ويتركون السمين الطيب. قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يتركون ما أحل الله من النساء ويذهبون إلى ما حرَّم الله عليهم منهن. ثم رأيت نساءً معلقات بثُدِيِّهنَّ، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء اللاتي أدخلن على الرجال من ليس من أولادهم … ثم دخل بي الجنة فرأيت فيها جارية لعساء، فسألتها: لمن أنتِ؟ وقد أعجبتني حين رأيتها، فقالت: لزيد بن حارثة. فبشَّر بها رسول الله زيد بن حارثة.»
وأنت واجد في غير ابن هشام من كتب السيرة وفي كتب التفسير أمورًا أخرى غير هذه. ومن حق المؤرخ أن يسائل عن مبلغ التدقيق والتمحيص في أمر ذلك كله، وما يمكن أن يُسند منه إلى النبي بسند صحيح؛ وما يمكن أن يكون من خيال المتصوفة وغيرهم. وإذا لم يكن المجال هاهنا متسعًا للحكم في ذلك أو لاستقصائه، وإذا لم يكن هاهنا مجال القول في المعراج أو الإسراء أكانا بالجسم أم كان المعراج بالروح والإسراء بالجسم، أم كان المعراج والإسراء جميعًا بالروح؟ فمما لا شك فيه أن لكل رأي من هذه الآراء سندًا عند المتكلمين، وأنه لا جناح على من يقول بواحد دون غيره من هذه الآراء. فمن شاء أن يرى أن الإسراء والمعراج كانا بالروح فله من السند ما قدَّمنا وما تكرر في القرآن وعلى لسان الرسول: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ،٥ وأن كتاب الله وحده معجزة محمد، وإِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ.٦

ولصاحب هذا الرأي أكثر من غيره أن يسأل عن حكمة الإسراء والمعراج ما هي؟ وهنا موضع الرأي الذي نريد أن نبديه ولا ندري أسبقنا إليه أم لم نُسبق.

ففي الإسراء والمعراج في حياة محمد الروحية معنى سامٍ غاية السموِّ، معنى أكبر من هذا الذي يصوِّرون، والذي قد يشوب بعضه من خيال المتكلمة الخصب حظٌّ غير قليل. فهذا الروح القويُّ قد اجتمعت فيه في ساعة الإسراء والمعراج وحدة هذا الوجود بالغة غاية كمالها لم يقف أمام ذهن محمد وروحه في تلك الساعة حجاب من الزمان أو المكان أو غيرهما من الحجب التي تجعل حكمنا نحن في الحياة نسبيًّا محدودًا بحدود قوانا المحسَّة والمدبِّرة، والعاقلة. تداعت في هذه الساعة كل الحدود أمام بصيرة محمد، واجتمع الكون كله في روحه، فوعاه منذ أزله إلى أبده، وصوره في تطور وحدته إلى الكمال عن طريق الخير والفضل والجمال والحق في مغالبتها وتغلبها على الشر والنقص والقبح والباطل بفضل من الله ومغفرة.

وليس يستطيع هذا السموَّ إلا قوة فوق ما تعرف الطبائع الإنسانية. فإذا جاء بعد ذلك ممن اتبعوا محمدًا من عجز عن متابعته في سمو فكرته وقوة إحاطته بوحدة الكون في كماله وفي جهاده لبلوغ هذا الكمال؛ فلا عجب في ذلك ولا عيب فيه. والممتازون من الناس والموهوبون منهم درجات. وبلوغنا الحقيقة معرَّض دائمًا لهذه الحدود التي تعجز قوانا عن تخطيها. وإذا كان من القياس مع الفارق أن نذكر، لمناسبة ما نحن الآن بصدده، قصة أولئك المكفوفين الذين أرادوا أن يعرِّفوا الفيل ما هو، فقال أحدهم: إنه حبل طويل لأنه صادف ذنبه، وقال الآخر: إنه غليظ كالشجرة لأنه صادف رجله، وقال ثالث: إنه مدبب كالرمح لأنه صادف سنه، وقال رابع: إنه مستدير ملتو كثير الحركة لأنه صادف خرطومه — فإن هذا المثل، مقرونًا إلى الصورة التي تتكون لدى المبصر من الفيل لأول ما يراه، يسمح لنا بالموازنة بين إدراك محمد كنهَ وحدة الكون والوجود وتصويره في الإسراء والمعراج حيث يتصل بأول الزمن من قبل آدم إلى آخره يوم البعث، وحيث تنعدم نهائية المكان، إذ يُطل بعين البصيرة من لدن سدرة المنتهى إلى هذا الكون يصبح أمامه سديمًا، وبين ما يستطيع الكثيرون إدراكه من حكمة هذا الإسراء والمعراج؛ إذ يقفون عند تفاصيل ليست من وحدة الكون وحياته إلا كذرات الجسم، بل كالذرات العالقة به من غير أن يتأثر بها نظامه. أين الواحدة من هذه الذرات من حياة هذا الجسم ومن نبض قلبه وإشراق روحه وضياء ذهنه وامتلائه بالحياة التي لا تعرف حدًّا؛ لأنها تتصل من الوجود بكل حياة الوجود؟

والإسراء بالروح هو في معناه كالإسراء والمعراج بالروح جميعًا سموًّا وجمالًا وجلالًا. فهو تصوير قويٌّ للوحدة الروحية من أزل الوجود إلى أبده، فهذا التعريج على جبل سيناء حيث كلَّم الله موسى تكليمًا، وعلى بيت لحم حيث وُلد عيسى، وهذا الاجتماع الروحي ضمَّت الصلاة فيه محمدًا وعيسى وموسى وإبراهيم، مظهر قويٌّ لوحدة الحياة الدينية على أنها من قوام وحدة الكون في مَوْره الدائم إلى الكمال.

والعلم في عصرنا الحاضر يُقِرُّ هذا الإسراء بالروح، ويقر المعراج بالروح، فحيث تتقابل القوى السليمة يشع ضياء الحقيقة؛ كما أن تقابل قوى الكون في صورة معيَّنة قد طوَّع «لماركوني»؛ إذ سلَّط تيارًا كهربيًّا خاصًّا من سفينته التي كانت راسية بالبندقية، أن يضيء بقوة الأثير مدينة سدني في أستراليا. وفي عصرنا هذا يقر العلم نظريات قراءة الأفكار ومعرفة ما تنطوي عليه، كما يقر انتقال الأصوات على الأثير بالراديو، وانتقال الصور والمكتوبات كذلك، مما كان يعتبر فيما مضى بعض أفانين الخيال. وما تزال القوى الكمينة في الكون تتكشف لعلمنا كل يوم عن جديد. فإذا بلغ روح من القوة ومن السلطان ما بلغت نفس محمد، فأسرى به الله ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله ليريه من آياته، كان ذلك مما يقر العلم، وكانت حكمة ذلك هذه المعاني القوية السامية في جمالها وجلالها، والتي تصور الوحدة الروحية ووحدة الكون في نفس محمد تصويرًا صريحًا، يستطيع الإنسان أن يصل إلى إدراكه إذا هو حاول السمو بنفسه عن أوهام العاجلة في الحياة، وحاول الوصول إلى كنه الحقيقة ليعرف مكانه ومكان العالم كله منها.

لم يكن العرب من أهل مكة ليستطيعوا إدراك هذه المعاني؛ لذلك ما لبثوا حين حدثهم محمد بأمر إسرائه أن وقفوا عند الصورة المادية من أمر هذا الإسراء وإمكانه أو عدم إمكانه، ثم ساور أتباعه والذين صدقوه أنفسهم بعض الريب فيما يقوله. وقال كثيرون: هذا والله الأمر البين. والله إن العير لتطَّرد٧ شهرًا من مكة إلى الشام مدبرةً وشهرًا مقبلة، أيذهب محمد في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة؟! وارتد كثير ممن أسلم. وذهب من أخذتهم الريبة في الأمر إلى أبي بكر وحدَّثوه حديث محمد؛ فقال أبو بكر: إنكم تكذبون عليه. قالوا: بلى، ها هو ذاك في المسجد يحدث الناس. قال أبو بكر: والله لئن كان قد قاله لقد صدق، إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه. وجاء أبو بكر إلى النبي واستمع إليه يصف بيت المقدس، وكان أبو بكر قد جاءه، فلما أتم النبي صفة المسجد قال له أبو بكر: صدقت يا رسول الله. ومن يومئذ دعا محمد أبا بكر بالصديق.

ويدلل الذين يقولون إن الإسراء بالجسد على رأيهم بأن قريشًا لما سمعت بأمر إسرائه سألته وسأله الذين آمنوا به عن آية ذلك، فإنهم لم يسمعوا بشيء من مثله؛ فوصف لهم عيرًا مرَّ بها في الطريق، فضلت دابة من العير فدلهم عليها، وأنه شرب من عير أخرى وغطى الإناء بعد أن شرب منه، فسألت قريش في ذلك فصدَّقت العير ما روى محمد عنهما. وأحسبك لو سألت الذين يقولون بالإسراء بالروح في هذا لما رأوا فيه عجبًا بعد الذي عرف العلم في وقتنا الحاضر من إمكان التنويم المغناطيسي للتحدُّث عن أشياء واقعة في جهات نائية. ما بالك بروح يجمع الحياة الروحية في الكون كله ويستطيع بما حباه الله من قوة أن يتصل بسر الحياة من أزل الكون إلى أبده؟

١  سورة الإسراء الآيات من ٧٣ إلى ٧٥.
٢  سورة الإسراء آية ٦٠.
٣  الأفهار: جمع فهر — بكسر فسكون — وهو من الأحجار بما يملأ الكف.
٤  المهيومة: التي بها هيام، وهو داء يأخذ الإبل في رءوسها مثل الجنون.
٥  سورة الكهف آية ١١٠.
٦  سورة النساء آية ٤٨.
٧  أي تتابع سيرها من غير انقطاع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤