شيء من السماء

كانت «لوزة» تقف في مطبخ منزلهم تُعِد بيدها عصير الليمون ﻟ «تختخ»، تريد أن تنتهي بسرعة من عملها حتى تجري إلى منزله — قبل أي شخص آخر — وتُقدِّم له الليمونادة، التي نصحه الدكتور بشربها لإصابته بنزلة برد.

لقد كان «تختخ» مريضًا … وكانت «لوزة» هي تقريبًا المشرفة على علاجه؛ تُعطيه الأدوية في مواعيدها … وتُسلِّيه بالحديث، ويلعبان بعض الألعاب المسلية معًا … أو مع بقية الأصدقاء … لقد كانت «لوزة» تُحس بسعادة بالغة لأنها تخدم «تختخ» … ولكن بتعاسة أيضًا لأنه مريض.

انتهت «لوزة» من إعداد الليمونادة، ووضعتها في «ترمس»، ثم انطلقت تجتاز الحديقة … عندما سمعت طلقة بندقية، وسمعت بعض الأولاد يتصايحون ويجرون، ثم فجأةً وجدت شيئًا يمرق أمام عينَيها نازلًا من السماء، ثم يسقط بين قدمَيها على الأرض.

ذُهلت «لوزة» لحظات، ثم نظرت إلى هذا الشيء الذي سقط فجأة، وأحسَّت بالضيق والألم عندما وجدتها حمامةً زرقاء ينزف الدم من جناحها وقد نامت على جانبها بلا حركة، وعيناها الصغيرتان ترمشان بسرعة.

سمعت «لوزة» صوت الأولاد عند سور الحديقة، فنظرت إليهم، وكانوا ثلاثة أولاد يحمل واحد منهم بندقية صيد، وقد وقفوا ينظرون إليها في انتظار ما ستفعل. وضعت «لوزة» «ترمس» الليمونادة جانبًا، ثم انحنت والتقطت الحمامة الجريحة التي كان جناحها ينزف دمًا، وأدركت على الفور أن هؤلاء الأولاد الأشقياء هم الذين أصابوا الحمامة.

صاح أحد الأولاد: هاتي الحمامة … إننا الذين صدناها.

قالت «لوزة» بصوت غاضب: إنكم أشقياء! كيف تطاوعكم قلوبكم على قتل هذه الطيور البريئة؟!

قال ولد آخر: هاتي الحمامة … ولا تلقي علينا درسًا في الأخلاق.

ردَّت «لوزة» بعنف: إنك لا تحتاج إلى دروس، إنك تحتاج إلى علقة ساخنة.

قال حامل البندقية وهو أطولهم: إذا لم تعطينا الحمامة فسوف ندخل الحديقة ونأخذها منك … ونضربك أيضًا.

لوزة: أنت تضربني! إنك فارغ العقل إذا تصوَّرت أن هذه البندقية تحميك، وإذا لم تنصرف فورًا، فسوف آتي لأضربك قلمين.

قال ولد: هيا بنا نأخذ الحمامة منها، ونرى من الذي سيضرب الآخر.

وفوجئت «لوزة» بالأولاد يتجهون إلى باب الحديقة ويدخلون، وقد بدا الشر في عيونهم وأدركت أنها وقعت في مأزق، وأنها تسرَّعت عندما استفزت الأولاد بحديثها عن الضرب … ولكن «لوزة» الشجاعة لم تُفكِّر في الهرب … فليس بين المغامرين الخمسة أحد يخاف!

دخل الأولاد الحديقة، وظلَّت «لوزة» في مكانها تُفكِّر بسرعة ماذا تفعل والحمامة المسكينة تنزف! … وأخذ الأولاد يقتربون ببطء في إصرار … وقد بدا واضحًا أنهم سيُنفِّذون تهديدهم بضرب «لوزة» وأخذ الحمامة … وفكَّرت «لوزة» أن تعطيهم الحمامة وينتهي الأمر … ولكنها أحسَّت أن ذلك سيكون تراجعًا منها …

اقترب الأولاد تمامًا … وتقدَّم الولد الطويل من «لوزة» ومدَّ يده قائلًا: هاتي الحمامة … فإنني لا أحب أن أضرب بنتًا صغيرةً مثلك.

قالت «لوزة» في شجاعة: لن تأخذ الحمامة وحاول أن تضربني!

في تلك اللحظة سمع الجميع صوتًا من النافذة … كان صوت «عاطف» الذي جذبته الضجة التي تدور في الحديقة، وشاهد الأولاد وهم يقتربون من شقيقته.

قال «عاطف»: ابتعد أيها الصرصار … وإلا!

قال الولد الطويل: ماذا ستفعل أنت الآخر؟

واختفى وجه «عاطف» من النافذة … وبعد لحظات كان يجري في الحديقة متجهًا إلى الأولاد وصاح فيهم بغضب: اخرجوا فورًا وإلا سأضربكم جميعًا.

أحد الأولاد: أنت تضربنا! … إنك جعجاع.

تقدَّم «عاطف» بسرعة من الولد ورفع يده ليضربه، وفي تلك اللحظة سمع الجميع صوت «محب» عند باب الحديقة يقول في هدوء: أرجو أن تترك لي هذه المهمة يا «عاطف» …

ودخل «محب» وخلفه «نوسة» وكانا قد اتفقا مع «عاطف» على أن يمرَّا عليه ليذهب الجميع إلى «تختخ».

أحسَّت «لوزة» بفرحة قوية بعد أن حضر «عاطف» و«محب» و«نوسة»، واستعدَّت للاشتراك في المعركة فورًا، ولكن المعركة المنتظرة لم تقع فقد أسرع الأولاد الأشقياء إلى الانسحاب … وخرجوا من باب الحديقة جريًا.

ضحك «محب» وهو يتقدَّم من «لوزة» قائلًا: ماذا حدث؟ هل كنت على استعداد لمصارعة هؤلاء الأولاد؟

مدَّت «لوزة» يدها بالحمامة الجريحة، فالتفَّ حولها الأصدقاء، وشرحت لهم ما حدث في الدقائق السابقة على حضورهم، فقالت «نوسة»: يجب أن نُنقذ هذه الحمامة المسكينة؛ فلو ظلَّت تنزف فسوف تموت … هل عندك بعض الميكروكروم والقطن والشاش؟

لوزة: عندنا طبعًا في دولاب الإسعاف في الداخل.

وأسرع الأولاد جميعًا إلى الداخل، وأسرعت «لوزة» تُحضر أدوات الإسعاف، وتولَّت «نوسة» تنظيف الجرح، وربط جناح الحمامة بالشاش … ولكن لم يكن هذا كل شيء؛ فبينما كان الأصدقاء يُسعفون الحمامة الجميلة، وجدوا في ساقها شيئًا عجيبًا … كانت هناك أنبوبة من المعدِن الرقيق معلقة في ساق الحمامة … أنبوبة صغيرة لا تزيد على طول عود الكبريت، وإن كانت أكثر اتساعًا.

قالت «لوزة» مندهشة: ما هذا؟!

نوسة: لا أدري … فإنني لم أرَ شيئًا مماثلًا من قبل.

عاطف: يبدو أنها رسالة.

لوزة: رسالة؟!

محب: نعم … وهذه الحمامة من نوع الحمام الزاجل الذي ينقل الرسائل من مسافات بعيدة. ومن خصائص هذا الحمام أنه يعود دائمًا إلى المكان الذي تربَّى فيه، ويستطيع معرفة طريقه عبر مئات الكيلومترات.

نوسة: ولكن ذلك كان يحدث قبل انتشار البريد والتلغراف والتليفون … فلماذا يستخدم أحد حمامةً في حمل رسالة، ومن الأفضل أن يُرسلها عن طريق البريد؟

محب: فعلًا ذلك شيء يبعث على الدهشة؛ فقد كان الحمام الزاجل يُستخدم منذ ٣٠٠ أو ٤٠٠ سنة، خاصةً في الحروب لنقل الرسائل والتعليمات والخطط … ولكن ذلك انتهى منذ زمن بعيد.

عاطف: لعله أحد الهواة يُراسل صديقًا له بهذه الطريقة، أو هي أحد الأبحاث العلمية التي تُجرى بواسطة الحمام.

لوزة: أو أن هناك لغزًا وراء هذه الحمامة … لغزًا أرسله الله لنا من السماء حتى لا تنتهي الإجازة دون أن نشترك في مغامرة أو في حل لغز.

ضحك الأصدقاء جميعًا على تعليق «لوزة» التي كانت ترى في كل شيء لغزًا يستحق الحل. وفي هذه الأثناء كان «محب» قد استطاع تخليص المشبك الذي كان يُمسك الرسالة إلى ساق الحمامة، ووجد أن الأنبوبة المعدِنية مُكوَّنة من جزءين أحدهما يدخل في الآخر، فجذب أحدهما، وأمام أنظار الجميع خرجت قطعة الورق الرفيع قد لُفَّت بعناية شديدة ووُضعت داخل الأنبوبة.

أمسك «محب» بالرسالة في يده وقال: ما رأيكم هل نفتحها؟

نوسة: أعتقد أن هذا لا يصح … إنها رسالة من شخص إلى آخر … ولا يصح أن يفتح الإنسان رسائل الآخرين.

عاطف: أرى أن نفتحها.

لوزة: افتحها … فإذا كانت فيها أسرار ضارة بأحد فمن واجبنا أن نتدخَّل لحمايته …

نوسة: وإذا كانت فيها أسرار خاصة ببعض الناس، فكيف تطَّلعون على أسرار الآخرين دون إذن منهم؟!

عاطف: لقد تأخَّرنا في الذهاب إلى «تختخ» وأخشى أن يقلق علينا، فهيا بنا إلى هناك، حتى يشترك معنا في الحديث.

أعاد «محب» وضع الرسالة مكانها في غلافها المعدِني، وقالت «لوزة» وهم يتَّجهون إلى الخارج: سآخذ الحمامة معي إلى «تختخ» فسوف يُسعده أن يعتني بها، خاصةً وأنه لا يغادر الفراش.

وأسرع الجميع خارجين إلى منزل «تختخ».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤