النشَّال الصغير

استمع الأصدقاء إلى أخبار «عاطف»، ثم بدءوا يتناقشون هل يتركون اللغز لرجال الشرطة أم يتدخَّلون؟ … وكالعادة قرَّروا أخذ الأصوات … وكانت أغلبية الأصوات في جانب أن يتدخَّلوا، وأن يُحاولوا حل اللغز عن طريقهم.

قال «تختخ»: إن طريقنا إلى حل اللغز يبدأ من نفس الطريق الذي سيبدأ به رجال الشرطة … أي مراقبة «حمكشة» حتى يصل بنا إلى «أبو شنب» … ولا يُمكن لأحد مراقبة «حمكشة» إلَّا «عاطف» لأنه هو الوحيد الذي رآه.

نوسة: ولكن «حمكشة» يُمكنه التعرُّف على «عاطف» فتفشل مهمتنا.

محب: ممكن أن أذهب مع «عاطف» إلى حيث يتردَّد «حمكشة» حيث أتعرف عليه ثم أتبعه بعد ذلك.

عاطف: إنني أُفضِّل أن أتابع أنا «حمكشة»، ولكن عليَّ أن أتنكَّر، وفي إمكان «تختخ» أن يُحوِّلني إلى ولد متشرِّد … كما فعل هو في لغز «الأمير المخطوف»؛ حيث تنكَّر واستطاع أن يعرف مكان الأمير!

تختخ: وأين ستبحث عن «حمكشة»؟

عاطف: لقد قال الضابط «زكي» إنه يمارس نشاطه في باب الحديد والظاهر، وسوف أراقبه في هذه المنطقة.

وتفرَّق الأصدقاء على أن يلتقوا في صباح اليوم التالي. ونام «عاطف» وهو يحلم بالمغامرة المقبلة.

في صباح اليوم التالي اجتمع الأصدقاء مرةً أخرى، وجلس «عاطف» أمام «تختخ» في غرفة العمليات، وقام «تختخ» بعمله بسرعة وإتقان، ولم تمضِ سوى ربع ساعة حتى تحوَّل «عاطف» الرقيق إلى ولد خشن المنظر ذي ملابس ممزَّقة، يضع على رأسه طاقيةً بالية، قد خرج منها شعره المنكوش كأنه لم يُمشِّطه طول عمره!

أبدى الأصدقاء إعجابهم بإتقان التنكُّر، ثم ودَّعوا «عاطف» الذي انطلق إلى المحطة في طريقه إلى القاهرة ليبدأ مغامرته، بعد أن اتفق مع الأصدقاء على الاتصال بهم تليفونيًّا كل يوم للاطمئنان، وإخطارهم عندما يرى «حمكشة» أو يحدث شيء جديد.

لم يستمتع «عاطف» طويلًا بمغامرته؛ فبعد ساعة واحدة تطوَّرت الأحداث تطوُّرًا سريعًا … كان «عاطف» يقف على محطة الأتوبيس في باب الحديد يراقب حركة الراكبين والنازلين على أمل أن «حمكشة» بينهم … وفجأةً شاهد رجلًا يركب الأتوبيس في الزحام الشديد، فقفز سريعًا خلفه، وسرعان ما اندس بين الركاب محاوِلًا الوصول إلى الرجل ليراقبه عن قرب … وفجأةً مرةً أخرى في أثناء سير الأتوبيس في شارع رمسيس، ارتفع صراخ سيدة قائلة: لقد نُشلت! نقودي … نقودي … محفظتي … نشلت!

وحدث هرج ومرج بين الركاب، وارتفعت الأصوات تطالب السائق بالتوقُّف، وزادت الحركة داخل الأتوبيس، ودون أن يتنبَّه أحد دار السائق دورةً واسعةً بجوار مستشفى السكة الحديد، واتجه إلى شارع الجلاء، وبعد لحظات كان يقف أمام قسم الأزبكية … والسيدة تصرخ، والركاب يتحدَّثون بصوت مرتفع مردِّدين كلمة «نشال … نشال».

وسرعان ما صعد الأتوبيس رجال الشرطة بقسم الأزبكية واحدًا واحدًا، وأخذ «عاطف» يُفكِّر فيما يفعل وينظر حوله … وعلى أرض الأتوبيس شهد محفظةً مفتوحةً وقد أطلَّت منها الأوراق المالية، فلم يشك لحظةً في أنها محفظة السيدة، وأن النشال تخلَّص منها بإلقائها على الأرض قبل تفتيشه!

صاح «عاطف» بدون تفكير … وقد نسي تنكُّره تمامًا: هذه المحفظة … ثم أسرع إليها يرفعها من الأرض.

وفي تلك اللحظة أحس بيد ثقيلة تهبط على كتفه، وسمع صوتًا يقول: تعالَ هنا … يا حرامي.

وقبل أن يُفيق «عاطف» من دهشته وجد نفسه مقتادًا بيد ثقيلة لشرطي ضخم إلى داخل القسم! وكان ضابط القسم قد احتجز بعض الركَّاب المشتبه فيهم، في حين صعد بقية الركاب إلى الأتوبيس الذي انطلق بهم في طريقه المعتاد.

كانت السيدة التي نُشلت تجلس أمام الضابط وهو يسألها الأسئلة التقليدية عن الحادث، وعن محتويات المحفظة، ولمَّا تأكَّد أنها محفظتها فعلًا سلَّمها لها بعد أن وقَّعت على المحضر … وانصرفت بعد أن قالت إنها لا تشتبه في أحد من الموجودين …

كان الثلاثة المحتجزون رجلَين وولدًا … أخذوا ينظرون إلى «عاطف» في تأمُّل شديد، وكان مظهرهم يدل على أنهم نشَّالون محترفون، فقد كان الضابط ينادي اثنَين منهم بأسمائهم … أمَّا الثالث فقد اتضح أنه عامل وليس له علاقة بالنشل؛ فأفرج عنه هو الآخر … وبقي «عاطف» ورجل كان الضابط يُناديه باسم «الموس»، أمَّا الولد فكان اسمه «طرزان»، برغم أنه لم يكن ضخمًا ولا قويًّا، بل كان نحيفًا … ولكن يبدو من شكله أنه سريع الحركة.

أخذ «الموس» و«طرزان» يُدافعان عن نفسَيهما بحرارة، ولكن الضابط ظل مُصِرًّا على إيداعها الحبس، ثم التفت إلى «عاطف» قائلًا: وأنت مع من فيهما؟

عاطف: إنني لست مع أحد … ولا علاقة لي بهذا الحادث مطلقًا.

الضابط: ألست أنت الذي عثرت على النقود؟

عاطف: فعلًا … ولكن … أنا، أنا …

وقبل أن يُتم «عاطف» جملته قال الضابط: طبعًا ستُنكر أنك نشلتها ولكن هذا الإنكار لن يُفيدك … ثم نادى قائلًا: يا شاويش … خذ هؤلاء الثلاثة إلى الحبس واعمل لهم فيش وتشبيه.

وفهم «عاطف» ما يعني استخراج فيش وتشبيه … إن معناه الكشف عن سوابق المتهم، فالشرطة تحتفظ بصور وبصمات اللصوص جميعًا، حتى إذا وقع أحدهم استطاعوا معرفة ما قام به من السرقات … وكم جريمةً ارتكبها.

جرَّ الشاويش الثلاثة إلى غرفة الحبس … وكان ذهن «عاطف» يعمل بسرعة البرق، هل يطلب الاتصال بالمفتش «سامي» ليُخرجه من الحبس؟ أم ينتهز هذه الفرصة ليتعَّرف بعالم النشَّالين لعله يستطيع أن يصل إلى «حمكشة» ومنه إلى «أبو شنب». وقبل أن يصل إلى قرار كان باب الحبس قد فُتح، ودفعهم الشاويش إلى الداخل، ثم أغلق الباب وانصرف.

كانت غرفة الحبس ويُسمُّونها «التخشيبة» مظلمة، فلم يرَ «عاطف» شيئًا في البداية، وشيئًا فشيئًا اعتادت عيناه الظلام، ووجد نفسه وسط عدد من المقبوض عليهم … لصوص ونشالين ومجرمين من كل طراز، وأحس «عاطف» بالخوف يتسلَّل إلى قلبه … وهو بين هذه المجموعة من الأشرار، فظل واقفًا لا يدري ماذا يفعل، ثم رأي «طرزان» ينظر إليه، فاتجه ناحيته وجلس بجواره، فقال «طرزان»: إنك غريب عنا، فمن أين أنت؟ قال «عاطف» دون تفكير: من المعادي.

طرزان: إن سكان المعادي من الأغنياء، ومن السهل تنظيفهم في زحمة القطار … لقد اشتغلت هناك فترة.

لم يردَّ «عاطف»، فعاد «طرزان» إلى الحديث: من المعلم الذي تسرح له؟

عاطف: أنا ليس لي معلم.

طرزان: أنت إذن سرِّيح؟

عاطف: تقريبًا … ومع من تعمل أنت؟

طرزان: مع «الموس».

عاطف: وهل «الموس» هو المعلم الكبير؟

طرزان: لا المعلم الكبير «حمكشة».

لم يكد «عاطف» يسمع هذا الاسم حتى انتبه، وأحسَّ أن «طرزان» هذا سيقوده إلى «حمكشة» … ولكن كيف؟

قرَّر «عاطف» أن يكتسب صداقة «طرزان»، وكان معه في جيوبه بعض الساندويتشات التي أعدتها له «لوزة»، فأخرجها وأعطى «طرزان» واحدًا، وقبل أن يضع الثاني على فمه امتدت يد بسرعة، وخطفت الساندويتش، وسمع ضحكات الموجودين عليه، وهو مفتوح الفم مستعدًّا لأكل الساندويتش.

لم يدرِ «عاطف» ماذا يفعل، ولكنه رأى «طرزان» يطير بسرعة ثم ينقض على الولد الذي خطف الساندويتش، ودار بينهما صراع، وارتفع الصراخ في التخشيبة، وإذا بالشاويش يدخل صارخًا … ولكن قبل أن يرى شيئًا كان الجميع قد عادوا إلى أماكنهم كأن شيئًا لم يحدث … ووقف الشاويش يسأل عن المتعاركين، ولكن الجميع أنكروا أن أي شيء قد حدث … وهكذا خرج الشاويش وهو في أشد الضيق.

استطاع «طرزان» أن يستعيد الساندويتش، فأعطاه ﻟ «عاطف» قائلًا: خد بالك … إنك في غابة وليس في بيتكم!

وقبض «عاطف» على الساندويتش بيدَيه حتى لا يُخطف منه مرةً أخرى، وانهمك في الأكل، ولكنه سمع الولد الذي بجواره يقول: أعطني لقمة … إنني جائع!

ولم يتردَّد «عاطف»، فأعطاه نصف الساندويتش.

انتهى الطعام، وانهمك «عاطف» مع «طرزان» في حديث طويل استطاع خلاله أن يحصل على بعض المعلومات التي يُريدها عن «حمكشة»، إلَّا مكانه؛ فقد قال «طرزان» إن «حمكشة» لا يبقى في مكان واحد، بل إنه يتنقَّل من مكان إلى آخر طول الوقت خوفًا من القبض عليه، كما عرف أنه لم يعد ينشل بنفسه، بل يعتمد على عدد من النشَّالين الكبار والصغار يعملون لحسابه … وعندما سأله «عاطف» عن «أبو شنب» قال إنه لا يعرفه مطلقًا، وإن كان قد سمع عنه.

قال «عاطف»: وهل أستطيع أن أنضم إلى عصابة «حمكشة»؟ إنني أشتغل وحيدًا وأحب أن أكون مع مجموعة.

طرزان: ممكن طبعًا، سأعطيك كلمة السر التي تستطيع أن تصل بها إلى «حمكشة» عن طريق بعض زملاء المهنة، وهم يتردَّدون على مقهًى في الظاهر … ولكن كيف ستخرج من هنا؟

عاطف: ليس لي سوابق … وأعتقد أنهم سيُفرجون عني.

طرزان: إن ذلك لن يتم قبل بضعة أيام، بعد استخراج الفيش والتشبيه والسؤال عنك في قسم مكافحة النشل.

أحس «عاطف» بقلبه يقع في قدمَيه، كيف يستطيع البقاء في هذا المكان بضعة أيام، وماذا سيفعل الأصدقاء في أثناء غيبته … إنهم بالقطع سوف يقلقون عليه. وقبل أن يسترسل في أفكاره فُتح الباب، وأخذه الشاويش لعمل الفيش والتشبيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤