المقدمة

بقلم  شكيب أرسلان
 جنيف ٧ صفر الخير ١٣٥٥

بسم الله الرحمن الرحيم

وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا

الحمد لله قبلة الكلام، والصلاة على رسول الله باب السلام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تشفي الأوام، وتقشع الظلام، وتكون لنا العدة الواقية في حشرجة الأنفس وسكرات الحمام، ونشهد أن محمدًا عبده ورسوله، النبي العربي الأمي الذي كرم بني آدم بنعمة الإسلام، وجنبهم عبادة الأصنام، وسنمهم من التوحيد نعمة دائمة لا تريم، وذروة عالية لا ترام، والذي نثر بدعوته يافوخ الشرك نثرًا ليس له من بعده نظام، النبي الذي تمخض لظهوره الكون قبل أن تلج الأيام في الليالي والليالي في الأيام، والرسول الذي بلغت به الرسالة أمدها الأقصى فانطوت من بعده الصحف السماوية وجفّت الأقلام، إذ ليس وراء توحيد الله تعالى مذهب ولا بغير حبه تعالى هيام، صلاة لباسها الدوام وشعارها اللزام، وسلم سلامًا نفحه الرند ونشره الخزام. ورضي الله عز وجل عن آله وأصحابه نجوم الهدى وبدور التمام وأنصاره الذين ألزمهم كلمة التقوى وكانوا بها أحق الأنام، الذين أقبلوا على الأمم بالعقيدة الحق والأخلاق العظام، وطلعوا بخيل الله على المشرق والمغرب بسهام غير خطاء وسيوف غير كهام، ونشروا علم الفرقان الذي فرقت له قلوب الطواغيت وخفقت من الخوف سائر الأعلام، ففتحوا عذارى الممالك وأدركوا غرر الأماني بشدة الحزم لا بشدة الحزام.

وبعد، فإن من غرائز الجبلة البشرية التي لا جدال فيها، تذكّر الحوادث الماضية، والتحدث بالوقائع الخالية، والوقوف على الرسوم العافية، والاعتناء بحفظ الغابر إلى الحد الذي جعل الناس ينقشون الأخبار على الأحجار، ويزبرون القصص على الجماد، فضلًا عن أن يكتبوها في الأوراق ويحفظوها ضمن الأجلاد، خشية عليها من الضياع بتقادم العهد، وذهابًا بها عن النسيان بتطاول الدهر، وذلك بما فطر الله عليه هذا النوع من حب الأشراف والاطلاع، والغرام بالرواية والسماع؛ وبأن الإنسان يجتهد أبدًا أن يحفظ الماضي، كما يجتهد أن يستدرك الآتي، فحياته عبارة عن وصل آخر بأول، وربط ماض مع مستقبل، وتعليل حديث بقديم، فلهذا لا يبرح بين أثر دارس يقف عنده، ورسم طامس يتعرف خطبه، وكتابة مطلوسة يفك حروفها، وحكاية مأثورة يتندس نصوصها، تارة يعرضها على أصولها، وطورًا يقيسها بشكولها؛ وهو لا يزال يجمع بين قرائنها، حتى يدرك مباديها ويفقه مغازيها، وكم للإنسان من سهر ليال، وبذل غوال، وأعمال حل وترحال، وراء قصة مغلقة يستوحي حديثها، وقضية مرتجة يستوخي نجيّها؟ وكم من واقعة مبهمة ينشد عند الهيروغليف سرها، ولدى القلم المسماري بحيثها؟ سنة الله الذي أقام الناس عليها بإزاء أي علم وأمام أي سر، لا يتقيدون فيها بقريب دون بعيد، ولا يقصرونه على حاضر دون غابر، ولا يختصون به موضعًا دون موضع؛ بل استشراف الأسرار، واستشفاف الأستار، وهما من لوازم الإنسان أيًا كان متعلق العلم ومتسق الفكر. إلا أنه إذا تعلق بالآباء والأجداد كانت النفوس به أولع، وإليه أنزع؛ وإذا اتصل بالقرابات والكلالات، أو انتسب إلى الديارات والمباءات، كان الحنين إليه أعظم، والتهافت عليه أسرع؛ فإن المرء ليحرص على مآثر آبائه، ما لا يحرص على مآثر سواهم، ويعنى بالقصص وراء أصوله ما لا يعنى وراء من تعداهم؛ بل إن قسط همه من هذا الأمر هو على نسبة القرب والبعد، وبمقدار الفصل والوصل.

وكل أمة من الأمم تدرس تواريخ البشر أجمع، إلا أنها تجعل تاريخ سلفها هو العلم المقدم، والدرس المقدس، والبغية التي يجب أن تتوجه إليها خواطر ناشئتها، والغاية التي يتعين أن تستحث نحوها ركاب نابهتها؛ لما في ذلك من وصل حديث بقديم، وربط آخر بأول، وإعادة فرع إلى أصل، ورد عجز على صدر. فإن كان الحاضر مماثلًا للماضي، والطريف غير مختلف عن التليد، فمغزى التاريخ هو حفظ التسلسل ومنع التخلف، وحث الأخلاف على متابعة الأسلاف، وبناء المجد سافًا من فوق ساف، فإن الأمم هي في تنازع بقاء لا يفتر، وتزاحم ورد لا يسكن، وكل منها يبغي أن يحفظ كيانه، ويوطد بنيانه، ويحمي حقيقته، ويخلّد سجيته. بل يحاول أن يتقدم عما كان، وأن يطاول كل درجة إمكان. وإن كان الحالي مقصرًا عن الخالي، وقد عادت البدور أهلّة، وذهب المجد إلى أقلّه، وصارت الأوساط أطرافًا، واستحالت الأثواب أطمارًا، ولم يبق من تلك المعالي السوالف إلا أخبار وسير ومثلات، وذكر وحكايات، يعتبر بها من اعتبر، كان درس تاريخ السلف أحسن وسائل النشاط من العقال، وأفضل حوافز الاستباق إلى الكمال، ليقال للناشئ: هكذا كان آباؤك، فأين إباؤك؟ وها ما فعله أجدادك، فأين جهادك؟ وإذا كان هذا فري آبائك، فكيف ترضى أن تقصر عنهم، وإذا رضيت بأن تقصر عنهم، فقد يستبعد العقل أن تكون منهم. أيرضى أصحاب النفوس الأبية أن يقعدوا مع الخوالف، وقد كان أوائلهم من السابقين الأول؟ أو أن يكونوا تابعين، بعد أن كانوا متبوعين، وأن يسودهم من كان لهم من جملة الخول؟

فإذا كان علم التاريخ ضرورة من ضرورات البقاء، فضلًا عن الارتقاء؛ وشرطًا من شروط اللحاق، فضلًا عن السباق؛ فأية أمة أجدر بمدارسته من هذه الأمة العربية ذات التاريخ الأمجد، والسنام الأقعس، والعرق الأنجب، واللسان الأذرب، والجهاد الذي شرّق وغرّب. أيام ملأت من الدهر مسمعيه، وضربت كل جبار في أخدعيه، وفرضت الذلة على جماجم الأكاسرة، وأطارت النعرة من معاطس القياصرة.

قوم ابتسلوا للموت نفوسهم، فرفعوا في الحياة رؤوسهم؛ يركبون من البر والبحر كل غارب، ويلتمسون بالجيش دار المحارب؛ أحمت أنوفهم حياة القفر، وأعزت نفوسهم الرمال العفر؛ فكانت بلادهم عذارى تخلف ظن كل فاتح، وعقائل لا ينتهي إليها الطيف فضلًا عن الطائف.

ثم لما جاءهم الإسلام بعزائم القرآن، وعزز ما فيهم من خيم كريم، وطبع سليم، بصلابة الإيمان؛ اندفقت سيولهم من منابعها، وخرجت سنابلهم من قنابعها؛ وملكوا ما بين الصين وبحر الظلمات في أقل من مائة عام، وأتوا من الأعمال ما لو حدثوا أنفسهم به من قبل لقيل إنه من الأحلام. على أنهم لم يلبثوا بعد ذلك العز الأمنع، والسناء الأصنع، أن انصاعوا انصياع الكواكب عند انكدارها، وأسرعوا إلى الهبوط سرعة المياه عند انحدارها. وذلك بتجردهم عما كان قد كساهم الإسلام من فضائل، وأهب فيهم القرآن من عزائم، وبسقوطهم في مثل ما كان قد سقط فيه أعداؤهم من الأعاجم، وبانغماسهم في الشهوات البدنية، وانصرافهم إلى السفسافات الزمنية، وولوعهم بالانتقاض على أمرائهم، واشتغال الأمراء بأغراضهم وأهوائهم، وتخلف العلماء عن تقويم منآدهم، وردعهم عن فسادهم. فمشى الفساد في جنباتهم، وطار الطيش بعذباتهم، وتنازعوا ففشلت ريحهم، وجاءت تباريحهم؛ وتنكروا؛ حتى لو عرضوا على السلف في أجداثهم لجهلوهم، وتغيروا، حتى لو نشر الآباء وتلاقوا بأبنائهم لأهملوهم؛ فجنوا من انقلاب أخلاقهم فقد خلاقهم، ونالوا من اعوجاج مسالكهم ضياع ممالكهم؛ وبعد أن كانت أنفتهم ملء العرانين، وحميتهم ملء الحيازيم، صاروا يرضون بكل حطة، ويسلكون من الهوان كل خطة، وهووا عن صهوات ذلك المجد العظيم، وأخرجوا من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم.

وكان من أنفس ما سددهم الله إلى فتحه، وقيض لهم بالجهاد الطويل وسائل ريحه، هذه الجزيرة الأندلسية الخضراء، الخطة العذراء، والدرة الدهماء، والبقعة الجامعة بين الشموس والأفياء، الرافلة في حلل موشية من حوك الأرض وطراز السماء، فأتوها من كل فرج، بين محتسب ومكتسب، وراغب في الدنيا وماهد للآخرة، وساموا ولايتها بالنفقات الوجيعة، والبطشات الذريعة؛ والنفوس السائلة أنهارًا، والجماجم الطائرة أسرابًا، والجيش يتلو الجيش، والبعث يردف البعث، ومازلوا يغاورونها بخيل لا تنحط لبودها، فوارس لا تفارقها زرودها، ويريغونها من بين أيديها ومن خلفها، وعن أيمانها وشمائلها، إلى أن ذلّلوا أعرافها، وألانوا أعطافها؛ فخيّم الإسلام بعقرتها تخييم من أجمع الاعتمار، وسكن إليها سكنى من ألقى عصا التسيار، وأمدتهم جزيرة العرب بأفلاذ أكبادها، ورمت أعداءهم بأنجاد أجنادها؛ وكانوا لولا العصبية بين القيسية واليمنية، والخلاف على الخلافة بين الأموية والعباسية، وما أضيف إلى ذلك من ملاحم بين القبائل العربية والبربرية؛ قد ألحقوا بالأندلس جميع الأرض الكبيرة، وصارت لهم جوفي جبال البرانس أندلسات كثيرة؛ ولكن اشتغالهم بفتنهم الداخلية، وانهماكهم بمشاجراتهم العائلية، وبقاء ما بقي في طباعهم من حمية الجاهلية، واستبدالهم ملوك الطوائف، بجيوش الصوائف، وحركات الفساد، بحركات الجهاد، ورضاهم عن تحمل الهزائم، بدلًا من تجريد العزائم؛ كل ذلك أعاد تقدمهم تأخرًا، ورد تجمعهم تبعثرًا، حتى صار عدوهم في الجزيرة قسيمًا لهم مشاركًا، خليطًا معهم مشابكا؛ وكان هو لم يبق له من البلاد إلا الجبال والصخور، ولم يملك إلا ما تركه له العرب من مسارح الغزلان وأوكار النسور؛ وكانوا هم رتعوا في كل روض نضير، وملك كبير، ومالوا إلى طعام أنيق وفراش وثير، وجرروا من التيه مطارف سندس وحرير، وأغرتهم السعة بالدعة، وأفضى بهم الرخاء إلى الارتخاء، وأورثهم رفاهية العيش قلة الانتخاء. وشتان بين من ألف الترف ومال إلى الهوى، وبين من لزم الشظف وطوى على الطوى. ولله در من قال عن وقعة بطرنة بقرب بلنسية، وقد محّص فيها المسلمون:

لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم
حلل الحرير عليكم ألوانًا
ما كان أقبحهم وأحسنكم بها
لو لم يكن ببطرنة ما كانا

وهكذا لم يزل المخشوشن يفتك بالمتنعم، حتى دوّخه؛ والمحروم يوقع بالمترف، إلى أن ريخه؛ والشقاق مع ذلك بين المسلمين لا تنطفئ ناره، ولا تنقطع أخباره، والإصلاح بينهم تخفق مساعيه، والشر أبدًا تجادع أفاعيه؛ لا ينجع في عقولهم بليغ نصح، ولا يعوج بأسماعهم نذير خطب؛ ولا يعوّلون على شاهد نقل، ولا دليل عقل، ولا يعتبرون بحلول بثق واقع على بثق. تنزل بهم كل هذه القوارع وهم في سكرتهم يعمهون، ويقرأ عليهم الدهر كل يوم سورة الغاشية فلا يتدبرون، ولا يسمعون، ويُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ وأخيرًا تناثروا بددا، وتطايروا قددا، فلكل بلدة دولة وأمير، ومنبر وسرير؛ وكل جار لجاره مناظر لا نظير، يجور عليه ولا يجير، ولا يغار عليه بل يغير!

وتفرقوا شيعًا فكل مدينةٍ
فيها أمير المؤمنين ومنبر

وهم في أثناء هذا يتسابقون في ميدان الاستعانة، بعضهم على بعض، بالطاغية الذي يساومهم على المناصرة بتسليم الحصون، وتعطيل الثغور؛ والانهزام بلا سيف، والرضى بكل حيف، ويواطئون على حوزة الإسلام علنًا يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا الْأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا والعدو كل يوم يتقدم، وحوض الإسلام كل يوم يتهدم؛ والخلاصة: مازال يطغى وهم يحسرون، ويمد وهم يجزرون، ويطول وهم يقصرون إلى أن عادوا إلى علَم ناكس، وصوت خافت، وباتوا — كما يقال — طوع كل شامت؛ وتوقع كل عاقل الفاقرة الكبرى، وأن من هو باق بسيف البحر ليس بثابت؛ وما كانت إلا شفافة في إناء الأندلس أراد العدو أن يستصفي سؤرها، وبقية فيما وراء البحر صمم أن يقتلع جذورها، وجاءهم ذلك حينما لم يبق مرابطون ولا موحدون، ولا أبطال يجاهدون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، بل حينما كل ملك بالعدوة مشغول بسد فتوقه، وحفظ حقوقه؛ سعيد بأن يثبت في مكانه، راضٍ بأن يخلص من عادية جيرانه، بل من غائلة إخوانه. فكيف يستطيع أن يركب البحر لينازل الطواغيت، ويجمع من الإسلام ذلك الشمل الشتيت؟ فأراد الله أن يتركهم وشأنهم، وهو تعالى المحيي المميت. واستأسد بذلك العدو، فلم يزل يواثبهم ويكافحهم، ويغاديهم القتال ويراوحهم، حتى أجهضهم عن أماكنهم، وجفلهم عن مساكنهم، وأركبهم طبقًا عن طبق، واستأصلهم بالقتل والأسر كيفما اتفق؛ وردوا في الحافرة، وصاروا رهن هوى الأمة الظافرة. ومن اختار منهم الدجن انتقلوا تدريجيًا إلى دين الطاغية ولسانه، فخسروا الدنيا والآخرة، وصاروا عبرة في العالمين وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.

نعم؛ حواضر كالبحار الزاخرة، كانت تموج بالبشر؛ وحصون كالجبال الشامخة، تحصى بالألوف، وتكبو فيها جياد الفكر، وجيوش كانت حصى الدهناء، ورمال البطحاء، ومساجد كانت في الجمع المشهورة تغص بألوف الألوف من المصلين، ومدارس كانت مكتظة بالألوف من القراء والطالبين، وما شئت من إسلام وإيمان، وحديث وفرقان، وأذان يملأ الآذان، وما أردت من نحو ولغة وطب، وحكمة ومعان وبيان، بلغة عربية عربآء، يحرسها علماء كنجوم السماء؛١ وما أردت من عيش خضل وزمن نضر، وحزرات أنفس، وضحكات قلوب. كل هذا عاد كهشيم المحتظر، كأن لم يغن بالأمس، ولم يبق منه إلا آثار صوامت، وأخبار تناقلتها الكتب، كأنه لم يعمر الأندلس من هذه الأمة عامر، ولا سمر فيها سامر. قال تعالى: وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ.

وبقيت الأمة العربية تنوح على هذا الفردوس المفقود الذي هبط منه أهله بأعمالهم، نحوًا من أربعمائة عام، نواح الثاكل لولده لا يريد أن ينسى مصابه، ولا يفتأ يذكر فصاله؛ ولما كنت من جملة هذه الأمة الباكية على الفردوس الضائع، أولعت من أوائل صباي بقراءة تاريخ الأندلس، والتنقيب عن كل ما يتعلق بالعرب في تلك الجزيرة، حتى إنني لما اطلعت على رواية «آخر بني سراج» للكاتب الأفرنسي الكبير «رينه شاتو بريان» بادرت بنقلها إلى العربية وذيلتها بتاريخ للأندلس نشرته من أربعين سنة؛ ثم نفدت نسخه بأجمعها، فأعدت طبعه منذ إحدى عشرة سنة، وقد قلت في خاتمة كتابي ذلك ما يناسب أن أعيده هنا، رعيًا لكون الغرض الذي حداني يومئذ إلى نشر ذلك الملخص، هو نفس الغرض الذي يحدوني اليوم إلى نشر هذا المطوّل؛ فالروح التي أملت ذلك هي التي قد أملت هذا، وكلامي الأول هو كلامي الآخر، ولو كرّت الأيام وتعددت الأعوام، قلت:

«ولا أكتم القارئ الذي هو خليق بأن لا يخفى عليه ذلك بشفوف بصره ولطف حسّه، أن الأمر غير خال في هذا الإملاء، من نزعة جنسية، وحنوة عصبية، وهفوة للفؤاد وراء آثار بني الجلدة، مما تستشعر فيه مرضاة هذه النفس، العظيمة السر، البعيدة مهوى الغرض، الغريبة شكل الهم، وتوفّر به اللذة والراحة لهذا الوجدان الداخلي، السائح في إثر ما يتعلق بالنفس من جميع جهاتها، على ترجيح الأقرب فالأقرب؛ وقد طبع الخالق الحكيم هذا المرء على حب جنسه، والميل للاتصال بأبناء أبيه، فكأنما يتمثل بذلك صورة نفسه التي هي جزء من هذا المجموع، لما يحس من أن أقرب أنواع الدم إلى دمه، هو الجاري في عروق قومه؛ فهو يحن إليهم ويحنو عليهم، ويتألم لألمهم، ويعتز بعزهم؛ وتراه إذا غابت أشخاصهم استأنس بآثارهم بعد الأعيان، وارتاح إلى مواطنهم ورغب في الدوس على مواطئ أقدامهم ولو بعد أزمان وقد عهدنا الذي يصاب بعزيز أو بذي قرابة يختلف إلى قبره، ويشفي بالبكاء عنده حرارة صدره؛ وإذا ظفر بقطعة من ملبوسه، أو مفروشه أو برقعة من خطه، احتفظ بها، وغالى في قيمتها، وجعلها مدار أنسه، في خلوات نفسه، وروح حياته في منتبذ مناجاته. وبناءً على هذا الشعور أولع الخلق بحفظ آثار الغابرين، وتطلعوا بغريزة فيهم إلى معرفة سير السالفين، ووقفوا على الأطلال الدوارس، وبكوا على الدمن البوالي، كأنما يجددون عندها عهودهم مع آبائهم، ويشدون لديها معهم عروة وفائهم».

إلى أن أقول: «فيا ليتنا نتبع الآن سنن من قبلنا، ونقتدي بسلفنا، ونبني بناء أوائلنا، ونعتبر بحمراء غرناطتنا، وخضراء دمننا، ونتأمل في سالف عزها، وسابق أمرها، ونتجنب الفرقة التي آلت إلى فقدها، ونسأل رسومها عما مضى من نعيمها فهي رسوم إن لم تجبك حوارًا أجابتك اعتبارًا؛ فلا يكونن دائمًا من شأننا أن نتباهى بمجد الأوائل ونفاخر بعظم الرميم، دون أن نقتص أثر الآباء ونحيي ذكر القديم، ولا يبقى من نصيبنا في المجد إلا حديث سمر، ومجرد ذكر. وما أحسن ما قال شوقي شاعر العصر:

وذات دلال من بني الروم حولها
إذا ما تبدت إخوة سبعة مرد
عنيت بها حتى التقينا فهزها
فتىً عربيُ ملء بردته مجد
فقالت: أطيب بعد عسر وشدةٍ؟
فقلت نعم مسك الأحاديث والند
عطلنا من النعمى وطُوّق غيرنا
تداولت الأيام وانتقل العقد
وما ضاعت الدنيا علينا وحسنها
ولكن عن أغصانه رحل الورد

هذا، وكان الفراغ من كتابة هذا التاريخ، ليلة السبت الواقع في السادس والعشرين من المحرم سنة خمس عشرة وثلاثمائة بعد الألف» ا.ﻫ.

فأنت ترى أن الكتاب الأول قد مضى عليه أربعون سنة، وهي مدة تسمى عمرًا، ولقد سمعت من كثير من أعيان الأمة العربية أنهم قرءوا كتابي ذاك في وقته وتتبعوا حوادث سقوط مملكة غرناطة وجلاء المسلمين الأخير عن الأندلس باهتمام عظيم، ودمع سجيم. وقال لي بعضهم إنهم قرءوه مرتين، وإن منهم من كان يبكي، ومنهم من كان يتلهب وجدًا، ومنهم من كانت مهجته تذوب حسرةً عند قراءته. وقد تضاعفت الآن هذه الذكرى، وبعد مضي هذه السنين الأربعين ازداد الولوع بتاريخ الأندلس، بازدياد الناشئة المقبلة على العلم، وبنمو الشعور العربي في جميع طبقات هذا الشعب، سواء منهم من في الشرق ومن في الغرب، ولا يزال هذا الشعور في نمو وما برحت هذه الهمم في سمو؛ ولا عجب فإن قوة الأمة هي على قدر ما مجت من مشارب العلم، وارتقت من درجات الثقافة الجم، والأمة العربية في هذه المدة قد اجتازت عقبات جيادًا، وقطعت أشواطًا طوالًا، وسارت السير النجاء، وشمّرت التشمير الباعث على الرجاء؛ فأخذت تخفي سؤال التاريخ عن ماضي أحوالها؛ كما صرفت معظم بالها، في توطيد استقبالها.

ولهذا رأيت أنه من أمثل ما يمكنني أن أخدم به هذه الأمة، قبل انصرافي من هذه الدنيا، هو أن أهدي ناشئتها عن هذه القطعة النفيسة من تاريخها، كتابًا شافيًا للغليل، جامعًا لأقطار هذا البحث، ناظمًا بين القديم والحادث، مقابلًا بين ما قاله العرب وما قاله الأفرنج.

وكنت قدّمت بين يدي هذا التأليف رحلة قمت بها من ستة سنوات في أكثر أنحاء أسبانية، لأقرن الرواية بالرؤية، وأجعل القدم ردءًا للقلم، ونويت أن أجعل الرحلة أساس الكلام، وواسطة النظام، وأن أضم التاريخ إليها، وأفرّع التخطيط عليها.

ومن أجل ذلك كنت نويت أن أسمي هذا الكتاب «بالحلة السندسية في الرحلة الأندلسية» وأشرت إلى هذا الاسم في كتابي المنشور من سنتين، الموسوم «بغزوات العرب في جنوبي فرنسا وشمالي إيطالية وفي سويسرة وجزائر البحر المتوسط» الذي عددته جزءًا من كتابي الأندلسي. إلا أني رأيت فيما بعد أن ما نحن بسبيله قد اتسع جدًا عن الرحلة، وأن الاسم قد ابتعد عن المسمى، وأن الكتاب قد يقع في عدة مجلدات كبار، وقد يكون أوسع كتاب عربي كتب عن الأندلس؛ هذا إذا فسح الله في الأجل، ووفق للعمل، فعدلت إلى اسم آخر يشعر ما أنا متوخيه من الإحاطة بقدر الطاقة، وهو «الحلل السندسية في الأخبار والاثار الأندلسية» وآليت لأبلغن فيه جهيداي، وأعقل به ما شرد عن سواي. ولم أقصد في ذلك تنبلًا على الخلق، ولا تزيدًا فيما ليس بحق، وإنما أردت النصح ما استطعت، والتمحيص ما قدرت. والعلم أمانة، من حملها فقد حمل إدًا وتجشم بهرًا. والتاريخ من عالجه فقد رقى حزنًا، وركب خشنًا. فإن كنت قرطست أو قاربت، فقد بلغت من عملي المراد أو بعض المراد؛ وإن كان سهمي قد طاش، فكم فتىً حام وما ورد، وغنّى وما أطرب، ولكن شفع له الاجتهاد.

ولقد سهرت في هذا التأليف ليالي متمطيات بأصلابها، تحقيقًا عن لفظ، أو تنقيبًا عن اسم، أو ضبطًا لرواية مختلف فيها، أو لعدد أقل فيه الواحد وأكثر الآخر، أو تعيينًا ليوم واقعة من أي شهر أو من أي سنة، أو مقابلة بين ما قاله عربي وما قاله أوربي عن الحادثة الواحدة، أو تعريبًا لعلَم أسبانيولي على الوجه الذي كان يقوله العرب، أو تبيينًا لعلَم عربي كيف كان يتلفظ به الأسبانيول، وما أشبه ذلك مما أذبت له سواد العيون، وأحييت كثيرًا من الليالي الجون. ولا أزعم مع ذلك أني بلغت به الأمد الذي ينجيه من تعنت الحساد، أو يعليه عن تصفّح النقّاد، ولكني بلغت فيه الجهد، وأبليت العذر، ولم أبق في القوس منزع ظفر.

ومما لا بد لي من الإشارة إليه في هذه المقدمة أني اخترت النقل عن المؤلفين ما استطعت، لتكون هذه الموسوعة في هذا الموضوع معرضًا للآراء، ومجمعًا للأفكار التي يطلع منها القارئ على الصور المختلفة التي كانت عن مملكة العرب في الأندلس، في أذهان الذين عاشوا في ذلك العصر وكتبوا عنه، أو في أذهان من كانوا على مقربة منه. ولم أشأ أن أصنع ما يصنعه الكثيرون من أخذ الشيء عن الآخرين وإبرازه للناس كأنه من ورى زنادهم، وفيض قرائحهم؛ فليس هذا مذهبي في الكتابة، ولا أراه الطريقة المثلى في التأليف؛ وإنما ينقل الإنسان ما يستطيع الاتصال به من آراء الناس ورواياتهم، ثم يشفعها برأيه الخاص، وبالرواية التي يكون قد جزم هو بها، أو رجحها على غيرها بحسب اجتهاده؛ وله أن يستدل على صحة رأيه أو ثبوت روايته بما وجد من قرائن، وآنس من شواهد، وللقارئ بعد ذلك أن يذهب في الترجيح والتجريح كيفما شاء بحسب ما يؤديه إليه نظره.

ولهذا نقلت ما قدرت أن أعثر عليه من الفصول المتعلقة بالأندلس، عن المسعودي، وابن حوقل، والمقدسي، والشريف الإدريسي، وابن الأثير، وياقوت الحموي، وابن عذارى، وابن بشكوال، وابن عميرة، وابن الأبار، وابن خلدون، ولسان الدين بن الخطيب، وصاعد الطليطلي، والهمذاني، والقلقشندي، والمقري صاحب نفح الطيب، وغيرهم من مؤلفي العرب؛ ونقلت أيضًا عن دوزي المستشرق الهولندي، وعن رينو المستشرق الأفرنسي، وعن أيزيدور الباجي، وغيره من مؤلفي القرون الوسطى، وعن أصحاب الأنسيكلوبيدية الإسلامية، وعن لاوي بروفنسال من المعاصرين، وعن المسيو جوسه P. Gousset صاحب جغرافية أسبانية والبرتغال، وعن بديكر، وعن بعض علماء الأسبانيول مثل سيمونه Simonet وكوندي Gonde وعن ألبار دوسيركور صاحب تاريخ المدجنين والموريسك Albert de Cricourt، وعن دومارليس de marles وعن كتب أخرى أسبانيولية استعنت على ترجمتها ببعض أصحابي من الأسبان، ومن غيرهم. وعزوت الروايات إلى أصحابها، ونقلت كثيرًا من الفصول بنصوصها، أو تلخيصها مع التعليق عليها في الحواشي بما يعن لي مخالفًا أو موافقًا.

وهناك اصطلاح آخر، جرى عليه بعض مؤلفي الأفرنجية، وتابعهم فيه الشرقيون وهو إرسال الكلام من عندهم في الموضوع، ثم الاستشهاد بأقوال الآخرين بإدماج بعض الجمل المأخوذة عنهم، وذلك في صلب الكلام مع الإشارة في الحاشية إلى مأخذ تلك الجمل؛ ولست أرى في ذلك بأسًا، وإنما ألاحظ هنا أن المؤلف قد يكون له رأي خاص في مسألة من المسائل، فيهمه تأييد رأيه، فينقب في الكتب على كل ما يعزز وجهة نظره، وكلما وقع على جملة لمؤلف رأى فيها تقوية لنظريته نقلها دون سواها، وأدمجها في كلامه، فربما جاءت بترًا، لا يعرف ما تقدمها ولا ما تأخر عنها، وربما جاء نقل تلك الجملة من قبيل «ولا تقربوا الصلاة» وحذف «وأنتم سكارى» فمن المعلوم أن الحكم لا يصح باعتبار جملة واحدة لمؤلف، وإنما يصح باعتبار مجموع كلامه بعد تصفحه بحذافيره. وهذا الذي حداني إلى نقل فصول بأصبارها، أخذ العذق بشماريخه، ولو كان في خلالها ما ليس عندي بثبت، وما اضطررت أحيانًا إلى رده.

وإتمامًا للفائدة رأينا تزيين هذا الكتاب بأطالس جغرافية، محررة فيها أسماء البقاع والمدن، باللغة العربية؛ ورصعناه بتصاوير لم يسبق أن اطلع عليها العرب، وذلك لأن التصوير بالريشة قد يفعل ما لا يفعله التصوير بالقلم، ولأن الصورة المحسوسة في العين هي أوقع من الصورة المجردة في الذهن، فما ظنك إذا كانت الواحدة رديفًا للأخرى؟

ولما كان المقصود بهذا الكتاب التوسع في الموضوع بقدر الطاقة، قسمناه إلى قسمين: جغرافية وتاريخ. وبدأنا بالجغرافية لأنها سابقة للتاريخ، ولم نقتصر في الجغرافية على ما كانت عليه أسبانية في أيام العرب أو في القرون الوسطى، غير ناظرين إلى أحوالها الحاضرة، بل جمعنا القديم إلى الحديث ونظمنا بين الخالي والحالي وقرنّا ما كتبه العرب بما كتبه الأفرنج، وإن كنا لم نحب أن نملأ الكتاب بالأرقام والإحصائيات، في الكليات والجزئيات، مما قد تمل الأنفس مطالعته.

وقد أدخلنا في القسم الجغرافي ذكر من نبغ من أهل العلم في كل بلد من البلدان التي ذكرناها؛ ولم نحصر ذلك في العرب، بل تجاوزناه إلى الأسبان، ولكننا استقصينا في أسماء العرب بالبديهة ما لم نستقص في أسماء أولئك، واكتفينا من الأسبان بالمشاهير، لأن قراءنا هم من العرب وغرضنا إنما هو تعريف ناشئة العرب بالأندلس العربية، ولن يقرأ كتابنا من غير العرب إلا من شاء من المتخصصين. وقد كان مرادنا بادئ ذي بدء أن نسرد أسماء العلماء والأدباء المنسوبين إلى كل بلدة سردًا مجردًا من دون ترجمة، ثم نرد تراجم أحوالهم إلى جزأين في الآخر، مخصصين بذلك الموضوع؛ ولكننا رأينا في ما بعد أن السرد المجرد لا يفيد شيئًا ولا يبلغ في صدور القراء حاجة، وأنه لا بد من شدو شيء من ترجمة كل واحد منهم، ومن تبيين العلم الذي كان متخصصًا به، وذلك في الأجزاء الأولى. وإن كنا عوّلنا على هذا الأسلوب فهو لا يمنعنا من أن ننتخب من هؤلاء المترجمين طبقة عبقرية وفئة ممتازة نكتب لهم في الآخر سيرًا ضافية، إن شاء الله، نأتي فيها بمختارات من أقوالهم وأنموذجات من نظمهم ونثرهم.

هذا ولقد أحببت أن أتوّج هذا الكتاب الذي تعبت فيه هذا التعب كله، باسم أحد أمراء الإسلام وأقطاب الشرق، الذين يتفق في شأنهم الكلام ممن يملأ العيون والصدور، ولا يكون الثناء عليه تنميق جمل وتشقيق ألفاظ، بل يكون نفس فعله هو هو الهاتف بمدحه بدون منةٍ لقائل، ولا فضل لمنّوه، وتكون سيرته الشخصية ومآثره المستمرة هي المخلّدة له في الأعقاب وعلى طول الأحقاب، وإذا رآني الناس اخترته لتتويج هذا الكتاب باسمه قالوا بأجمعهم: تالله لقد أحسن الاختيار وأتى الأمر من بابه، وما أطرى ولا بالغ، ولا تملق ولا داهن، وإنما هو الحق الذي لا يجهله أحد. ولا يأتي على هذا الشرط عظيم من عظماء الإسلام قبل الأمير الكبير العلامة الخطير صاحب السمو الأمير عمر طوسون حفظ الله مهجته للإسلام والمسلمين وأمتع بطول حياته الشرق والشرقيين فقد أصبح هو في هذا العصر أمين هذه الأمة في كل ملمة، ومفزعها في كل مهمة. وإليه ارتاحت جميع الضمائر، وعليه حامت جميع الخواطر، وما من بزلاء إلا وقد نهض بها يشار إليه بالبنان في جميع أنحاء العالم الإسلامي لا يعمل شيئًا مما يعمله رئاء ولا سمعة ولا ابتغاء شهرة ولا أمارة، هو الذي يزينها وليس بالذي يتزين بها، وإنما يعمل ما يعمله ابتغاء وجه الله تعالى، وخدمة لهذه الأمة التي أبى أن يكون من أعظم أمرائها نسبًا وجلاءً، وبدون أن يكون من أجل أمرائها علمًا وعملًا وجداءً، فكان قدوة لكل أمير لا يعرف العبث، ولا يريد أن يضيع من عمره لحظة واحدة بدون فائدة للبشر. وما أقول هذا عن متابعة للناس في شأن هذا الأمير المنقطع النظير، ولا عن روايات معنعنة ولا عن شهرة طائرة وإن كان التواتر يفيد اليقين وإن كان الناس أكيس من أن يجمعوا على مدح رجل إن لم يكن لذلك أهلًا، وإنما أقول ما أقوله عما خبرته بنفسي وشاهدته بعيني، وتبادلت معه فيه الكتب المتصلة والرسائل المتواترة، مدة تزيد على خمس وعشرين سنة، من أيام الحرب الطرابلسية إلى الحرب البلقانية، إلى الحرب الكبرى إلى جميع الخطوب والنوازل التي حلت بالإسلام من بعدها مما قيدت خلاصته في ترجمة حياتي التي أوصيت بأن تنشر من بعدي، واستودعتها مكتب المؤتمر الإسلامي في بيت المقدس، وكذلك مما سجلته في تاريخ الدولة العثمانية الذي حررته تعليقًا على تاريخ العلامة ابن خلدون رحمه الله إجابةً لطلب المتصدي لتجديد طبعه الحاج محمد المهدي الحبابي الفاسي وفقه الله، ولست والله يعلم في شيء مما قيدته من أعمال الأمير الأوحد عمر طوسون مد الله، في حياته بالذي وفاه إلا النزر الأقل مما يجب من حقه على هذه الأمة التي تعرف له من فضله عليها بقدر ما ينكر هو من ذاته، ولست في جعلي هذا الكتاب باسمه الكريم إلا الكاتب الذي عرف أن يسد ما نقصه من العلم ويتلافى ما فاته من براعة الإنشاء بما وفق إليه من معرفة الفضل وألهمه من براعة الإهداء.

ولأبدأ الآن بالموضوع مستمدًا من الله الصواب والسداد وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ ۚ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ.

figure
figure
figure
figure

هوامش

(١) قال العلامة دوزي المستشرق الكبير الهولاندي، أوثق أوربي كتب عن الأندلس، وذلك في كتابه «مباحث عن تاريخ أسبانية وآدابها في القرون الوسطى» Recherches sur l’histoire et la litèrature de l’espagne pendant le moyen àge ما يلي:
«إنهم كتبوا (يعني الأسبانيول) تاريخ وطنهم الذي منه عدة مقاطعات تولاها العرب مدة ثمانية قرون، وذلك بدون أن يعرفوا لغة العرب. ولما لم يكونوا قادرين على مراجعة الكتب العربية كان لا مناص لهم من الخبط عند كل خطوة كلما أرادوا الكلام عن الدول العربية أو عن الحرب والسلم بين المسيحيين، ولهذا تجد كثيرًا من الحقائق التي هي في الدرجة القصوى من البال مجهولة عندهم مع أنها متعلقة بأخبار ممالك النصارى، وذلك لأن هذه المعلومات لا توجد في الكتب اللاتينية ولا الأسبانيولية بل في كتب مؤرخي العرب وأدبائهم وشعرائهم، لأن أسبانية المسلمة هي البلاد الأوربية التي في القرون الوسطى كتب فيها أكثر من الجميع، والتي كان فيها المذهب التاريخي أكمل وأدق منه في أي مكان»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤