مظاهرات البنات

انقلبت الدنيا في مدرسة حلوان الثانوية للبنات، كان المفروض أننا بنات عذراوات لا نعرف شيئًا عن «الجنس» أو الحمل السِّفاح، هذه الكلمة يجب ألا نَنطقها في السر أو العلن باللغة العربية، وإن كانت مقرَّرة علينا في إحدى الروايات فيُمكن النطق بها باللغة الإنجليزية فقط، وداخل الفصل فحسب، وليس في عنبر النوم.

لم يكن لنا أن نعرف كيف يُمكن للحمل الطبيعي أن يحدث، فما بال الحمل السِّفاح! كانت هناك حصة اسمها «رعاية الطفل»، تدخل ضمن المقرَّر في مدارس البنات فقط، في الحصة نهبط إلى بدروم المدرسة حيث غرفة كبيرة بها حوض يُشبه البانيو، يمتلئ بالماء، وطفل من البلاستيك الأصفر تمسكه أبلة حكمت من تحت إبطَيه وتشرح لنا كيف نُحمِّيه دون أن يغرق في الماء، ودون أن يدخل الصابون في عينه، لم تكن تشرح لنا كيف يأتي هذا الطفل إلى العالم. أبلة «حكمت» كانت تُعطينا حصة أخرى تحت عنوان «الصحة والأحياء»، تشرح لنا كيف يحدث التلقيح بين الزهور والنحل والديدان، أمَّا التلقيح عند الإنسان فكان من المحرَّمات، ومحظور علينا أن نعرفه.

في مكتب الناظرة الشبيهة بنبوية موسى وقفتُ أرتعدُ، في يدها تذكرة مكتوب عليها: مسرح الحرية يقدِّم صرخة في الليل، تأليف نوال السعداوي، دليل الجريمة المادِّي تُلوِّح به في وجهي، عيناها جاحظتان من وراء النظارة كعيني طنط فهيمة، رذاذ لعابها يتناثَر فوق وجهي من شدة الغضب.

– واحدة طويلة زيك طول الباب تعمل حاجة فظيعة بالشكل ده!

– يا أبلة الناظرة، دي مجرد قصة خيالية.

– عاوزاها تبقى حقيقة؟! أمَّا بنت قليلة الأدب بصحيح! وأصدرت الناظرة قرارًا بنقلي من القسم الداخلي إلى القسم الخارجي وخصم ثلاث درجات من السلوك والأخلاق، تدخَّلتْ مس سنية لتخفيف العقاب، قالت للناظرة إنِّي موهوبة. «يعني إيه يا ست سنية؟ الأخلاق عندي أهم من أي حاجة، دي بنت جريئة ومُمكن تفسد كل بنات الداخلية!»

لم تغير الناظرة قرارَها إلا بمجيء ولي الأمر؛ أي أبي. عُدتُ إلى مكاني في القسم الداخلي، إلا أنَّ مسرح الحرية مات، أصبحنا نَكتفي بالغناء في ليالي الجمعة، نحن واقفات في النوافذ مثل السجينات، نسهر على ضوء القمر، نَسترجِع الذكريات الماضية، أو نُحلِّق في السماء مع أحلام المستقبل. نتجمَّع حول فاطمة وهي تغني: «هو صحيح الهوى غلاب! ماعرفش أنا»، نرد عليها في كورس جماعي، قد نهبط إلى غرفة الموسيقى، تدقُّ فاطمة على البيانو، وتلفُّ صفية الحزام حول وسطها وترقص، نُشاركها الرقص حتى يتصبب مِنَّا العرق.

لم تكن سامية تشترك في هذه الألعاب، تمطُّ شفتيها المطبقتين في امتعاض.

«البلد في أزمة، وأنتم نازلين لعب؟!»

كانت سامية تُشعرنا دائمًا بالإثم، كأنما نحن السبب في احتلال الإنجليز لمصر، أو فساد الملك، أو انتشار الثالوث المشهور حينئذٍ: «الفقر والجهل والمرض»، أطلَق عليها العنبر اسم بعبع أفندي.

نمَت الصداقة بيني وبين فكرية، الرسم عندها مثل الكتابة عندي، أقرأ لها ما أكتُب وتريني لوحاتها، في الليل بعد أن تنطفئ الأنوار تقرِّب سريرَها مِن سريري وتهمس في أذني: «حادخل كلية الفنون الجميلة وأبقى رسامة مشهورة.»

حقَّقت فكرية النصف الأول من حلمها، بعد التوجيهية دخلت الفنون الجميلة، ثُمَّ انقطعت أخبارها عني خمسة عشر عامًا، كنت أبحث عن اسمها بين الرسامات دون جدوى. في صيف عام ١٩٦١ كنت على شاطئ البحر في الإسكندرية ألعب مع طفلتي الصغيرة «منى» في المياه الزرقاء، أحملها فوق الأمواج وأسبح بها كما كانت أمي تفعل معي وأنا في الرابعة من العمر، لمحتُ فكرية فوق الرمال حافية القدمين تُمسك حذاءها في يدها، عيناها السوداوان شاردتان، وشفتها السفلية ممطوطة إلى الأمام بازدراء لكل ما في الكون. ابتسمَتْ حين لمحتني داخل المياه، أشرقت أسنانها البيضاء في الشمس، تعانقنها بحرارة الصداقة بعد غيبة خمسة عشر عامًا، سألتُها عن الرسم، انطفأت بسمتُها وهربت عيناها بعيدًا وهي تمط شفتها: «أصلي أنا اتجوزت.» ثُمَّ أفلتت منها ضحكة قصيرة ساخرة: «على العموم جوزي فنان كبير، وهو يرسم لنا احنا الاثنين.» ضحكتُ: «يعني زي غاندي؟» سألتني ما علاقة غاندي بالرسم؟ حكيتُ لها عن غاندي حين سافر إلى قصر ملك الإنجليز في لندن، وسأله الملك حين رآه يدخل عليه شبه عارٍ: لماذا لم تَرتدِ ملابسك؟ فردَّ عليه غاندي: أنت ترتدي لنا نحن الاثنين!

فاطمة ذات الصوت الجميل الذي كان يُفرحنا ويبكينا كان لها حلم واحد، أن تُصبح كوكب الشرق مثل أم كلثوم، دخلت كلية الآداب بعد الثانوية العامة، تزوَّجت أستاذها، يكبرها بعشرين عامًا، سافرت معه إلى الكويت أو السعودية، انقطعت عني أخبارها أكثر من ربع قرن، ثُمَّ فجأة في خريف ١٩٧٥ جاءني صوتها عبر أسلاك التليفون، قرأتْ عني شيئًا في الصحف، فراحت تبحث عني حتى عرفت رقمي، صوتها كان ضعيفًا حزينًا؛ فهي طريحة الفراش وتطلُب رؤيتي.

في مدينة الأساتذة بضاحية الدقي وجدتُ الفيلا الأنيقة تحوطها حديقة كبيرة، وكلب ضخم يشبه الوولف في بيت جدي شكري بيه، قادني السُّفرجي يرتدي قفطانًا وصديريًّا أحمر إلى الأنتريه ثُمَّ الصالون الواسع، تَبرُق فيه الثُّريات والتُّحَف ونباتات الظل، صعد بي عبر ممرات وسلالم رخامية إلى الدور الثاني حيث غرفة النوم.

فوق سرير يُشبه سرير الملكة نازلي (رأيته في طفولتي في إحدى الصور)، رأيت فاطمة راقدة، بشرتها بيضاء بلون الملاءة، زوجها غائب في بلاد النفط يجمع المال، تزوَّج امرأة أخرى في الكويت أو السعودية، تراكم الحزن داخل الكيس في الثدي فوق القلب، أشارت بإصبعها الشاحب الناحل إلى الألم: «هنا يا نوال، هاتي إيدك، الدكتور قال إنه ورم ليفي حميد، لكن أنا حاسة إنه بيكدب عليَّ، يا ريت تقولي الحقيقة.»

كان ورمًا سرطانيًّا خبيثًا من الدرجة الثالثة، كذبتُ عليها كما كذبت على أمي وخالتي نعمات وكل المرضى بهذا الداء، لعنتُ اليوم الذي دخلت فيه كلية الطب وأصبحت طبيبة، لا أرى الناس إلا في لحظات المرض أو الموت، عيون مُنطفئة يُطلُّ منها الحزن، عيناها كانتا بلون العسل المصفى، يتألق صوتها وهي تغني: «افرح يا قلبي»، كانت تحلم بأن تكون كوكب الشرق، لكنها تزوجت، وبنى لها زوجها مقبرةً من الرخام، حفَر عليها اسمه (وليس اسمها): «حرم الأستاذ الدكتور فلان.»

ماتت صديقتي فاطمة وهي في الخامسة والأربعين من عمرها كما ماتت أمي، وراح اسمها في العدم، لم تفعل بحياتها شيئًا سوى الانتظار، داخل الصالون الفخم واجترار حلم ضائع، صديقتي الثالثة سامية كانت صامتةً مطبقة الشفتين، ترمقنا بعين صفراء حين نتكلم على أحلامنا تحت ضوء القمر أو ذكريات الحب الأول، هي لا تؤمن بالحب أو الأحلام أو الخيال، تمطُّ شفتها في امتعاض.

«البلد في أزمة وانتم عايشين في الخيال! دي رومانتيكية طفولية!» تمطُّ فكرية شفتها السفلية في وجهها، تُخرج لها لسانها، تتغطَّى سامية بالبطانية من قمة رأسها إلى قدمها. «نام يا بعبع أفندي، نام واتغطى من الهوا!» تقول لها فكرية وتضحك حتى تدمع عيناها، تطلُّ سامية من تحت الغطاء، تخرج لها لسانها ثُمَّ تتغطى من جديد، لا تترك ثغرة واحدة لدخول الهواء، لم نكن نعرف كيف تتنفس، كانت تنام بعمق طول الليل، لا تتقلَّب من جنب إلى جنب، تتكوَّر كالجنين حول نفسها، في الصباح الباكر تتسلَّل من الفراش دون صوت، تَمشي بحذر فوق الأرض، تتكلَّم بصوتٍ خافت مملوء بالحذر.

في يوم ارتفع صوتها عن المعتاد وهي تقول: «بكرة فيه مُظاهرة كبيرة أوي، وكل المدارس حتخرج، ولازم مدرستنا تشارك في المظاهرة الوطنية.»

«المظاهرة الوطنية؟!»

هاتان الكلمتان لهما رنين في أذني بصوت أبي، الطفلة المَبهورة الجالسة في الفرندة البحرية بالإسكندرية، الأب الشجاع العملاق يَضرب الأعداء، رصاصة تطير في الجو وتدخل صدره، ينزف الدم الأحمر فوق أسفلت الشارع، أهبُّ من نومي مذعورة، أمشي على أطراف أصابعي، أتوقف عند باب الغرفة حيث ينام أبي وأمي، وقد يكون الباب مواربًا فأسمع شخير أبي، أدرك أنه حي، وأن الأمر لم يكن إلا حلمًا. أعود إلى سريري لأنام، فيعود إليَّ الحلم، إلا أنني أنتقم لموت أبي، أرتدي درعًا لا يخترقه الرصاص، أُمسك السيف وأضرب الأعداء مثل جان دارك، السيف في يدي يشبه رشاشة «الفلت»، الأعداء يتساقطون على الأرض كالذباب، يخفُّ جسدي ويطير في الجو كالفراشة، أحرك ذراعي بدل الجناحين، يتحول الهواء إلى مياه زرقاء، أسبح في البحر كالسمكة، ترتفع الأمواج إلى السماء ثُمَّ تَهبط بي إلى القاع، تمتد ذراعا أمي نحوي وترفعني فوق السطح.

«المظاهرة الوطنية بكرة يا بنات.»

هذا هو صوتي المُشتعل حماسًا وأنا أمرُّ على العنابر، الدم يَرتفِع من صدري إلى رأسي ثُمَّ يهبط إلى قدمي، دمٌ ساخنٌ مُلتهِب، أحمل الشُّعلة في جسدي وأمشي حافية في الممرَّات البلاط، أفتح أبواب العَنابر الواحد تلو الآخر، وأهتفُ بالبنات: «بكرة المظاهرة يا بنات.»

صوتي يُشبه صوتي حين كنتُ أقول: «بكرة المسرحية يا بنات.» العالم يبدو في عينيَّ كالمسرح الكبير، التذاكر أصبحت مَنشورات، قطع مُستطيلة من ورق الكراريس كتبنا عليها بالحبر الأحمر: الجلاء بالدماء. كان في عنبرنا عشر نوافذ كبيرة على شكل صفَّين، صفٍّ يطلُّ على الممر الداخلي، وصف يطلُّ على السماء والصحراء.

تلك الليلة السابقة على المُظاهرة وقفنا في النوافذ، نشتغل على ضوء القمر «البادج» قطعة مربعة من القماش الأبيض، طرزنا عليها بالخيط الحريري الأحمر حروف الكلمتين «الجلاء بالدماء»، اشتغلنا طول الليل، لم تتخلَّف واحدة مِنَّا إلا سامية.

إلى جواري في النافذة وقفت فكرية وفاطمة وصفية مُنهمكات في التطريز، نسمة الليل في حلوان دافئة حانية كأنامل الأم، يَجتاحُنا الحنين إلى الأهل، أضواء الشارع من بعيد تقود إلى محطة القطار، النجوم في السماء تبدو لنا أقرب من الشارع، السور الحَجري العالي يحوطُ الفناء الواسع، الصَّحراء ممدودة حتى الأفق، رائحة العين الكبريتية تَسري مع الهواء، ثكنات الإنجليز العسكرية وراء تلال الرمال رابضة كالوحوش تَنتظر الانقضاض. الليل في حلوان صامت إلا من صوت مدفع يُطلَق، أو بضع رصاصات يَعقبها نباح الكلاب، أو وقع أقدام الجنود الإنجليز بأحذيتهم الحديدية، في أيديهم كشافات، يُسلِّطون الضوء على نوافذ المدرسة، يُغازلون البنات بأصوات قبيحة، نهتف في نفس واحد: الجلاء بالدماء.

على مرمى البصر كانت الأشجار الباسقة، مِن ورائها الحديقة اليابانية، الهواء في حلوان جافٌّ رقيق، يملأ صدورنا بالشجن العميق، تُنوِّعه عيوننا في خضمِّ الكون اللانهائي، نَستشعِر الوحشة والغُربة، نسند رءوسنا فوق حافة النافذة، تتماسَك أيدينا، نستأنس بوجودنا معًا، بحرارة أجسامنا وتآزُرنا ضد العالم المجهول، يختلط في خيالنا وجه الأم بوجه الأب بوجه الرب، يذوب الحب الأول في حب الوطن، نُنشد معًا: بلادي بلادي لك حبي وفؤادي. ليالي حلوان غير تلك الليلة عام ١٩٤٦م، عقارب الساعة تَقفز من الثانية إلى الرابعة، أوشَكَ الفجر على الطلوع، واقفات في النوافذ نُطرِّز تحت ضوء القمر البادج الذي سوف نُعلِّقه في المظاهرة على صدورنا ناحية اليسار فوق القلب.

سامية هي الوحيدة في العنبر التي نامت طول الليل، لم تكن تؤمن بالسهر في ضوء القمر، عملية التطريز في نظرها عملية بطيئة، كتبَت بالحبر الأحمر «الجلاء بالدماء» فوق البادج وعلَّقته فوق صدرها في نصف دقيقة، كانت تؤمن بالأشياء العملية والنتائج السريعة، تبدأ حديثها دائمًا بكلمة الواقع أو حتمًا، «الواقع يا بنات ان النوم أفيد من اللي انتو بتعملوه ده!» «حتمًا يا بنات أبلة عزيزة حتطب عليكم والليلة مش فايتة على خير.»

لم يكن لسامية صديقات في العنبر إلا أنا، كان لانطباقة شفتيها وصمتها نوع مِن الغموض يجذبني، ولأنَّ سريرها كان مجاورًا لسريري، أصبحْنا نتبادل الحوار: «إيه فايدة الخيال يا نوال، إيه فايدة القصص الخيالية؟ البلد في أزمة وانتي نازلة قراية روايات.»

في صوتها نبرة لوم وتأنيب، كلماتها تملؤني بالإثم، كأنما أنا أخون الوطن لأني أحب الأدب والفن، وأقول لها: إن الخيال عندي ضروري كالهواء أتنفَّسه. تمطُّ شفتيها دون اقتناع، لم يكن لي أن أقنعها بالكلمات، كانت اللغة كالحاجز تقف بيننا، لديها عبارات معقَّدة تقف في الحلق من الصعب فهمها: «لازم أشرح لك الديالكتيكية يا نوال»، كانت هذه الكلمة «الديالكتيكية» تُصيبني بالاكتئاب، إنَّ سامية عاجزة تمامًا عن أن تشرحها لي، حين تسمعها فكرية تَنفجر بالضَّحك. قبل أن نَنام كل ليلة تطلُّ «صفية» علينا من سريرها وتهتف: «تصبحوا على خير يا بنات، وعلى الديالكتيكية!» نخفي رءوسنا تحت الأغطية ونشهَق بالضحك، تزمُّ سامية شفتيها بازدراء، تُغطي نفسها من الرأس إلى القدمين، وهي تصيح: «الواقع يا بنات انكم جهلة، وحتمًا مستقبلكم ضايع!»

لم يغمض لنا جفن تلك الليلة، دقَّ جرس الصباح، ومن بعده جرس الفطور، قفزنا فوق السلالم جريًا نتسابَق في الدخول إلى المطعم، نجلس على الدكة الخشَبية الطويلة، نتشمَّم الخبز المحمَّص واللبن الحليب، نعودُ أطفالًا نَصرخ من الفرح.

ثُمَّ تجمَّعنا في الفناء الواسع، نرتدي التايير الرمادي يعلوه البادج بالحروف الحمراء البارزة: الجلاء بالدماء. انضمَّت إلينا تلميذات القسم الخارجي، ترامى إلينا أصوات الهتافات في الشارع من بعيد. حلوان الثانوية للبنين خرَجوا، والمدارس الابتدائية أيضًا، ارتفعت صيحات البنات: لازم نخرج في المظاهرة، احنا مش أقل من تلامذة الابتدائي! صعدت واحدة فوق أكتاف الأخريات، وراحت تهتف: الجلاء بالدماء! وردَّدت وراءها المئات من المُتجمهرات في الفناء: الجلاء بالدماء! أضافت واحدة: يَسقط الإنجليز! تسقط الحكومة!

أصدرت الناظرة أوامرها، انغلقَت البوابة الخارجية الكبيرة بالسلسلة الحديدية والقفل، انتشرت في الفناء الضابطات في أيديهنَّ العصا، مثل رعاة الغنم يضربن النعاج على أردافهنَّ ليدخلن الحظيرة.

إلى أنَّ الهتافات ألهبت الحمية الوطنية، لم تعد النعاج نعاجًا، تحولت إلى بشر تفور دماؤهنَّ، وأصواتهنَّ تنشد:

مصر العزيزة لي وطن، وهي الحمى وهي السكَن، وهي الفريدة في الزمن، وجميع ما فيها حسن. هذه الكلمات محفورة في ذاكرتهنَّ منذ المرحلة الابتدائية.

اندفعت البنات نحو البوابة الخشبية، مئات الأجساد الفتية القوية في أول الشباب تحولت إلى جسد واحد يَضرب الباب، السلسلة الحديدية ومعها مفاصل الباب تئنُّ من تحت الثِّقَل، مئات الأذرُع تحوَّلت إلى ذراع واحد تلوي الحديد، بالغضب المتراكم منذ الولادة تلويه، بالحلم المكبوت منذ الطفولة، والحبِّ المَحبوس بين طيات القلب، بكل الكراهية لهذه البوابة ذات السلسلة الحديدية، بكل الأمل في الحرية وبكل اليأس أيضًا.

كنتُ واحدة من هؤلاء البنات، جسدي أصبح جزءًا من جسدهنَّ، لا شيء يَفصلني عنهنَّ وإن كان هو الموت. في هذه اللحظات يَنطلِق المارد الراقد تحت العقل الواعي، يُسمُّونه «اللاوعي»، قد يكون أكثر وعيًا وأقرب إلى الفطرة الطبيعية، وإلا فمِن أين تأتيه هذه القوة؟ كنتُ أدرك تمامًا قوتي الجديدة، أصابعي الحديدية تلوي السلسلة الصَّدِئة حتى انكسَرت، سقط القفل الحديدي على الأرض، داسته الأقدام، مئات الأقدام، وانفتَحت البوابة الضخمة على مِصراعها بصوتٍ يُشبه الانفجار، وانهمرَت أجساد البنات إلى الخارج مثل الشلال الهادِر: الجلاء بالدماء!

في الشارع انضمَّ إلينا التلاميذ والمارَّة وأصحاب الدكاكين، عند محطة القطار أو دخول السيرك أو شراء اللب والفول السوداني!

جلستُ بجوار النافذة والقطار يَنطلق بنا دون أن يقف في المحطَّات، كل شيء تغيَّر في العالم، حتى زرقة السماء وتلال الرمال في الصحراء، أصبحت الزُّرقة أشد زرقةً من مياه البحر، والرِّمال بلون الذهب السائل تحت الشمس، صدري يعلو وينبض تحته قلب تضخَّم بفرحة الحرية، كأنما أنا أُمسك حريتي بيدي كما أُمسك حافَّة النافذة التي تَطير معي، والهواء يُطير شعري، أملأ به صدري، وأصوات الهتافات داخل القطار تدوي في أذني: تحيا مصر حرة، يعقبها الأناشيد: بلادي بلادي، لك حبي وفؤادي، والعجلات تجري فوق القضبان بالإيقاع ذاته، والقطار أيضًا يُطلق صفارته كصوت المزمار الحاد أو الناي المنفرد يتمشى مع اللحن.

هبطنا من القطار في محطة باب اللوق، غرقنا في بحر من البشر، كأنما خرجت مصر كلها ذلك اليوم، حكومةً وشعبًا، موظَّفون بالبدل والطرابيش، وتلاميذ المدارس بالشورت القصير حتى الركبتين، بنات المدارس بالمرايل الدمور أو الكتان أو تيل المحلَّة، نساء بالملاءات اللفِّ والجلابيب السوداء، عُمال المَصانع بالبِدَل الزرقاء، تمورجية، مُمرِّضات بالملابس البيضاء، فلاحون بالفئوس، وأطفال تَحملهم أمَّهاتهم فوق الصدور، مرضى فوق العكاكيز أرجلهم مَربوطة بالشاش والجبس.

أنهُر مِن البشر تصبُّ من الحواري والشوارع الجانبية في الميادين، واكتظَّت النوافذ والشرفات وأسطح البيوت بالأجساد والأشجار أيضًا، ثمانية وأربعون عامًا مرت منذ ذلك اليوم، إلا أن الصورة محفورة في ذاكرتي، المظاهرة الوطنية الأولى في حياتي، لأول مرة أعرف معنى الوطن، يولد الحب شلالًا هادرًا يَكتسح الحواجز بين الحلم والحقيقة، بين الجسد يَتلاشى الفاصل بين الحياة والموت واللذَّة والألم، يحلق الإنسان في الجو، أو يَسبح في جوف البحر كالأسماك، يفعل أي شيء وكل شيء.

لم أعرف من قبل هذه السعادة الجامحة المتدفِّقة بلا حدود، عرفتها من بعد في مُظاهرات أخرى، وفي اللحظات التي التقَت فيها عيني لأول مرة بعينَي طِفلتي أو طفلي، يتدفَّق الشلال المكبوت منذ العبودية، منذ أصبحَتِ الولادة دنَسًا يستوجب التعميد، والوطن أرضًا يَملكها الأسياد دون العبيد.

كنتُ أتلفَّت حولي في ذهول، الميدان الواسع مفروش بأجساد البشر، أهو ميدان الإسماعيلية أو عابدين؟! أصواتُ الهتاف مثل دقات الطبل تدوي تحت ضلوعي: الجلاء بالدماء. يَسقُط صدقي يسقط بيفن، لم أكن أَعرف مَن هو صدقي ومن هو بيفن؟

وقفنا صفوفًا صفوفًا، إلى جواري في الصفِّ كانت فكرية وصفية وفاطمة وسامية، رأيتُ ثلاثة رجال يسيرون نحونا يَرتدون بِدَلًا رسمية داكنة اللون، عضلات وجوههم مشدودة، مشيتُهم عسكرية، سمعنا أحدهم يقول: عاوزين مندوبة عن مدرستكم.

كانت المرة الأولى أسمع فيها كلمة مندوبة، التفتُّ ناحية سامية؛ فهي التي تعرف معنى هذه الكلمات، لم أجدها، اختفتْ سامية في غمضة عين، فص ملح وذاب.

أين راحت سامية؟! كانت هنا منذ لحظة! عاوِزين مندوبة عنكم، يلا اختاروا واحدة بسرعة. وحملقنا في وجوه بعضنا بعضًا في صمت، لا نعرف ماذا نفعل، «نوال المندوبة بتاعتنا.» أكان صوت صفية أم فكرية أم واحدة أخرى من البنات؟ «اتفضلي معانا يا آنسة نوال.»

آنسة؟ لأول مرة يَقترن اسمي بلقب آنسة، في الصحُف كنتُ أقرأ عن الآنسة مي زيادة والآنسة سيزا نبراوي، في البريد كانت تأتي الرسائل إلى طنط فهيمة باسم: الآنسة فهيمة شكري.

كأنما كبرتُ في هذه اللحظة عدة سنوات، تحوَّلتُ من تلميذة في ثالثة ثانوي إلى آنسة، شددتُ قامتي ومضيتُ معهم، قامتي طويلة تُقارب قامتهم، يدبُّون بأحذيتهم فوق أسفلت الميدان، قدماي تدبان الأرض ورأسي مرفوع في زهو كأنما بلغتُ سنَّ الرشد وأصبحت الآنسة المندوبة. الضربات تحت ضلوعي تؤكد أني مرعوبة، إلى أين يأخذني هؤلاء الرجال؟ فوق صدري تلمَع الحروف الحمراء: الجلاء بالدماء. صوتي مبحوح من الهتاف، أفتح فمي لأسأل أين نذهب، صوتي لا يَطلع كما يحدث في الأحلام، ذاب الواقع في الخيال وأنا أدخل معهم المبني الفخم، أوَهو قصر الملك أم هو السجن؟ بدت اللحظة خارج الزمان والمكان، كأنما عشتُها من قبل في النوم في السادسة من العمر، وجدت نفسي داخل بهوٍ ضخْم تُغطِّيه السجاجيد الحمراء السميكة، النَّجَف الكريستال تتدلى من السقف، الصور الذهبية فوق الجدران المَنقوشة، تطلُّ منها وجوه الملوك والسلاطين. توقفنا عند منضدة كبيرة مذهَّبة الحواف، مِن فوقها كتاب حروفه من ماء الذهب، يسمُّونه سجل التشريفات، طلبوا منِّي أن أكتب اسمي واسم أبي، تصوَّرتُ أن الحكومة سوف تقبض عليه، تودعه السجن أو تضربه بالرصاص، وأنا ليس أمامي إلا الطرد من المدرسة والعودة إلى البيت في منوف، ربما كان السجن أفضل أو الرصاص، ألهذا السبب هربت سامية؟!

في قطار العودة إلى حلوان جلستُ مُطرقة الرأس بين الزميلات نتبادل النظرات في صمت دون أن نفهم شيئًا، أيتمخَّض الجبل فيلد فأرًا؟! انتهت المظاهرة الضخمة إلى لا شيء؟! مجرد تسجيل أسمائنا في سجل التشريفات!

رأيت الدموع في عيني صفية تنشج بصوت مكتوم: «مالك يا صفية، حصل إيه؟!» أبدًا يا نوال، مفيش حاجة، افتكرت أخويا الكبير، ماله أخوكي الكبير؟ أبدًا ولا حاجة، هي فين سامية يا نوال؟ مش عارفة راحت فين؟ بصراحة يا نوال الفار بيلعب في عبي، يعني إيه يا صفية؟

لأول مرة أسمع عبارة: «الفار بيلعب في عبي.» تصورتُ أن فأرًا دخل تحت ملابسها من تحت المقعد في القطار، ضحكتْ صفية حتى امتلأت عيناها بالدموع، ثُمَّ راحت تبكي من جديد: «انتي على نياتك أوي يا نوال، لكن سامية دي مية من تحت تبن.»

في المدرسة أصبحتُ أنا المتهمة الوحيدة بإحداث الشغب، كلمة الشغب بلغة الناظرة تعني المظاهرة الوطنية، سامية غابت عن المدرسة عدة أيام، لم تَكتُب اسمها واسم أبيها وجدها في اللوح المحفوظ، لم تمرَّ معي في العنابر توزع المنشورات.

في مكتب الناظرة وقفتُ أمامها أنتفض بالخوف، وهي تنتفض بالغضب: «أنا عملت تحقيق مع البنات، وكلهم اعترفوا انك اللي حرضتيهم على الشغب!» أردتُ أن أفتح فمي وأقول أنها مظاهرة وطنية، لكنَّ صوتي لم يَخرج، ربما أصابني التهاب في الحنجرة من طول ما هتفت: تسقط الحكومة. ها أنا أسقط وليس الحكومة، وليست سامية المحرضة الأولى، هي التي جاءت وقالت: بكرة المظاهرة. أوقعتني سامية في الفخ ثُمَّ تركتني، وهؤلاء البنات كيف يعترفن باسمي للناظرة؟ ألم نشترك كلنا في المظاهرة؟ صوت الناظرة الغاضب يدوي: «تقدري تقوليلي من حرَّض البنات غيرك؟ فيه واحدة تانية حرضت البنات غيرك؟ قوليلي اسمها حالًا عشان أعاقبها.»

أطبقتُ شفتي وأنا واقفة مطرقة الرأس، لم أنطق اسم سامية، لمحتُ الناظرة بطرف عين، عيناها حمراوان بلون وجوه الإنكليز، صوتها خشن كأصواتهم حين يصرخون من ثكناتهم في الليل، كنت أكره سامية في تلك اللحظة، لكنَّ كراهيتي للناظرة كانت أشد، ربما لهذا السبب لم أعترف لها بشيء.

مدَّت الناظرة ذراعها الطويلة، وخلعت عن صدري البادج، داست عليه تحت قدمها، رأيتُ الحروف المطرزة بضوء القمر بلون الدم الأحمر تنهرس تحت حذائها، مدَّت ذراعها مرة أخرى وخلعت عني جاكت التايير، نفَذ الهواء الصاقع من تحت القميص الأبيض، أصبحتُ أرتَعِدُ بالبرد والخوف معًا، أمسكَتِ المسطرة في يدها اليمنى، خدوش السلسلة الحديدية فوق أصابعي، سقطَت فوقها الضربات بحافة المسطرة كالسكين.

كانت ترفع المسطرة عاليةً كأنما تضرب السماء ثُمَّ تهبط بها فوق أصابعي، تضغَط فكَّيها بالغيظ وتصطكُّ أسنانها بصوتٍ يُشبه اصطكاك المسطرة بمَفاصل عظامي، أنفاسها تلهَث مثل صفارة القطار أو بخار مضغوط يَندفع من زجاجة مفلطحة عنقها ضيق.

كانت قصيرة القامة، مربَّعة الجسم، تُشبه البطة المزقمة، عيناها جاحظتان من وراء النظارة البيضاء السميكة، تُشبه طنط فهيمة ونبوية موسى وكل الناظرات، في كعب حذائها قطعة من الحديد على شكل حدوة الحصان تدقُّ بها الأرض. لم تكن تَرتدي السواد مثل نبوية موسى، إلا أن ملابسها كانت قاتمة اللون، وجهها قاتم، صوتها قاتم مثل كل الناظرات، ابتسامة واحدة لم أرَها على وجه واحدة من هؤلاء النساء، الجبهة عريضة تتوسَّطها تكشيرة دائمة غائرة في اللحم.

أكان القانون يفرض عليهم هذا الشكل؟! هذا الجسم المتخشِّب مثل الصندوق المربَّع المغلق؟ رغم المكياچ أو المساحيق أو النظارة السميكة، هناك شيء يطل من فوهة الصندوق، أو الثقبين في الرأس، شيء يُشبه البخار المضغوط، عاطفة ما شديدة العنْف، مخزونة كالديناميت، تدمِّر الواحدة منهنَّ من الداخل، وفي الخارج يَظهر في عينيها بلون الدم الأحمر، يطلُّ المكبوت من وراء النني الأسود الغارق في بياض رمادي.

صوت الناظرة يدوي في رأسي في اليقظة والنوم: «اعتبري نفسك مرفودة من المدرسة من النهاردة.» كانت المدرسة «رغم الناظرات» هي الطريق الوحيدة أمامي لتحرير نفسي، وكان تحرير نفسي أهمَّ عندي من تحرير الوطن؛ فالوطن مجرد كلمة نهتف بها، لكن نفسي هي جسدي، هذا اللحم الحي الذي يُضرب بحافة المسطرة، هذا الدم الأحمر الذي يسيل من أصابعي المتورِّمة، مفاصل عظامي التي تئنُّ بالألم.

كانت الناظرة تركِّز الضربات فوق يدي اليمنى التي أكتب بها، ربما أرادت أن تُفقدني القدرة على الكتابة، هل اعترف لها المدرِّس أني كتبتُ قصةً وصفتُ فيها السماء بأنها غاشمة؟!

لم يكن للناظرة أن ترفدني بدون حضور وليِّ الأمر، جاء أبي إلى المدرسة، رأيته يدخل من الباب بقامته الفارعة ورأسه المرفوع، خطوته فوق الأرض ثابتة وقوية، وقدمُه كبيرة، كانت له مشية خاصة، ينقل القدم بحركة هادئة، يعرف بالضبط أين يضع قدمه الثانية، تستقر بكل ثقلها على الأرض، كأنما لا يخشى أحدًا، لا الملك ولا الحكومة ولا الناظرة، لا يخشى إلا الله.

جريتُ نحوه أحتمي فيه، ربَّت على كتفي بيده الكبيرة الحانية: «ما تخافيش يا نوال، تعالي معايا.» سِرت خلفت أكاد أمسك ذيل بدلته كما كنتُ أمسك ذيل أمي في الطفولة، اختفَيتُ وراء جسمه الكبير وهو يدخل إلى مكتب الناظرة.

نهضَتْ واقفةً فوق قدمَيها ترحِّب به في احترام: «أهلًا سعداوي أبيه، اتفضل.» جلس أبي وملأ المقعد، أشعل سيجارة وراح يتحدث في السياسة: «معاهدة صدقي بيفن لا تحقِّق أي شيء، لا الجلاء ولا الاستقلال، إنها تكرس الاحتلال البريطاني يا أستاذة عزيزة.» «أيوة يا سعداوي بيه، لكن سعادتك في الوزارة وعارف إن الحكومة مانعة المظاهرات منعًا باتًّا.» «الحكومة على وشك السقوط يا أستاذة عزيزة، بعد المظاهرة الكبيرة دي لازم حكومة صدقي تسقط، البلد كلها شاركت في المظاهرة، حتى تلاميذ الابتدائي والنساء وربات البيوت.» «لكن لازم يكون فيه نظام واحترام للقوانين، تصوَّر يا سعداوي بيه إن بنتك دي اللي قاعدة عاملة زي القطة المغمضة حرضت البنات على كسر باب المدرسة والخروج إلى الشارع، يبقى ناقص عليهم إيه!» «دي كانت مظاهرة وطنية، ونوال بنتي أنا عارفها كويس، لا يمكن تحرض البنات على شيء سيئ، ثُمَّ إنها من التلميذات المتفوقات في المدرسة.» «لكن التفوق شيء والتحريض على الشغب شيء تاني، وأنا عندي أمر من الوزارة وعارف كل حاجة يا أستاذة عزيزة، الموظفون الكبار في الوزارة كانوا كلهم مع المظاهرة، وأنا جاي دلوقتي من عند فهمي بيه وكيل الوزارة.»

شيء كالسحر في كلمة فهمي بيه جعل وجه الناظرة يتغير، صوتها أيضًا تغير وأصبح ناعمًا: «سعادتك تعرف فهمي بيه؟» «أيوة، كان زميلي في كلية دار العلوم، قريب السنهوري، علشان كدة رقُّوه قبل غيره.»

دقَّت الناظرة الجرس، طلبت فنجان قهوة لأبي، سألتني بصوت ناعم: تشربي إيه يا بنتي؟ حلقي جافٌّ مشروخ، حاولت أن أطلب كوب شاي دافئ باللبن، إلا أنَّ صوتي لم يَخرج.

•••

أصبحت في الخامسة الثانوية عام ١٩٤٧م، إنه عام الكوليرا، في إجازة الصيف أصبح بيتنا في منوف قلعة محصَّنة ضد الوباء، النوافذ كلها يسدُّها نوع من السلك ذي الثقوب الدقيقة، لا ينفذ منها الذباب أو الناموس، صفائح قتل الحشرات تراكمت في ركن المطبخ من التوكس إلى الفلتِّ واﻟ (د. د. ت). زجاجات السوائل المطهرة من السبرتو الأبيض، إلى الليزول والبرمنجات.

سافر أبي إلى القرية وعاد ومعه ستي الحاجة، كانت الكوليرا تحصد الفلاحين والفلاحات كما يحصد وباء «الشوطة» الفراخ، أراد أبي أن يحمي أمه على الأقل من هذا الوباء، لم تكن ستي الحاجة تستطيع أن تنطق كلمة الكوليرا، تقول عنها «الكوريره»، نضحك عليها وتضحك معنا حتى تطفَر الدموع من عينيها، تمسحُها بطرف طرحتها السوداء ثُمَّ تقول بصوت مكتوم: عاوزة أرجع الكفر لبنتي زينب، خايفة عليها من الشوطة، وتسألها أمي: «اشمعنى زينب يا حجة مبروكة؟!» «علشان هي أحسن بناتي، وقلبها أطيب قلب في الدنيا، والكوريره مش بتاخد إلا الناس الطيبين.» وتعود ستي الحاجة إلى البكاء المكتوم، كأنما ابنتها زينب ماتت بالكوليرا.

قبل أن تشرق الشمس في أحد الأيام رأينا ستي الحاجة واقفة على قدميها داخل جلبابها الأسود، ما إن استيقظ أبي من النوم حتى قالت: «خدني يا ابني على الكَفْرِ، قلبي بياكلني طول الليل على زينب، خايفة يكون جرى لها حاجة!» ارتدى أبي بدلته وسافر معها إلى القرية، عاد بعد يومين شاحبَ الوجه أحمر العينين، أخته زينب ماتت بالكوليرا، وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة كانت تهذي بعبارة واحدة: هاتوا أمي أشوفها! وصلت ستي الحاجة بالضبط في اللحظة السابقة للنهاية، فتحت زينب جفونها ورأت وجه أمِّها، انفرجَت شفَتاها عن ابتسامة، وامتلأت عيناها بالضوء، ثُمَّ ماتت.

بكت عليها القرية الموبوءة بالكوليرا، حصد الوباء عددًا من النساء والرجال في عائلة أبي، إلا أن الحزن على عمتي زينب كان أكبر حزنًا؛ فهي أقرب الشقيقات إلى أبي، وأحبُّ البنات إلى ستي الحاجة، فارعة القامة مثلها، بشرتها خمرية اللون، عيناها خَضراوان بلون البرسيم، أنجبت ولدًا اسمه «نجاح»، وبنتًا رضيعةً ماتت في حضنِها وهي تموت.

تحوَّلت ستي الحاجة فجأة إلى امرأة عجوز، لم تعد تضحك كما كانت، وامتلأ وجهها بالتجاعيد، تجلس على عتبة الدار، في حضنها «نجاح» ابن ابنتها زينب، تنظر في عينيه الخضراوَين بلون عيني أمه الميتة: «يتيم يا عين أمه، ربنا ياخد الكوريره واللي جاب الكوريره.»

في منوف حصدت الكوليرا بعض الناس، أصبحت أمي مثل ضابط الجيش في البيت، تُمسك الرشاشة كأنما هي مدفع تَقتل الذباب، إنها الحرب أعلنتها أمي على الوباء، تَغلي الماء قبل أن نشربه، تغسل الخضروات وتنقعها في محلول البرمنجات، تسخِّن الخبز فوق النار لتقتل الجراثيم، لا يشتري أبي شيئًا دون أن تُطهره أمي، لا يعود أبي من الخارج دون أن يخلعه ملابسه وتنقعها أمي في المحلول المطهر، ما إن يدخل أحد مِنَّا إلى المرحاض أكثر من مرة في اليوم حتى ينتابها الذعر.

كان الراديو يُذيع التعليمات للناس، تُنصت أمي إليها بانتباه أو تدوِّنها في النوتة، أعراض الكوليرا هي: الإسهال مع القيء، إفرازات المريض شديدة العدوى. الإبلاغ فورًا عن أي مريض لعزله في المستشفى.

عِشنا شهورًا لا نسمع إلا أنباء الموتى، بعد انتهاء الوباء لم تكفَّ أمي عن عمليات التطهير والوقاية. حتى اليوم، ما زلتُ أسخِّن الخبز على النار كما كانت أمي تفعل في منوف منذ سبعة وأربعين عامًا، وما زلت أذكر وجه أبي الشاحب وعيناه الحمراوَين حين عاد من الكَفر، وصوت ستي الحاجة وهي واقفة عند الباب داخل جلبابها الأسود: «قلبي بياكلني طول الليل على زينب.» كيف أحسَّت الأم أن ابنتها تموت رغم المسافة البعيدة، ولماذا لم تَذكُر من بناتها الخمس إلا زينب، وهي الوحيدة فيهنَّ التي ماتت بالكوليرا، وكأنما سمعت نداءها في الليل عبر الأثير فسافرت إليها وأدركتها قبل النفس الأخير.

كان أبي يُسمِّي ذلك «تلبياتي»، وهي القدرة الإنسانية على الإحساس بالآخَرين رغم المسافة البعيدة، كان لجدته الغزاوية هذه القدرة، وقد ورثتْها ستي الحاجة عن أمها.

أصبح حفيدها «نجاح» قلبها، عينها الذابلتَين من البكاء، لا تُفارقها، تلحظه يلعب أمامها وهي جالسة على عتبة الدار، تحرم نفسها من الطعام لتدفع له مصاريف المدرسة كما فعلت مع أبي وعمي الشيخ محمد، ثُمَّ أرسلته ليتعلم في مصر «القاهرة» كما أرسلتهما من قبل.

دخل نجاح المدرسة الثانوية، عاش مع بعض أقاربه في عين شمس أو المطرية، كان يركب القطار كل يوم من البيت إلى المدرسة، القطار نفسه الذي كنت أستقلُّه من محطة الزيتون حين كنت أعيش في بيت جدي، القطار نفسه الذي كان يدهس التلاميذ الفقراء تحت القضبان.

سقط نجاح وهو يجري ليَلحق بالقطار كما كنتُ أجري وأنا تلميذة في مثل عمره، كان يرتدي حذاءً جلديًّا اشترته له ستي الحاجة، انزلقت قدمه تحت القطار، بترت العجلات ساقيه الاثنتين، زُرته في مستشفى الدمرداش، رأيته راقدًا تحت الأغطية بلا ساقين، يتطلع حوله بعينيه الخضراوَين الواسعتين ويتساءل في دهشة: راحت فين الجزمة الجديدة؟!

انشطر قلب ستي الحاجة من شدة الحزن ثُمَّ ماتت، قبل أن تموت قالت لابنتها الكبرى «عمتي فاطمة»: «إبعتي يا فطنة لاخوكي السيد علشان ييجي.» «ليه يا امَّه.» «أنا هاموت يا فطنة وعايزة أشوفه.» «تموتي إيه يا امه انتي زي الحصان، ما شاء الله.» «ابعتي يا بت لاخوكي، عاوزة اشوفه قبل ما اموت.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤