الفصل السادس عشر

الغزلون:١ قيس بن الملوح، أو مجنون بني عامر، أو مجنون ليلى

أعلَمُ أنِّي مَدِينٌ لك بطائفةٍ من أحاديث الأربعاء شغلتني عنها هذه الرِّحلة التي انصرفت إليها عن القراءة والكتابة، بل عن التفكير حينًا طويلًا، ولكنِّي أعلم أنك تبيح لمن تكلف عناء القراءة والكتابة والتفكير سنة وبعض سنة في غير راحة ولا ترفيه على النَّفْس، أنْ يَسْتَرِيح شهرًا وبعض شهر.

وأنا مع ذلك مُجتهد في أن أعوِّض عَليك ما فَقَدْت من هذه الأحاديث، وأرجو أن أبلغ من ذلك ما تريد وما أريد، وأَعْلَمُ أَنِّي أغضبت طَائِفَةً من أُدَبائنا الذين أَجلهم وأُكْبِرُهم وأقدر رَأيهم في الأدب العربي حين كتبت عن بَشَّارٍ فلم أحبه ولم أَمِل إليه، ووصفته بشيءٍ من ثقل الروح، ولؤم الطبع، وشدة الغرور والافتتان بالنفس.

أعلم ذلك، وأراني مع الأَسَفِ الشَّدِيدِ مُضطرًّا إِلى أَنْ أُغْضَب هؤلاء الأدباء مرة أخرى، وأؤكد لهم أني لا أتعمد ذلك، ولا أَرْغبُ فِيه، وإِنَّما يَضطرُّني إليه البَحْث اضطرارًا، وتُكرهني عليه مناهج النَّقد إِكْرَاهًا، وما زلت منذ بدأت أحاديث الأربعاء أُغضب طبقات من الناس حتى أصبحت لا أدري أي الطبقات يَرضى عما أكتب ويطمئن إليه، أولئك يغضبون لأني أصف العصر العباسي بالمُجُون والشِّدَّة، وهؤلاء يغضبون لأني أقدم أبا نواس والحُسَين بن الضحاك على بشار، وسيَغْضَبُ قومٌ آخرون لأني سأنكر وجود طائفة من الشعراء، أو سَأَجْحَدُ شخصيتهم، وسَأَزْعُمُ أنَّ هَؤُلاء الشُّعراء بين اثنتين: إِمَّا أَنْ يكونوا أثرًا من آثار الخيال قد اخترعهم اختراعًا، وإما ألا تكون لهم شخصية بارزة ولا خطر عظيم، وإنما عظم الخيال أمرهم وأضاف إِليهم مَا لَمْ يَقُولوا وَمَا لَمْ يَعْمَلُوا، واخترع حولهم من القصص ألوانًا وأشكالًا جعلتْ لهم في الأدب العربي هذا الشأن العظيم الذي لا يكاد يقوم على شيء.

نعم، سأنكر طائفة من الشعراء، أو سأنكر شخصيتهم، وأنا أعلم أن فريقًا غير قليلٍ من الذين يعنون بالأدب لا يُحبون هذا النحو من البحث الذي ينتهي إلى الإنكار أو إلى الشك، وإنما يريدون أن يكون البحث كله إثباتًا ويقينًا، وأن ينتهي البحث كله إلى إثبات ويقين.

وليس الباحث الماهر عند هؤلاء أن ينتهي البحث به إلى إنكار المجنون أو الشك فيه، فهذا البحث هادم للمجد العربي، معتد على الأدب العربي، وإنما الباحث الماهر حقًّا عند هؤلاء هو الذي يسلك كل سبيل، وينتهج كل طريق، ويتكلف كل حيلة، ليثبت وجود المجنون، ويزيل أسباب الشك فيه، ليضيف إلى المجد العربي مجدًا، وليثبت أن الأدب العربي يمتاز بالألوان الفنية التي لا تُحصى.

إن أردت أن تُرضي هؤلاء الناس فتملق حُبَّهم للعَرَب وإِسْرَافَهم في هذا الحُبِّ، وأضف إلى العرب ما قالوا وما لم يقولوا، وما عملوا وما لم يعملوا، واجعل أمتهم أشرف الأمم، ولُغتهم أشرف اللغات، وأدبهم أرقى الآداب، لا تحسب في ذلك حسابًا، ولا تنتهي فيه إلى مقدار، ولا تعترف للأمم الحديثة بشيءٍ إلا أن تكون قد ورثته عن العرب ونقلته عنها نقلًا.

اسلك في الأَدَبِ لِتُرْضِي هؤلاء الناس مَسلك قوم في السياسة، واتَّخِذ الحَقَائِقَ الأَدَبِيَّة مَوضُوعًا للتضليل كما يتخذون المنافع السياسية، تفز بما شئت من تصفيق وإعجاب، وبما أحببت من حَمْدٍ وَثَنَاء، ولكنك تسيء إلى العلم وتعتدي عليه، فاختر بين رضا العلم ورضا الجماهير.

أما أنا فأعترف — لسوء الحظ أو لحسنه — أني أوثر رضا العلم والضمير على رضا الناس وإعجابهم وتصفيقهم، ولهذا أتقدم بهذه النظرية في غير تلطف ولا احتيال، فَأَزْعُمُ أَنَّ هذه الطائفة من الشعراء الذين أُسميهم «الغزلين» لم يكن لهم في تاريخ الأدب العربي من الشأن ما يظنه الناس إلى الآن، وإنَّما هم في حقيقة الأمر ينقسمون إلى قسمين مُتمايزين، لي في كل منهما رأي؛ الأول: الشعراء «العُذريون» لا لأنهم ينتسبون إلى «عذرة» بل لأنهم يتخذون هذا الغزل العذري مَذْهَبًا في الشِّعْرِ، وَمِنْهُم المَجْنُون، وقيس بن ذُرَيْحٍ، وعُرْوَة بْنِ حِزَامٍ، وَجَميل بن معمر. والثاني: «المحققون» وأريد بهم هؤلاء الشعراء الذين انقطعوا للغزل، أو كادوا ينقطعون له، ولكنَّهم لم يلتمسوا الحُبَّ في السحاب، ولم يتخذوا العفة المطلقة مثلهم الأعلى، وإنما عبثوا ولهوا واستمتعوا بالحَياة، وتغنوا هذا العبث واللهو وقصروا شِعرهم عليهما، أو جاوزوهما إلى فنونٍ أُخرى من الشعر، ولكنهم لم يبلغوا منها ما بلغوا من الغزل، وزَعيم هؤلاء الشعراء عمر بن أبي ربيعة، ومعه نفر آخرون قد أحدثك عنهم بعد أن أفرغ من العُذريين.

لست أشك في أنَّ عمر بن أبي ربيعة شخص تاريخي، وفي أن أكثر الشعر المنسوب إليه صحيح صدر عنه حقًّا، وفي أنَّ شخصيته كانت في عصره كما نتمثلها نحنُ الآن، أو على نحو ما نتمثلها الآن، وكذلك قل في «كُثَير» وكذلك قل في «عبيد الله بن قيس الرقيات»، ولكني أشك الشك كله في أن يَكُون قيس بن الملوح شخصًا تاريخيًّا وُجِدَ وعَرَفَهُ النَّاسُ واستمعوا إليه، وفي أنْ يَكُون هذا الشِّعْرُ المنسوب إليه صحيحًا قد صدر عنه حقًّا، وأزعم أنَّ قيس بن الملوح خاصة إنما هو شخص من هؤلاء الأشخاص الخياليين الذين تخترعهم الشعوب لتمثيل فكرة خاصة، أو نحو خاص من أنحاء الحَيَاةِ، بَلْ رُبَّما لم يكُن قيس بن الملوح شَخْصًا شَعْبيًّا «كجحا» وإنما كان شخصًا اخترعه نفر من الرُّواة وَأَصْحَاب القَصص ليُلهوا به الناس أو ليُرضوا به حاجة أدبية أو خلقية سنعرض لها بعد قليل.

وهنا أَعْتَذِرُ إلى الكاتب الأَدِيب الذي خَصَّصَ في الشهر الماضي صحيفة من صحف «السياسة» لدَرْسِ المَجْنُون وتحليل شعره والبحث عن عواطفه، فأحسن البحث وأجادَ التَّحليل، أعتذر إليه — بعد الثناء عليه — من أنْ أَقُول إنه أجهد نفسه في غير طائل، ولو أَنَّه سَلَكَ مَسْلكًا آخر في البحث لأفاد وانتفع، ولاستطاع أنْ يكتب صحيفة من صحف «السياسة» يقصرها على المجنون ويثبت فيها لا أن المجنون كان أرق الناس شعرًا، وأصدقهم حبًّا، وأرقاهم عاطفة، بل إنَّه كان رمزًا لطائفة من الآراء، وألوان من العواطف، وفن من فنون الشعر والنثر ظهر في العصر الأُمَوِي، وكاد ينتهي إلى غايته لولا أنَّ العَصْر العَبَّاسِي أَقْبَل بِلَهْوِهِ وشكه ومجونه فأفسد على الناس كل شيء.

وقبل أَنْ نَتَعَمَّقَ في بسط هذا الرَّأي، وإثباته نريد أن نُريح الكاتب الأديب وأصحابه الذين يُؤمنون بالمُجون من هذه الخُرافة، ونبين لهم أنَّ النَّقد الصحيح لا يستطيعُ أنْ يؤمن بوجود هذا الشاعر.

وماذا تقول في رجل لا يتفق الناس على اسمه، ولا على نَسَبِهِ، ولا على الخطوب التي امتلأت بها حياته؟ وإنَّما يختلفون في ذلك الاختلاف كله! بل ماذا تقول في رجل لا يتفق الرُّواة على أنه وجِدَ ولا يروون ما يُضاف إليه من الأخبار إلا مُتَحَفِّظين؟ بَلْ مَاذا تقول في رجل يُريدُ أَبُو الفرج الأصفهاني أنْ يَرْوِي أخباره لأنَّ شروط كتابه تضطره إلى ذلك، فيُعْلِنُ ويبالغ في الإعلانِ أَنَّه يَخْرُج مِنْ عُهْدَة هذه الأخبار ويتبرأ منها، ويُضيف هذه العُهدة إلى الرُّواة الذين ينقل عنهم.

وأنت تعلم أن رواة العرب — لا نتحدث الآن عن رُواة السُّنَّة، وإنَّما نذكر رواة القصص والسير — لم يكونوا يتشدَّدُون في الاحتياط ولا يُبَالِغُون في الحَذَرِ، وكثيرًا ما كانوا يروون غير الصحيح ويثبتون غيرَ الحَقِّ، فإذا كانوا على هذا الإهْمَالِ والضَّعْفِ يُنكرون وجود قيس بن المُلوح، أو يشكون فيه، أو لا يتفقون على اسمه وصفته وصروف حياته، أفلا يكون من الحق علينا أن نَتَحَفَّظ كما تحفظوا، ونشك على نحو ما شكوا؟ إذا لم يكن من الحق علينا أنْ نَتَّخِذَ تَحفظهم وشَكَّهم دليلًا على أنَّ أَخْبَار قَيْس بن الملوح إنما هي نوع من الأساطير.

الرُّواة يَختلفون في وجود قيس، فأَمَّا الثِّقَات مِنْهُم فقد أنكروا وجوده، أو تحفظوا عَلَيْهِ، ولَستُ أُرِيدُ أَنْ أُطيل عليك في هذا، وإنَّما أُحيلك إلى كتاب الأغاني في جزأَيْهِ الأول والثاني لترى من ذلك ما يغنيك.

ولقد بالغ بعض الرُّواة في إنكار وجود قيس حتى زعموا أن بني عامر أغلظ أكبادًا من أن يعبث بهم الحب إلى هذا الحد، وإنما ذلك شأن اليمانية الضعيفة قلوبهم، السخيفة عقولهم، أمَّا النِّزارية فلا.

وتحدث راوية آخر أنه مرَّ بِبَنِي عَامِرٍ بَطْنًا بطنًا وَسَأَلَهُم عن المجنون؛ فأنكروه ولم يعرفوه، وتحدَّث راوية آخر أنه سأل أعرابيًّا من بني عامر عن المجنون فذكر طائفة كثيرة من المجانين، وروى لكل واحد منهم شعرًا، إلا قيس بن الملوح فإنه أنكره ولم يعرفه.

ثم اختلف الرُّواة الذين آمَنُوا بوجود المجْنُون في تسميته؛ فهو قيس عند بعضهم، ومهدي عِنْدَ بعضهم الآخر، وهو الأَقرع عند فريق، والبُحتري عند فريق آخر، ثم اخلتفوا في نسبه واسم أبيه، ثم اختلفوا في أَنَّه كَانَ مَجْنُونًا حقًّا، فَزَعَمَ ذَلِكَ مِنْهُم فريقٌ، وأَنْكَرَه فَرِيقٌ آخر.

وقال الأصمعي: لم يكن مجنونًا، وإنما كانت به لوثة كلوثة أبي حية النميري، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله دُعي المجنون، فزعم بعضهم أنه كان مجنونًا حقًّا، وزَعَمَ بعضهم الآخر أنه دُعي المجنون لشعر قاله، وفيه لفظ المجنون، كما دُعي النابغة بهذا الاسم لشعرٍ قاله، وكما دُعي فريق منَ الشُّعراء بِأَسْمَاء وَرَدَتْ في أَشْعَارِهم، ولم تَكُن أَسْمَاءهم، ثم اختلفوا في سَبَبِ جُنُونه، فَزَعَم بعضهم أنه الحب، وزعم بعضهم الآخر أنَّ الله انتقم منه لأنه اعترض على قضائه في قوله:

قَضَاها لغَيْري وابْتلاني بحُبِّها
فهلا بشيءٍ غيْرِ ليْلى ابتلانيا

وزعم قوم أنَّ هذا البيت لم يجرَّ عليه الجنون وإنما جرَّ عليه البرص.

ثم أخذ الرُّواة يجتهدون في تعليل هذه الأخبار التي تنسب إلى المجنون، فرووا في ذلك أَحَادِيثَ مُختلفة، منها — وهو أهمها — ما ذكره ابن الكلبي من أنَّ فَتى من فِتيان بَنِي أُمَيَّةَ أَحَبَّ فتاة من بَنَاتِ أَعْمَامِهِ، وقال فيها شعرًا وكره أن يشتهر ذلك، فاخترع شخص المجنون وصنع أخباره وأضاف إليه ما كان يقول من شعر.

وهُنَاكَ قَومٌ مِنَ الرُّواة لم تكن لهم صِنَاعَةٌ إِلَّا تَلْهِيةُ النَّاسِ والتسلية لهم. فكانوا يصنعون لذلك الأخبار والأشعار ويُذيعونها في البصرة والكوفة وبغداد من أمصار المسلمين، وكانوا يفيدون بذلك مالًا كثيرًا، بل هناك طائفة من ثقات الرواة، أو من الذين نعدهم ثقات، كانوا قد برعوا براعة لا حدَّ لها في انتحال الأشعار والأخبار، وكان الناس قد آمنوا لهم ووثقوا بهم، فكانوا يَأْخُذُون عنهم ما يروون على أَنَّه حق لا شَكَّ فيه، ولم يكن يشك في رِوَايتهم إلا نفر قليلون قد علموا علمهم وشاركوهم فيما كانوا فيه من عبث ولهو.

ولستُ أَذْكُر من هؤلاء الرُّواة إلا اثنين؛ أحدهما: حماد الراوية، والآخر: خلف الأحمر. كِلَا هَذَين الرَّجُلين أنحل العرب أخبارًا وأشعارًا لا تُحصى، وكلاهما كان يتكلم العربية ويُجيدها خيرًا مما يتكلمها ويجيدها الأعراب، وكلاهما كانَ مُتهمًا في دينه مُحبًّا للهو عاكفًا على العَبث، وكان منَ الشعراء المُعاصرين لهما من يُشاركهما في اللهو والعبث والمجون، فيضطلع بأسرارهما ويشك في صدقهما، ومِن هنا كان كثير من الشعراء يلحُّ على هذين الراويتين وأمثالهما في أن يستشهدوا بشعرهم كما يستشهدون بشعر القدماء، وكانوا يعلمون أن شعر القدماء هذا لم يكن من القدماء في شيء، وإنَّما كان يصنعه الرُّواة صنعة وينتحلونه انتحالًا.

وقل مثل ذلك في الأنساب، وقل مثل ذلك في السير وأخبار الفتوح والغزوات، وانظر إلى سيرة ابن هشام وإلى هذا الشعر الكثير الذي يروي فيها وصفًا للغزوات، والذي يرويه ابن هشام حتى إذا فرغ منه أضاف إليه هذه الجملة «قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم بالشعر ينكرون هذه القصيدة.»

وجملة القولُ إن بين العرب والرُّومان من جهة، وبين الفرس واليونان من جهة أخرى، تشابهًا شديدًا: انتصر العرب على الفرس انتصارًا عسكريًّا، وانتصر الفرس على العرب انتصارًا أدبيًّا، وكذلك انتصر الرومان على اليونان انتصارًا حربيًّا، وانتصر اليونان على الرومان انتصارًا أدبيًّا.

وكان مظهر هذا الانتصار الأدبي في روما وفي بغداد واحدًا، وهو أنَّ اليُونان والفُرْس أَخَذُوا الرُّومان والعرب بآدابهم وحَضَارَاتِهم، ولم يكتفوا بذلك بل عبثوا بالآداب اللاتينية والعربية، فأدخلوا فيها وأضافوا إليها ما لم يكن لها به عهد، وكذلك صنعوا بالأنساب، وكذلك صنعوا بالتاريخ والسير.

إِذَنْ فمن الحق علينَا أَنْ نَشُكَّ في أَخْبَار هؤلاء الرُّواة حين يَرْوونها واثقين، وأنْ نُبَالِغَ في الشَّك حين يَرْوونَها مُتحفظين، وأنْ نَشْتَدَّ في المُبالغة حين نَرَاهُم يَخْتَلِفُون فيما بينهم اختلافهم في أمر المجنون.

وطريقة أخرى نُثْبِتُ بها هذا الرأي، ولكنها طريقة فنية ليست من التاريخ في شيء، وهي طريقة أَدَبِيَّةٌ خَالِصَةٌ نَرْجُو أَنْ يَلتفت إليها القارئ، وأَنْ يَجِدَ فيها مقنعًا، نعتمد في هذه الطريقة على شِعْرِ المَجْنُون، أو على الشعر الذي يُنْسَبُ إلى المجنون، فيثبت لنا الشعر نفسه إحدى اثنتين: إما أنه مصنوع مُتكلف قد اختُرع اختِرَاعًا؛ فهو لا يُعَبِّر عن عاطفة صادقة، ولا عن حب صحيح، وإمَّا أَنَّه قَدْ صَدَرَ عن أشخاص مختلفين، ثم خلطه الرُّواة عمدًا أو سهوًا وأضافوه إلى شَاعِرٍ واحد هو المجنون.

وَلَعَلَّ الجَاحِظَ لم يُخطئ حين قال: ما ترك الناس شِعْرًا فيه ليلى إلا نَسَبُوه إلى قَيس بن المُلَوَّح، ولا شِعْرًا فيه لُبنى إلا نسبوه إلى قيس بن ذريح.

وفي الحق أنَّ شعرًا كثيرًا يُنْسَبُ إلى المجنون وليس من المجنون في شيء، وإنَّما قاله شُعَرَاءُ آخَرُون لم يَكُونوا مَجَانِينَ ولم يعبث بهم الحب عبثه بهذا المجنون.

وإذا أردت أن تدرس شاعرًا من الشعراء فعلى أي قاعدة تعتمد في هذا الدرس؟ على شخصية الشَّاعِر قبل كل شيء؛ ذلك أن هذا الشاعر يجب أن يتمثل في شعره إلى حدٍّ ما؛ فإذا كانَ شَاعِرًا مُجيدًا حَقًّا فَشِعْرُه مِرْآة نفسه وعواطفه ومظهر شخصيته كلها، بحيثُ تستطيع أنْ تَقْرَأ قصائده المُختلفة فتشعر فيها بروح واحد ونفس واحد وقوة واحدة.

وقد يختلف هذا الشعر شدَّة وَلِينًا ويتباين عُنفًا ولطفًا، ولكن شخصية الشاعر ظاهرة فيه محققة للوحدة الشاعرية التي تُمَكِّنُك من أنْ تَقُول: هذا الشِّعْر لِفُلَانٍ، أَوْ هو مَصْنُوع على طريقة فلان.

نَظُنَّ أن هذه القاعدة لا تقبل الشك في فن من فنون من الأدب، ولا سيما الشعر الغنائي الذي هو مرآة النفس ومظهر العاطفة؛ فهل نستطيع أن نجد للمجنون شخصية ظاهرة بينة في هذه الأشعار الكثيرة المختلفة التي يرويها له أبو الفرج وغيره من الرُّواة؟ أمَّا أنا فأزعم أن ليس إلى ذلك من سبيل، ولا أُطيل في إثبات هذا الرَّأي، وإنَّما أُلَخِّصُ لَكَ خلاصة ما انتهيت إليه بعد البحث: كل هذا الشعر الذي يُضاف إلى المجنون لا يخلو من أن يكون شعرًا قد قاله شاعر معروف وأخطأ الرُّواة فأضافوه إلى المجنون، أو قاله شاعر مجهول ووجد الرُّواة فيه ليلى فأضافوه إلى المجنون، أو انتحله الرواة أنفسهم، أو انتحله المُغَنُّون وأصحاب الموسيقى وأضافوه إلى المجنون، ولقد أجهدت نفسي في البحث عن شخصية ظاهرة مُشتركة تظهر في هذا الشعر كله أو بعضه فلم أوفق من ذلك إلى شيء.

وطريقة أُخرى نُثْبِتُ بها رأينا في وجود المجنون، وهي اختلاف الرُّواة اختلافًا شديدًا في هَذِه الصِّلَة التي وجِدَت بين قيس بن المُلَوَّح وبين ليلى، فَنَشَأ عَنْهَا هَذَا الحُب الذي ذَهَبَ بِعَقْلِ قَيْس. يزعم قَومٌ أَنَّهُما تَعَارَفَا طفلين وكانا يَرْعَيَانِ البهم فنشأت بينهما مودة استحالت مع السن حبًّا، ثم شبت الفتاة فحجبت عن الفتى، فأصابه ما أصابه.

ويزعُمُ قومٌ آخَرُون أَنَّهُما لَم يَتَعَارَفَا طِفلين، وإنما مَرَّ قَيْسٌ ذات يوم بفتيات، فسَلَّمَ فرددن السلام ودعونه إلى الحديث؛ فنزل وتحدث وصنع صنيع امرئ القيس فعقر ناقته وأطعمهن، ولكنَّ فتى آخر أقبل مع المساء فتلاهين به عن قيس، فانصرف قيس مُغضبًا وقال في ذلك شعرًا، ثم أصبح فتعرض لهن فلم يجدهن، وإنما وجد ليلى، فدعته إلى الحديث فنزل وتحدث وصنع كما صنع بالأمس، وأظهرت ليلى إعراضها عنه فاغتم لذلك، ورأت ليلى هذا منه فرفقت به، وأعلنت إليه حُبَّها في شعرٍ لم يسمعه حتى خر مغشيًّا عليه.

وزعم آخرون أنَّ قَيسًا كان زير نساء، وأنَّ ليلى كانت أملح النساء قدًّا، وأجملهن منظرًا، وأحسنهن حَدِيثًا، وأنَّ فتيات الحي كُنَّ يَخْتَلِفْنَ إِليها ويُجَاذِبْنَهَا أطراف الحديث، فسَمِعَ بها قيس فاختلف إلى مَجْلِسِها فكان الحب، ورووا غير ذلك من الروايات.

ولكني أكتفي بهذه الروايات الثلاث لأرى منها أنَّ شَخْصِيَّة ليلى ليست أقلَّ اخْتِلَافًا وَتَفَاوتًا من شَخْصِيَّةِ قَيس، فهي في إحدى الرِّوَايات راعية، وهي في رواية أخرى بدوية تتعرض للشبان وتميل إلى حديثهم، وهي في الرواية الثالثة أديبة ذات مكانة وصوت يختلف إليها الفتيان كما كانوا يختلفون إلى مجالس النساء الأديبات في الحواضر العربية.

ألا ترى أن هذا الاختلاف وحده يكفي لحملك على الشك في شخصية ليلى، كما أنَّ الاختلافات الأُخرى تكفي لحملك على الشك في شخصية قيس!

ثُمَّ لا يَقِفُ الأَمْرُ عِنْدَ هذا الحد، وإنَّما هُناكَ أَلْوَان من السخف والتكلف تنتهي إلى هذا الرأي الذي أحاول إثباته؛ منها هذه الرِّواية التي تزعم لنا أنَّ أبا ليلى كره تزويج ابنته من عاشقها لا لشيء إلَّا لأَنَّه أحبها وذكر ذلك في شعره، فكره الرَّجُل أنْ يَفْتَضِحَ وأن يفضح ابنته.

ونلاحظ أننا نجد هذا المَذهب في أخبار طائفة من هؤلاء العُشَّاق تختلف قبائلهم وأخبارهم وأوطانهم، ويقول الرُّواة لنا إن هذه كانت خصلة من خصال العرب.

ولستُ أدري: أحق هذا! ولكني أرجح أن هذا مذهب اخترعه الرُّواة ليخلقوا منه أشخاص القصص الغرامية التي كانوا يضعونها لتلهية الجمهور وتسليته، على نحو هذه المذاهب التي نجدها أحاديث العامة وأقاصيصهم.

فَقَلَّمَا تقرأ أحدوثة من هذه الأحاديث أو طائفة من هذه الأحاديث إِلَّا رَأَيْتَ فيها مذهبًا مُعينًا منه اخترعت القصة، ولأضرب لك مَثلًا أمر الغول في أحاديث هؤلاء الشُّبان الذين يرتحلون الرحلات الطويلة يسعون إلى أمرٍ عظيم، فلا يكادون يُجاوزون أوطان الناس حتى تعترضهم غول، أو وحش يُشْبِهُ الغول وهلمَّ جرًّا …

ومن ذلك ما يتحدث به الرواة من أنَّ السُّلطان أهدرَ دَمَ قيس إذا تعَرَّض لليلى بعد أن حُجبت عنه، وهذا مذهب نجده أيضًا في أخبار قيس بن ذريح وغيره من هؤلاء العُشَّاق.

ويَحِقُّ لَنَا أَنْ نَتَسَاءل: أَكَانَ الخُلَفَاءُ قد فرغوا من أعمالهم العامة المُختلفة لهؤلاء العشاق يُهدرون دمهم حينًا، ثم يعصمونه حينًا آخر؟ وعلى أي نحو من أنحاء الشرع كانوا يعتمدون في إهدار هذه الدماء لا لشيءٍ إلا لأنَّ رَجُلًا أحبَّ في عفة، وتغَنَّى حبه في عفة؟ إنَّما هو مَذْهَبٌ في القصص الغرامي كهذا المذهب الذي تقدم، ومن ذلك ما يذكرون من توحش قيس، وإمعانه في التوحش، حتى أَلِفَ الظِّبَاء وأَلِفَتْهُ الظِّبَاء فعايشهن وعايشنه، واضطر مُخترع هذه الأحدوثة إلى أن يحتال حتى يبلغ أراكة كان قيس قد أنس فيها إلى سربٍ من الظباء، فلمَّا بلغ هذه الأراكة على غير حس من قيس، ولا من سربه، احتال حتى ارتَقَى واخْتَفَى بين أغْصَانِهَا، ثُمَّ أَخَذَ يحدث قيسًا فنفرت الظباء، وكادَ ينفر قيسٌ لَولَا أَنَّ مُحَدِّثَه ذكر اسم ليلى؛ فَأَنِسَ له قيس ومضى في حديثه حتى سنحت له ظبية فتبعها.

كل هذا من سخف الرواة، ما نحسب أنَّ له ظلًّا من الحق وإِنَّما هو ضرب من المُبَالَغَةِ في تأثير الحُبِّ، كان الرُّواة يَحْتَاجُون إليه حين تفرغ أحاديثهم المَعْقُولة، وهو آية على أنَّ المُخْتَرِع ضَعِيفُ الحَظِّ مِنَ القَصَص الغرامي يُعِييهِ المَعقول فيلجأ إلى المُحَال.

وعلى هذا النحو من النَّقد استطاع مُؤرخو الآداب اليُونانية أنْ يُفَرِّقوا بين فصول «الإلياذة» وأناشيدها المختلفة، فما كان مُحالًا مُفْعَمًا بالمُبالغات أضافوه إلى شاعرٍ ضعيف قليل الحيلة، وما كان منها معقولًا، أو كالمعقول لا يلتمس اللذة الفنية في الإحالة والإغراق، أضافوه إلى شاعرٍ بارع واسع الحيلة.

أَظُنُّ أنَّ هذا كله يَكْفِي للشَّك في شخصية المجنون، إن لم يكف لإنكار هذه الشخصية، ولكن الشك والإنكار عقيمان بطبعهما، وليس من الخير أن ينتهي عندهما الباحث إلا إذا اضطر إلى ذلك اضطرارًا، وبين أيدينا أخبار وأحاديث تصفُ عاشقًا آلمه العشق، وأودى بعقله وحَيَاتِهِ، بل تصف عشاقًا مُختلفين عبث بهم الحب هذا العبث.

وهذه الأخبار والأحاديث تشترك في أشياء، وتختلف في أشياء، تشترك مثلًا في أن الأشخاص جميعًا من أهل البَادِية، وفي أنَّ حُبَّهُم كَانَ عَفيفًا بريئًا، وَفِي أَنَّهُم قد لقوا في هذا الحُبِّ جهدًا عَظِيمًا، وفي أنهم قد تغنوه في الشعر الجَيِّد، وتتفق في وصف هذا الحُبِّ وأَسَاليبه، والمصاعب التي قامت دونه، وتَدَخُّل الخلفاء أو الولاة فيه إلى حدٍّ ما، وتختلف في أشخاص العُشاق والعشيقات وقبائلهم وأساليبهم في الحب والشعر وألوان الغناء الذي تكلفوه، كما تختلف في انتهائها، فمنها ما ينتهي إلى شرٍّ ومنها ما ينتهي إلى خير.

فلا بُد من أن يكون هناك مصدر لهذا الاتفاق، ومصدر لهذا الاختلاف، ولا بد للباحث المُحقق الذي ينتهي به البحث إلى إنكار قيس بن المُلَوَّح والغض من شخصية قيس بن ذُريح من أنْ يُقيم مكانَ هَؤلاء الأَشْخَاص أَشْخَاصًا آخَرِينَ أو أشياء أُخرى، وَإِلَّا كان بحثه عَقيمًا وكانت نتائجه أثرًا من آثار التحكم الذي لا خير فيه.

وأنا أُريد أن أقيم مكان قيس بن الملوح، وقيس بن ذريح، وجميل بن معمر، وعروة بن حزام، أشياء لا أشخاصًا، أو بعبارة أدق، أُريد أن أُقيم مَكانَهُم شيئًا واحدًا هو فن القصص الغرامي الذي أعتقد أنه ظهر، أو على أَقَلِّ تقدير، قوي وعَظُمَ أَمْرُه أيام بني أُمَيَّة، وأخذ يُنَظِّم شيئًا فشيئًا حتى كاد يكون فنًّا مُسْتقلًّا على نحو ما نرى من فنون القصص الغرامي في الأدب الحديث.

فليس يعنيني أنْ يَكُون شخص قيس بن الملوح تاريخيًّا، أو غير تاريخي، وإنما الذي يعنيني أنَّ هناك قصة غرامية هي قصة قيس بن الملوح، وقصة غرامية أخرى هي قصة قيس بن ذريح، وقصة غرامية ثالثة هي قصة جميل بن معمر وهلمَّ جرًّا …

أنا إذن بإزاء قصص غرامية اخترعها الخيال، لا بإزاء عشاق؛ فإذا أردتُ أن أبحث، فلستُ أبحث عن هؤلاء العشاق فهم لا يعنونني، وإنما أبحث عن واضع هذه القصة، وقيمته ومَقْدِرَته في الشعر والنثر، أبحثُ عن هذا الفن الأدبي الذي لم يكن للعرب به عهدٌ قبل الإسلام والحضارة الإسلامِيَّة، والذي ظهر بعد الإسلام، وحين أخذت الحضارة الإسلامية تزهر وتبسط سلطانها على العقول.

نعم! أَنَا أَعْلَم حقَّ العِلمِ أَنَّ هُناك صعوبات كثيرة تحول بيني وبين إتقان هذا البحث. أَوَّل هذه الصُّعوبات أنَّ هَذِه القصص الغرامية لا تُنسب إلى كاتبٍ بعينه، ولا إلى كُتَّاب معروفين، فلسنا ندري من واضع قصة المجنون، أو قصة قيس بن ذُريح، وإذن؛ فقد نَتَكَلَّفُ كثيرًا من العَنَاء في البحث عن شخصية هؤلاء القصاص دونَ أَنْ ننتهي إلى نتيجة، وقد يكون كل ما ننتهي إليه أننا أنكرنا أشخاصًا معروفين دونَ أَن نصل إلى أشخاص آخرين، أنكرنا أشخاص الشعراء، دون أن نصل إلى أشخاص القصاص.

ومع ذلك فلم نتكلف البحث عن أشخاص القُصَّاص إذا لم يكن إليهم سبيل! أليسَ يَكْفِينا أنْ نُثبت ما بين هذه القصص من التفاوت والاختلاف، وما يَمْتَازُ به بعضها من بعض من الجَودَةِ والإتقان والمهارة القصصية والبراعة الشعرية! أليس يكفينا أنْ نَصِلَ بوجهٍ ما إلى تَحْدِيد هذا الفن الأدبي وتبيين صفاته الخاصة التي تُميزه من غيره من الفنون! ثُمَّ أَليسَ يَكْفِينا ما قد نُوفق إليه من إظهار الأسباب الأدبية والخلقية والسياسية التي دعت إلى ظهور هذا الفن أيام بني أمية، ومن إظهار الأسباب الأخرى التي دعت إلى ذبوله، ثم إلى فنائه أيام بني العباس! ألسنا إن وفقنا إلى هذا كله أو بعضه، نكون قد استكشفنا في الأدب العربي فنًّا كان الناس يجهلونه ويغفلون عنه؟ ثم ألسنا بالكشف عن هذا الفن ووصفه وإظهار خصاله، أنفع للأدب العربي ومجد الأمة العربية من هؤلاء الذين يقصرون بحثهم على الأشخاص، ولا يتخذون لبحثهم غاية إلا تملق أنفسهم وتملق الجمهور! نعتقد أنَّ في هذا النحو من البحث نفعًا عظيمًا، ولهذا نريد أن نمضي فيه حتى نتمه في الفصول الأخرى.

البوليجين، في ٢٠ أغسطس سنة ١٩٢٤
١  نُشرت بجريدة «السياسة» في ٣ سبتمبر سنة ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤