الفصل الثاني

ساعة مع شاعر جاهلي١

قُلتُ لصاحبي — وقد طال الحوارُ بينه وبيني في نفعِ هذه السَّاعَة التي أردتُ أن يقضيها مع شاعر من الشعراء الجاهليين هو لبيد: وما يضرك أنْ تَتَكَلَّف بعضَ الجهد والعناء ساعة من نهار، لتسمع عن هذا الشاعر الذي كان القدماء يعجبون به إلى غير حدٍّ، ويكبرون شعره في غير تحفظ، يجتمعون إليه ليستمعوا له، ويسعون إليه ليسألوه، ويتناقلون شِعْرَه مُعجبين بِرَصَانة لفظه، ومتانة أُسلوبه، واعتدال وَزْنِهِ، واسْتِقَامَةِ قَوَافِيه، وروعة معانيه، في دقة لا تُشْبِهُها دِقَّة، ووضوح مع ذلك لا يشبهه وضوح.

قال: فإني لن أفهم عنه إذا استمعت له، ولن أذوقه إن فهمتُ عنه، ولن أَجِدَ في ذوقه من اللذة والمتاع ما أجده حينَ أقرأُ شِعْرَ المُحدَثين، وأسْتَخْلِصُ ما فيه من معانٍ تُلائم طبيعتي ومِزاجي، قد أديت في لفظٍ يُلائم ذوقي وحسي، ولقد حاولتُ مُنذُ حِينٍ أَنْ أقرأ لبيدًا هذا فما كدتُ أَبْلُغ الأَبْيَات العشرة الأولى من قصيدته المُطَوَّلة، حتى ضقتُ بها، وانصرفتُ عَنْهَا، لا بُغضًا ولا قِلًى، ولكن عجزًا ويأسًا.

قلتُ: فإني سأكون ترجمانًا بينك وبينه، ولئن فاتك أن تذوق ألفاظه الضخمة الفخمة، التي قد تبلغ من الضخامة والفخامة إلى حيث تضيق بها أفواهنا المُتْرَفة الصغار، وآذاننا التي لم تتعود قصفَ الرَّعد ولا وقع الجلاميد، فمن يدري لعلك تذوق هذه المعاني الرَّائعة البَارِعَة على بَدَاوَتِها، ولعلك توافقني على أنَّ الشِّعْر ليس كله مُحدثًا، وإنَّما هُنَاكَ شِعْرٌ قديم، وعلى أنَّ الشِّعر القديم نفسه ليس كله ميتًا، وإنما هناك شعر قديم ما زال يترقرق فيه ماء الحياة، وإني لأعلَمُ أنَّ الأَبْيَاتَ الأُولى من قصيدة لبيد خَشِنَة المَلْمَس، غَلِيظَة اللَّفظ، بعيدة المعنى عن مألوفنا، ولكنْ مع ذلك أجد فيها شعرًا قويًّا غنيًّا، خصبًا مُمْتِعًا، خَليقًا بالإعجاب والإِكْبَارِ، خَليقًا أنْ يُثِيرَ في نُفُوسِنا عَاطِفة قَلَّما تُثيرها فيها خطوب حياتنا المُتحضرة، التي تشغلنا بالعاجل من الأمر، والتي تحول بيننا وبين الأناة والتفكير، والتي تمنعنا من أن نعود إلى نفوسنا، ونعكف عليها، ونستخرِجَ مِنْها، أو نتبين فيها عواطف الشوق والحب والحنان والحنين أيضًا.

وما رأيكُ في هذا الرَّجل الذي أرادَ أنْ يَتغَنَّى ما يملأ حيَاتَهُ البدوية بالنَّشاط، فبدأَ كما تعوَّد أمثالُهُ أن يبدءوا بشيءٍ من النسيب، ولكنه نسيب شاحبٌ، فيه حُزْنٌ يَشْتَدُّ حتى يؤثر في النفس، ويكادُ يَبْلُغ بها الجزع واليأس، لولا أنَّ الشاعر قوي النفس، شديد الأيد، عظيم الحظ من الإرادة، جلد صبور؛ فهو لا يستسلم للعاطفة، ولا يخضع لسُلطانها، وإنما يأخذ منها بمقدار، إن صح هذا التَّعبير، يحزن ولكن على ألا يفسده الحُزن، ويفرح ولكنْ عَلَى أَلَّا يُبطره الفرح، يحزن ويفرح بمقدار ما ينبغي له من هذا الحزن الذي يصلح النفس، وهذا الفرح الذي يعتدل له المزاج.

على أن تأثره بهذه العواطف ليس مقصورًا عليه، ولا على مُعاصريه الذين كانوا يفهمون عنه ويفهم عنهم، بل هو يتجاوزه ويتجاوزهم إلينا نحنُ، وإن بعد بينه وبيننا العهدُ، وطال بينه وبيننا الزمان.

وهو يسلك إلى تصوير عواطفه هذه نفس الطريق التي يَسْلُكها الشُّعراء المُحدثون: طريق التصوير القوي المُؤثر، الذي يُثير في نَفْسِك الإعْجَابَ لِأَنَّه يُؤثر في عقلك وحِسِّك وشعورك معًا، وأنا أُشْفِقُ عَليك، أو أُشْفِقُ منك، فلا أروي لك الأبيات الأولى من هذه القصيدة بلفظها، مخَافَةَ أنْ تنفر منها، وإنما أُترجمها لك ترجمة.

وأي بأس من أن يُترجم الشعر العربي القديم إلى اللغة العربية الحديثة؟ فإنَّ هذه القرون الطوال، التي مَضَتْ بين القُدماء وبيننا، لم تَمضِ عبثًا، وإنما أنشأت بينهم وبيننا فروقًا عَظِيمة، جَعَلَتْ منَ العَسير علينا أن نَفْهَمَهم إذا تَحَدَّثوا، كما نفهم أنفسنا حين يتحدث بعضنا إلى بعض.

وإذا كان الفرنسيون يحتاجون إلى أن يُترجموا بعض آثارهم في القرون الوسطى، وفي أول العصر الحديث، إلى لغتهم التي يألفونها الآن، فَلِمَ لا نحتاجُ نحن إلى أن نُترجم أو نُقَرِّب شعر القدماء من الجاهليين أو من الإسلاميين إلى هذه اللغة اليسيرة، التي نصطفيها فيما يكونُ بيننا من الأحاديث؟

لا بأس عليك إذن ولا عليَّ مِنْ أَنْ نَدَعَ لفظ «لبيد» الآن ونَكْتَفي بمَعَانيه، لنَرَى أَلَهَا حظٌّ مِنَ الشعر ومن جماله، أم هي بريئة من الشعر والجمال معًا؟ أما أنا فيُعجبني جدًّا تصويره لهذه الديار، وقد خلت من أهلها، وبَعُدَ عهدها بهم، وطال عليها الزَّمن، واختلفت عليها الخطوب وأحداث الجوِّ، فأصبحتْ وكأنها لم يَسْكُنها الناسُ، لولا هذه الآثارُ الضَّئيلَةُ التي يُصَوِّرُها الشاعرُ ويتحدث عنها، ولولا هذه الذِّكرى التي تَمْلأُ نفْسَ الشَّاعر حُبًّا وشوقًا وحنانًا، ولولا هذه الأسماء التي حفظها الشاعر؛ فهو يجري بها لسانه استثارة لعواطف الحب والحنان.

خلت هذه الديار من أهلها، كما خلتْ من آثارهم ومتاعهم، ولم يبقَ فيها إلا هذه الرُّسوم الضئيلة النَّحيلة التي بقيتْ، لأنَّ حَمْلها ليس مُمكنًا ولا ميسورًا، والتي جدَّ الزَّمَنُ في إزَالَتِها، فأخذَتْ تَنْمَحي قليلًا قليلًا، حتى كأنها النقش على الحجر قد طال به العهد، فأخذ ينمحي حتى كاد يزول.

خلتْ هذه الديار من أهلها، ومضتْ عَليها أعوامٌ طِوالٌ كَامِلَة، لم يَزُرها إنسانٌ، ولم يستقر بها مُقيم، وهي مع ذلك مُعَرَّضة لأحداث الجو، تختلف عليها الريح، وتلم بها العواصف والأنواء، ويُصيبها المَطَرُ الخفيف، ويُصيبها المطر الغزير، ويقصف في جوِّها الرَّعد إذا كان العشىُّ، ثم تَنْجَلي عنها هذه الأحداث الجوية، وقد ألقت إليها الخصب، وأشاعت فيها الحياة، وأثارت فيها النبت، وجعلتها مَرتعًا للظَّبي والبقر، ومأمنًا للوحش، تعيش فيها راضية لاهية مُطمئنة فارغة لنفسها ولأبنائها، قد بَعُدَ عهدها بالناس فليست تخاف الناس، وإنما هي آنسة حيث لم يكن لها أنْ تأنس منذ أعوام.

وقد وقفَ الشَّاعرُ على هذه الديار التي تغيرت وتبدلت شئونها، وقفة السائلِ المُتَذَكِّر لا يكادُ يُمعن في هذا التفكير، حتى يرده حزمُه إلى الرويَّة والرُّشد، فيُنكر على نفسه ما هو فيه، من سؤال هذه الأحجار والصخور الصم الخوالد، التي فقدت كل حَرَكة وكلَّ نشاط، فكيف السَّبيلُ لها إلى أنْ تَتَكلم! وكيف السبيل لها إلى أن تُجيب! وكيفَ السبيل لها إلى أن تُبِين؟!

وكل هذه المعاني مَأْلُوفة عند الشُّعراءِ الأَقْدَمين، ولكن انظر إلى هذه الصور الجميلة، التي يُؤدي الشاعرُ فيها هذه المعاني، وحدِّثني لو أنَّ شاعرًا مُحْدَثًا أراد أن يُؤدي مثل هذه المعاني، أتراه يستطيع أن يؤديها في صور خير من هذه الصور؟ آثار الخيام في الديار، وآثار ما كانت تحتويه الخيام من المتاع والأثاث، قد مُحِيتْ ولم يبقَ منها إلا القليل، كأنه بقايا النَّقش، وقد مَحَاهُ أو كاد يَمْحُوه طولُ العهد، أو كأنه رجع الوشم وقد أخذت الوَاشِمَةُ تُعِيدُه وتجدده على اليد، وهذه السَّماءُ المُلِحَّة على هذه الديار بالمطر الهادئ والمطر القوي، والرَّعد حينًا والمطر في غير رعدٍ حينًا آخر، وهذا النبات الذي يَثُور، فإذا الأرضُ تنشق عنه، وإذا هو يمضي في ثورته حتى يَرْتَفِعَ! وهذه الحياة التي تنبثُّ في الأرض فإذا هي نبات كلها، وإذا الوحش يجدُ فيها مأمنًا ومَرْتعًا، وفَرَاغًا للحنان والعناية بالأطفال.

وهذا الشاعرُ الذي يُلِمُّ بهذه الأرض، وقد اختلفت عليها كل هذه الأحداث، وألَمَّت بها كل هذه الخطوب، وأصابها كل هذا التغيير، فيذكر عَهْدَها القديم وأهلها القُدَمَاء، ومَا كَانَ بَيْنَه وبَيْنَهُم من صِلَاتٍ، ومَا كَانَ يُشاركهم فيها من لذة، وما كان يُقاسمهم فيها من ألم، وإذَا هُو في أوَّل أَمْرِهِ سَائِلٌ مُلِحٌّ في السؤال، ثم إذا هو يَثُوب إلى رُشده قليلًا، وإذا هو يستيئس من الجواب شيئًا فشيئًا، وإذا هو يطئمن إلى هذا اليأس، وإذا هو يقنع بالذِّكْرى، وإذا هو يستحضرها بالذكرى، ويقصها على نفسه كما لو قصها عليه إنسانٌ آخر، وإذا هو يتحدث عن يوم الرَّحيل، وعن هؤلاء النِّساء الحِسان اللاتي ارْتَحَلْنَ ذات يوم من هذه الديار إلى أرض مجهولة، لا يستطيع هو أن يحققها، فقد تكون عن شماله نحو الحجاز، في هذا المكان أو ذاك، وقد تكون عن يمينه نحو اليمن، في هذا المكان أو ذاك، وهو على كل حالٍ عَاجِزٌ كل العَجْزِ عن أن يسعى إلى هذه الأماكن أو تلك، وأنْ يُلِمَّ بأهل هذه الديار هنا أو هُناك، فحسبه أن يذكر ويكرر الذكرى، وحسبه أن يستحضر ويُلِحَّ في الاستحضار، وهو يَرَى النِّساء وقد دخلن الهوادج كأنهن الظباء حين يُؤْوين إلى الكنس التي يتخذنها من أغصان الشجر.

وهو يرى هذه الهوادج ويَتبينها ويُصَوِّرُها، كأنَّه يمسها بيده؛ فهو يَذكر لنا قَوائمها، وهو يذكر لنا ما نُشِرَ عليها من الثياب، وهو يذكر لنا أستارها الرَّقيقة، ثم هو يرى الإبل وقد نهضت ثم دُفِعَت أمامها في الطريق، وهو يتبع هذه الإبل ببصره وهي تنأى عنه شيئًا فشيئًا، وتغيب عن عينه قليلًا قليلًا، والضُّحى يرتفع، والسراب ينتشر، وصور هذه الإبل، وهي تخرج من سراب لتدخل في سراب ما تزالُ تتمثل لعينيه، ثم تغيبُ الإبلُ حتى تنقطع أو تكاد تنقطع الأسباب بينه وبينها، وما زال الضُّحى يَرْتَفِعُ، وما زال الآل يَنْتَشِر، وإذا الشاعرُ يَنْظُر فلا يكادُ يَرَى إلا تِلالًا صِغَارًا ضَئِيلَةً، قد اتخذت من هذا السراب أردية.

وليست عين الشاعر وحدها هي التي ترى وتتبع الإبل، وليست وحدها هي التي تذكر ما رأتْ وما تبعت، ولكن أُذُن الشاعر أيضًا قد سَمِعَت، وهي تذكر ما سمعت، والشاعرُ يُصور لنا هذا الذي سمعته وذكرته تصويرًا يمرُّ به المُعلمون والمُتعلمون غير حافلين به، ولا ملتفتين إليه، وفيه مع ذلك الشعر كل الشعر: فهذه الإبل قد نهضت وأخذت تسعى بأحمالها، وعليها الخيامُ التي كانت تُظِلُّ أهل الديار، وهذه الإبلُ تسعى بهذه الخيام وتضطرب، وهذه الخيام تصرُّ لهذا السعي والاضطراب، ومن يدري لعل في صَرِيرِ هذه الخيام اشتكاء لهذا الرَّحيل الذي لم تكن تنتظره ولا ترجوه، ومن يدري! لعلنا لا نفهم عن الأشياء كما ينبغي، حين نرى صورها، أو نَسْمَع أَصْوَاتها، وإنما الشُّعراء وحْدَهُم هم القَادِرُون على هذا الفَهم، وهم القَادِرُون على أنْ يُترجموا عمَّا تُريد الأشياء.

على أنَّ شَاعِرَنا — كما قلتُ لك آنفًا — ليسَ ضَعيفًا، ولا واهي العزم، ولا مُسرفًا في الاسترسال مع العَاطفة، وإنَّما هو صاحب حزم وإرادة وتصميم، وقد غابت الإبل عن عينيه، وقامتْ مِنْ دُونها التِّلالُ والجِبَالُ، وقد انقطع عن أُذُنيه صرير الخيام، الذي قد يكون فيه الشكوى، وقد يكون فيه الوداع.

وقد مضت الأيام، ومضت الشهور، ومضت الأعوام، وليس من سبيل إلى أن يرد الماضي، ولا أن يبلغ أحباءه؛ لأنَّه لا يعرف أين يكونون، فما استرساله في اليأس، وما استسلامه للجزع، وإن في الحياة لما يشغل عن اليأس، وإنَّ فيها لما يصرف عن الجزع، وإنَّ صاحبته هذه التي هجرته وانصرفت عنه، وقطعت ما بينها وبينه من الوسائل والأسباب، لخليقة أنْ تَلْقى منه صدًّا بصد، وإعراضًا بإعراض، فما ينبغي للرَّجُلِ الحازم العازم أن يحتمل الهجر والصد، دونَ أنْ يَجْزِي الهَاجِرَ الصَّادَّ بمثل هجره وصده. وإنَّما الرَّجُل الذي يحسن الوصل حين يُتاح له الوصل، هو الرجل الذي يَقْدِرُ على الهجر حين لا يكون له من الهجر بد.

وقد مضت الإبل بصاحبته إلى حيث لا يدري، أفتظنُّ أنَّ الإِبِل لا تستطيع أن تمضي به هو إلى حيث يدري؟ كلا. إنَّ له لناقة قادرة على أن تمضي به لدى حيث يريد، ولدى حيث لا يُدركه الطالبون، ولدى حيث تجهل صاحبته من أمره مثل ما يجهلُ، أو أكثر مما يجهلُ من أمرها.

وأنت يا سيِّدي مُخْطِئ أَشَدَّ الخَطَأ حينَ تُظْهِرُ ما تُظْهِرُ من الضَّجر، وحين تأخذ في التبرم بحديث الناقة الذي يكثر منه الشعراء القُدَماء، فليس شاعري حين يصف ناقته مُثقلًا ولا مملًّا، وإن كان مُطيلًا مكثرًا، فناقته في حقيقة الأمر لا تعنيه، إلا لأنها تستطيع أنْ تُسليه عن هجر الهاجر، وأن تَمضي به إلى حيثُ لا يطلب؛ فقدرتُها على الإسراعِ واحتمالِ ما يفرضه السفر من الجهد والمَشَقَّة والهزال، هو أهم ما يعنيه من هذه الناقة، ومن يدري لعلَّ الشَّاعِرَ كان يتنبأ بأنَّ القُرون ستمضي وتمضي في إثرها القرون، ثم يخلف خلف من الناس، يَضِيقون بالمألوف من وصف الإبل، ويكرهون الحديث المطرد في غير تنوع ولا اختلاف، ويتبرمون كما تتبرم أنت بالقديم، فأراد ألا تضيق به، ولا تَزْوَرَّ عن وصفه لناقته، ومن يدري لعله فكر فيك وفي أمثالك الذين فتنهم الشعر الحديث، وخلَبَهُم ما فيه من هذه الصور المُختلفة الحية التي تمر بآذانهم، فإذا هم يرونها بعيونهم، وإذا هي تضطرب أمامهم كما يضطرب الأحياء.

فشاعري يا سيدي قادر ماهر، وهو ماكر أيضًا، يُخَيَّل إليَّ أنَّه إنما اتخذ ناقته تعلة ليتغنَّى ببعض المناظر الجميلة التي كانت تشيع في الصحراء، وليعرضها عليك وعلى أمثالك عرضًا سريعًا هادئًا معًا، كأنك تراها في دفتر من دفاتر الصور إنْ شِئْتَ، وكأنك تراها على لوحة من لوحات السينما إن أحببت؛ وقُل إن أردت إنِّي مَفْتُون بهذا الشاعرِ القَدِيم، ولكن انظر معي إلى هذه الصور المُختلفة التي يَعْرِضُها عليك في لفظٍ رائع، لا تستطيع أن تحكم على روعته؛ لأني لا أَرْوِيه لكَ، ولأَنَّك تُؤثر الكَسَل والرَّاحة، على أن تنظر فيه وتتذوق جماله.

انظر معي إلى هذه الصور؛ فقد يُخيل إليَّ أنها ستفتنك كما فتنتني، فشاعري يا سيدي صاحب حركة ونشاط، هو لا يثبت الشيء أمامه ليصفه، هو لا يصف الشيء سَاكنًا مُسْتقرًّا، وإنما يدفعه أمامه، ثم يندفع في أثره، ثم يصفه لك مُسرعًا في الحركة، فيضطرك أنت إلى أن تنشط، وإلى أن تتبعه في طريقه التي مهما تبعد، ومهما تطل، فهي واضحة، لا يخشى فيها الضلال.

ناقة شاعري يا سيدي قد تعوَّدت الأسفار، واحتمَلتْ مِنْ أسفارها غير قليل، فهي مُتْعَبة مَكْدُودة، قد بَرَاها السَّفَرُ، وأَلَحَّ عليها الهزال، ولكن ذلك لم يقعد بها عن السرعة، وإنما أعانها عليها، فهي تمضي وكأنها السحاب قد أراق ماءه، فخف واستسلم لأيسر الريح.

على أنَّ هذا التشبيه لا يكفي شاعري، وإنما هو يطمع في تشبيهات أخرى أبلغ منه، وأكثر روعة وجمالًا، وفيها من الحياة، ومن الحياة القريبة، ما ليس في السحاب. فهل رأيت إلى الأتان الوحشية، وقد تنافست فيها الفحول، وازدحمت عليها، وكثر فيما بينها الخصام، ثم استطاع واحد منها أن يستأثر بها من دون أصحابه، وأن يصطفيها لنفسه، ثم استيقن أنَّ له عليها حقًّا، ثم لعب في نفسه الشك، وثارت فيها الريب، وملكت عليه الغيرة أمره، ففضل حياة العزلة، وزاده حرصًا على العزلة وتأثرًا بالغيرة، ما يرى من تمنع صاحبته وتجنيها، فهو يدفعها أمامه، وهي تمضي مُسرعة تود لو تفوته، ولكنه يعدو في إثرها، فلا يزيدها هذا العدو إلا إلحاحًا في الإسراع، وما تزال مُسرعة، وما يزال هو عَاديا في إثرها، حتى تتم لهما العزلة في مكانٍ مرتفع، قد كثر فيه النبت، وغطاه العُشب، فهما يُقيمان فيه فصل الشتاء، بعيدين عن الماء، وما حاجتهما إلى الماء، وفي هذا النبات الرَّطب الذي يرعيانه ما يكفل لهما الري، ولكن الأيام تمضي، والشتاء ينقضي، ويقبل الحر، ويجف النبات، ويشتد الظمأ، فهما في حاجة إلى الماء، وقد تَرَدَّدَا، وطالَ تَرَدُّدهما، ثم تمت عزيمتهما على ورود الماء؛ فقَدَّمها أمامه، لتسعى بين يديه، غير قادرة على أن تتخلف عنه أو تفلت منه، وهي لا تسعى وإنما تعدو عدوًا سريعًا، تُريد أن تفوته كما كانت تفعل من قبل، وهو يُريد أن يُدْرِكَها كما كان يفعل من قبل، وهي لا تحفل بهذا الشوك الذي يُصيب دوابرها، وهي تُثير غبارًا منتشرًا، وهو يثير معها هذا الغبار، والغبار ينتشر بينهما رَقيقًا سهلًا، كأنه ثوب يتنازعانه، أو كأنَّه دخان نار مُضطرمة قد أوقدت باليابس الذي يضرمها تضريمًا، وبالرطب الذي يثير لها الدخان.

وما يزالان يعدوان في طلب الماء حتى يبلغاه، ويا له من ماء جميل هذا الذي ينتهيان إليه! عين غزيرة تجري في غابة كثيفة من القصب، قد عبثت بها الريح، فبعضها قائم يُقاوم الرِّيح، وبَعْضُها قد عجز عن المُقاومة؛ فانكفأ على الماء كأنه صريع.

أَرأيت إلى هَذِه الأَتان في هَذِه القِصَّة الحية السريعة التي تتتابع فيها الصور، وتختلف فيها المناظر، وتكثر فيها الأحداث، وتثار فيها عواصف الغِيرة والحِرْص والمُنافسة، هذه الأتان يَضْرِبُها الشَّاعِرُ مثلًا لناقته حين يدفع بها في الأسفار.

على أن تشبيه الناقة بالسحاب الخفيف، وبالأتان ذات القصة الرَّائعة، التي تعرض عليك من مناظر الطبيعة في الصحراء ما تعرض، لا يكفي صاحبي، كأنَّه أحسَّ أنه لا يكفيك، وكأنه أحس أنك في حاجة إلى قصة أخرى، وإلى مناظر أخرى، وكأنه أحس أن قصة الأتان قد أعجبتك؛ فهو يريد أن يزيد إعجابك، ومن ذا الذي يُنكر على الشاعر وعلى صاحب الفن، أن يحب الإعجاب به، وأن يستزيده، وأن يبذل ما يملك من الجهد ليبهرك ويسحرك، وهل كان الشعر والفن إلا ليبهراك ويسحراك؟

فهذا تشبيهٌ آخر يُثِيرُ قِصَّةً أُخرى وأيُّ قِصَّة! قصة تملؤها الحياة، وتملؤها العاطفة، ويملؤها الصِّرَاع: وهي قصة هذه البقرة الوحشية البائسة التي عَدَت على طِفْلها العَوادي فأكلَهُ السَّبُع، فهي تلتمسه فلا تجده، وهي تُلِحُّ في التماسه هائمة في الأرض ما قدرت على الهيام، صائحة مُنادية ما وجدت قدرة على الصياح والنداء، تفعل ذلك ما وسعها النهار، ولكنَّ الليل يدنو، وتَدْنُو مَعَهُ الظُّلْمَةُ، وتدنو معها العاصِفَةُ بما تدفع بين يديها من مطرٍ مُتَّصِلٍ غَزِيرٍ، وبِمَا تَنْشُر حولها من برد مُهْلِكٍ، وهذه الأُمُّ الحَزِينَةُ البَائِسَةُ التي كانت خليقة أن تستيئس من لقاء ابنها، لولا أنَّ قُلوب الأمهات لا تعرف اليأس، هذه الأم البائسة قد أجهدها الطلب والصياح، وشق عليها البرد والمطر، وأخافتها ظلمة الليل، فهي تلتمس لنفسها مأمنًا ومأوى في أصول الشجر المُلتف، حتى إذا انجلى الليل وأسفر الصبح، اندفعت هائمة تصيح وتدعو ابنها هنا وهناك، وابنها لا يُجيب؛ فقد أكله السبع، ولم يبقَ منه إلا أشلاء قد طُرِحَتْ على رمل الصحراء.

وإنها لكذلك مرتاعة ملتاعة في هيامٍ وصياح، وإذا هي تُحِسُّ من ظهر الغيب نبأة لا تتبين أصلها، وصوتًا خفيفًا لا تعرف مصدره، وهل يصدر هذا الصوتُ إلا عن الناس؟! وهل للوحش أمن إذا أقبل النَّاسُ؟ وإذا غريزة الدِّفَاعِ عن النفس، والحرص على الحياة، تغْلِبُ غريزة الأُمُومة والحُزن على الطفل الفقيد، وإذا هذه الأُمُّ الحَزِينة بقرة يطلبها القناص، وهي في حاجة إلى أن تنجو، فهي تعدو أمامها لا تلوي على شيء، قد ملأها الخوف، وملكها الرُّعب، فهي تنتظر الخطر من أمام، وهي تنتظر الخطر من وراء، وهي تسلم نفسها لقوائمها النحاف كأنهن القداح، حتى أيأست الرُّماة، وفاتت النبل، ولكنَّ عَجْزَ الرُّماة وقصور النَّبْل لم يُؤمنا هذه البائسة، فكلاب الصيد حاضرة، وما أسرع ما أرسلها القناص، فأخذت تعدُو، وأخذت البَقَرَةُ تعدو أيضًا، فلمَّا استيأست من العدو، وعرفت ألا نجاة لها إلا باستقبال الخطب، عطَفَتْ على هذه الكلاب، فكانت بينها وبينهن حرب، أسفرت عن قتيلين.

فهذه البقرة المُرتاعة المَحْزُونة الهَائِمَة في طلب ابنها، الخائفة إذا جنَّها الليلُ، الهَارِبَةُ بين يدي القناص، العاطفة على الكلاب للحرب والصِّراع، هي التي يُشَبِّه الشاعرُ بها ناقته، بعد أنْ شَبَّهها بالسحاب، وبعد أن شبهها بالأتان.

وأظُنُّ أنَّ الشَّاعِرَ قد أرضى حاجتك إلى الصور، وإلى القصص الساذج القوي، وأرضى حاجة نفسه في تصوير ناقته ووصفها بما أحب لها من السرعة والقُدرة على احتمال الجهد؛ فليس عليه بأس بعد هذا من أنْ يُحدثنا عن نفسه، ومنْ أنْ يُحدثنا عن نفسه مُحتملًا للخطوب، مُحتملًا لهجر صاحبته، هاجرًا لها إنْ هجرته، مُعرضًا عنها إنْ أَعْرضَت عنه، مُتحدثًا إليها بما يعرف لنفسه، وبما يعرف الناس له من خِلَالِ الشَّجاعة، والبأس، والكرم، والجود، حتى إذا أرضى الشاعر نفسه، تحدث عن قومه، فوصفهم بما يحبون أن يوصفوا به، وانتهى من قصيدته وقد نسب في أولها، ووصف في أثنائها، وفخر بنفسه وبقومه في آخرها، وكان شاعرًا بارعًا، ومُصورًا صادقًا لحياة نفسه، ولحياة قومه، ولحياة جيله من العرب في عصره في القصيدة كلها.

وأظُنُّكَ تُلاحظ يا سيدي أني قد أجمَلْتُ وأَسْرَفْتُ في الإِجْمَال، وأني قد تجنَّبْتُ التَّفصيل، وأبيتُ أنْ أَقِفَ بِكَ عِند كل صورة وعند كل تشبيه، وأشفقتُ عليك من الوقوف عند الألفاظ وما فيها من جمال يأتي من هذه الجزالة التي إن نبت عن أُذنيك؛ فإنَّها لا تَنْبُو عن آذان قومٍ آخَرِينَ يَأْلَفونها ويَكْلفون بها، ولَعَلَّها لا تنبو عنك إذا أنت رُضْتَ نفسك عن قراءتها ومُرَاجعتها.

وقد أشفقت عليك أيضًا مِمَّا تُثِيرُه هذه الألفاظ وهذه المَعَاني، من مَسَائل في النَّحوِ يَلذُّ تفسيرها، ويروق الوقوف عندها، لو أنك من الذين يشاركون في هذا العلم، الذي يكره الناس المشاركة فيه الآن.

أَظُنُّكَ قد لاحظت هذا كله، وأَظُنُّك تُوافقني على أنَّ مِثْلَ هذا الشِّعر الذي يعرض مثل هذه الصور، ويُثير مثل هذا الخَيال، ويُحيي في النفس مثل هذه العواطف، لا ينبغي له أنْ يُهمل، ولا أنْ يصرف عنه الشبابُ صرفًا، ولست أزعم أني أريد أن يفرغ له الشباب ويتخصصوا فيه — كما يقولون — ولكني أُرِيدُ أنْ يَعْرِفه الشَّبابُ، وأنْ يُحسنوا العلم بأغراضه ومَعانيه، وأنا واثقٌ بأنَّه لنْ يَكُون أقلَّ إِلهامًا لهم، وإحياء لنفوسهم من الأدب الحديث.

قال صاحبي — في شيء من الشكِّ: قد يكون هذا حقًّا بالقياس إلى هذه القَصيدة، ولكنْ كم ترك القدماء من قصيدة تُشبهها؟

قُلْتُ: تَرَكُوا كثيرًا يا سيدي أكثر جدًّا مما تظن.

١  نُشرت بجريدة الجهاد بتاريخ ٦ فبراير سنة ١٩٣٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤