الفصل الثامن

القديم والجديد

نريد أن نفرغ من مسألة القديم والجديد، وهل من سبيلٍ إلى أن نفرغ من مثل هذه المسألة؟ فقد رأينا في فصلٍ مضى أنها مسألة تلازم الأمم الحية، وتلازمها لأنها حية؛ إذ كانت الحياة بطبيعتها تطورًا وكان التطور بطبيعته انتقالًا من حالٍ إلى حال، وكان هذا الانتقال نفسه موجودًا للخلاف بين جديد طارئ وقديم زائل، فليس للجديد بد من أن يجاهد ليظهر ويستأثر بالحياة، وليس للقديم بد من أن يجاهد قبل أن يزول ويفقد سلطانه على النفوس، فما دامت هناك حياة فهناك قديم وجديد، وجهاد بين القديم والجديد، وأنصار للقديم وأنصار للجديد، وكما أننا مضطرون بحكم الحياة إلى أن نخضع للتطور، فنحن مضطرون بحكم التطور نفسه إلى أن نحتمل الخلاف بين الذين يبكون مغرب الشمس والذين يبتسمون لإشراقها، وكل ما نستطيع أو كل ما نرجو إنما هو ألا ننفق حياتنا في بكاء على الماضي أو ابتسام للمستقبل، فقد يصرف البكاء والابتسام عن أن ننتفع بتراث الماضي أو نحيا بآمال المستقبل.

أكاد أعتقد أن ليس للقديم أنصار؛ أي إن أنصار القديم ليسوا مخلصين في نصرهم للقديم، أو إنهم يخدعون أنفسهم حين يظنون أنهم ينصرونه، ذلك أن هؤلاء القوم يحيون كما يحيا غيرهم من الناس، وثق أنهم ليسوا أقل الناس استمتاعًا بلذات الحياة وليسوا أقل الناس استبشاعًا لما فيها من بشع، واستعذابًا لما فيها من لين، وإذن فهم بين اثنتين: إما أن يكونوا صادقين حين يبكون القديم ويحرصون عليه، فهم يحيون حياتهم كارهين ويأخذون بلذاتها ويحتملون آلامها دون أن يكون لهم في شيء من ذلك رأي، فإن كانوا كذلك فهم خليقون بالرحمة والعطف والإشفاق، وكيف لا ترحم من يحيا راغمًا ويلذ راغمًا ويألم راغمًا؟! وإما ألا يكونوا صادقين في حبهم للقديم وحرصهم عليه، وإذن ففيم هذا الضجيج والعجيج؟ وفيم إثارة الخلاف وإطالة القول فيما لا يغني ولا يفيد؟ ذلك أن القديم والجديد ليسا مقصورين على اللغة في ألفاظها ومعانيها أو في أساليبها وتراكيبها، وإنما هما يتناولان اللغة كما يتناولان غيرها من مظاهر الحياة المعنوية والمادية، وغريب أنك لا ترى الجهاد عنيفًا ولا تراه يشبه العنيف فيما يمس مظاهر الحياة المادية، فلو أنك طلبت إلى الذين يسرفون في نصر القديم ويمقتون أنصار الجديد ويصفونهم بالكفر، أن يأكلوا ويشربوا ويجلسوا على نحو ما كان يأكل أجدادهم منذ قرون وعلى نحو ما كانوا يشربون ويلبسون ويجلسون لما سمعت منهم إلا إنكارًا، ولما رأيت منهم إلا ازورارًا، ولقد أريد أن أرى بين أنصار القديم أولئك الذين لا يزالون يأكلون ويشربون في الصحاف والأكواب من النحاس والفخار وقد جلسوا على حصيرٍ ورفضوا الكراسي رفضًا، وأبوا أن يستمتعوا بكل ما أتاحت لهم الحضارة الحديثة من أدوات الترف واللذة البريئة، أريد أن أرى هؤلاء، ولكني يائس من رؤيتهم، ولست أشك في أن من بينهم من يستمتعون في حياتهم الخاصة بأحدث ما اخترعت الحضارة من هذه الأدوات، على حين لا يظفر من ذلك أنصار الجديد الملحون في الدعوة إليه إلا بالشيء القليل، وسواء علينا أكان أنصار القديم يستمتعون بالجديد راضين أم كارهين فهم يستمتعون به، والأمر على هذا النحو في اللغة وما يشبه اللغة، فهم مضطرون، سواء أرادوا أم لم يريدوا، إلى أن يتحدثوا إلى الناس بلغتهم ليفهمهم الناس، وهم مضطرون إلى أن يسمعوا لغة الناس ليفهموهم، وما نحسبهم حين يبيعون أو يشترون أو يحاورون في عمل من الأعمال يصنعون أساليب رؤبة والعجاج وأشباه رؤبة والعجاج، إذن لضحك منهم البائع والشاري والمحاور، وإذن لما وقف أمرهم عند ضحك الناس منهم بل لتجاوزه إلى ضياع منافعهم وفساد أغراضهم عليهم، وأنا ضمين لك بعدولهم عن القديم والجديد حين تتعرض منافعهم للخطر وأغراضهم للفساد.

ولسنا في حاجةٍ إلى أن نتكلف في ضرب المثل لشيءٍ من ذلك، فقد قصصت عليك مرة أحدوثة «الخرسوس» التي كان يضيفها تلاميذ الأستاذ الشيخ المهدي رحمه الله إلى أستاذهم، ورأيت أن بائع الشراب لم يفهم «الخرسوس»، ولولا أن الأستاذ فسره له وذكر الخروب وعرق السوس لما شرب، ولاضطر إلى أن يحتمل آلام الظمأ حتى يجد ساقيًا خبيرًا بفن النحت وما إليه من ضروب التصريف.

نصر القديم إذن ضرب من التكلف، وربما كان نوعًا من البدع، يقصد إليه أصحابه تزينًا وتجملًا واختلابًا لألباب طائفة من الناس، فأما أولئك الذين ينصرون القديم عن إيمان واعتقاد، وينصرونه في العمل كما ينصرونه في القول فيحيون حياة القدماء ويسيرون سيرتهم؛ فإني أبحث عنهم دون أن أجد لهم أثرًا ظاهرًا …!

على أن هناك قومًا مخلصين في إشفاقهم من الجديد وبكائهم على القديم، ومصدر إخلاصهم أنهم لا يفهمون الجديد ولا القديم ولا الصلة بينهما، وإنما هي الألفاظ تخيفهم وتبعث في نفوسهم عواطف متناقضة، فيحنون إلى تلك وينفرون من هذه، وهؤلاء لا يناقشون، وإنما يبين لهم الأمر على وجهه، ولا نحسب إلا أنهم مطمئنون حين يعلمون أن أنصار الجديد لا يريدون أن تبدل الأرض غير الأرض أو أن يخلق العالم خلقًا جديدًا.

وليكن موضوع تفسيرنا للعلاقة بين القديم والجديد في هذا الفصل اللغة دون غيرها من موضوعات الخلاف، وأول شيء نحب أن نسائل عنه هو اللغة نفسها، لمن هي؟ ومن واضعها؟ ومن الذي ينتفع بها ويصرفها في أغراضه؟ فإن تكن اللغة ملكًا لقوم دون قوم ووقفًا على جماعة دون جماعة؛ فليس من شكٍّ في أن هؤلاء القوم وحدهم هم أصحاب الحق في أن يصرفوا هذه اللغة في أغراضهم ومذاهبهم، فأما غيرهم فليس له إلا أن يقلدهم في ذلك تقليدًا لا يتسع للخلاف ولا للتجديد، أترى إلى المصري حين يصطنع لغة من لغات العرب ليس له أن يزيد فيها ولا أن ينقص منها ولا أن يغير أشكالها وأساليبها، وإنما الحق عليه أن يذهب في ذلك كله مذهب أهلها، أفتظن أن حظ المصري من التصرف في اللغة العربية كحظه من التصرف في اللغة الفرنسية؟! ماذا نقول؟ يخيل إلينا أننا أخطأنا التشبيه، ونحن مضطرون إلى أن نخطئ لأننا لا نجد إلى التشبيه سبيلًا، فنحن نعلم أن كثيرًا من الكتاب والشعراء الأجانب اصطنعوا الفرنسية لغة لنثرهم وشعرهم فأتقنوها كما أتقنها أهلها المجيدون، واستباحوا لأنفسهم فيها حقوقًا ليست أقل من حقوق أهلها، فأضافوا إليها ألفاظًا اخترعوها وأساليب ابتدعوها، ولم ينكر الفرنسيون ذلك وإنما قبلوه وانتفعوا به واتخذوه لهم متاعًا شائعًا، أفتظن أن حق المصري في اللغة العربية أقل من حق أولئك الكتاب والشعراء في اللغة الفرنسية؟ نفهم أنه لا يُبَدَّل وحي السماء، ولكنا نعلم أن اللغة ليست من وحي السماء، وإنما هي ظاهرة من ظواهر الاجتماع الإنساني، لم يضعها فرد بعينه ولا جماعة بعينها، وإنما اشتركت في وضعها الأمة التي تتكلمها، دون أن تعلم متى وضعتها، ودون أن تستطيع أن تعين لكل فرد من أفرادها أو جماعة من جماعاتها حظًّا من ألفاظها وأساليبها، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من أن تلاحظ في اللغة: ألفاظها ومعانيها وأساليبها شيئين مختلفين، كلاهما يجعل تجدد اللغة أمرًا محتومًا؛ الأول: أن لنفسية الأمة وحاجاتها والظروف التي تحيط بها أثرًا قويًّا في تكوين اللغة، وأن اللغة ليست في حقيقة الأمر إلا أثرًا لهذه النفسية والحاجات والظروف، فإذا أردت ألا تتجدد اللغة ولا تتطور فابدأ بنفسية الأمم وحاجاتها وظروفها فَقِفْهَا عند حدٍّ معين لا تعدوه يتم لك ما تريد. الثاني: أن الأفراد يتكلمون اللغة ويصرفونها في أغراضهم وحاجاتهم، ومهما يكن سلطان الجماعة على الفرد ومهما يكن خضوع الفرد للجماعة وفناء شخصيته في مجموعها، فله حظ من الشخصية يمتاز به عن غيره من الناس، ولهذا الحظ من الشخصية الذي يختلف قوة وضعفًا باختلاف الأفراد وحظوظهم من الرقي العقلي أثره في اللغة، فليس لك أن تكلف الشاعر أو الكاتب المجيد أن يصف شعوره وعواطفه وحسه كما يصفها رجل من عامة الناس، وليس لك أن تكلف العالم أن يصف علمه بنفس اللغة التي يتكلمها عامة الناس، فإذا أردت أن تحول بين اللغة وبين التجدد فابدأ بشخصية الأفراد فَامْحُهَا محوًا تامًّا حتى يستوي الناس جميعًا في الحس والذوق والفهم والشعور، فإن تمت لك هذه المساواة وتم لك حرمان الجماعة من التطور فسيتم لك وقوف اللغة عند حدٍّ من الجمود لا سبيل إلى تجاوزه، ولكنك تعلم أن هذا غير ميسور، وأنك لن تستطيع أن تصل إلى بعضه إلا إذا استطعت أن تقف دورة الفلك واختلاف الليل والنهار، وإذن فسلم للغة بحقها في التطور كما سلمت بذلك للجماعات، وسلم للأفراد بحقهم في أن يصفوا الشيء كما يرونه ويعبروا عن الشعور كما يجدونه، وإذا سلمت لهم بذلك فأنت مكره على أن تؤمن بتجديد اللغة.

ستقول ولكني إن ذهبت معك إلى هذا الحد فقد حرمت اللغة كل ثبات واستقرار، وقضيت بأنها تجدد متصل، وقطعت الصلة بين أمسها ويومها وغدها، ولكنك مسرف في هذا الإشفاق، فكما أن الحياة تطور فالحياة اتصال، وليس بين أجزاء الحياة فراغ، وإنما هي انتقال من شيءٍ إلى شيء، ففيها حركة وفيها ثبات، ولولا ذلك لما كانت للأمم شخصيتها الاجتماعية، ولما كانت للأفراد شخصيتهم الفردية، وإذن ففي كل شيء من هذه الأشياء الاجتماعية عنصران مختلفان لا قوام لأحدهما بدون الآخر؛ أحدهما: عنصر الاستقرار، والآخر: عنصر التطور. وقوام الحياة الصالحة لأمةٍ من الأمم أو مظهر من مظهرها الاجتماعي إنما هو التوازن الصحيح بين هذين العنصرين، فإذا تغلب عنصر الاستقرار فالأمة منحطة، وإذا تغلب عنصر التطور فالأمة ثائرة والثورة عرض، والانحطاط عرض، كلاهما يزول ليقوم مقامه النظام المستقر على اعتدال هذين العنصرين.

في اللغة إذن قديم لا بد منه إذا أردنا أن تبقى اللغة، وفيها جديد لا بد منه إذا أردنا أن تحيا، وأنصار الجديد في اللغة والأدب لا يريدون إلا هذا النوع من الحياة، ليس من الجديد في شيء أن تفسد اشتقاق اللغة وتصريفها وأن تعدي الأفعال بالحروف التي لا تلائمها، وأن تقلب نظام المجاز وضروب التشبيه، كل ذلك ليس تجديدًا وليس إصلاحًا للغة ولا ترقية لها، وإنما هو مسخ وتشويه، ليس أنصار الجديد بأقل كرهًا له من أنصار القديم، وليس من القديم الصالح في شيء أن تتغير الحياة أمامك دون أن تشعر بهذا التغير أو تلائم بينه وبين اللغة، وليس من القديم الصالح في شيءٍ أن تكثر الأشياء المستحدثة التي تصطنعها في كل يوم بل في كل ساعة، فلا تستطيع أن تنطق باسمها إلا إذا وجدت لها اسمًا عربيًّا ورد في المعاجم اللغوية القديمة، ثم ليس من القديم الصالح في شيءٍ أن تشعر الشعور الذي لم يكن يشعره غيرك من القدماء، فلا تستطيع أن تصفه إلا على نحو ما كان يصفه القدماء، فيضطرك هذا إلى أن تمسخ شعورك وتفسده، وإلى ألا تكون لغتك مرآة لنفسك، وإلى أن يكون ما تكتب أو تنظم ضربًا من النفاق، ثم ليس من القديم الصالح في شيءٍ أن تأخذ نفسك بسلوك سبل القدماء في وصف الجمال، فلا تعرف من فنون الشعر والنثر إلا ما عرفوا، ولا تضيف إلى هذه الفنون شيئًا جديدًا.

ولقد أريد أن أعلم ما الذي يمنعني أن أضع قصة تمثيلية إذا وجدت السبيل إلى ذلك! وهل يحكم عليَّ أنصار القديم يومئذ بأني أدخلت في الأدب العربي فنًّا لا عهد للعرب الأولين به فأسأت إلى العرب وإلى لغتهم وآدابهم؟! ولست أدري ما الذي يمنعني أن أنظم قصيدة قصصية أو أسلك في الشعر الغنائي نفسه مسلكًا غير الذي سلكه العرب في عصورهم الأولى! وهل يحكم عليَّ أنصار القديم إذا فعلت بأني قد خالفت مناهج العرب وأضفت إلى أدبهم ما ليس به عهد فأسأت إلى اللغة وأهلها وعرَّضتها وعرَّضت الدين معها للخطر الذي ليس فوقه خطر! فأنت ترى أن الذين يضعون مسألة القديم والجديد موضع البحث يحصرون هذه المسألة في موضعٍ ضيق جدًّا، فهي لا تتناول الألفاظ وحدها وهي لا تتناول الألفاظ والأساليب والمعاني، وإنما تتناول مع هذه كلها فنون القول على اختلافها، علينا أن نحتفظ بقواعد اللغة ونظمها العامة فلا نفسدها ولا نشوهها، ولكن لنا أن نتخذ هذه اللغة أداة لوصف نفوسنا وما نجد، وإذن فلنا أن نخضع هذه اللغة لما نشعر ولما نجد، وأن نمنحها من المرونة ما يمكنها من أن تكون أداة صالحة لوصف ما نشعر وما نجد، وعلى هذا النحو وحده نستطيع أن ننصف أنفسنا وأن ننصف اللغة، ننصف أنفسنا فلا نحرمها التعبير عما تجد، ولا نضطرها إلى النفاق والكذب في هذا التعبير، وننصف اللغة فلا نضطرها إلى الانحطاط والجمود، ولا نضطرها إلى الاضطراب والاختلاط، ولست أدري كيف يستطيع أنصار القديم في اللغة أن يجدوا في مثل هذا النحو بدعًا من القول، أو أن يجدوا فيه وسيلة إلى أخذ أصحابه بتعمد الإساءة إلى اللغة والدين!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤