أربعة لا خمسة

قالت «لوزة»، وهي ترفع يدَيها إلى فوق: والآن أيها المُغامِرون الأربعة لقد انتهيتُ من حَزْم حقائبي كلها … وأنا على استعداد للذَّهاب معكم!

عاطف: من يَسمع كلمة حقائب يظنُّ أنكِ ستُسافرين إلى القمر!

لوزة: كُن صريحًا، وقُل إنك مُتضايقٌ لأنك لن تُسافر معي!

عاطف: بمُنتهى الصراحة أنا مبسوطٌ جدًّا!

لوزة: للتخلُّص مني؟

واحتضن «عاطف» أخته الصغيرة الشقيَّة وقال: أيتها المُغامرة الذكيَّة، إني مبسوطٌ لأني سأجد لُغزًا أحُلُّه وحدي، بدون مساعدتك!

لوزة: لن تكون هناك ألغاز وأنا مُسافرة … فإني لا أشُمُّ رائحةَ ألغازٍ قريبة.

عاطف: لا بد أنكِ مُصابة بزُكامٍ.

وضحِك بقيَّة المُغامرين الذين كانوا يقِفون يُتابعون الحِوار، بين المُهرِّج الصغير «عاطف» وشقيقته اللطيفة «لوزة»، التي تُقرِّر أن تُسافر إلى بيروت لقضاء أسبوعَين في ضيافة خالها.

قال «محب»: والآن هيَّا إلى منزلنا!

تختخ: لست أفهم لماذا أنت مُصرٌّ على الذَّهاب إلى منزلكم يا محب؟ لماذا لا نذهب إلى «الكازينو» مثلًا ونقضي أطولَ وقتٍ ممكن قبل سفر «لوزة» هذا المساء إلى «بيروت»؟

نوسة: إنني أيضًا مُصرَّة على أن نذهب إلى البيت!

وأمام إصرار «نوسة» و«محب» ركِب الجميع درَّاجاتهم، وانطلقوا في شوارع المعادي الهادئة … وخلفهم «زنجر» وهو يرجو أن تنتهيَ هذه الرحلة نهايةً سعيدة … وبالنسبة له كانت سعادته أن يجد قطعةَ لحمٍ شهيَّة … ومغامرةً إذا أمكن.

وقد تحقَّقت أمنيَّة «زنجر»؛ فعندما وصلوا إلى بيت «محب» و«نوسة» وجدوا في انتظارهم حفلةً ظريفة أعدَّتها «نوسة» وشقيقها احتفالًا بسفر «لوزة»، وقد وضعا في حسابهما «زنجر» طبعًا، فقدَّمت له «نوسة» قطعةَ لحمٍ ضخمة أُعدَّت خصوصًا له.

كانت مفاجأةً لطيفة … فأسرعت «لوزة» … تُقبِّل صديقتها العزيزة وتشكرها بحرارة على فِكرتها.

وجلس «تختخ» أمام قطعة «تورتة» كبيرة، وانهمك في الطعام حتى إنه لم يُلاحظ «عاطف» الذي كان يقف في طرف المائدة، يُشير إلى «تختخ» بطريقةٍ ساخرة، فحبس الأصدقاء أنفاسهم حتى لا يشعر «تختخ» بما يدور حوله.

ظلَّ «تختخ» يأكل حتى سمع صوت «عاطف» يصيح: قِف!

والتفت «تختخ» وفمه محشوٌّ بقطعةٍ كبيرة من «التورتة». ونظر إلى العيون التي ترمُقه مدهوشًا، وعاد «عاطف» يقول: لقد زاد وزنك ثلاثة كيلو في ربع الساعة الأخير … ولن تصلُح للمغامرات بعد الآن!

وانفجر الأصدقاء ضاحكين، وعاد «عاطف» يقول: لقد رأيتك وأنت تتخن تدريجيًّا، ومسكينةٌ هذه الثياب التي تحتويك … إنها ستتمزَّق!

وكفَّ «تختخ» عن المَضغ، وازدَرَد قطعة «التورتة» مرةً واحدة، وقال: أنت دائمًا تتدخل لإفساد شهيَّتي. ‌

عاطف: لا أظن أن هناك شيئًا في العالم يمكن أن يُفسِد شهیَّتك إلا إذا استطاع الشاويش «فرقع» مثلًا أن يعرف مكاننا الآن، ویدخل علينا … ولم يكَد «عاطف» ينتهي من جملته حتى حدَث ما لم يكن في الحُسبان، ودخل الشاويش «فرقع» الغرفة وخلفه الشَّغالة تُحاول منعه.

وقف «عاطف» مذهولًا، واتَّجهت أنظار بقيَّة الأصدقاء بينه وبين الشاويش، كأنهم يتَّهمونهما بتدبير هذا اللقاء … ولكن الشاويش لم يلتفت إلى ما في العيون من نظرات، واتَّجه إلى «لوزة» وقال: علِمت أنكِ مسافرةٌ اليوم.

قالت «لوزة» مُضطربةً: نعم يا حضرة الشاويش، سأُسافر في طائرة السادسة مساءً إلى «بيروت»، هل هناك ما يمنع؟

الشاويش: أبدًا … أبدًا …

محب: إذن ماذا حدَث یا حضرة الشاويش حتى تقتحم الغُرفة بهذا الشكل؟

بدا الحرج على وجه الشاويش وقال: آسف جدًّا … إنني في الحقيقة …

تختخ: وكيف عرفت أنها مسافرة يا حضرة الشاويش؟

الشاويش: قابلت شغَّالتهم منذ ربع ساعة في السوق، وقالت لي إن «لوزة» مسافرة …

عاطف: فحضرت لتوديعها.

ازداد حرج الشاویش وقال: تقريبًا …

نوسة: لقد نسيت واجب الضيافة … تفضَّلْ یا حضرة الشاويش وخذ قطعة من «الجاتوه» وكوبًا من الشاي.

الشاويش: شكرًا لكِ … ولكن …

نوسة: لا يمكن أن تخرج قبل أن تتناول شيئًا.

وجلس الشاويش وقد هدأت أعصابه، وبعد أن الْتَهم قطعتَين من «الجاتوه»، وشرِب أول رَشْفة من الشاي، قال: لقد جئتُ في الحقيقة لأني أُريد شراءَ شيءٍ صغير جدًّا من «بيروت»، وقد تصوَّرت أن «لوزة» لا تُمانع …

قالت «لوزة»: طبعًا يا حضرة الشاويش، أي شيء تريده سأُحضِره لك إلا شيئًا واحدًا.

وبدا الشاويش جادًّا يقول: إلا ماذا؟

قالت «لوزة» ضاحكةً: إلا إذا طلبت منِّي القبض على عصابة تهريب مثلًا؛ فإني لا أستطيع القبض عليها وحدي.

قال «عاطف»: أو ربما يريد شراء آثار «بعلبك»؛ فهي غالية قليلًا.

قال الشاويش: أبدًا … أبدًا … إنه شيءٌ بسيط جدًّا يُساوي عشرة قروش.

وابتسم الأصدقاء جميعًا، والتفُّوا حول الشاويش يُلاطِفونه بعد أن عرَّف «لوزة» بالشيء الذي يريده … وكادت الجلسة تنتهي نهايةً سعيدة لولا أن «زنجر» كان قد انتهى من قطعة اللحم، فأقبل مُسرِعًا وباشَر هوايته المفضَّلة في مداعبة قدمَي الشاويش الذي هبَّ صارخًا لاعنًا … وكما دخل كالعاصفة أسرع يُغادر الغُرفة برغم محاولة الأصدقاء استبقاءه.

انتهى الحفل اللطيف، وخرج الأصدقاء إلى الحديقة، وأخذوا يتحدَّثون، وقام «تختخ» بالاتصال بمنزله تليفونيًّا، ورجا والدته استضافة الأصدقاء جميعًا على الغداء، فوافقت مرحِّبةً.

وعندما حان مَوعد الغداء انتقلوا جميعًا إلى منزل «تختخ» حيث قاموا بتناول وجبة شهيَّة … وفي الرابعة كانوا جميعًا يستقلُّون سيارة والد «نوسة» متَّجِهين إلى المطار … وفي الطريق قال «تختخ» مُداعبًا «لوزة»: هل أنتِ خائفة من ركوب الطائرة؟

لوزة: أخاف؟ على العكس … إنني متحمِّسة جدًّا!

تختخ: إنك وحدَك.

لوزة: إن هذا يجعل مغامرة الركوب أكبر.

عاطف: إن أُسرة خالك ستكون في انتظارك بمطار «بيروت».

لوزة: لا تخَفْ علىَّ … إن في استطاعتي السفر إلى «أستراليا» وحدي.

ووصلت السيَّارة بهم إلى المطار، وظلُّوا هناك حتى ارتفعت الطائرة في الجو وعادوا جميعًا.

وعندما وصلوا المعادي كان الظلام قد بدأ يهبط … وخفَّت حِدَّة الحرارة، وقال «تختخ» لوالد «عاطف»: إن «لوزة» سافرت، وسيبقى «عاطف» وحده، هل عندك مانع يا عمِّي أن يقضيَ معي بضعة أيام؟

قال والد «عاطف» ضاحكًا: لا مانع يا ولدي مُطلَقًا.

وهكذا انطلق الأصدقاء الأربعة إلى منزل «تختخ» وقضَوا ساعتَين يلعبون ويتحدَّثون، وفجأةً سمِعوا صفَّارات سيَّارات الشُّرطة تدوِّي في الشارع، ثم توقَّفت غيرَ بعيد عن منزل «تختخ»، فقال «محب»: ماذا حدَث؟

تختخ: لا أدري … ولكن يبدو أن السيَّارات وقفت قريبًا من منزلنا.

عاطف: تعالَوا نرى ماذا يحدُث …

وأسرع الأربعة بالخروج … كانت السيارات تُحيط ﺑ «فيلَّا» قريبة … وكان ثَمَّة شخصٌ يُصدِر أوامره، لم يكَد الأصدقاء يسمعون صوته حتى عرفوا أنه المفتِّش «سامي».

قالت «نوسة»: شيءٌ مُثير … المفتِّش «سامي» هُنا!

تختخ: لو كانت «لوزة» هنا لقالت إنه لُغز.

نوسة: نعم … لقد أوحشَتنا برغم أنه لم تمضِ ساعات على سفرها.

وتقدَّم الأربعة من المفتِّش الذي حيَّاهم، وقد بدا عليه أنه مُتعَب ومُرهَق، فسأله «تختخ»: ماذا هناك؟

ردَّ المفتِّش بعصبية: هناك … هناك خطأٌ وقعنا فيه.

تختخ: لا أفهم.

المفتش: لقد وصَلنا بعد فوات الأوان.

تختخ: هل هناك جريمة؟

المفتش: نعم … جريمةٌ راحَ ضحيَّتَها رجلٌ كنَّا نُراقبه منذ فترة طويلة … كنَّا نشكُّ فيه، وهو أجنبي يُجيد اللغة العربية، ويحمل جواز سفر عربيًّا مزيَّفًا … وهذه حقائق کنَّا نعرفها.

تختخ: ولماذا لم تقبضوا عليه؟

المفتش: لم نكُن نريد القبض عليه … كان يهمُّنا أن نُراقبه فقط، وقد تركناه يدخل البلاد، ويُمارس نشاطه ونحن نُراقبه، فلم يكُن هو المهم، ولكن شبكة التجسُّس التي كان عُضوًا فيها … كنَّا نريد أن نصل عن طريقه إلى هذه الشبكة … ولكنهم استطاعوا معرفة الحقيقة، فقضَوا عليه قبل أن نستفيد منه كما كنَّا نرجو.

محب: أليس هناك طريقةٌ أخرى للوصول إلى بقيَّة الشبكة؟

المفتش: لا … كان هو دليلنا الوحيد … كان هو الخيط الذي نأمُل أن يصِلنا بالشبكة … والآن انقطع الخيط.

عاطف: لعلَّهم تركوا أدلَّة في مكان الحادث تدلُّ عليهم.

المفتش: نرجو ذلك … وإن كنت لا أتوقَّع.

تختخ: هل نستطيع دخول «الفيلَّا»؟

المفتش: ليس الآن … فهناك الخُبراء يقومون بعملهم … وهناك بعض رجال الأجهزة المسئولة!

نوسة: ألا نستطيع أن نحصُل على معلوماتٍ يمكن أن نُساعدكم بها على حل لُغز هذه الجريمة؟

هزَّ المفتش رأسه قائلًا: آسف جدًّا … هذه المرَّةَ لا دور لكم؛ فقضايا التجسُّس تحتاج إلى كِتمانٍ شديد في كل ما يتَّصل بها … ولا أستطيع أن أزيد كلمةً واحدة، بل إني أرجوكم أن تنسَوا ما قلتُه لكم عن الرجل وعن الشبكة … وإنني أثق فيكم.

وابتعد المفتش، ووقف الأصدقاء الأربعة بعيدًا يرقُبون ما يحدُث … وكان الشاويش «فرقع» قد وصل، وأخذ ينظر لهم من بعيد في سخرية … فقد كان يعرف أنهم لن يستطيعوا هذه المرة التدخُّل … فالمسألة كما يقول في نفسه «ليست لعب عيال».

قال «محب»: إني أتذكَّر «لوزة».

تختخ: وأنا أيضًا.

عاطف: لو كانت موجودةً لما تركت هذا اللغز يَفلت من أصابعها.

نوسة: كانت ستَقلب الأرض بحثًا عن دليل.

تختخ: وهل تظنُّون أننا سنسكت؟! هل يَقبَل المغامرون الخمسة أن تقع جريمة بجِوارهم ولا يكون لهم دور في حلِّها؟

نوسة: ولكننا لم نعُد خمسة … إننا أربعة.

تختخ: لن ننسى «لوزة» برغم سفرها … ولن نترك هذه المسألة تمرُّ بدون أن نشترك فيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤