الفصل الأول

عيون الخطب العربية

(١) نبذة في تاريخ الخطابة العربية

ليس يؤثر عن العرب في الجاهلية سوى خطب الكهان. ولا شك أن الخطابة كانت فنًّا معروفًا في ذلك الوقت يمارسها الرؤساء وذوو الرأي في القبائل للاستنفار والمناشدة. ولكن آداب الجاهلية من شِعر وخطابة عفى آثارها الإسلام لما كانت تحويه من إشارات وثنية ونخوة جاهلية، والإسلام يكره الاثنتين لتعصبه للتوحيد ولرغبته في المساواة بين المسلمين. ثم كان الإسلام فخطب النبي كما خطب الخلفاء الراشدون، وصارت «خطبة الجمعة» سُنَّة وركنًا من أركان الدين. وكانت الخطب في هذا الدور دينية محضة إلا ما كان ينطق به القواد أمثال خالد بن الوليد في ميادين القتال للحض على منازلة الأعداء.

ثم جاءت الدولة الأموية فظهرت الخطب السياسية وصار للخطابة شأن وفن يمارس. ولعل القارئ يدرك خطر الخطابة في ذلك الوقت من اهتمام جميع المؤرخين بما فعله الوليد بن عبد الملك إذ كان يخطب وهو قاعد.

أما في الدولة العباسية — وهي في اعتقادنا سبب انحطاط شأن العرب لنزوع الخلفاء نزعة دينية محضة — فإن الخطابة فقدت في عصرها صفة الارتجال وملاءَمة الخطبة للظرف المحيط بالخطيب. وصارت الخطب تُنسخ نسخًا وتحفظ حفظًا، فيفيض سجعها غثاثة ويشبه أولها آخرها في قلة المعنى واتساق النباهة.

ثم اجتاح المغول الدول العربية ومحوها من الوجود إلا صورة أبقوها في الخلافة العباسية، وما كان أغناهم عن ذلك لأن الخلفاء العباسيين كانوا أنفسهم من حيث الدم مغولًا في ذلك الوقت.

وحُكم المغول من كرد وترك وأفغان وسائر الآسيويين الذين تسلطوا على البلاد العربية لم يتقلص ظله في الواقع إلا منذ نحو مائة سنة حين نهض العرب في مصر وسوريا. وكانت مصر هي البادئة المتبوعة فظهر فيها خطباء، وكان أول ظهورهم في الثورة العرابية.

رأي أديب عربي في الخطابة

كان إبراهيم بن جبلة يعلِّم فتيان العرب الخطابة فمرَّ به بشر بن المعتمد فوقف يستمع، فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد. فقال بشر: «اضربوا عما قال صفحًا، واطووا عنه كشحًا!» ثم دفع إليهم صحيفة من تنميقه وتحبيره يصح أن نعتبر ما جاء فيها أساسًا لما جرى عليه بعض العرب في تأليف الخُطب.

قال بشر في هذه الصحيفة: «خذ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك، فإن نفسك تلك الساعة أكرم جوهرًا وأشرف حسبًا وأحسن في الاستماع وأحلى في الصدور وأسلم من فاحش الخطأ. وأجلب لكل عين من لفظ شريف ومعنًى بديع، واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمطاولة، والمجاهدة بالتكليف والمعاودة، ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولًا قصدًا، وخفيفًا على اللسان سهلًا، كما خرج من ينبوعه ونَجَمَ من معدنه. وإياك والتوعر فإن التوعر يُسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويشين ألفاظك. ومن أذاع معنًى كريمًا فليلتمس له لفظًا كريمًا؛ فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن يصونهما عما يفسدهما ويهجنهما وعما تعود من أجله إلى أن تكون أسوأ حالًا منك قبل أن تلتمس إظهارهما وترهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما. فكن في ثلاثة منازل:

فأول ذلك أن يكون لفظك رشيقًا عذبًا أو فخمًا سهلًا، ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا وقريبًا معروفًا. إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت وإما عند العامة إن كنت للعامة أردت. والمعنى ليس يتضح أن يكون من معاني العامة، وإنما مدار الأمر على الشرف مع الصواب وإحراز المنفعة مع موافقة الحال وما يجب لكل مقام من المقال. وكذلك اللفظ العامي والخاصي. فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك وبلاغة لفظك ولطف مداخلك وقدرك في نفسك على أن تُفهم العامة معاني الخاصة وتكسوها الألفاظ المتوسطة التي لا تلطف على الدهماء ولا تجفو عن الأكفاء فأنت البليغ التام.»

وقد عاش بشر في أيام الرشيد وكانت وفاته في سنة ١٨٣هـ (٨٠٠م) وكان معتزلي المذهب وانفرد بمسائل فصار رئيس طائفة يقال لها البشرية.

(٢) خطبة لقس بن ساعدة

كان قس خطيبًا في جاهلية العرب وأدركه النبي فقال فيه: «يرحم الله قسًّا إني لأرجو يوم القيامة أن يبعث أمة وحده.» وينسب إليه أنه أول من قال: «أما بعد.» خطب في سوق عكاظ فقال:

أيها الناس اسمعوا وعوا، من عاش مات ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت. ليل داج ونهار ساج وسماء ذات أبراج. ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة، وأنهار مجراه. إن في السماء لخبرًا. وإن في الأرض لعبرًا. ما بال الناس يذهبون ولا يرجعون؟! أرضوا فأقاموا أم تُركوا فناموا؟ يقسم قس بالله قسمًا لا إثم فيه، إن لله دينًا هو أرضى لكم وأفضل من دينكم الذي أنتم عليه. إنكم لتأتون من الأمر منكرًا.

في الذاهبين الأوليـن
من القرون لنـا بصائـر
لمـا رأيت مواردًا
للموت ليـس لها مصادر
ورأيت قومي نحوهـا
تمضي الأكابر والأصاغر
لا يرجـع الماضي إليَّ
ولا مـن الباقـيـن غابر
أيقنت أني لا محـا
لة حيث صـار القوم صائر

(٣) خطبة للنبي

قال الإسكندري: «كان رسول الله ليس بالطويل ولا بالقصير، ضخم الرأس كث اللحية، عظيم الكفين والقدمين ومفاصل العظام. أبيض مشربًا بحمرة، أدعج العينين سبط الشعر، سهل الخدين أقنى الأنف أشمه. في مقدم لحيته ومفرق رأسه شعرات بيض. وكان أرجح الناس عقلًا وأفضلهم رأيًا، قليل المزاح واللغو، مطيل الصمت دائم البِشر منتقدًا لأصحابه متواضعًا. يخصف نعله ويرقع ثوبه. وخرج من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير زهدًا فيها.» قال في خطبة:

أيها الناس إن لكم معالم فانتهُوا إلى معالمكم. وإن لكم نهاية فانتهُوا إلى نهايتكم. إن المؤمن بين مخافتين: بين عاجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه. وبين آجل قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه. فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الموت. فوالذي نفس محمد بيده ما بعد الموت من مستعتب.

(٤) خطبة لأبي بكر

كان أبو بكر أول الخلفاء الراشدين وقد ولي الخلافة من سنة ٦٣٢ إلى ٦٣٤م وعندما بويع بالخلافة فاه بالخطبة التالية:

أيها الناس إني قد ولِّيت عليكم ولست بخيركم. والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له، والقوي منكم الضعيف عندي حتى آخذ الحق منه. لا يدع أحد منكم الجهاد في سبيل الله؛ فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل. ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمَّهم الله بالبلاء. وإنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فتابعوني وإن زغت فقوموني. وإنكم تردون وتروحون في أجل قد غيِّب عنكم علمه. فإن استطعتم ألا يمضي هذا الأجل إلا وأنتم في عمل صالح فافعلوا. وإن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أُريد به وجهه. فأريدوه بأعمالكم. وإن ما أخلصتم لله من أعمالكم فطاعة أتيتموها … وضرائب أديتموها وسلف قدمتموه من أيام فانية لأخرى باقية لحين فقركم وحاجتكم. اعتبروا عباد الله بمن مات منكم وتفكروا في من كان قبلكم أين كانوا أمس وأين هم اليوم. أين الجبارون؟ أين الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحروب؟ قد تضعضع بهم الدهر وصاروا رميمًا. قد تركت عليهم القالات الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات. وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها؟ قد بعدوا وأنسي ذكرهم وصاروا كلا شيء.

ألا وقد أبقى الله عليهم التبعات وقطع عنهم الشهوات. ومضوا والأعمال أعمالهم والدنيا دنيا غيرهم. وبقينا خلفًا بعدهم، فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا وإن اغتررنا كنا مثلهم. أين الوضاء الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم؟ صاروا ترابًا وصار ما فرطوا فيه حسرة عليهم. أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط وجعلوا فيها الأعاجيب؟ قد تركوها لمن خلفهم، فتلك مساكنهم خاوية وهم في ظلمات القبور. هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا؟ أين من تعرفون من أبنائكم وإخوانكم؟ قد انتهت بهم آجالهم، فوردوا على ما قدموا فحلوا عليه وأقاموا للشقوة والسعادة بعد الموت. ألا إن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيرًا ولا يصرف به عنه سوءًا إلا بطاعته واتباع أمره. واعلموا أنكم عبيد مدينون وأن ما عنده لا يدرك إلا بطاعته …

(٥) خطبة لعمر بن الخطاب

لما ولي عمر الخلافة (من ٦٣٤ إلى ٦٤٤م) بعد أبي بكر صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

يا أيها الناس إني داعٍ فأمِّنوا: اللهم إني غليظ فلِّيني لأهل طاعتك بموافقة الحق ابتغاء وجهك والدار الآخرة، وارزقني الغلظة والشدة على أعدائك وأهل الدعارة والنفاق من غير ظلم مني لهم ولا اعتداء عليهم. اللهم إني شحيح فسخِّني في نوائب المعروف قصدًا من غير سرف ولا تبذير ولا رياء ولا سمعة، واجعلني أبتغي بذلك وجهك والدار الآخرة. اللهم ارزقني خفض الجناح ولين الجانب للمؤمنين. اللهم إني كثير الغفلة والنسيان فألهمني ذكرك على كل حال وذكر الموت في كل حين. اللهم إني ضعيف عند العمل لطاعتك فارزقني النشاط فيها والقوة عليها بالنية الحسنة التي لا تكون إلا بعزتك وتوفيقك. اللهم ثبتني باليقين والبر والتقوى وذكر المقام بين يديك والحياء منك، وارزقني الخشوع في ما يرضيك عني والمحاسبة لنفسي وإصلاح الساعات والحذر من الشبهات. اللهم ارزقني التفكر والتدبر لما يتلوه لساني من كتابك والفهم له والمعرفة بمعانيه والنظر في عجائبه والعمل بذلك ما بقيت. إنك على كل شيء قدير.

(٦) خطبة لعلي بن أبي طالب

تولَّى عليٌّ الخلافة بين سنة ٦٥٧ وسنة ٦٦١م بعد عثمان. وقد نُسبت إليه عدة خطب ورسائل هي من آيات البلاغة الخالدة. وفيما يلي إحدى خطبه. حمد الله وأثنى عليه ثم قال:

أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله ولزوم طاعته وتقديم العمل وترك الأمل. فإنه من فرط في عمله لم ينتفع بشيء من أمله. أين التعب بالليل والنهار المقتحم للجج البحار، ومفاوز القفار، يسير من وراء الجبال وعالج الرمال، يصل الغدو بالرواح والمساء بالصباح في طلب محقرات الأرباح، هجمت عليه منيته، فعظمت بنفسه رزيته؛ فصار ما جمع بورًا، وما اكتسب غرورًا، ووافى القيامة محسورًا؟ أيها اللاهي الغار بنفسه، كأني بك وقد أتاك رسول ربك لا يقرع لك بابًا ولا يهاب لك حجابًا، ولا يقبل منك بديلًا ولا يأخذ منك كفيلًا، ولا يرحم لك صغيرًا ولا يوقِّر فيك كبيرًا حتى يؤديك إلى قعر مظلمة أرجاؤها موحشة، كفعله بالأمم الخالية والقرون الماضية. أين من سعى واجتهد وجمع وعدَّد، وبنى وشيَّد وزخرف ونجَّد، وبالقليل لم يقنع وبالكثير لم يمتَّع؟ أين من قاد الجنود ونشر البنود؟ أضحوا رفاتًا تحت الثرى أمواتًا. وأنتم بكأسهم شاربون، ولسبيلهم سالكون! عباد الله فاتقوا الله وراقبوه واعملوا لليوم الذي تسير فيه الجبال، وتنشقُّ السماء بالغمام، وتتطاير الكتب عن الأيمان والشمائل.

خطبة أخرى لعلي بن أبي طالب

لما أغار سفيان بن عوف الأسدي بجيش من جيوش معاوية على الأنبار وقتل عامل عليٍّ عليها حسانَ البكريَّ خرج عليٌّ حتى جلس على باب السدة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

أما بعد، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه ألبسه الله ثوب الذل وأشمله البلاء وألزمه الصغار وسامه الخسف، ومنعه النَّصَف. ألا وإني دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلًا ونهارًا وسرًّا وإعلانًا، وقلت لكم: اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غُزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا. فتواكلتم وتخاذلتم وثقل عليكم قولي، فاتخذتموه وراءكم ظهريًّا حتى شُنَّت عليكم الغارات. هذا أخو عامد قد بلغت خيله الأنبار وقتل حسان البكري. وأزال خيلكم عن مسارحها وقتل منكم رجالًا صالحين. ثم انصرفوا وافرين ما كلِم رجل منهم. فلو أن رجلا مسلمًا مات من بعد هذا أسفًا ما كان عندي ملومًا بل كان به عندي جديرًا. فوا عجبًا من جِدِّ هؤلاء في باطلهم وفشلكم عن حقكم. فقبحًا لكم وترحًا حين صرتم غرضًا يرمى، يغار عليكم ولا تغيرون، وتغزون ولا تغزون، ويُعصى الله وترضون! فإذا أُمرتم بالمسير إليهم في أيام الحر قلتم: «حمارَّة القيظ! أمهلنا حتى يسبخ عنا الحر.» وإذا أُمرتم بالمسير إليهم ضحًى في الشتاء قلتم: «أمهلنا حتى ينسلخ عنا هذا القر.» فأنتم والله من السيف أفر. يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا أحلام أطفال وعقول ربات الحجال. وددت أن الله أخرجني من بين أظهركم وقبضني إلى رحمته من بينكم وأني لم أركم ولم أعرفكم معرفة. ولله حرت وهنًا، ووريتم والله صدري غيظًا. وجرعتموني الموت أنفاسًا، وأفسدتم عليَّ رأيي بالعصيان والخذلان حتى قالت قريش إن ابن أبي طالب شجاع ولكن لا علم له بالحرب. لله أبوهم! وهل منهم أحد أشد لها مراسًا وأطول تجربة مني؟! لقد مارستها وأنا ابن عشرين، فها أنا ذا قد نيفت على الستين ولكن لا رأي لمن لا يطاع.

خطبة أخرى لعلي بن أبي طالب

الحمد لله الذي استخلص الحمد لنفسه واستوجبه على جميع خلقه، الذي ناصية كل شيء بيده ومصير كل شيء إليه، والقوي في سلطانه اللطيف في جبروته. لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع. خالق الخلائق بقدرته ومُسخِّرهم بمشيئته. وفي العهد صادق الوعد، شديد العقاب جزيل الثواب. أحمده وأستعينه على ما أنعم به مما لا يعرف كنهه غيره. وأتوكل عليه توكُّل المستسلم لقدرته، المتبري من الحول والقوة إليه. وأشهد شهادةً لا يشوبها شك أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له إلهًا واحدًا صمدًا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، ولم يكن له شريك في الملك وهو على كل شيء قدير. قطع ادعاء المدعي بقوله — عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ. وأشهد أن محمدًا صفوته من خلقه وأمينه على وحيه، أرسله بالمعروف آمرًا وعن المنكر ناهيًا وإلى الحق داعيًا، على حين فترة من الرسل، وضلالة من الناس واختلاف من الأمور، وتنازع من الألسن، حتى تمَّم به الوحي وأنذر به أهل الأرض. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإنها العصمة من كل ضلال والسبيل إلى كل نجاة. فكأنكم بالجثث قد زايلتها أرواحها وتضمَّنتها أجداثها. فلن يستقبل معمِّر منكم يومًا من عمره إلا بانتقاص آخر من أَجَله. وإنما دنياكم كفيء الظل أو زاد الراكب. وأحذركم دعاء العزيز الجبار عبده، يوم تعفى آثاره ويوحش منه دياره ويؤتم صغاره، ثم يصير إلى حفير من الأرض متعفرًا على خده، غير موسد ولا ممهد. أسأل الذي وعدنا على طاعته جنته أن يقينا سخطه ويجنبنا نقمته ويهب لنا رحمته. إن أبلغ الحديث كتاب الله.

خطبة أخرى لعلي بن أبي طالب

استفزَّ عليُّ أهلَ الكوفة لحرب الجمل فأقبلوا إليه مع ابنه الحسن فقام فيهم خطيبًا، فقال:

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وآخر المرسلين.

أما بعد، فإن الله بعث محمدًا عليه الصلاة والسلام إلى الثقلين كافة والناس في اختلاف والعرب بِشَرِّ المنازل … فرأب الله به الثأي ولأم به الصدع، ورتق به الفتق، وأمَّن به السبل، وحقن به الدماء، وقطع به العداوة الواغرة في القلوب، والضغائن المخشنة للصدور. ثم قبضه الله عز وجل مشكورًا سعيه، مرضيًا عمله، مغفورًا ذنبه، كريمًا عند ربه نزلُه. فيا لها مصيبة عمَّتِ المسلمين، وخصَّت الأقربين! وولي أبو بكر فسار بسيرة رضيها المسلمون. ثم ولي عمر فسار بسيرة أبي بكر رضي الله عنهما. ثم ولي عثمان فنال منكم ونلتم منه حتى إذا ما كان من أمره ما كان أتيتموه فقتلتموه. ثم أتيتموني فقلتم لي: بايعنا. فقلت لكم: لا أفعل. وقبضت يدي فبسطتموها. ونازعتم كفي فجذبتموها، وقلتم: لا نرضى إلا بك، ولا نجتمع إلا عليك. وتداككتم عليَّ تداكَّ الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها، حتى ظننت أنكم قاتليَّ وأن بعضكم قاتل بعض. فبايعتموني وبايعني طلحة والزبير، ثم ما لبثا أن استأذناني للعمرة فسارا إلى البصرة فقتلا بها المسلمين، وفعلا الأفاعيل. وهما يعلمان والله أني لست بدون واحد ممن مضى. ولو أشاء أن أقول لقلت: اللهم إنهما قطعا قرابتي، ونكثا بيعتي وألَّبا عليَّ عدوي. اللهم فلا تُحكم لهما ما أبرما، وأَرِهما المساءة عملًا وأملًا.

(٧) خطبة لمعاوية بن أبي سفيان

كان معاوية أول خلفاء الدولة الأموية وقد توفي سنة ٦٠هـ، الموافقة لسنة ٦٨٠م. وكان «مُربِّي دول وسائس أمم وراعي ممالك» ويحكى أنه لما حضرته الوفاة جمع أهله فقال: ألستم أهلي؟ قالوا: بلى فداك أنت بنا! قال: فهذه نفسي قد خرجت من قدمي فردوها عليَّ إن استطعتم. فبكوا وقالوا: ما لنا إلى هذا سبيل. فرفع صوته بالبكاء ثم قال: فلا تغركم الدنيا بعدي.

قال القحذمي: لما قدم معاوية المدينة عام الجماعة تلقاه رجال قريش، فقالوا: الحمد لله الذي أعز نصرك وأعلى كعبك. قال: فوالله ما رد عليهم شيئًا حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

فإني والله ما وُلِّيتها بمحبة علمتها منكم ولا مسرة بولايتي ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة. ولقد رضت لكم نفسي على عمل ابن أبي قحافة وأردتها على عمل عمر فنفرت من ذلك نفارًا شديدًا. وأردتها على ثنيات عثمان فأبت عليَّ. فسلكت بها طريقًا لي ولكم فيه منفعة: مؤاكلة حسنة ومشاربة جميلة. فإن لم تجدوني خيركم فإني خير لكم ولاية. والله لا أحمل السيف على من لا سيف له، وإن لم يكن منكم إلا ما يُستشفى به القائل بلسانه فقد جعلت ذلك له دبر أذني وتحت قدمي. وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فاقبلوا مني بعضه فإن أتاكم مني خير فاقبلوه، فإن السيل إذا جاء ينزي، وإن قل أغنى. وإياكم والفتنة فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة.

خطبة أخرى لمعاوية

صعد منبر المدينة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

يا أهل المدينة، إني لست أحب أن تكونوا خَلقًا كخلق العراق يعيبون الشيء وهم فيه، كل امرئ منهم شيعة نفسه. فاقبلونا بما فينا فإن ما وراءنا شر لكم، وإن معروف زماننا هذا منكر زمان قد مضى، ومنكر زماننا معروف زمان لم يأتِ، ولو قد أتى فالرتق خير من الفتق. وفي كلٍّ بلاغ. ولا مقام على الرزية.

خطبة أخرى لمعاوية

لما مرض معاوية مرض وفاته قال لمولًى له: مَن بالباب؟ قال: نفر من قريش يتباشرون بموتك. قال: ويحك لِمَ؟ فوالله ما لهم بعدي إلا الذي يسوءهم. وأذن للناس فدخلوا. فحمد الله وأثنى عليه وأوجز، ثم قال:

أيها الناس. إنا قد أصبحنا في دهر عتود وزمن شديد، يعد فيه المحسن مسيئًا ويزداد الظالم فيه عتوًّا، لا ننتفع بما علمنا، ولا نسأل عما جهلنا ولا نتخوف قارعة حتى تحل بنا. فالناس على أربعة أصناف؛ منهم من لا يمنعه من الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه، وكلال حدِّه ونضيض وفره. ومنهم المصلت لسيفه المجلب برجله المعلن بسره، وقد أشرط نفسه وأوبق دينه، لحطام ينتهزه أو مقت يقوده … ولبئس المتَّجر أن تراهما لنفسك ثمنًا وبما لك عند الله عوضًا. ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامن من شخصه وقارب من خطوه، وشمَّر عن ثوبه وزخرف نفسه للأمانة، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية. ومنهم من أقعده عن طلب الملك ضئولة نفسه وانقطاع سببه، فقصرت به الحال عن حاله، فتحلى باسم القناعة وتزيا بلباس الزهادة. وليس ذلك في مراح ولا مغدًى. وبقي رجال أغض أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المضجع. فهم بين شريد بادٍ وبين خائف منقمع وساكت مكعوم، وداعٍ مخلص وموجع ثكلان قد أخملتهم التقية، وشملتهم الذلة. فهم في بحر أجاج أفواههم ضامرة وقلوبهم قرحة. قد وُعظوا حتى ملوا، وقُهروا حتى ذلوا، وقُتلوا حتى قلُّوا. فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ وقرادة الحلم. واتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يَتَّعظ بكم مَن بعدكم. وارفضوها ذميمة فقد رفضت من كان أشفق بها منكم.

(٨) خطبة لزياد بن أبيه

كان زياد داهية من دهاة العرب ولم يكن يُعرف له أب فاستلحقه معاوية بن أبي سفيان بأسرته وادَّعى أنه أخوه وولَّاه الولايات، فأخلص له الخدمة وفتك بشيعة عليٍّ وجعل يتعقبهم في أنحاء ولايته. وقد مات سنة ٥٣هـ (٦٧٤م). قيل إن معاوية ولاه البصرة وخراسان وسجستان، والفسق بالبصرة ظاهر فاش. فخطب خطبة بتراء لم يَحمَد الله فيها، قال فيها:

أما بعد، فإن الجهالة الجهلاء والضلالة العمياء والعمى الموفي بأهله على النار ما فيه سفهاؤكم وتشتمل عليه حلماؤكم من الأمور العظام، ينبت فيها الصغير ولا يتحاشى عنها الكبير. كأنكم لم تقرءوا كتاب الله، ولم تسمعوا لما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته، والعذاب العظيم لأهل معصيته في الزمن السرمدي الذي لا يزول! أتكونون كمن طرفت عينه الدنيا، وسدَّت مسامعه الشهوات، واختار الفانية على الباقية، ولا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث الذي لم تسبقوا إليه من ترككم هذه المواخير المنصوبة، والصفقة المسلوبة في النهار المبصر، والعدد غير قليل؟ ألم يكن منكم نهاة تمنع الغواة عن دلج الليل وغارة النهار … كل امرئ منكم يذب عن سفيهه؛ صنيع من لا يخاف عاقبة ولا يرجو معادًا؟ ما أنتم بالحلماء ولقد اتبعتم السفهاء، فلم يزل بكم من قيامكم دونهم حتى انتهكوا حرم الإسلام …

حرام عليَّ الطعام والشراب حتى أسويها بالأرض هدمًا وإحراقًا. إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله: لين في غير ضعف وشدة في غير عنف. وإني أقسم بالله لآخذن الولي بالمولى والمقيم بالظاعن والمقبل بالمدبر والصحيح بالسقيم حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انجُ سعيد فقد هلك سعد! أو تستقيم لي قناتكم. إن كذبة الأمير تلفى مشهورة. فإذا تعلقتم عليَّ بكذبة فقد حلت لكم معصيتي.

من نقَّب منكم عليه فأنا ضامن لما ذهب له. فإياي ودلج الليل فإني لا أوتي بمدلج إلا سفكت دمه. وقد أجلتكم في ذلك بقدر ما يأتي الخبر الكوفة ويرجع إليكم. وإياي ودعوى الجاهلية! فإني لا أجد أحدًا دعا بها إلا قطعت لسانه. وقد أحدثتم أحداثًا لم تكن، وقد أحدثنا لكل ذنب عقوبة؛ فمن أغرق قومًا أغرقناه، ومن أحرق قومًا أحرقناه، ومن نَقَب بيتًا نَقَبنا عن قلبه، ومن نبش قبرًا دفناه فيه حيًّا. فكفوا عني ألسنتكم وأيديكم أكف عنكم يدي ولساني. ولا يظهرن من أحد منكم ريبة بخلاف ما عليه عامتكم إلا ضربت عنقه. وقد كانت بيني وبين قوم إحن فجعلت ذلك دبر أذني وتحت قدمي، فمن كان محسنًا فليزدد في إحسانه، ومن كان مسيئًا فلينزع عن إساءته. إني وإن علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعًا ولم أهتك له سترًا حتى يبدي لي صفحته، فإن فعل لم أناظره. فاستأنفوا أموركم وأعينوا على أنفسكم، فرب مبتئس بقدومنا سيسر ومسرور بقدومنا سيبتئس.

أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم زادة نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي خوَّلنا. فلنا عليكم السمع والطاعة في ما أحببنا ولكم علينا العدل في ما ولينا. فاستوجبوا عدلنا وفيئنا بمناصحتكم لنا. واعلموا أني مهما أقصر فيه فلن أقصر عن ثلاث: لست محتجبًا عن طالب حاجة ولو أتاني طارقًا بليل، ولا حابسًا عطاءً ولا رزقًا … ولا مجمرًا لكم بعثًا.

فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم فإنهم ساستكم المؤدبون لكم وكهفكم الذي إليه تأوون، ومتى يصلحوا تصلحوا. ولا تُشربوا قلوبكم بغضهم فيشتد لذلك أسفكم، ويطول له حربكم ولا تدركوا حاجتكم، مع أنه لو استجيب لكم فيهم لكان شرًّا لكم. اسأل الله أن يعين كلًّا على كل. وإذا رأيتموني أنفذ فيكم أمرًا فانفذوه على إدلاله. وايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي! (مختصرة).

(٩) خطبة ليزيد بن معاوية

بويع ليزيد بالخلافة يوم مات أبوه معاوية وتوفي سنة ٦٤هـ الموافقة لسنة ٦٨٣م. وقد «تعلم الفصاحة ونظم الشعر في بادية بني كلب.»

خطب بعد موت أبيه فقال:

الحمد لله الذي ما شاء صنع، من شاء أعطى ومن شاء منع، ومن شاء خفض ومن شاء رفع. إن أمير المؤمنين كان حبلًا من حبال الله مده ما شاء أن يمده. ثم قطعة حين أراد أن يقطعه. وكان دون من قبله، وخيرًا ممن يأتي بعده، ولا أزكيه عند ربه وقد صار إليه. فإن يعف عنه فبرحمته، وإن يعاقبه فبذنبه. وقد ولِّيت بعده الأمر، ولست أعتذر من جهل، ولا آسى على طلب علم.

(١٠) خطبة لخالد بن الوليد

كان خالد بن الوليد من المشهورين بالشجاعة والشرف والرياسة. سماه النبي «سيف الله» وحارب مسيلمة الكذاب وهدَّم العُزَّى، وله آثار مشهورة في قتال الروم والفرس. وكانت وفاته في خلافة عمر سنة ٢١هـ الموافقة لسنة ٦٤٣، وقد خطب الخطبة التالية بين جيوشه يحضهم على القتال في أجنادين إحدى نواحي فلسطين في معركة بين الروم والعرب، قال:

يا معاشر الناس انصروا الله ينصركم، وقاتلوا في سبيل الله واحتسبوا أنفسكم في سبيل الله وأصروا على قتال أعدائكم. وقاتلوا عن حريمكم وأولادكم ودينكم. وليس لكم ملجأ تلجئون إليه ومكمن تكمنون فيه، فاقرنوا المناكب وقدموا المضارب، ولا تحملوا حتى آمركم بالحملة. ولتكن السهام مجتمعة إذا خرجت من القِسيِّ كأنها تخرج من كبد قوس واحد؛ فإنه إذا تلاحقت السهام رشقًا كالجراد لم يَخْلُ أن يكون فيها سهم صائب. واصبروا وصابروا واتقوا الله لعلكم تفلحون. واعلموا أنكم لا تلقون عدوًّا مثل هذه الفئة حماتهم وأبطالهم وملوكهم.

(١١) خطبة لطارق بن زياد

كان طارق بن زياد مولى موسى بن نصير عامل الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي في أفريقية، وكان منزله القيروان. وحدث أن يوليان أحد رجال الدين في إسبانيا كان حاقدًا على الملك، فوضع حقده فوق وطنه، وأرسل إلى موسى فاستنجد به. فأرسل إليه موسى طارقًا فعبر بحر العدوة والْتقى بالملك رودريق فتحاربا أياما وقتل الملك، وصارت الأندلس للعرب. وسمع موسى بخبر الفتح وحسد طارقًا فعبر البحر في عشرة آلاف فتلقاه طارق وترضاه فرضي عنه. وسار موسى بن نصير إلى فرنسا وقطع جبال برينيه وبلغ كركسونا. ثم استرجعه الخليفة الوليد إلى دمشق ونكبه ونفاه إلى مكة فتوفي بها في سنة ٩٧هـ الموافقة لسنة ٧١٨م. وكان فتح طارق للأندلس في سنة ٧١١م وكان خروج المسلمين من الأندلس سنة ١٤٩٢م.

لما بلغ طارقًا دنو رودريق قام في أصحابه فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم حث المسلمين على الجهاد ورغبهم، ثم قال:

أيها الناس أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم وليس لكم والله إلا الصدق والصبر. واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام. وقد استقبلكم عدوكم بجيشه، وأسلحته وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم. وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمرًا ذهب ريحكم وتعوضت القلوب من رعبها عنكم الجرأة عليكم. فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أحذركم أمرًا أنا عنه بنجوة ولا حملتكم على خطة أرخص متاع فيها النفوس إلا وأنا أبدأ بنفسي. واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلًا استمتعتم بالأرفه الألذ طويلًا. فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي فما حظكم فيه بأوفر من حظي. وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة من الخيرات العميمة. وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عربانًا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارًا وأختانًا؛ ثقةً منه بارتياحكم للطعان. واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته وإظهار دينه بهذه الجزيرة، ولتكون بغنمها خالصة لكم من دونه ومن دون المؤمنين سواكم. والله تعالى ولي أنجادكم على ما يكون لكم ذكرًا في الدارين. واعلموا إني أول مجيب إلى ما دعوتكم إليه، وأني عند ملتقى الجمعين حامل بنفسي على طاغية القوم لذريق فقاتِله إن شاء الله تعالى. فاحملوا معي، فإن هلكت بعده فقد كفيتم أمره ولم يعوزكم بطل عاقل تسندون أموركم إليه. وإن هلكت قبل وصولي إليه فاخلفوني في عزيمتي هذه واحملوا بأنفسكم عليه، واكتفوا الهم من فتح هذه الجزيرة بقتله.

(١٢) خطبة لعمر بن عبد العزيز

كان عمر بن عبد العزيز أحد خلفاء بني أمية وكان عفيفًا زاهدًا يميل إلى النسك والاعتكاف وكان يتحرَّى سيرة الخلفاء الراشدين وهو أول من فرض لأبناء السبيل وأبطل في الخطب سبَّ عليِّ بن أبي طالب. وكانت خلافته من سنة ٧١٧ إلى سنة ٧٢٠م. وقيل إنه مات مسمومًا، دس له الأمويون سمًّا خشية أن يعيد الخلافة شورى بين المسلمين فتخرج من أيديهم. ومن خطبه هذه الخطبة التي ألقاها في خاصرة:

أيها الناس، إنكم لم تخلقوا عبثًا ولم تتركوا سدًى. وإن لكم معادًا يحكم الله بينكم فيه، فخاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء وحُرم جنة عرضها السموات والأرض. واعلموا أن الأمان غدًا لمن يخاف اليوم وباع قليلًا بكثير وفانيًا بباقٍ. ألا ترون أنكم في أصلاب الهالكين، وسيخلفها من بعدكم الباقون حتى يردوا إلى خير الوارثين. إنكم في كل يوم تشيعون غاديًا ورائحًا إلى الله قد قضى نحبه وبلغ أجله. ثم تغيِّبونه في صدع من الأرض. ثم تدعونه غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسباب وفارق الأحباب، وواجه الحساب. غنيًا عمَّا ترك فقيرًا إلى ما قدَّم. وايم الله إني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم أكثر مما عندي. وأستغفر الله لي ولكم. وما تبلغنا حاجة يتسع لها ما عندنا إلا سددناها. ولا أحد منكم إلا وددت أن يده مع يدي ولحمتي الذين يلونني حتى يستوي عيشنا وعيشكم. وايم الله إني لو أردت غير هذا من عيش أو غضارة لكان اللسان به ناطقًا ذلولًا عالمًا بأسبابه. ولكنه مضى من الله سنة عادلة دلَّ فيها على طاعته ونهى عن معصيته.

(١٣) خطبة لقطري بن الفجاءة

كان قطري أحد رءوس الخوارج الذين كانوا يعدون خلفاء بني أمية وعلي بن أبي طالب مغتصبين للخلافة فلم تكن عليهم لهم طاعة. وكانوا يولون خلفاءهم بأنفسهم، فكان قطري أحد خلفائهم. وكان يجمع بين الشجاعة والبلاغة. وكان الحجاج بن يوسف الثقفي يسيِّر إليه جيشًا بعد جيش فيعود بالهزيمة. ولم تزل الحال كذلك حتى توجَّه إليه سفيان بن الأبرد فظهر عليه وقتله سنة ٧٨هـ الموافقة لسنة ٦٩٨م.

وهذه الخطبة ينسبها جامع «نهج البلاغة» إلى علي بن أبي طالب كما هي عادته في نسبة كل ما يستجيده من الخطب والكلام البارع إليه حتى بلغ به الشطط أن نسب أكثر الحكم اليونانية المشهورة إليه.

قال قطري:

أما بعد، فإني أحذركم الدنيا فإنها حلوة خضرة حُفَّت بالشهوات وراقت بالقليل، وتجلببت بالعاجل وغمرت بالآمال. وتحلَّت بالأماني وزيِّنت بالغرور. لا تدوم زهرتها ولا تؤمن فجعتها. غرارة ضرارة، وحائلة زائلة، ونافدة بائدة. لا تعدو إذا تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضا بها أن تكون كما قيل: كماء أنزلناه فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيمًا. مع أن امرأ لم يكن منها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة، ولم يلقَ من سرائها بطنًا، إلا منحته من ضرائها ظهرًا. ولم تطله منها ديمة رخاء، إلا هطلت عليه مزنة بلاء. وحري إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له خاذلة متنكرة. وإن جانب منها اعذوذب واحلولى أمر عليه منها جانب فأوبا. وإن لبس امرؤ من غضارتها ورفاهيتها نعمًا أرهقته من نوائبها غمًّا. ولم يُمسِ امرؤ منها في جناح أمن إلا أصبح منها في قوادم خوف. غرارة غرور ما فيها باقية. فانٍ ما عليها. لا خير في شيء من زادها إلا التقوى. من أقل منها استكثر مما يؤمنه، ومن استكثر منها لم يدم له وزال عما قليل عنه … كم واثق بها قد فجعته وذي طمأنينة إليها قد صرعته! وكم من مختال بها قد خدعته، وكم ذي أبهة فيها قد صيرته حقيرًا وذي نخوة فيها قد ردته ذليلًا، وذي تاج قد كبَّته لليدين والفم! سلطانها دول، وعيشها رنق، وعذبها أجاج، وحلوها مر، وغذاؤها سمام، وأسبابها زحام، وقطافها سلع. حيها بعرض موت وصحيحها بعرض سقم، ومنيعها بعرض اهتضام. مليكها مسلوب، وعزيزها مغلوب، وسليمها منكوب، وجارها وجامعها محروب. مع أن من وراء ذلك سكرات الموت وزفراته وهول المطلع والوقوف بين يدي الحكم العدل؛ ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. ألستم في مساكن من كان منكم أطول أعمارًا وأوضح آثارًا وأعد عديدًا وأكثف جنودًا وأعتد عتادًا وأطول عمادًا؟ تَعبَّدوا الدنيا أيَّ تعبُّد، وآثروها أيَّ إيثار، وظعنوا عنها بالكره والصغار. فهل بلغكم أن الدنيا سمحت لهم نفسًا بفدية … بل أرهقتهم بالفوادح وضعضعتهم بالنوائب، وعفرتهم للمناخر، وأعانت عليهم ريب المنون وأرهقتهم بالمصائب. وقد رأيتم تنكُّرها لمن دان لها وآثرها وأخلد إليها، حتى ظعنوا عنها لفراق الأبد إلى آخر الأمد. هل زودتهم إلا الشقاء وأحلَّتهم إلا الضنك، أو نوَّرت لهم إلا الظلمة، وأعقبتهم إلا الندامة؟ أفهذه تؤثرون، أو على هذه تحرصون، أو إليها تطمئنون؟ فبئست الدار لمن لم يتهمها ولم يكن فيها على وجل منها! اعلموا — وأنتم تعلمون — أنكم تاركوها الأبد. فإنما هي لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد. فاتعظوا فيها بالذين يبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وبالذين قالوا: من أشد منا قوة. واتعظوا بمن رأيتم من إخوانكم كيف حُملوا إلى قبورهم فلا يُدْعَون ركبانًا، وأنزلوا فلا يُدْعَون ضيفانًا. وجُعل لهم من الضريح أكنان، ومن التراب أكفان، ومن الرفات جيران. فهم جيرة لا يجيبون داعيًا ولا يمنعون ضيمًا. إن أخصبوا لم يفرحوا وإن قحطوا لم يقنطوا. جمع وهم آحاد. جيرة وهم أبعاد. متناءون وهم يُزارون ولا يستزيرون. حلماء قد ذهبت أضغانهم. وجهلاء قد ماتت أحقادهم. لا يخشى فجعهم، ولا يرجى دمعهم. وهم كمن لم يكن. استبدلوا بظهر الأرض بطنًا وبالسعة ضيقًا وبالآل غربة وبالنور ظلمة. فجاءوها حفاةً عراة فرادى غير أن ظعنوا بأعمالهم إلى الحياة الدائمة. إلى خلود الأبد فاحذروا ما حذركم الله وانتفعوا بمواعظه واعتصموا بحبله. عصمنا الله وإياكم بطاعته ورزقنا وإياكم أداء حقه.

(١٤) خطبة للحجاج

كان الحجاج بن يوسف الثقفي عامل الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان على العراق وخراسان، وتوفي سنة ٩٧هـ الموافقة لسنة ٧١٦م. وكان شرس الطبع سفاكًا للدماء، ولم يكن يخجل من الجهر بأن أكبر لذاته سفك الدماء. وهو الذي بنى مدينة واسط وينسب إليه وضع علامات للحروف المشتبهة في الخط العربي حتى لا يقع تصحيف في القرآن. ولولاه لاستفحل أمر الخوارج فهو الذي خضَّد شوكتهم بما أرسله عليهم من الجيوش تلو الجيوش.

ومما يحكى عنه أنه قال في إحدى خطبه: «سوطي سيفي ونجاده في عنقي وقائمه في يدي وذبابه قلادة لمن اغتر بي.» وكان الحسن حاضرًا فقال: «بؤسًا لهذا ما أغره بالله!»

خطب بين أهل العراق فقال:

يا أهل العراق إن الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدم والعصب والمسامع والأطراف والأعضاد والشغاف، ثم مضى إلى الأمخاخ والأصماخ، ثم ارتفع فعشش ثم باض وفرخ. فحشاكم شقاقًا ونفاقًا … اتخذتموه دليلًا تتبعونه وقائدًا تطيعونه ومؤمرًا تستشيرونه، وكيف تنفعكم تجربة أو تعضكم وقعة أو يحجزكم إسلام أو يردكم إيمان. ألستم أصحابي بالأهواز، حيث رمتم المكر وسعيتم بالغدر واستجمعتم للكفر، وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته. وأنا أرميكم بطرفي وأنتم تتسللون لواذًا وتهزمون سراعًا. يوم الزاوية وما يوم الزاوية! بها كان فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم وبراءة الله منكم ونكوص وليه عنكم إذ وليتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها، النوازع إلى أعطانها، لا يسأل المرء منكم عن أخيه، ولا يلوي الشيخ على بنيه، حتى عضكم السلاح وقصمتكم الرماح. يوم دير الجماجم وما دير الجماجم! إنها كانت المعارك والملاحم، بضرب يزيل الهام عن مقيله، ويذهل الخليل عن خليله. يا أهل العراق والكفرات الفجرات والغدرات بعد الخترات والثورة بعد الثورات … هل استخفكم ناكث واستغواكم غاوٍ واستفزكم عاصٍ واستصرخكم ظالم واستعضدكم خالع إلا وثقتموه وآويتموه وغررتموه ونصرتموه ورضيتموه؟! يا أهل العراق، هل شغب شاغب أو نعب ناعب أو نعق ناعق أو زفر زافر إلا كنتم أتباعه وأنصاره؟! يا أهل العراق، ألم تنهكم المواعظ؟ ألم تزجركم الوقائع؟

خطبة أخرى للحجاج

خطب بالبصرة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

إن الله كفانا مئونة الدنيا وأمرنا بطلب الآخرة، فليته كفانا مئونة الآخرة وأمرنا بطلب الدنيا. ما لي أرى علماءكم يذهبون وجهالكم لا يتعلمون وشراركم لا يتوبون؟ ما لي أراكم تحرصون على ما كفيتم وتضيعون ما به أمرتم؟ إن العلم يوشك أن يرفع، ورفعه ذهاب العلماء. ألا وإني أعلم بشراركم من البيطار بالفرس، الذين لا يقرءون القرآن إلا هجرًا، ولا يأتون الصلاة إلا دبرًا. ألا وإن الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر. ألا وإن الآخرة أجل مستأخر يحكم فيها ملك قادر. ألا فاعملوا وأنتم من الله على حذر واعلموا أنكم ملاقوه ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. ألا وإن الخير كله بحذافيره في الجنة. ألا وإن الشر كله بحذافيره في النار. ألا وإن من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرًّا يره. وأستغفر الله لي ولكم.

خطبة أخرى للحجاج

خرج الحَجَّاج يريد العراق واليًا عليها في اثني عشر راكبًا على النجائب حتى دخل الكوفة حين انتشر النهار. وقد كان فشا أمر الخوارج وتفاقم، وتثاقل الناس عن اللحاق بالمهلب الذي كان يناجزهم. فصعد المنبر وهو ملثم بعمامة حمراء، فقال: عليَّ بالناس، فحسبوه وأصحابه خوارج فهمُّوا به، حتى إذا اجتمع الناس قام ثم كشف عن وجهه وقال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
صليب العود من سلفي نزارا
كنصل السيف وضاح الجبين
وماذا تبتغي الشعراء مني
وقد جاوزت حد الأربعين
أخو خمسين مجتمع أشدي
وتنجدني مداورة الشئون

.. أما والله إني لأحمل الشر بحمله وأحذوه بنعله وأجزيه بمثله. وإني لأرى رءوسًا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها. وإني لأنظر الدماءَ بين العمائم واللحى تترقرق:

قد شمرت عن ساقها فشمري
هذا أوان الحرب فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
قد لفها الليل بعصلبي
أروع جراح من الدوى
مهاجر ليس بأعرابي
قد شمرت عن ساقها فشدوا
ما علتي وأنا شيخ أد
والقوس فيها وتر عرد
مثل ذراع البكر أو أشد

إني والله يا أهل العراق ومعدن الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق، لا يغمز جانبي كتغماز التنين، ولا يقعقع لي بالشنان. ولقد فررت عن ذكاء، وفتشت عن تجربة، وأُجريت مع الغاية. وإن أمير المؤمنين نثر كنانته ثم عجم عيدانها، فوجدني أمرَّها عودًا وأشدها مكسرًا، فوجَّهني إليكم ورماكم بي. فإنه قد طالما أوضعتم في الفتن، وسننتم سنن الغي. وايم الله لألحونكم لحو العصا، ولأقرعنكم قرع المروة، ولأعصبنكم عصب السلمة، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل. أما والله لا أَعِد إلا وفيت، ولا أخلف إلا فريت. وإياي وهذه الزرافات والجماعات، وقال وقيل، وما يقولون وفيم أنتم. والله لتستقيمن على طريق الحق أو لأدعن لكل رجل منكم شغلًا في جسده. من وجدته بعد ثالثة من بعث المهلب سفكت دمه وانتهبت ماله وهدمت منزله.

(١٥) خطب لأبي حمزة

في أواخر الدولة الأموية خرج عبد الله بن يحيى وكان من حضرموت فأنكر طاعة خلفاء بني أمية؛ «لأنه رأى جورًا ظاهرًا وعسفًا شديدًا وسيرة في الناس قبيحة.» فدعا الناس إلى مبايعته، فبايعوه. وكان من أشد أنصاره رجل يدعى أبا حمزة. فجيَّش الجيوش وفتح مكة والمدينة. وفتح أبو حمزة المدينة في سنة ١٣٠هـ، وخطب أهلها الخطبة التالية:

يا أهل المدينة سألناكم عن ولاتكم هؤلاء، فأسأتم — لَعَمْر الله — فيهم القول. وسألناكم: هل يقتلون بالظن؟ فقلتم: نعم. وسألناكم: هل يستحلون المال الحرام والفرج الحرام؟ فقلتم: نعم. فقلنا لكم: تعالوا نحن وأنتم، فنناشدهم اللهَ أن يتنحوا عنا وعنكم ليختار المسلمون لأنفسهم، فقلتم: لا تفعلون. فقلنا لكم: تعالوا نحن وأنتم نلقاهم، فإن نظهر نحن وأنتم نأتِ بمن يقيم فينا كتاب الله وسنة نبيه وإن نظفر نعدل في أحكامكم ونحملكم على سنة نبيكم، ونقسم فيئكم بينكم. فإن أبيتم وقاتلتمونا دونهم قاتلناكم. فأبعدكم الله وأسحقكم يا أهل المدينة! مررت بكم في أزمان الأحول هشام بن عبد الملك وقد أصابتكم عاهة في ثماركم فركبتم إليه تسألونه أن يضع خراجكم عنكم، فكتب بوضعها عنكم؛ فزاد الغني غنًى وزاد الفقير فقرًا. فقلتم: جزاكم الله خيرًا. فلا جزاه الله خيرًا ولا جزاكم.

خطبة أخرى لأبي حمزة

خطب هذه الخطبة في أهل المدينة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

أتعلمون يا أهل المدينة أنَّا لم نخرج من ديارنا وأموالنا أشرًا ولا بطرًا ولا عبثًا ولا لهوًا، ولا لدولة مُلك نريد أن نخوض فيه، ولا ثأر قديم نيل منا. ولكنا لما رأينا مصابيح الحق قد عطلت، وعنف القائل بالحق، وقتل القائم بالقسط، ضاقت علينا الأرض بما رحبت. وسمعنا داعيًا يدعو إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن، فأجبنا داعي الله، ومن لا يجيب داعي الله فليس بمعجز في الأرض، فأقبلنا من قبائل شتى، النفر منا على بعير واحد عليه زادهم وأنفسهم، يتعاورون لحافًا واحدًا، قليلون مستضعفون في الأرض، فآوانا الله وأيدنا بنصره، وأصبحنا والله بنعمته إخوانًا، ثم لقينا رجالكم بقديد، فدعوناهم إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن، ودعونا إلى طاعة الشيطان وحكم مروان وآل مروان. شتان لعمر الله ما بين الغي والرشد، ثم أقبلوا يهرعون ويزفون، قد ضرب الشيطان فيهم بجرانه وغلت بدمائهم مراجله، وصدَّق عليهم ظنه. وأقبل أنصار الله عصائب وكتائب، بكل مهند ذي رونق، فدارت رحانا واستدارت رحاهم بضرب يرتاب منه المبطلون، وأنتم يا أهل المدينة إن تنصروا مروان وآل مروان يسحقكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ويشفِ صدور قوم مؤمنين. يا أهل المدينة إن أولكم خير أول وآخركم شر آخر. يا أهل المدينة، الناس منا ونحن منهم إلا مشركًا عابد وثن، أو كافرًا من أهل الكتاب، أو إمامًا جائرًا. يا أهل المدينة، من زعم أن الله تعالى كلف نفسًا فوق طاقتها، أو سألها عما لم يؤتها، فهو لله عدو ولنا حرب … يا أهل المدينة بلغني أنكم تنتقصون أصحابي، قلتم هم شباب أحداث وأعراب جفاة، ويحكم يا أهل المدينة، وهل كان أصحاب رسول الله إلا شبابًا أحداثًا؟ شبابًا والله، مكهلون في شبابهم، غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أقدامهم، قد باعوا أنفسًا تموت غدًا، بأنفس لا تموت أبدًا … منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مروا بآية خوف شهقوا خوفًا من النار، وإذا مروا بآية شوق شهقوا شوقًا إلى الجنة. فلما نظروا إلى السيوف قد انتضيت وإلى الرماح قد أشرعت وإلى السهام قد فوِّقت، وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت، استخفوا وعيد الكتيبة عند وعيد الله، ولم يستخفوا وعيد الله عند وعيد الكتيبة، فطوبى لهم وحسن مآب! فكم من عين في منقار طائر طالما بكى بها صاحبها من خشية الله! وكم من يد قد أبينت عن ساعدها طالما اعتمد عليها صاحبها راكعًا وساجدًا! أقول قولي هذا وأستغفر الله من تقصيرنا، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

(١٦) خطبة المنصور الخليفة العباسي

كان الخلفاء العباسيون يمتازون على خلفاء بني أمية بقرابتهم من النبي، وكانت هذه القرابة سببًا في نعرة دينية يتباهون بها على سائر المسلمين، فكانوا يتكلمون بلهجة باباوات رومية في القرون الوسطى، وكانوا يتمادون في الأتوقراطية لا يعرفون معنًى للشورى أو الدستور. وخطبة المنصور تدل القارئ على مبلغ عتو هذه الدولة وغرور خلفائها بنفوسهم، كما هي أيضًا علامة من علامات الزمن آذنت بانحطاط الدول العربية التي رضيت باستبداد خلفائها.

وقد بويع المنصور في سنة ١٣٦هـ الموافقة لسنة ٧٥٤م وتوفي في سنة ٧٧٥م، وهو قاتل أبي مسلم الخراساني مؤسس الدولة العباسية وباني مدينة بغداد.

خطب في مكة فقال:

أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته وإرادته وأعطيه بإذنه، فقد جعلني الله عليه قفلًا، إن شاءَ أن يفتحني فتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم، فإن شاء أن يقفلني عليها أقفلني. فارغبوا إلى الله وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم من فضله ما أَعلمكم به في كتابه إذ يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا أن يوفقني للرشاد والصواب، وأن يلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

(١٧) خطبة الخليفة المهدي

لما توفي المنصور بويع لابنه المهدي، وكان المهدي «شديدًا على أهل الإلحاد والزندقة لا تؤخره في إهلاكهم لومة لائم.» وقد حكم من سنة ٧٧٥ إلى ٧٨٥م، والخطبة التالية أشهر ما يؤثر عنه.

الحمد لله الذي ارتضى الحمد لنفسه ورضي به من خلقه، وأحمده على آلائه وأمجده لبلائه … وأستعينه وأؤمن به وأتوكل عليه توكل راضٍ بقضائه وصابر لبلائه. أوصيكم عباد الله بتقوى الله فإن الاقتصار عليها سلامة، والترك لها ندامة، وأحثكم على إجلال عظمته وتوقير كبريائه وقدرته، والانتهاء إلى ما يقرِّب من رحمته، وينجي من سخطه، ويُنال به ما لديه من كريم الثواب، وجزيل المآب. فاجتنبوا ما خوَّفكم الله من شديد العقاب، وأليم العذاب، ووعيد الحساب. يوم توقفون بين يدي الجبار، وتعرضون فيه على النار. يوم لا تتكلم نفس إلا بإذنه، فمنهم شقي وسعيد. يوم يفر المرء من أخيه وأمه وبنيه، لكل امرئ يومئذ شأن يغنيه. يوم لا تجزي نفس عن نفس شيئًا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون. يوم لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئًا. إن وعد الله حق، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، فإن الدنيا دار غرور وبلاء وشرور، واضمحلال وزوال، وتقلب وانتقال. قد أفنت من كان قبلكم وهي عائدة عليكم وعلى من بعدكم. من ركن إليها صرعته ومن وثق بها خانته، ومن أملها كذبته، ومن رجاها خذلته. عزها ذل، وغناها فقر، والسعيد من تركها والشقي من آثرها، والمغبون فيها من باع حظه من دار آخرته بها. فالله الله، عباد الله، والتوبة مقبولة والرحمة مبسوطة، وبادروا بالأعمال الزكية في هذه الأيام الخالية قبل أن يؤخذ بالكظم وتندموا فلا تنالون الندم يوم حسرة وتأسف، وكآبة وتلهف، يوم ليس كالأيام، وموقف ضنك المقام.

(١٨) خطبة لهارون الرشيد

كان هارون الرشيد خامس الخلفاء العباسيين وكان «يبكي على نفسه وعلى إسرافه وذنوبه» و «له مناقب لا تحصى ومحاسن لا تستقصى وله أخبار في اللهو واللذات، سامحه الله.»

قال النهرواني: «اعلم أن مما يتحققه العاقل أن الدنيا دار الأكدار وأن أخف الخلق بلاء وألمًا الفقراء، وأعظم الناس تعبًا وهمًّا وغمًّا هم الملوك والأمراء … إن هارون الرشيد من أعقل الخلفاء العباسيين وأكملهم رأيًا وتدبيرًا وفطنة وقوة واتساع مملكة وكثرة خزائن بحيث كان يقول للسحابة: أمطري حيث شئت فإن خراج الأرض التي تمطرين فيها يجيء إليَّ، وكان مع ذلك أتعبهم خاطرًا وأشغلهم قلبًا.»

ولي الرشيد سنة ١٧٠ وتوفي سنة ١٩٣هـ (٧٨٦–٨٠٩م).

وهذه إحدى خطبه:

الحمد لله الذي نحمده على نعمه، ونستعينه على طاعته، ونستنصره على أعدائه، ونؤمن به حقًّا ونتوكل عليه مفوضين إليه. أوصيكم عبادَ الله بتقوى الله، فإن في التقوى تكفير السيئات، وتضعيف الحسنات، وفوزًا بالجنة ونجاة من النار. وأحذركم يومًا تشخص فيه الأبصار، وتبلى فيه الأسرار، يوم البعث ويوم التغابن ويوم التلاقي ويوم التنادي، يوم لا يُستعتب من سيئة ولا يُزداد في حسنة. يوم الآزفة، إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين، ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع، يعلم خافية الأعين وما تخفي الصدور … فاتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت. حصنوا أيمانكم بالأمانة ودينكم بالورع وصلاتكم بالزكاة … وإياكم والأماني فقد غرت وأوردت وأوبقت كثيرًا حتى أكذبتهم مناياهم، فتناوشوا التوبة من مكان بعيد، وحيل بينهم وبين ما يشتهون، فرغب ربكم عن الأمثال والوعد وقدم إليكم الوعيد، وقد رأيتم وقائعه بالقرون الخوالي جيلًا فجيلًا، وعهدتم الآباء والأبناء والأحبة والعشائر باختطاف الموت إياهم من بيوتكم ومن بين أظهركم لا تدفعون عنهم ولا تحولون دونهم، فزالت عنهم الدنيا وانقطعت بهم الأسباب فأسلمتهم إلى أعمالهم عند المواقف والحساب، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا والذين أحسنوا بالحسنى.

(١٩) خطبة للمأمون

قال القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي: «… ثم لما أفضت الخلافة فيهم إلى الخليفة السابع عبد الله المأمون بن هارون الرشيد تمم ما بدأ به جده المنصور، فأقبل على طلب العلم في مواضعه، وداخل ملوك الروم صلته بما لديهم من كتب الفلسفة، فبعثوا إليه منها ما حضرهم، فاستجاد لها مهرة التراجمة وكلفهم أحكام ترجمتها، فترجمت له على غاية ما أمكن. ثم حرض الناس على قراءتها ورغبهم في تعليمها، فكان يخلو بالحكماء ويأنس بمناظرتهم ويلتذ بمذاكرتهم، علمًا منه أن أهل العلم هم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده.»

بويع له بالخلافة في سنة ١٩٨هـ وتوفي في بعض غزواته ٢١٨هـ (٨١٣–٨٣٣م).

وهذه إحدى خطبه ألقاها في الفطر:

… ألا وإن يومكم هذا يوم عيد وسنَّة وابتهال ورغبة، يوم ختم به الله صيام شهر رمضان وافتتح به حج بيته الحرام، فجعله أول أيام شهور الحج وجعله معقبًا لمفروض صيامكم ومتقبل قيامكم. فاطلبوا إلى الله حوائجكم واستغفروه لتفريطكم، فإنه يقال: لا كثير مع ندم واستغفار، ولا قليل مع تمادٍ وإصرار … اتقوا الله عباد الله وبادروا الأمرَ الذي لم يحضر الشك فيه أحدًا منكم، وهو الموت المكتوب عليكم، فإنه لا يستقال بعده عثرة ولا تحظر قبله توبة. واعلموا أنه لا شيءَ بعده إلا فوقه ولا يعين على جرعه وعكره وكربه وعلى القبر وظلمته ووحشته وضيقه وهول مطلعه ومسألة ملكيه إلا العمل الصالح الذي أمر الله به. فمن زلَّت عند الموت قدمه فقد ظهرت ندامته، وفاتته استقامته، ودعا من الرجعة ما لا يجاب إليه وبذل من الفدية ما لا يقبل منه. فالله الله عباد الله! كونوا قومًا سألوا الرجعة فأعطوها إذ منعها الذين طلبوها، فإنه ليس يتمنى المتقدمون قبلكم إلا هذا الأجل المبسوط لكم. فاحذروا ما حذركم الله منه، واتقوا اليوم الذي يجمعكم الله فيه، لوضع موازينكم ونشر صحفكم الحافظة لأعمالكم، فلينظر عبد ما يضع في ميزانه مما يثقل به ومما يملى في صحيفته الحافظة لما عليه … ولست أنهاكم عن الدنيا بأكثر مما نهتكم به الدنيا عن نفسها، فإن كل ما بها يحذر منها وينهى عنها، وكل ما فيها يدعو إلى غيرها. وأعظم ما رأته أعينكم من فجائعها وزوالها ذم الله لها والنهي عنها، فإنه يقول تبارك وتعالى: فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، وقال: إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد. فانتفعوا بمعرفتكم بها وبإخبار الله عنها، واعلموا أن قومًا من عباد الله أدركتهم عصمة الله، فحذروا مصارعها وجانبوا خدائعها، وآثروا طاعة الله فيها وأدركوا الجنة بما يتركون منها.

(٢٠) خطبة فخر الدين بن لقمان

لما بويع بالخلافة للمستنصر بالله الخليفة العباسي المولود سنة ٥٨٨ والمتوفى سنة ٦٤٠هـ (١١٩٣–١٢٤٢م) صعد فخر الدين بن لقمان رئيس الكتاب منبرًا فقرأ على الملك الظاهر تقليده السلطاني، وكان هذا التقليد من إنشائه.

ومن هذا التقليد يرى القارئ أن الخلافة صارت وظيفة دينية، فكان الظاهر يمثل الحكومة والمستنصر يمثل الخلافة. وإذا كان الظاهر قد حصل على سند شرعي لحكومته من المستنصر فإن هذا أيضًا قد حصل على القوة التي يدعم بها خلافته من الظاهر. وقد كانت الخلافة العباسية أوشكت على الزوال فأحياها الظاهر واستقدم الخليفة إليه في مصر. ويكاد الإنسان يلمح ارتباكا من الخطيب في تمييزه بينهما ومعرفة التابع والمتبوع منهما. وفخر الدين هذا هو الذي اعتقل في بيته في المنصورة ملك الفرنسيين لويس التاسع، قال ابن لقمان:

الحمد لله الذي أضفى على الإسلام ملابس الشرف، وأظهر بهجة درِّه وكانت خافية بما استحكم عليها من الصدف، وشيد ما وهى من علائه حتى أنسى به ذكر من سلف، وقيَّض لنصره ملوكًا اتفق عليهم من اختلف. أحمده على نعمه التي وقعت الأعين منها في الروض الأنف، وألطافه التي وقف الشاكر عليها فليس له عنها منصرف.

وبعد، فإن أولى الأولياء بتقديم ذكره، وأحقهم أن يصبح القلم راكعًا وساجدًا لتسطير مناقبه وبره، من سعى فأضحى سعيه للحمد متقدمًا، ودعا إلى طاعته فأجاب من كان مُنْجِدًا ومُتْهِمًا، وما بدت يد في المكرمات إلا كان لها زندًا ومعصمًا، ولا استباح بسيفه حمى وغًى، إلا أضرم منه نارًا وأجرى دمًا. ولما كانت هذه المناقب الشريفة مختصة بالمقام العالي المولوي السلطاني الملكي الظاهري الركني شرَّفه الله وأعلاه، ذكره الديوان العزيز المستنصري — أعز الله سلطانه — تنويهًا بشريف قدره، واعترافًا بصنيعه الذي تنفد العبارة المسهبة ولا تقوم بشكره. وكيف لا وقد أقام الدولة العباسية بعد أن أقعدتها زمانة الزمان. وأذهبت ما كان لها من محاسن وإحسان، وعتب دهرها المسيء لها فأعتب، وأرضى عنها زمنها وقد كان صال عليها صولة مغضب، فأعاد لها سلمًا بعد أن كان عليها حربًا، وصرف إليها اهتمامه فرجع كل متضايق من أمورها واسعًا رحبًا. ومنح أمير المؤمنين عند القدوم عليه حنوًّا وعطفًا، وأظهر من الولاء رغبة في ثواب الله ما لا يخفى، وأبدى من الاهتمام بأمر الشريعة والبيعة أمرًا لو رامه غيره لامتنع عليه، ولو تمسك بحبله متمسك لانقطع به قبل وصوله إليه، ولكن الله ادخر هذه الحسنة ليثقل بها ميزان ثوابه، ويخفف بها يوم القيامة حسابه. والسعيد من خفف من حسابه. فهذه منقبة أبى الله إلا أن يخلدها في صحيفة صنعه، ومكرمة تضمنت لهذا البيت الشريف لجمعه، بعد أن حصل الإياس من جمعه. وأمير المؤمنين يشكر لك هذه الصنائع، ويعترف أنه لولا اهتمامك لاتسع الخرق على الراقع. وقد قلدك الديار المصرية والبلاد الشامية، والديار البكرية والحجازية واليمنية والفراتية، وما يتجدد من الفتوحات غورًا ونجدًا، وفوض أمر جندها ورعاياها إليك حتى أصبحت بالمكارم فردًا، ولا جعل منها بلدًا من البلاد ولا حصنًا من الحصون يستثنى، ولا جهة من الجهات تعد في الأعلى ولا في الأدنى. فلاحظ أمور الأمة فقد أصبحت لها حاملًا، وخلص نفسك من التبعات اليوم ففي غد تكون مسئولًا لا سائلًا، وَدَع الاغترار بأمر الدنيا فما نال أحد منها طائلًا، وما رآها أحد بعين الحق إلا رآها حائلًا زائلًا، فالسعيد من قطع منها آماله الموصولة، وقدم لنفسه زاد التقوى فتقدمة غير التقوى مردودة لا مقبولة. وابسط يدك بالإحسان والعدل فقد أمر الله بالعدل وحث على الإحسان، وكفَّر به عن المرء ذنوبًا كتبت عليه وآثامًا، وجعل يومًا واحدًا منها كعبادة العابد ستين عامًا، وما سلك أحد سبيل العدل إلا واجتنى ثماره من الأفنان، ورجع الأمر بعد تداعي أركانه وهو مشيَّد الأركان، وتحصن به حوادث زمانه، والسعيد من تحصن من حوادث الزمان، وكانت أيامه في الأيام أبهى من الأعياد، وأحلى من العقود إذا حلى بها عاطل الأجياد، وهذه الأقاليم المنوطة بك تحتاج إلى نواب وحكام، وأصحاب رأي من أصحاب السيوف والأقلام، فإذا استعنت بأحد منهم في أمورك فنقِّب عليه تنقيبًا، واسأل عن أحواله ففي يوم القيامة تكون عنه مسئولًا وبما اجترم مطلوبًا، ولا تولِّ منهم إلا من تكون مساعيه حسنات لك لا ذنوبًا، وأمرهم بالأناة في الأمور والرفق، ومخالفة الهوى إذا ظهرت أدلة الحق، وأن يقابلوا الضعفاء في حوائجهم بالثغر الباسم والوجه الطلق، وألَّا يعاملوا أحدًا على الإحسان والإساءة إلا بما يستحق، وأن يكونوا لمن تحت أيديهم من الرعايا إخوانًا، وأن يوسعوهم برًّا وإحسانًا، وأن لا يستحلوا حرماتهم إذا استحل الزمان لهم حرمانًا، فالمسلم أخو المسلم ولو كان أميرًا عليه وسلطانًا. والسعيد من نسج ولاته في الخير على منواله، واستسنوا بسنته في تصرفاته وأحواله، وتحملوا عنه ما تعجز قدرته عن حمل أثقاله. ومما يؤمر به أن يمحو ما أحدث من سيئ السنن، وجدد من المظالم التي هي من أعظم المحن، وأن يشتري بأبطالها المحامد رخيصة بأغلى ثمن، ومهما جبي بها من الأموال فإنما هي باقية في الذمم حاصلة، وأجياد الخزائن وإن أضحت بها خالية فإنما هي على الحقيقة منها عاطلة. وهل أشقى ممن احتقب إثمًا، واكتسب بالمساعي الذميمة ذمًّا، وجعل السواد الأعظم له يوم القيامة خصمًا، وتحمل ظلم الناس في ما صدر عنه من أعماله وقد خاب من حمل ظلمًا؟! وحقيق بالمقام الشريف المولوي السلطاني الملكي الظاهري الركني أن تكون ظلامات الأنام مردودة بعدله، وعزائمه تخفف ثقلًا لا طاقة له بحمله، فقد أضحى على الإحسان قائدًا، وصنعت له الأيام ما لم تصنعه لغيره ممن تقدم من الملوك إن جاء آخرًا، فاحمد الله على أن وصل إلى جانبك إمام هدًى أوجب لك مزية التعظيم، ونبَّه الخلائق على ما أفضل الله به من هذا الفضل العظيم، وهذه أمور يجب أن تلاحظ وترعى، وأن يوالى عليها حمد الله، فإن الحمد يجب عليها عقلًا وشرعًا، وقد تبين أنك صرت في الأمور أصلًا وصار غيرك فرعًا. ومما يجب أيضًا تقديم ذكره أمر الجهاد الذي أضحى على الأمة فرضًا، وهو العمل الذي يرجع به مسود الصحائف مبيضًا، وقد وعد الله المجاهدين بالأجر العظيم، وأعد لهم عنده المقام الكريم. وبك صان الله حِمى الإسلام من أن يبتذل، وبعزمك حفظ على المسلمين نظام هذه الدول، وسيفك أثر في قلوب الكافرين قروحًا لا تندمل، وبك يرجى أن يرجع من الخلافة ما كان عليه في الأيام الأُول، فأيقظ لنصرة الإسلام جفنًا ما كان غافيًا ولا هاجعًا. وكن في مجاهدة أعداء الله إمامًا متبوعا لا تابعًا. هداك الله إلى مناهج الحق وما زلت مهتديًا إليها وألزمك المراشد ولا تحتاج إلى تنبيه عليها، والله ممدك بأسباب نصره، ويوزعك شكر نعمه، فإن النعمة تستتم بشكره.

(٢١) خطبة ابن الزكي

لما فتح صلاح الدين الأيوبي بيت المقدس في سنة ٥٨٣هـ (١١٨٩م) وكان قد مضى عليها نحو قرن وهي في أيدي الأوروبيين اهتز العالم الإسلامي بأجمعه، ورحل كثير من العلماء وذوي الوجاهة في البلاد الإسلامية لرؤية الاحتفال بفتحها ودخولها في طاعة صلاح الدين.

واختار صلاح الدين لخطبة يوم الجمعة الأول من فتح المدينة القاضي محيي الدين محمد بن علي المعروف بابن الزكي فارتقى المنبر وألقى هذه الخطبة التاريخية بين حشد من مسلمي جميع الأقطار العربية (وكانت ولادته في ٥٥٠ ووفاته في ٥٩٨هـ بدمشق). ونحن ننشر هذه الخطبة على غلو صاحبها في التعصب لكي يدرك القارئ منها ذهنية الناس في ذلك العهد وكيف كانوا يتطاحنون من أجل الدين — والدين لا يدعو إلا إلى التسامح — قال:

الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومديم النعم بشكره، ومستدرج الكفار بمكره، الذي قدر الأيام دولًا بعدله، وجعل العاقبة بفضله، وأفاء على عباده من ظله، وأظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والآمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فما يدافع. أحمده على إظفاره وإظهاره وإعزازه لأوليائه، ونصره لأنصاره، وتطهير بيته المقدس من أدناس الشرك وأوضاره، حمدَ مَن استشعر الحمد باطن سره وظاهر جهاره. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، شهادةَ من طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، رافع الشك ومدحض الشرك وماحق الإفك، الذي أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السموات العلى إلى سدرة المنتهى، عندها جنة المأوى ما زاغ البصر وما طغى. صلى الله عليه وعلى خليفته أبي بكر الصديق السابق إلى الإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ومكسر الأوثان وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان. أيها الناس، أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى والدرجة العليا لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة من الأمة الضالة، وردها إلى مقرها من الإسلام، بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريبًا من مائة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع ويذكر فيه اسمه، وإماطة الشرك عن طرفه، بعد أن امتد عليها رواقه واستقر فيها رسمه، ورفع قواعده بالتوحيد، فإنه بنى عليه وشيد بنيانه بالتمجيد، فإنه أُسس على التقوى من خلفه ومن بين يديه، فهو موطن أبيكم إبراهيم، ومعراج نبيكم محمد عليه السلام وقِبلتكم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام، وهو مقر الأنبياء ومقصد الأولياء ومدفن الرسل ومهبط الوحي، ومنزل به ينزل الأمر والنهي، وهو في أرض المحشر وصعيد المنشر، وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين، وهو المسجد الذي صلى فيه رسول الله بالملائكة المقربين، وهو البلد الذي بعث إليه الله عبده ورسوله وكلمته التي ألقاها إلى مريم، وروحه عيسى الذي كرمه برسالته، وشرفه بنبوته ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته، فقال تعالى لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لله وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ. كذب العادلون بالله وضلوا ضلالًا بعيدًا، ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذن لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض، سبحان الله عما يصفون، لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم (إلى آخر الآيات من المائدة). وهو أول القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، فلولا أنكم ممن اختاره الله من عباده، واصطفاه من سكان بلاده، لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مُجَارٍ، ولا يباريكم في شرفها مُبارٍ، فطوبى لكم من جيش ظهرت على أيديكم من المعجزات النبوية والوقعات البدرية والعزمات الصديقية والفتوحات العمرية والجيوش العثمانية والفتكات العلوية ما جددتم به للإسلام أيام القادسية والملاحم اليرموكية والمنازلات الخيبرية والهجمات الخالدية، فجزاكم الله عن نبيه محمد أفضل الجزاء، وشكر لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء، وتقبل منكم ما تقربتم به إليه من إهراق الدماء، وأثابكم الجنة فهي دار السعداء، فاقدروا رحمكم الله هذه النعمة حق قدرها، وقوموا لله تعالى بواجب شكرها فله المنة عليكم بتخصيصكم لهذه النعمة وترشيحكم لهذه الخدمة، فهذا هو الفتح الذي فتحت له أبواب السماء، وتبلجت بأنواره وجوه الظلماء، وابتهج به الملائكة المقربون، وقرت به عيون الأنبياء والمرسلين، فمنَّ عليكم من النعمة بأن جعلكم الجيش الذي يفتح على يديه بيت المقدس في آخر الزمان، والجند الذي يقوم بسيوفهم بعد فترة من النبوة أعلام الإيمان، فيوشك أن يفتح الله على أيديكم أمثاله، وأن تكون التهاني لأهل الخضراء أكثر من التهاني لأهل الغبراء. أليس هو البيت الذي ذكره الله في كتابه، ونص عليه في محكم خطابه، فقال تعالى سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى؟ أليس هو البيت الذي عظمته الملل، وأثنت عليه الرسل، وتليت فيه الكتب الأربعة المنزلة من الله عز وجل؟ أليس هو البيت الذي أمسك الله تعالى لأجله الشمس على يوشع أن تغرب، وباعد بين خطواتها ليتيسر فتحه ويقرب، أليس هو البيت الذي أمر الله عز وجل موسى أن يأمر قومه باستنقاذه، فلم يجبه إلا رجلان، وغضب الله عليهم لأجله فألقاهم في التيه عقوبة للعصيان، فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما نكلت عنه بنو إسرائيل، وقد فضلت على العاملين، ووفقكم لما خذل فيه أمم كانت قبلكم من الأمم الماضين، وجمع لأجله كلمتكم وكانت شتى، وأغناكم بما أمضته كان وقد عن سوف وحتى، فليهنكم أن الله قد ذكركم به فيمن عنده، وجعلكم بعد أن كنتم جنودًا لأهويتكم جنده. وشكر لكم الملائكة المنزلون على ما أهديتم لهذا البيت من طيب التوحيد ونشر التقديس والتمجيد، وما أمطتم عن طرقهم فيه من أذى الشرك والتثليث والاعتقاد الفاجر الخبيث. فالآن تستغفر لكم أملاك السموات، وتصلي عليكم الصلوات المباركات. فاحفظوا رحمكم الله هذه الموهبة فيكم، واحرسوا هذه النعمة عندكم، بتقوى الله التي من تمسَّك بها سلم، ومن اعتصم بعروتها نجا وعُصم، واحذروا من اتباع الهوى ومواقعة الردى، ورجوع القهقرى والنكول عن العدا. وخذوا في انتهاز الفرصة وإزالة ما بقى من الغصة، وجاهدوا في الله حق جهاده، وبيعوا عباد الله أنفسكم في رضاه؛ إذ جعلكم من خير عباده. وإياكم أن يستزلكم الشيطان، أو يتداخلكم الطغيان فيخيل لكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد وخيولكم الجياد وبجلادكم في مواطن الجلاد، لا والله ما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم، فاحذروا عباد الله بعد أن شرفكم بهذا الفتح الجليل والمنح الجزيل، وخصكم بنصره المبين، وأعلق أيديكم بحبله المتين، أن تقترفوا كبيرًا من مناهيه وأن تأتوا عظيمًا من معاصيه، فتكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا، وكالذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. والجهاد، الجهاد، فهو من أفضل عباداتكم وأشرف عاداتكم، انصروا الله ينصركم، احفظوا الله يحفظكم، اذكروا الله يذكركم، اشكروا الله يزدكم ويشكركم، جدُّوا في حسم الداء وقلع شأفة الأعداء، وطهروا بقية الأرض من هذه الأنجاس التي أغضبت الله ورسوله، واقطعوا فروع الكفر واجتثوا أصوله، فقد نادت الأيام بالثارات الإسلامية والملة المحمدية، الله أكبر، فَتَحَ الله ونَصَرَ، غلب الله وقَهَر، أذل الله من كفر. واعلموا رحمكم الله أن هذه فرصة فانتهزوها، وفريسة فناجزوها، وغنيمة فحوزوها، ومهمة فاخرجوا لها هممكم وأبرزوها وسيروا إليها سرايا عزماتكم وجهزوها، فالأمور بأواخرها، والمكاسب بذخائرها، فقد أظفركم الله بهذا العدو المخذول، وهم مثلكم أو يزيدون، فكيف وقد أضحى قبالة الواحد منهم منكم عشرون؟ وقد قال الله تعالى إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ. أعاننا الله وإياكم على اتباع أوامره والازدجار بزواجره، وأيدنا معاشر المسلمين بنصر من عنده، إن ينصركم الله فلا غالب لكم، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده. إن أشرف مقال يقال في مقام، وأنفذ سهام تمرق عن قسي الكلام، وأمضى قول تجل به الأفهام، كلام الواحد الفرد العزيز العلام، قال الله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ

(ثم قرأ سورة الحشر)، ثم قال:

اللهم وأدم سلطان عبدك الخاضع لهيبتك، الشاكر لنعمتك، المعترف بموهبتك، سيفك القاطع وشهابك اللامع، والمحامي عن دينك المدافع، والذاب عن حرمك الممانع، السيد الأجل الملك الناصر، جامع كلمة الإيمان، وقامع عبدة الصلبان، صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، مطهر البيت المقدس، أبي المظفر يوسف بن أيوب محيي دولة أمير المؤمنين. اللهم عُمَّ بدولته البسيطة، واجعل ملائكتك براياته محيطة، وأحسن عن الدين الحنيفي جزاءه، واشكر عن الملة المحمدية عزمه ومضاءه. اللهم أبق الإسلام مهجته، وقِ للإيمان حوزته، وانشر في المشارق والمغارب دعوته، اللهم كما فتحت على يديه البيت المقدس، بعد أن ظُنت الظنون وابتلي المؤمنون، فافتح على يديه داني الأرض وقاصيها، وملِّكه صياصي الكفر ونواصيها، فلا تلقاه منهم كتيبة إلا مزقها، ولا جماعة إلا فرقها، ولا طائفة بعد طائفة إلا ألحقها بمن سبقتها.

اللهم اشكر عن محمد سعيه، وأنفذ في المشارق والمغارب أمره ونهيه، اللهم وأصلح به أوساط الناس وأطرافها وأرجاء المملكة وأكنافها. اللهم ذلِّل به معاطس الكفار، وأَرْغِم به أنوف الفجار، وانشر ذوائب ملكه على الأمصار، وأثبت سرايا جنوده في سبل الأقطار. اللهم أثبت الملك فيه وفي عقبه إلى يوم الدين، واحفظه في بنيه وبني أبيه الملوك الميامين، واشدد عضده ببقائهم، واقض بإعزاز أوليائه وأوليائهم. اللهم كما أجريت على يده في الإسلام هذه الحسنة، التي تبقى على الأيام، وتتخلد على مر الشهور والأعوام، فارزقه الملك الأبدي الذي لا ينفد في دار المتقين، وأجب دعاءه في قوله: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ. ا.هـ.

(٢٢) خطبة لأديب إسحاق

وُلد أديب إسحاق في سنة ١٨٥٦ وتوفي في سنة ١٨٨٥ فلم يكد يبلغ الثلاثين من العمر، «ومن أحبته الآلهة مات صغيرًا.» ومن يقرأ مخلفاته الأدبية يجد أنه لم يكن يعيش ببطء وإنما كان يسرع في العيش كأنه كان يحس بقصر عمره فكان يقتني من التجارب الذهنية — وهي كل ثروة الأديب — في العام الواحد ما لا يستطيع غيره أن يقتنيه في أعوام.

قال عنه الشيخ إسكندر إلعازار صديقه يصفه أنه كان «راية في علم اللسان وآية في صناعة البيان وغاية في حب الإنسان، وكان فتًى لا كالفتيان، جريئًا في الحق ما أخذته فيه لومة لائم وما رهب فيه وعيدًا … عاش حر الضمير فكرًا وقولًا وعملًا، ومات حر الضمير فكرًا وقولًا وعملًا، نشأ وطنيًّا خالصًا صحيحًا وعاش جنديًّا لأشرف الأصول وأسمى الغايات، وأنفق في خدمتها من روحه ما كان ينفخ في القلم من الروح … كان زهرة الأدب في الشام وريحانة العرب في مصر، وكان للوطنية نصيرًا وبالإنسانية بشيرًا ولأعدائها نذيرًا.»

وقد ألقى الخطبة التالية في جمعية زهرة الآداب وموضوعها التعصب والتساهل، قال:

لقد جرى لفظ التعصب على ألسنة أهل الإنشاء العربي بمعنى الغلو في الدين والرأي إلى حد التحامل على من خالفهما بشيء فيما يدين وما يرى، وأجريت ها هنا لفظ التساهل بمعنى الاعتدال في المذهب والمعتقد على ضد ذلك الغلو متابعةً للإفرنج في لفظهم المعبر عن هذا القصد (توليرانس).

ولا أجهل أن هذين الحرفين — لفظ التعصب ولفظ التساهل — غير وافيين بالمراد منهما اصطلاحًا وأن في إيلاء الأول معنى الغلو في الدين والرأي توسعًا عظيمًا، وفي إشراب الثاني ضد ذلك المعنى خروجًا عن الحد اللغوي. ولكن للاصطلاح حكمًا نافذًا يسوق الألفاظ إلى المعنى الغريب فتنقاد، فإذا مرَّت عليها الأيام، وصقلتها الألسنة والأقلام، جاءت منطبقة عليه بلا إلهام ولا إيهام.

وحدُّ التعصب عند أهل الحكمة العصرية غلو المرء في اعتقاد الصحة بما يراه، وإغراقه في استنكار ما يكون على ضد ذلك الرأي حتى يحمله الإغراق والغلو على اقتياد الناس لرأيه بقوة ومنعهم من إظهار ما يعتقدون ذهابًا مع الهوى في ادعاء الكمال لنفسه وإثبات النقص لمخالفيه من سائر الخلق.

وحد التساهل عندهم رضا المرء برأيه اعتقاد الصحة فيه واحترامه لرأي الغير كائنًا ما كان رجوعًا إلى معاملة الناس بما يريد أن يعاملوه فهو على إثباته الصواب لما يراه لا يقطع بلزوم الخطأ في رأي سواه، وعلى رغبته في تطرق رأيه للأذهان، لا يمنع الناس من إظهار ما يعتقدون.

فمن تبيَّن هذين الحدين وكان بصيرًا سليم العقل طليق الذهن من إسار الوهم حار لا شك في كثرة ما يراه من أهل التعصب على قلة من يمر به من المتساهلين. وعجب وحق له العجب من بني نوعه كيف يداخلهم التعصب فيما يعتقدون وما يرون، وقد عجزت أفهامهم عن إدراك الكثير من أسرار هذا الوجود، وقام لهم في كل حركة وكل سكنة من أفكارهم دليل على امتناع الكمال على الإنسان وكان لهم في تعصب الأولين عبرة لو كانوا يعتبرون!

ألم يروا كيف تعاقبت المذاهب وتوالت الآراء، وتتابعت قضايا العلوم الإنسانية معدودة في عصورها من الحقائق وفيما يلي تلك العصور من الأوهام. ولا أذكر العقائد الدينية متسلسلة من بوذا إلى زرادشت إلى كونفوشيوس إلى سائر دعاة الدين كراهة أن يتوهم في قصدها بالذات، بل حسبي الإشارة إلى تعاقب الوهم والحقيقة والخطأ والصواب في قضايا العلم عبرة للمتعصبين.

ألم يكن القول بسكون هاته الأرض قضية مسلَّمة، وبدوران الشمس من حولها حقيقة معلومة، وبانقسام البسيطة سبعة أقاليم علمًا يقينًا؟ أوَلم يكن طب أبقراط إلهامًا، وفلسفة أرستطاليس كشفًا، وتعبير ابن سيرين حقًّا؟ فماذا تقول عن الذين تعصبوا لهاته الأوهام على مَن كان في ريب منها فألزموه الصمت والخسف، وعاملوه بالشدة والعنف؛ حرصًا على ما يتوهمون من الحق والحق بريء منهم لو يعلمون؟

ولقد رجعت إلى المحفوظ من أخبار الأمم حتى بلغت الحدَّ الذي يدخل التاريخ منه في ظلمات الريب والخفاء، فما مرَّ بي جيل من الناس، ولا حقبة من الزمان، إلا رأيت من آثار التعصب في الدين والرأي ما ينقبض له الصدر استنكافًا، وتثور منه النفس استنكارًا، ثم عدت إلى الفطرة الإنسانية لاستكشاف العواطف الطبيعية، فرأيت فيها من السذاجة والسلامة ما ينطبق على حكم التساهل من كل الوجوه، فعلمت أن التعصب على قدم وجوده حادث طارئ على الإنسان، تولَّد عن مفاسد الرياسة في الجماعات، وتأصَّل بالعادة والتقليد حتى صار في النفوس من الملكات، يظهر ذلك لمن تدبر قدم التعصب في جنب خروجه عن الطباع، ويعلمه من تأمل أحوال الرياسة في صدور هيئات الاجتماع.

ولعلي أوجزت وأجملت والأمر محتاج إلى الإيضاح والتفصيل، فأقول:

قد اجتمعت آراء المفكرين على أن الرياسة قد حصلت بدأة بَدءٍ للمتمولين أو الأقوياء، وفي الحالين لم يأمن الرؤساء على سطوتهم أن تزول بفقد الثروة أو انحطاط القوة، فالتمس النبهاء منهم تأييدها بما لا تؤثر فيه النوازل ولا يضعفه كرور الأيام، فوضعوا للجماعات أحكامًا، كل رئيس وما توهم فيه المصلحة أو ما رأى ميل قومه إليه، فرضي كل أناس مشربهم، وقالوا هذا هو الحق الذي لا ريب فيه، وقال غيرهم من الأقوال: بل الحق ما نحن عليه فأنتم في ضلال مبين، فوقعت بينهم الإحن، وشبَّت أعقابهم على العداوات، حتى قويت روابط الأوهام، فتقطعت صلات الأرحام، فصار من الفضيلة أن يقتل الإنسان أخاه إن خالفه فيما يراه. وامتلأت رءوس الخلق عنادًا، فملئوا الأرض فسادًا، فَعُدَّت المظالم عدلًا وسُمِّيت المذابح جهادًا.

ولا أحاول استيعاب المفاسد والنوائب التي نشأت عن التعصب في الدين والرأي، فذلك تاريخ الحروب والفتن والغارات والمهاجرات من صدر الاجتماع الإنساني إلى الماية السالفة في بلاد الغرب وإلى هذه الأيام في بلاد الشرق. بل الغرب على انتشار العلوم فيه وحصول الحرية لأكثر ساكنيه لم يخلُ إلى الآن من آثار ذلك الداء العياء.

نعم، لا نرى فيه الآن أفرادًا وجماعات من الناس يذوقون ألوان العذاب ثم يقتلون صبرًا شهداء ما يعبدون كما وقع لأهل النصرانية في دولة الرومان، ولا نجد ألوفًا من السكان المستأمنين يخرجون من أرضهم بالقوة أو تهدر دماؤهم لاستمساكهم بما كان يعبد آباؤهم كما جرى لليهود في إسبانيا، ولا نبصر ديوان عقاب ونقمة يحكم بالتشهير والحرق والتعذيب والموت على من اتهم بالشك في رواية المجاذيب عن بعض النساء عن بعض الأطفال كما كان ديوان التفتيش في كثير من ممالك الإفرنج، ولا نلقى مئات ألوف من نبهاء الخلق الأمناء الصادقين يبيتون في منازلهم ويؤخذون بالسيف تقتيلًا لمجرد أنهم يفهمون من آي الكتاب خلاف ما يفهم غيرهم من الناس كما حلَّ بالبروتستانت عام ١٥٧٢ في بلاد الفرنسيس، ولا نجد أيضًا جماعات من الخلق لا يستطيعون النطق بما يعتقدون ولا الظهور بما يعبدون، ولا أفرادًا من الجماعة يعاقبون بالسجن أو التبعيد لأنهم يأكلون ألبان حيوانهم، في زوايا أكواخهم، يوم يأكل ساداتهم ألوان الأسماك الشهية، ويشربون معتقة الخمور في غرف القصور.

نعم، لا نرى كل ذلك في الغرب الآن ولا نكاد نبصره في الكثير من أقطاره مأخوذًا بما أوضح من رأيه وما أشاع من مذهبه وإن خالف رأي الأكثرين. ولكن هذا التساهل في الهيئات، أرسخ منه في الأفراد إلا الذين تطهروا من أدران التقليد وسلموا من علل الأوهام، وغالبوا الملكات الحاصلة عن العادات وترفعوا إلى مقام السذاجة الأعلى وقليل من هم.

وإلا فما هذا الذي نراه من التحامل على بقايا آل إسرائيل في بلاد الروس والألمان؟ وما ذلك الذي مر بنا من مظاهر الإحن بين الكاثوليك وغيرهم في تلك البلاد؟ وماذا الذي نسمع به الآن من الخلاف والشقاق بين الشيع المتباينة في فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وغيرها من أعرق البلاد في التساهل والحرية؟

ألا أقص عليكم إخواني شيئًا مما تبين من محاكمة المتهمين بالفتنة التي جرت منذ شهرين في بلدة منسوليمين بوطن الفرنسيس: تبين من تلك المحاكمة أن أصحاب المعدن في تلك البلدة (والبلدة عبارة عن المعدن والعاملين فيه) كانوا إذا رأوا من أحد الفعلة فتورًا في العبادة، أو ضعفًا في العقيدة التي يعتقدون، ضربوا عليه الغرامة أجرةَ يوم أو يومين وما فوق، وإذا ظهر عليه انحلال العقيدة طردوه من المعمل رأسًا؛ أي حكموا عليه بالفاقة وعلى عياله بالجوع، وإذا مات ذلك المنحل العقيدة فشيَّعه صاحب له من رفقاء أتعابه إلى القبر، عاقبوا المشيع بمثل هذا العقاب وهم هم في البلد الذي افتدى أهله بدمائهم حرية السعي وحرية الرأي وحرية القول، فما الظن بغيرهم من أهل سائر الأقطار؟ وما الظن بنا نحن الذين كان من نعم الله علينا أن وجدت بلادنا المقدسة مهبطًا للوحي ومقامًا للعقائد الدينية من عهد موسى صلوات الله عليه إلى هذه الأيام؟

بل ما الظن بنا ونحن أحرص الناس على تعاليم السلف الكرام فيما لا يمس جانب النفع الأدبي ولا يتصل بطرف الفائدة الحسية، حتى إن معارف علمائنا في هذه الحقبة لتشاكل بالحرف معارف آبائهم من ثلاثمائة عام وتنحط بالضعف عما كانت عليه معارفهم من ألف عام؟ وما الظن بنا ومثلي متكلمًا بهذا الموضوع في مثل هاته الجمعية الزاهرة، يخاف معاذ الله ألا يجد لديكم استحسانًا؟ لا جرم أنا أسعد خلق الله في أسعد بلاد الله، فالحمد لله ثم الحمد لله.

وقد سبق القول في حد التساهل أنه رضا المرء برأيه اعتقاد الصحة فيه مع احترامه لرأي سواه، وهذا وإن كان من الواجبات البديهية، والقضايا المسلَّمة عند ذوي العرفان، إلا أنه لسوء الحظ كغيره من سائر الواجبات ترشد الحكمة إليه، ولكن تغلب الشهوة عليه، حتى لا يكاد يوجد في الإنسان إلا عند العجز عن مجاوزة حده، لمجاوزة ضده، فهو كالحرية يشتاقها الإنسان مرءوسًا، وينكرها رئيسًا، وكالزهادة يقبلها سقيمًا وينبذها معافىً سليمًا، فلا يثبت على تغير الأحوال إلا عند ذوي النفوس الكريمة والطباع القويمة وما هم بكثير.

فَلَكم رأينا من فئة مستضعفين يطلبون التساهل ويدعون إليه بكل لسان يثبتون له الوجود من كل الوجوه، فلما أن قامت دولتهم، وقويت شوكتهم، وصار إليهم الأمر والقوة، كانوا من الغلاة المتعصبين. وهذه تواريخ العقائد الدينية والمذاهب الفلسفية والطرائق السياسية فيما تعاقب عليها من القوة والضعف والقبول والرفض شاهدة بصحة ما أقول، لا يقف النظر على صفحة منها إلا رأى المتساهل في ضعفه، متعصبًا يوم قوته، والمتلاين في حال خسفه، متشددًا في دولته؛ ولذلك لم يرضَ الحكماء من التساهل بأن يكون صادرًا من اللسان مراعاة لأحكام الضرورة أو من عاطفة القلب ميلًا إلى المعاملة بالإحسان، بل أوجبوا فيه الاعتقاد بتحتمه على الإنسان علمًا منهم بأنه يكون في الحالة الأولى متعلق الوجود ببقاء تلك الضرورة، والضرورات قابلة الزوال، وفي الحالة الثانية يتوقف البقاء على وجود تلك العاطفة والعواطف لا تستقر على حال. ومثل هذا الواجب الأدبي الحق لا ينبغي أن يناط بهاته الأسباب الواهية، وتلك العرى القريبة الانحلال، وإنما اللازم فيه تقييده بمبدأ متين من الحق، وتأييده بعماد مكين من اليقين، بحيث يعلم مع مخالفيه فيما يظهرون من آرائهم، وما يعلنون من مذاهبهم، أنه لا يفعل ذلك رهبة منهم إن كانوا أقوياء، ولا شفقة عليهم إن كانوا ضعفاء، ولكن قيامًا بواجب من العدل والحق.

قال أحد كتاب الفرنسيس في هذا الموضوع ما معناه:

«وجب التساهل على الإنسان من ثلاث جهات: من جهة نفسه، ومن جهة أبناء جنسه، ومن جهة الحقيقة — والحقيقة هي الله.»

فأما من جهة النفس فلأنه من واجباتنا الأدبية التماس العلم والحكمة في أي وعاء خرجا، وإصلاح ما عسانا أن نكون عليه من الخطأ. وكيف يحصل لنا ذلك إن سددنا أفواه الناطقين ظلمًا واستبدادًا، ولم نسمع ما يقولون لننظر في أقوالهم، فنتم آراءنا بآرائهم؟ قال فيكتور هيكو:

كل إنسان كتاب
يكتب الله سطوره

ويقول العاجز:

وكذا البحث زناد
قادح للحق نوره

كيف لا وفي أقوال أحقر الناس وآراء أصغر الخلق عبرة وفائدة وعلم جديد للمتأملين!

وأما وجوب التساهل على الإنسان من جهة حق الناس عليه فلأن العدل الموجب للتكافؤ يُلزمه بقبول ما يريد أن يقبله الناس منه سواءً، ولما كان أول واجباته الأدبية التماس الحق والصواب، وثانيها إيضاح ذلك الحق بالأقوال والأعمال كان من الظلم القبيح أن يمنع غيره من إبداء ما يظنه ذلك الغير صحيحًا، ومن العسف المنكر أن يشوش عليه ما يلتمس من الحق بالاغتصاب أو الإرهاب المانعين من التفكير.

وأما وجوب التساهل من الجهة الثالثة جهة الحقيقة الخالصة، فقد أثبته العقل ولم تَنْفِه نصوص الأديان بل أيَّدته في مواضع لا تعد، قال ترتليانوس الكلامي: «ليس من البر ولا التقوى أن تسلب حرية الناس في أمور الدين، فإن الله — سبحانه وتعالى — مُنَزَّه عن أن يريد أن يعبد اضطرارًا.»

وقال يوستنيانوس القديس: «أشد ما يخالف الدين نكرًا أن يُحمل الناس عليه قهرًا.»

وفي: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ وفي: وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بلاغ للمتبصرين.

فالذين يلتمسون الزلفى إلى الله بالوعيد والتهويل، والذين لا يريدون أن يُعبد إلا كما يريدون، والذين يحاولون رسم آرائهم في القلوب والجباه بالحديد والنار، كل هؤلاء يُغضبون اللهَ ويكفرون بالحق ولا يشعرون؛ فإن الحقيقة ليست بأجنبية ولا بعدوة لتلقى على كاهل المرء إلزامًا، وإنما نحن ضيوفها بالطبع فهي تُقبل علينا وتقف لدينا لنطلبها عن رضًا راغبين.

وقال شيشرون خطيب الرومان: «إنما نكون عبيد القانون لنصير بالقانون أحرارًا.»

وفي الحديث المأثور: «كن للحق عبدًا فعبد الحق حر.» وقول ذلك الخطيب الروماني ينطبق على ما نحن بصدده، فيقال فيه: يجب أن نكون أحرارًا لنخدم الحق كما يجب والحق هو الله.

وهذا دعاء المتساهلين نجعله للمقام ختامًا: يا بديع الصفات، إله جميع الموجودات، ما عرفناك حق معرفتك، ولا اهتدينا بضيائك لحكمتك، ألهمنا في أمورنا رَشَدًا، واسلك بنا سبيل الهدى، لنتعاون على احتمال النوائب الكثيرة، في هاته الحياة القصيرة، ونعلم أن الخلاف الذي بين وقاء أجسامنا الضعيفة، وبين لغاتنا المعاصرة، وبين عاداتنا السخيفة، وبين أحكامنا الناقصة وبين أحوالنا المتباينة، في ما نراه على استوائها لديك، إن جميع هاته المميزات بين هاته الذرات، لا تكون من أسباب الإحن والعداوات، فتستوي عبادتك برطانة من لسان قديم مهجور، وبغيرها من لسان جديد مشهور، ولا يميز بين مَن يوقد الشمع نهارًا لدعائك، ومن يكتفي فيه بضياء سماءك، وبين من يلبس لذلك الذهب والحرير، ومن يستقبل سمائك بأطمار الفقير، ويكون الذين ملكت أيمانهم قطعًا مدورة من بعض المعادن متمتعين بلا تيه بما يسمونه نعيمًا، والذين استولوا على نتفة حقيرة من متعة صغيرة منتفعين بلا كبر بما يحسبون ملكًا مقيمًا، ويكون سائر الناس راضين بالموجود، غير حاسدين على المفقود، ويذكر أبناء الإنسان أنهم في الإنسانية إخوان، فلا يمزق بعضهم بعضًا عنادًا، ولا يملئون الأرض فسادًا، تجليلًا لك عما يقول الجاهلون، وتنزيهًا لك عمَّا يزعم المتعصبون، أنك أعظم من أن تغضب، وأعز من أن ترضى، وأكرم من أن تعفو، وأكبر من أن تسر، وأجل من أن تساد، تماثلت لديك الذوات وتساوت عندك الأشياء، وأنت في الكل وللكل سواء. وقنا العثرة مع المتعصبين، واحشرنا في زمرة المتساهلين، آمين.

(٢٣) خطبة لمصطفي كامل

لما خمدت الحركة العرابية وخنق أنفاسها الإنجليز سادت البلاد المصرية فترة من الخمول السياسي حتى قيَّضت الأقدار لمصطفى كامل أن ينبِّه الأمة، فاستخدم لسانه وقلمه وماله في سبيل إيقاظ الأمة، فكان خطيبًا وصحفيًّا ومؤلفًا ومؤسسًا للمدارس. ومات في شبابه لأنه لم يضنَّ بهذا الشباب في خدمة مصر.

وكانت حياته موزعة بين جهدين: تحريك المصريين إلى مناهضة الإنجليز المحتلين لوطنهم والمطالبة بالاستقلال، وتحريك الأمم الأجنبية إلى إدراك مقدار العسف الذي يُنزله الإنجليز ببلاد مصر.

فكان يخطب في القاهرة وباريس، وله رسائل تنشر في الإسكندرية وبرلين، وكان له صحف تدافع عن قضيتنا بالعربية وأخرى تحاول إيقاظ ضمير الأمة المحتلة بالإنكليزية.

فلئن فخرت إيطاليا بغريبالدي وتباهت المجر بكوشوت فلنزهو نحن بمصطفى كامل.

خطب في الإسكندرية في سنة ١٨٩٧ فقال:

سادتي وأبناء وطني الأعزاء

إني بفؤاد ملؤه الفرح والسرور أقف الليلة أمامكم متكلما عن شئون الوطن المحبوب ومصالحه، وإني لأقابل انعطافكم نحو أضعف خدمة البلاد بمزيد الحمد والشكران، وأستميحكم العفو إذا قصرت في أداء هذا الواجب، فإني إنما أسر بهذا الانعطاف وبهذه المظاهرات، لا لأنها موجهة لشخصي الضعيف؛ بل لأنها أكبر دليل علني على حياة الشعب المصري، وأقوى حجة تكذِّب دعوى القائلين بأن مصر وطن لا وجود للوطنية فيه، وأن أبناء وادي النيل يقدمون بأنفسهم إلى ألد أعدائهم وطنهم وأقدس ميراث لآبائهم وأجدادهم.

أجل، أيها السادة، إنكم باجتماعكم اليوم هذا الاجتماع الوطني ترفعون كثيرًا من مقام الوطنية المصرية وتخففون من آلام مصر العزيزة التي قاست وتقاسي أشد العذاب على مشهد منكم يا أعز بنيها ويا نخبة أنجابها، فكل اجتماع وطني تذكر فيه مصر ويطالب بحقوقها ويعلن أبناؤها إخلاصهم لها هو في الحقيقة مَرهم لجراحها ودواء لدائها، فاذكروها ما استطعتم، فإن في ذكراها ذكرى آلامها، وذكرى الآلام يجرُّ حتمًا إلى ذكر عوامل الشفاء. اذكروها كما يذكر الولد الحنون أمه الشفيقة وهي على سرير المرض والعناء، اذكروها بآلامها وإن كان غيركم يذكر بلاده بمجدها ورفعة شأنها. اذكروها فإنكم ما دمتم مقدرين لمصائبها عارفين بحقيقة آلامها دام الأمل وطيدًا في سلامتها ودام الرجاء. اذكروها فمن المستحيل أن يرى العاقل النار في داره والداء في شخص أمه ويهمل النار ويهمل الداء. ومن المستحيل كذلك أن يكون الوطن في خطر ونحن نيام، وأن يعمل الأجنبي لامتلاك بلادنا وسلب حياتنا بل لاستعبادنا واسترقاقنا ونحن جامدون لا عمل ولا حراك.

ألقوا أيها السادة بأنظاركم قليلًا إلى الأمم الحرة تجدوا كل فرد فيها يدافع عن وطنه ويذود عن حوض بلاده أكثر من دفاعه عن أبيه وأمه، بل هو يرضاهما ضحية للوطن ويرضى نفسه قبلهما قربانًا يقدمها لإعلاء شأن بلاده، ويعد الموت لأجل الوطن حياة دونها الحياة البشرية ووجودًا دونه كل وجود. فلم لا يكون المصري على هذا الطراز ووطنه أجمل الأوطان وأحقها بمثل هذه المحبة الشريفة الطاهرة؟

اسألوا التاريخ أيها السادة ما واجب أمة دخل الإنجليز ديارها خدعة وعملوا لامتلاكها وسلبها كل سلطة وكل قوة، يُجبْكم التاريخ إن واجب أمة هذا شأنها أن تعمل بكل ما في استطاعتها ضد مغتصبها وأن تبذل في سبيل خلاص وطنها كل ما تمتلك من مال ورجال.

أجل، كل احتلال أجنبي هو عار على الوطن وبنيه، والعار واجب أن يزول. ولست أقصد بهذا الكلام أن أسألكم باسم الوطن إعلان ثورة دموية ضد محتل البلاد، كلا ثم كلا، إن أقل الناس إدراكًا لمصلحة مصر يعلم علم اليقين أنها منافية لكل ثورة وكل هيجان، وإنما أسألكم أن تعملوا بكل الوسائل السلمية على استرداد الحقوق المسلوبة منكم وأن تعملوا لأن تحكم البلاد بأبناء البلاد. نعم إني أعلم أن الاحتلال قوي السلطة عظيم الرهبة شديد العقاب، وأن العمل ضده موجب للعذاب مسبب للفقر والفاقة، ولكن في الرضا بالاحتلال الخيانة والعار، وفي العمل ضد الاحتلال الشرف والفخار.

فيا ذوي النفوس الأبية ويا ذوي الضمائر الحية، اطلبوا الشرف ولو مع الفقر، اخدموا الوطن ولو أسقطت على رءوسكم الصواعق، كونوا مع مصر إن سعيدة فسعداء وإن تعيسة فتعساء، قولوا لعدوها في وجهه: أنت عدو لنا، ولصديقها: أنت صديق لنا، لا تحبوا من يرميها بنبال الموت بل امنعوه عنها إن قدرتم، ثم ردوها في صدر راميها إن استطعتم، وإن لم تستطيعوا فكونوا معها لا مع المعتدين.

وإن لمصر غير المحتلين أعداء آخرين هم آلات الاحتلال، آلات الفساد، فإن ذكرتم الأعداء فاذكروا الخونة فهم ألد الأعداء، وأي الأعداء هم، أولئك الذين أنكروا الوطن والوطنية، وائتمنوا على مصالح الأمة فعرضوا بها للدمار، أولئك الذين أبرَّتهم مصر فقابلوا برها بالسوء وصاروا اليوم في أيدي المحتلين ضد الوطن العزيز، آلات الدمار، آلات الخراب، أولئك الذين كلما صعدوا درجًا من درجات المناصب نزلت نفوسهم دركًا وفقدوا نصيبًا من الشرف وسمو الإحساس، أولئك الذين يبيعون الوطن على مشهد من الأمم ويسيرون بين الناس حاملين لواء الخيانة والعار، أولئك الذين إذا مد إليهم الوطن يد الاستغاثة مدوا إليه سيوفًا ليقطعوا بها يده الشريفة.

هؤلاء هم الخونة وهم أشد الأعداء ضررًا، ويعلم الله أن الدم الذي يجري في عروقهم هو دم فاسد ليس بالدم المصري الصادق، وإنهم مهما ذاقوا من لذة الحياة الظاهرية فسينالهم العقاب أقسى العقاب ولو من أنفسهم متى حاسبوا ضمائرهم. نعم سيعاقب الخائنون على خيانتهم، فكم رأينا في التاريخ رجالًا خانوا أوطانهم وساعدوا الأعداء على امتلاك بلادهم، فعوقبوا على خيانتهم لا من أبناء وطنهم فقط بل من نفس الأعداء الذين خدموهم وساعدوهم، هذه سنة الله في خلقه، يقتل القاتل عقابًا على عمله، فكيف بمن يعتدي على أمة بأسرها بالخيانة ويعتدي عليها بالسلاح الذي سلمته إياه ليدافع به عنها؟

نعم، سيعاقب الخائنون وسيحمل أبناؤهم من بعدهم علم الخيانة على رءوسهم وسيبقون في التاريخ مثلًا كبيرًا للأبناء والأعقاب.

وإن ذكرتم الأعداء فاذكروا المنافقين، فهم خونة تفننوا في أساليب الخيانة يظهرون أمامكم بمظهر المخلصين وهم يدبرون مع الأعداء المكايد والدسائس، فهم ذوو وجهين وذوو لسانين فحاذروهم وأعلنوا أمرهم ليخيب مسعاهم وتحبط أعمالهم.

أيها السادة، أعداء الوطن عديدون، ومصائب الوطن عديدة، وبديهي أن ازدياد الأعداء يزيد من واجبات الوطنيين المخلصين لبلادهم، فلا تظهر الوطنية الحقة إلا في أوقات الخطر ولا تُعرف الهمم العالية إلا عند المصائب، وغني عن البيان أن الأمة بأسرها كارهة للاحتلال، راغبة في الجلاء والحرية وقد أظهرت هذه الرغبة في ظروف عديدة وجاهرت بها حينًا بعد حين، إلا أنها كسائر الأمم في حاجة لأن يرشدها أبناؤها المتعلمون ورجالها الخبيرون، ويسرني كما يسر كل مصري صادق أن الناشئة المصرية عارفة بواجباتها نحو الوطن العزيز، فهم أبناء الوطن وهم رجال المستقبل وبهم تحيا البلاد وبهم تقوم.

ولكن هناك فئة من المصريين لا أنكر إخلاص رجالها للوطن العزيز، ولكن أنكر عليهم اليأس الذي يتظاهرون به في كل وقت وفي كل مكان، فهم ما عملوا ولا يعملون للبلاد عملًا نافعًا ولكنهم جعلوا اليأس علة عدم العمل وعلة الكسل، فإن سألتهم: لم لا تقومون بعمل عمومي نافع للبلاد؟ أجابوك: نحن يائسون من مستقبل الوطن معتقدون بظلمة الأيام الآتية.

فبالله كيف يستطيع طبيب أن يحكم على عليل بعدم الشفاء قبل أن يفحص داءه ويعطيه الدواء؟! على أننا نرى الكثير من الأطباء لا ييأس أبدًا من شفاء المريض حتى في آخر لحظة من حياته، فكيف ييأس رجال من بني مصر من مستقبل البلاد؟ وهم وإن كانوا قد خبروا داء مصر فيعلم الله ويعلم الناس أنهم إلى اليوم ما قدموا لها الدواء، كيف نيأس من المستقبل والمستقبل بيد الله وحده وكثيرًا ما تأتي الحوادث بخلاف المنتظر وبغير حساب؟ ألم يكن الكثير من المصريين ومن غير المصريين في يأس من مستقبل الدولة العلية ويعتقدون أنها على مقربة من الموت، فها هي اليوم قد ساعدتها الحوادث التي ساقها الأعداء مؤملين البطش بها، فظهرت بمظهر القوة والحياة، وأصبحتم جميعًا فرحين بسلامتها معتقدين حسن مستقبلها.

كيف نيأس من المستقبل وقد أرانا التاريخ أممًا حكمها الأجانب قرونًا طويلة ثم قامت بعد الذل والاسترقاق مطالبة بحقوقها وأخرجت الأعداء من ديارها واستردت حقوقها وحريتها.

هي النفوس الصغيرة التي يُخلق عندها الأمل بكلمة أو بتلغراف، ثم يستولي عليها اليأس بكلمة أو بتلغراف. أما النفوس العالية الكبيرة فيدوم الأمل ما دام الدم في العروق وما دامت الحياة.

وأي حياة ترضاها النفوس الشريفة مع اليأس، أيجمع المرء في جسم واحد الموت والحياة؛ إذ اليأس موت حقيقي وأي موت؟!

كيف نيأس ونحن جميعًا عالمون بأن ما يظهر طويلًا في حياة الأفراد هو قصير في حياة الشعوب؟ فعشر من السنوات في حياة الإنسان طويلة حقًّا ولكنها في حياة الأمة قصيرة جدًّا. على أنه إذا كان اليائسون معتقدين صحة أفكارهم فعار عليهم أن يقوموا في الأمة بوظيفة تثبيط همم الآملين. والآملون في البلاد كثيرون بل الأمة كلها مؤملة خيرًا في المستقبل، وإن لم تظهر إلى الآن أعمال الآملين فستظهر بعد قليل وسترى الأمة المصرية وأمم العالم أجمع أن للوطن المصري أبناء مخلصين يقدرون الوطنية قدرها ويعرفون لمصر حقوقها ولا يخافون الاحتلال وقوته بل يجاهدون في سبل خلاص البلاد منه أشد الجهاد وأحسنه. ولا غرو فإن سبيل خدم الوطن عديدة وإن أهمها إعلان الحقيقة في كل بلد وفي كل زمان، فالحرية بنت الحقيقة وما انتشرت الحقيقة في أمة إلا وارتفعت كلمتها وعلا شأنها، فالحقيقة نور ساطع إذا انتشر اختفى الظلم والظلمة وانتشرت الحرية والعدل، فكما أن الأفراد لا تسلب حقوقهم ولا يعتدي اللصوص على أمتعتهم إلا في ظلام الليل الحالك، فكذلك شأن الأمم لا تسلب حقوقها ولا يعتدي العدو على أملاكها إلا إذا كانت الحقيقة مجهولة فيها وكانت هي عائشة في الجهل والظلام.

فيا أيها المصريون المخلصون لمصر، انشروا الحقيقة في أمَّتكم وفي الأمم الأخرى، قولوا للمصري إنه إنسان من بني الإنسان له حقوق الإنسان تروه رجلًا كرجال الأمم الحرة يحمل لواء الوطن بكل قوة وإقدام. قولوا للفلاح المصري إنه خلق إنسانًا ككل إنسان وإن الله أعطاه في الحياة حقوق أكبر الأفراد، وإن له صوتًا لو رفعه سمع في الملأ الأعلى، وإنه ما خلق لأن يعمل لغيره بل ليعمل لوطنه ولنفسه تروه عندئذٍ أشد الناس دفاعًا عن حقوق الأمة والوطن. قولوا للأمة المصرية إنها أمة كسائر الأمم من أقدس حقوقها أن تحكم نفسها بنفسها وألَّا تنفذ رغائب غيرها وأن تكون في بلادها عالية الكلمة قوية السلطة لا يرد لها رأي ولا يخالف لها أمر؛ هنالك تجدون الأمة حية والشعب قويًّا ولا ترون أولئك الذين يهزءون برغبة الشعب ورغبة نوابه ويسخرون من رغائب الأمة ومن مطالبها.

انشروا الحقيقة عن مسألة مصر في كل بلد وفي كل نادٍ، فليس المصريون وحدهم هم أصحاب الحقوق في مسألة مصر ضد المحتلين، بل معهم أمم كثيرة من أمم أوروبا لها في مصر مصالح توافق مصالحهم ولا توافق مصالح المحتلين، وخير ما يعمل لمصلحة مصر هو أن تنضم الأمم الأوروبية إلى الأمة المصرية ضد الاحتلال الإنجليزي؛ ففي ذلك الخلاص وفي ذلك السلام.

ولسنا أيها السادة بأنصار دولة دون دولة بل نحن أنصار الوطن المصري وطن الآباء والأجداد وموطن الأبناء والأعقاب، فإن ظهرت دولة من الدول بمظهر المحبة لمصر والميل لمساعدتها كنَّا أكبر أصدقائها وأعظم أنصارها، فمصلحة وطننا قبل كل مصلحة، وهي هي المصلحة الوطنية التي تفرض علينا أن نشكر من صميم فؤادنا الذين رفضوا من سياسيي أوروبا العمل مع الإنجليز ضد مصر والذين أوقفوا الإنجليز عند حد الاحتلال في البلاد. وهي هي المصلحة الوطنية التي تفرض علينا أن نشكر كل رجل من أي أمة كان يدافع عن حقوق وطننا ويساعدنا على استرداد حريتنا وحقوقنا الشرعية.

وإذا كان بعض الرجال المخلصين للوطن العزيز يخافون الظهور أمام قوة الاحتلال بمظهر المجاهرين ضده ولا يستطيعون أن يقوموا أمام الأمم مدافعين عن بلادهم مناضلين عن حقوق شعبهم، فعليهم في مصر نفسها واجبات وطنية يضيق المقام عن عدِّها، ولكني أقف قليلًا وأذكر منها بنوع خاص واجب تربية الأمة وتعليمها.

نعم، إن هذا الواجب أكبر واجب وطني والبلاد مطالبة بالقيام به، فقد أصبحت المدارس على خلاف رغائب الشعب وآماله، وأصبحت الأمة في حاجة إلى مدارس أهلية ترشدها إلى مصلحة البلاد الحقيقة وتعلمها ما للأمة من الحقوق وما عليها نحو الوطن من الواجبات.

لم لا يقوم كبراءُ مصر ووزراؤها السالفون بأمر تأسيس المدارس الأهلية وتربية الأمة، لم لا يعقدون الشركات لهذه الغاية ويخصصون أيامهم الأخيرة لهذا العمل الشريف؟ رأينا عظيمًا منهم قام بمسألة الإعانة العسكرية وأجهد نفسه في هذا الأمر وله من الأمة والوطن جزيل الشكر والثناء، فلم لا نراه يقوم مع الكبراء الآخرين بمسألة إعانة عمومية لتأسيس مدارس أهلية والبلاد في أشد حاجة إليها؟ يا أيها الكبراء ويا أيها العظماء ويا أيها الأغنياء، ما الفخار بالرتب والألقاب ولا بسكنى القصور العالية والتحدث بما كان وما ربما سيكون، بل الفخار كل الفخار في العمل آناء الليل وأطراف النهار لخدمة البلاد وإعلاء شأنها، فما الحياة بأيام تمر وسنين تكر بل بالعمل وبالخدمة الوطنية:

وما الحياة بأنفاس نرددها
إن الحياة حياة الفكر والعمل

وإذا كان رجل ضعيف الصوت مثلي يسأل السادة الأمراء والسادة الأغنياء العمل في الشيخوخة والقيام في آخر العمر بتتويج خدمتهم الوطنية؛ فذلك لأني أعتقد أن الكثير منهم قضى حياة شريفة وخدم البلاد بصدق وإخلاص، فهي هي البلاد بنفسها تسأل خيرة رجالها على لسان أضعف أبنائها أن يبقوا مثلًا طيبًا للشبيبة والناشئين، وأن ينشروا في الأمة نور التربية ونور الحقيقة وأن يبثوا فيها روح الوطنية وروح الرجاء.

نرى الكثيرين من الأغنياء يهتمون بأمر توظف أبنائهم ولا يرون الشرف إلا في الوظائف، فمتى يسمعون أنين الوطن وشكايته من هذا الداء العضال؛ داء السعي وراء الوظائف.

اتركوا الأبناء معشر الآباء في الحياة الحرة، اتركوهم يخدموا الوطن ويخدموا أنفسهم في غير دائرة الوظائف، اتركوهم أحرارًا غير مقيدين بقيود الرواتب، ابعثوا بهم إلى الخارج ليدرسوا التجارة والصناعة ويؤسسوا في البلاد المعامل والمصانع تزدادوا بذلك شرفًا وفخرًا وتزدادوا أمام الله وأمام الوطن مثوبة وأجرًا، وإلا فإن أهملت تربية الأمة وبقي الكبراءُ منعكفين في إدارة شئونهم الخاصة واستمر الآباء يلقون بالأبناء إلى مهاوي التوظف في الوظائف وبقيت التجارة والصناعة في كساد ودامت الأمة في حاجة إلى استجلاب لوازمها الضرورية من غير بلادها، دام الانحطاط ودام التأخر ودام الخطر، (انتهت باختصار).

(٢٤) خطبة لسعد زغلول باشا

ليس في مصر اسم أجرى على اللسان تعرفه المرأة في خدرها ويهتف به الطفل ويشيد به الشباب من اسم سعد زغلول، فهو الآن بطل الوطنية المصرية غير مدافع، صلب العود قوي الشكيمة. عجمه الإنجليز فاستخشنوه فلفظوه إلى أقاصي أفريقيا في جزيرة سيشل، فعاد أخشن ما كان موفور الكرامة مرفوع الرأس.

عدت على جسمه عوادي الشيخوخة فأحنى ظهره عبء سبعة عقود، ولكنه اغتصب من هذه الشيخوخة العادية تاجًا من الشعر الأبيض زاده جلالًا وجمالًا في عين الأمة.

له عزائم الشباب لأن في قلبه فتوة الشباب، يفكِّر تفكير الفيلسوف لأن الطبيعة حابته برأس كبير كما حاباه الدهر بتجارب لا عداد لها، فكان محررًا وكان ثائرًا وكان محاميًا وكان قاضيًا وكان وزيرًا.

قال في سنة ١٩٢١ في فندق ماجستك بالإسكندرية:

يا سمو الأمير، إخواني، أبنائي

اعذروني إذا أنا لم أقدر أن أخاطبكم كما أريد لأني تعب، أضناني التعب من هذه الاحتفالات الساهرة، تلك المظاهر الساحرة، هذا الاستقبال الذي لا نظير له، وإني بكل قوتي أحتج على قول حضرات أبنائي بأني أنا وحدي الذي فعلت هذا الذي تمدحونني عليه، أحتج بكل قوتي لأني لست وحدي فيه، بل للأمة جمعاء أثر فيه.

أريد في وسط هذه المظاهر الهاتفة أن أوجه شكري وثنائي إلى الذين اشتركوا في تأسيس مجدنا وتوفير سعادتنا وإنعاش آمالنا.

أتوجه والخشوع يملأ جوارحي إلى تلك الأرواح الطاهرة أرواح أولئك الأبطال الذين نادوا بالحق والحق منكر، ففاضت أرواحهم وألسنتهم تردد ذلك النداء، فاضت وقد شرفونا بإقدامهم وألزموا الكل باحترام مصر واسمها وبيضوا وجوهنا، والآن فليناموا هادئين فقد انبلج فجر الاستقلال مضمخًا بدمائهم، وخلفوا من بعدهم من يستحق ذلك الفداء، بيض الله برحمته أجداثهم وأسكنهم جنات العلا وأرضى عن أعمالنا أرواحهم وأراحهم بتحقيق آمالنا.

لله در الشبيبة ما فعلت، فإنها قد فتحت ما ضمت صدورها من كنوز الفتوة، وملأت قلب البلاد عزة وحماسة وملأت رءوسها حكمة وملأت حركاتها نظامًا، تلك الشبيبة التي هي عماد الحركة الحاضرة ومبعث أنوارها الساطعة، أشكرها شكرًا جزيلًا، وأرتاح جدًّا لأن المستقبل سيكون بيدها وهي يد ماهرة.

وأشكر العلماء والقسس الذين باتحادهم أبطلوا حجة في يد الخصوم طالما اتخذوها سلاحًا قاطعًا، أزالوا الفوارق وأثبتوا أن الديانات واحدة تأمر بالدفاع عن الوطن، وأنه ليس لها تأثير إلا في عبادة الخالق جلَّ وعلا، أما في الوطن فالكل سواء.

وأشكر أيضًا الأمراء الذين حملهم ما ورثوه عن آبائهم من المجد والفخار أن ينزلوا إلى صفوفنا وينضموا إلى التاجر والصانع والزارع والعامل وكل من يخفي تحت تلك الثياب الزرقاء والبيضاء نفسًا كريمة وقلبًا أبيًّا، انضموا إلى هذه الصفوف لأجل أن يستحقوا بعنوان آخر ذلك المجد الذي ورثوه عن الآباء.

فشكرًا لهم ثم شكرًا، والحق إن كل إنسان من المصريين قد قام بالواجب عليه، وكلٌّ نافس أخاه في القيام بهذا الواجب وزاد عليه ليكون ممتازًا على أقرانه بشيء في خدمة الوطن العزيز، فكلكم شاكر وكلكم مشكور. ومن مجموع هذه المساعي سارت قضيتنا إلى هذه النقطة الحاضرة، فإننا لما قلنا إن الحماية لاغية أعلنوا اليوم هم أنها ليست باقية وأظهروا استعدادهم لاستبدالها بعلاقة أخرى راضية. والفضل في هذا الفرق العظيم لسعيكم لا لسعيي والتمسك بالمبادئ السامية، فاهنئوا بما نِلتم واثبتوا حتى تفوزوا بالأماني الباقية.

خطبة أخرى لسعد زغلول باشا

ألقاها في كلية الأزهر بالقاهرة بين الطلبة في أبريل سنة ١٩٢١.

جئت اليوم لأؤدي في هذا المكان الشريف فرض صلاة الجمعة، ولأقدم واجبات الاحترام لمكان نشأت فيه وكان له فضل كبير في النهضة الحاضرة، تلقيت فيه مبدأ الاستقلال لأن طريقته في التعليم تربي ملكة في النفوس، فالتلميذ يختار شيخه والأستاذ يتأهل للتدريس بشهادة من التلاميذ الذين كانوا يلتفون حول كل نابغ فيه ومتأهل له يوجه كل منهم إليه الأسئلة التي يراها، فإن أجاب الأستاذ وخرج ناجحًا من هذا الامتحان كان أهلًا لأن يجلس مجلس التدريس، وهذه الطريقة من الاستقلال التي تسمى الآن خللًا في النظام جعلتني أتحول من مالكي إلى شافعي حيث وجدت علماء الشافعية في ذلك الوقت أكفأ من غيرهم. ولقد كان للأزهريين في الحركة الحاضرة فضل كبير بما ألقوه من الخطب وما بثوا من الأفكار والمبادئ النافعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤