الفصل العاشر

من السببية إلى القانون العلمي

١

لو كانت الأشياء ساكنةً ثابتة على حالة واحدة لا تتغيَّر، لما نشأت عند الإنسان فكرة السببية؛ لأن هذه الفكرة وليدة ما يطرأ على الأشياء من تغيُّر؛ فما ينفكُّ الشيء الواحد — فيما نُدركه منه بحواسنا — يتغيَّر ويتبدَّل حالًا بعد حال، فلا يسعنا إلا أن نتساءل إزاء كل حالة من حالات التغير قائلين: ما عِلَّة التغير هنا؟ أیكون ثَمة علاقة بين التغير الطارئ على هذا الشيء المعيَّن والتغير الطارئ على ذلك الشيء الآخر؟ أيكون ثَمة علاقة — مثلًا — بين الذبول الذي أصاب هذه الزهرة وبين ارتفاع الحرارة في الهواء المحيط بها؟ وإن كان هنالك مثل هذه العلاقة بين الظاهرتين فماذا عساها أن تكون؟

وقد لفتت ظاهرة التغير هذه أنظار الفلاسفة منذ فجر التفكير الفلسفي المنظَّم؛ إذ سأل الفلاسفة الأوَّلون سؤالًا أساسيًّا جعلوا له أسبقية على سؤالنا عن العلاقة بين حالة التغير هنا وحالة التغير هناك، سأل هؤلاء الأولون قائلين: ما الذي يتغيَّر؟ إنه لا شك فيما تُنبِئنا به حواسُّنا من حالات التغير في هذا الشيء أو ذلك؛ فالشمس تُشرِق ثم تَغرُب، والقمر يظهر ثم يختفي، والنهر يَفِيض بمائه ثم يَغِيض، والزهر يتفتَّح ثم يذبُل، وكل حي صائرٌ إلى موت؛ هذه كلها ضروب من التغير لا شك في حدوثها، فقبل أن نسأل عنها، وجب أن نسأل عما وراءها: فما العنصر أو العناصر التي يطرأ عليها هذا التغير أو ذاك؟ أيكون هناك تغيُّر دون أن يكون هناك ما يتغيَّر؟ وهكذا راح فلاسفة اليونان يسألون عما وراء هذا التغير الظاهر من ثبات، وعما خلف هذه الأعراض العابرة من دوام.

وسرعان ما تبلورَت المشكلة في هذه الصورة: كيف يكون الكون متغيِّرًا وثابتًا في آنٍ واحد؟ كيف يجتمع هذان النقيضان في شيء واحد بحيث يجوز لنا أن نقول عنه إنه ذو جوهر ثابت ومع ذلك فهو يتغيَّر حالًا بعد حال؟ فإن كان لهذه الزهرة حقيقة ثابتة فكيف نقول عنها في الوقت نفسه إنها تذبُل بعد نضارة وتزول بعد نماء؟ وقُل سؤالًا كهذا عن الكون كله؛ فإن كان ذا حقيقة ثابتة دائمة فكيف نقول عنه في الوقت نفسه إنه متغيِّر متحوِّل، على النحو الذي تُدركه الحواس؟

أما الإيليُّون فقد أزالوا التناقض ببَترِ أحد شطرَيه، فجعلوا للحقيقة القائمة ثباتًا، وأنكروا أن يكون التغير البادي أكثر من خداع ووهم؛ فإن كان ثبات الحقيقة يُدركه العقل، وتغيُّر الظواهر تُدركه الحواس، فالعلم الجدير بهذا الاسم هو ما يُدركه العقل لا ما تُدركه الحواس. وأما هرقليطس فقد أزال التناقض أيضًا ببَترِ أحد شطرَیه، لكنه بترَ ما أبقاه الإيليُّون، وأبقى ما بتروه، فلا ثبات هناك — عند هرقليطس — ولا دوام، وكل ما في الأمر تغيُّر بلا متغيِّر، وحركة بلا متحرِّك، كل ما هنالك حالات يَعقُب بعضها بعضًا، وما نظنُّه في الأشياء من دوام هو الوهم وهو الخداع. إن هذا الذي تُسمِّیه نهرًا هو في الحقيقة حالاتٌ عابرات، لا تكاد حالة منها أن تحُلَّ حتى تزول، فليس النهر الذي تغمس فيه قدمك الآن هو هو النهر نفسه الذي تعود فتغمسها فيه مرةً أخرى، مهما يكن من قِصَر الفترة التي تفصل الغمستين، فأنت — على حد تعبير هرقليطس — لا تخطو في النهر الواحد مرَّتَين. وجاء أفلاطون بحلٍّ ثالث يعالج به التناقض في قولنا عن الشيء إنه ثابت ومتغير معًا؛ إذ شطَر العالَم عالَمَين، فعالمٌ منهما يكون للثبات، والآخر يكون للتغير؛ فأما عالم الثبات فقوامه أفكار مجرَّدة لا أشياء مُفرَدة، ومن طبيعة الفكرة المجرَّدة أن تكون ثابتة دائمًا على تعريف واحد، مهما أصاب تطبيقاتها من تغيُّرات تجعلها تَبعُد أو تدنو من الفكرة النموذجية لهذه التطبيقات، فقل ما شئت عن المثلثات المرسومة على الورق من قُربها أو بُعدها عن المثال الكامل، لكن تعريف هذا المثلث الكامل سيظل هو هو دائمًا، وهذا التعريف «فكرة» قائمة، وستظل قائمةً حتى إن محوت كل ما فوق الأرض من مثلثات مرسومة؛ وإذَن فهنالك الجانبان معًا؛ الثبات في ناحية والتغير في ناحية أخرى، ولكلٍّ منهما عالَم قائم بذاته.

ومهما يكن أمر التغير الظاهر أحقيقة هو أم وهمٌ وباطل، فإن ما يهمُّنا منه في سياقنا هذا هو حالات التغير التي يُقال عنها إنها مجال للعلاقة السببية بين الحالة التي بدأ منها التغير والحالة التي انتهى إليها؛ فماذا تكون العلاقة التي تربط بين ما نُسمِّيه «سببًا» أو «عِلَّة» وبين ما نُسمِّيه «مسبَّبًا» أو «معلولًا»؟

لقد تناول أرسطو موضوع السببية أو العِلية بالبحث؛ لأن مهمة علم الطبيعة — في رأيه — هي معرفة أسباب ما يَحدُث فيها من تغيُّر، وعنده أن هذه الأسباب أربعة أنواع، هي العلة المادية والعلة المحرِّكة والعلة الصورية والعلة الغائية، وليست هذه العِلل تتعاقب بعضها بعد بعض، كلا وليس بعضها يقوم في حالة على حين يقوم بعضها الآخر في حالة أخرى، بل إنها جميعًا تعمل معًا في كل حالة من حالات الوجود؛ فالعلة المادية لشيء هي المادة التي يتكوَّن منها الشيء كالبرنوز للتمثال، والعلة المحرِّكة هي القوة التي عملت على تغيير المادة لتتخذ شكلًا جديدًا، كالمثَّال الذي يصنع من البرنوز تمثالًا، والعلة الصورية هي الصفات التي تجعل من الشيء ما هو، كالشكل الذي يُصَب فيه البرونز ليكون تمثالًا من طِراز معيَّن، والعلة الغائية هي المَقصد الذي تتجه الحركة لبلوغه، فالعلة الغائية التي في سبيلها تناولَ المثَّال قطعة البرونز ونحتَها صورةً معيَّنة بإزميله، هي التمثال نفسه الذي نتج.

وإنا لَنُلاحظ أن المعاني التي قصد إليها أرسطو بكلمة «علة» أو «سبب» تختلف عما يُفهَم من هذه الكلمة في استعمالنا اليومي وفي استعمالنا العلمي اليوم على السواء؛ فإذا سألت في سياق الحياة اليومية الجارية، مشيرًا إلى تمثال برونزي، قائلًا: ما علة صنع هذا التمثال؟ لما كان الجواب أنه وجود قطعة البرونز؛ ولا كان الجواب أنها الماهيَّة التي صِيغَ البرونز عليها فجعلَته تمثالًا؛ أي إن الجواب لا يكون بذكر العلة المادية ولا بذكر العلة الصورية، وإنما يكون دائمًا بذكر العلة المحرِّكة أو العلة الغائية، أو بذكرهما معًا، فنقول إنه المثَّال هو علة صنع التمثال، أو نقول إن إنتاج هذا التمثال المعيَّن كان هو علة صنعه. وكذلك في استعمالنا العلمي لهذه الكلمة اليوم لم نعُدْ نقصد هذه المعاني الأربعة كلها، فليست الغاية المقصودة جزءًا من العلة في لغة العلم، كلا ولا الماهية التي تجعل من الشيء ما هو جزءًا من العلة، فلا يجوز — مثلًا — إذا أردت أن أعلِّل كُسوف الشمس أو فيضان النهر أن أسأل ما الغاية المقصودة من هذه الظاهرة أو تلك، ولا أن أسأل على أي صورة تكون ماهيَّة الظاهرة، بل السؤال ينصرف إلى ما قد حدث قبل حدوث الظاهرة بحيث يكون حدوثه مطَّرِدًا دائمًا مع حدوثها؛ فلو استبدلنا بكلمة «محرِّكة» في لغة أرسطو كلمة «سابقة» كانت العلة في لغة العلم الحديث — كما سنشرح بالتفصيل فيما بعد — هي الحادثة السابقة للظاهرة أسبقيَّةً لا تتخلَّف ولا تمتنع.

وكان «ديفد هيوم» (١٧١١–١٧٧٦م) هو أول من نقَل فكرة العِلية أو السببية هذه النقلة الواسعة التي كان لها أبعد النتائج في تفكيرنا العلمي المعاصر، بحيث أصبح معناها هو الاطِّراد الملحوظ بين حادثتَين أو مجموعتين من الحوادث، اطِّرادًا يُجيز لي أن أتوقَّع حدوث المجموعة التالية إذا حدثَت المجموعة الأولى، دون أن يكون في المجموعة الأولى التي هي «سبب» ما يحتم بالضرورة أن تَصدُر عنها المجموعة الثانية، وسنتناول هذا الرأي بالشرح والتحليل.

سَلْ من شئت: ماذا تعني بقولك إن تيار الهواء في الغرفة هو «سبب» إصابتك بالبرد، أو إن جرعة السم التي شربها سقراط هي التي كانت «سبب» موته؟ تجده يُجيبك أول الأمر بوضع كلمة مكان أخرى ظنًّا منه أنه بذلك قد أوفى الجواب، كأن يقول مثلًا: إن الشيء يكون «سببًا» في شيء آخر إذا «أحدثَه»؛ فتيَّار الهواء هو الذي «أحدث» الإصابة بالمرض؛ ولذلك فهو «سبب» المرض، وجرعة السم هي التي «أحدثَت» الموت؛ ولذلك فهي «سببه». ولكن صاحبك — كما ترى — لا يُفسِّر شيئًا؛ لأنك لا تزال في موقفك الأول إزاء المشكلة، وبعد أن سألته ماذا تعني حين تقول إن شيئًا ما «سبب» في شيء آخر، فأنت الآن مضطرٌّ إلى سؤاله من جديد: ماذا تعني حين تقول إن شيئًا ما «أحدثَ» شيئًا آخر؟ ﻓ «السبب» و«الإحداث» لفظان مترادفان، وليس المطلوب هنا هو أن نضع مُرادِفًا مكان مُرادِف، بل أن نُحلِّل ما نعنيه بالمترادفَين كليهما، فنحن ها هنا لا نطلب تعريف لفظ بلفظ كما تُعرِّف كلمة «الليث» بأنها «الأسد»، بل نريد تعريف لفظ بالإشارة إلى مُسمَّاه، كما تُعرِّف كلمة الأسد بالإشارة إلى فرد من الحيوان المُسمَّى بهذا الاسم؛ فإلى أي شيء في الطبيعة تشير إذا أردت أن تُحدِّد معنى كلمة «سبب»؟

قد يخطو صاحبك هنا خطوةً نحو الإجابة الصحيحة حين يستعرض بضعة أمثلة من حالات نقول فيها إن شيئًا ما «سبب» في شيء آخر، فيجد عنصرًا مشتركًا بينها جميعًا، وهو أن ما نُسمِّيه «سببًا» سابق دائمًا على مسبَّبه، بحيث يجوز لنا أن نقول إن معنى السببية بين الطرَفَين هو هذه «الأسبقية» في الحدوث، ولكنك سرعان ما تلفِت نظره إلى أنه ما كل أسبقية في الحدوث نقول عنها إنها علاقة سببية، فربما حدثَ صِدام بين قطارَين منذ لحظة في موضع من الوجه القِبلي بمصر، لكن هذا الصِّدام ليس «سببًا» في أني قد أمسكت بقلمي الآن لأكتب وأنا في القاهرة، رغم أن الحادثة الأولى كانت أسبق في الزمن من الحادثة الثانية؛ فأسبقية الحدوث — إذَن — ليست كل عناصر العلاقة التي نُطلِق عليها اسم «السببية» وإن تكن عنصرًا ضروريًّا.

وقد يقول قائل هنا: ألا يجوز أن يكون المستقبَل «سببًا» للحاضر؟ إنني إذا أردت السفر بعد أسبوع، فربما بدأت منذ الآن أُعِد حقائبي وسائر ما يلزمني في رحلتي المُرتقَبة، أفلا يكون السفر في هذه الحالة (وهو حادث مُقبِل) سببًا في سلوكي الراهن؟ لكن مثل هذا القول قائم على تحليلٍ ناقص، فليس السفر نفسه في هذه الحالة هو «سبب» سلوكي؛ لأن عائقًا ربما حدث فحالَ دون حدوثه، فأين يكون «السبب» المزعوم عندئذٍ؟ كلا، إنما السبب في هذه الحالة هو «فِكرتي» الراهنة عما أريده لنفسي بعد أسبوع، وفِكرتي هذه سابقة بالضرورة على سلوكي الذي جاء تنفيذًا لها.

أسبقية الوقوع إذَن شرطٌ ضروري في «السبب»، لكنها ليست كافية وحدها لتجعل أي سابق سببًا لأي مسبوق؛ فمُحال أن تكون الرَّصاصة التي انطلقَت هنا الآن هي السبب في قتل من مات هناك بالأمس، ولا أن يكون المطر النازل هذا الصيف هو السبب في ازدهار النبات في الربيع الماضي؛ فالسبب لا يلحق نتيجته أبدًا، بل لا بد أن يسبقها في الوقوع، ولكن إلى جانب هذه الأسبقيَّة لا بد من توافُر شروط أخرى، فماذا عساها أن تكون؟

في محاولة الإجابة عن هذا السؤال سنلتقي وجهًا لوجه بالمشكلة الكبرى التي شطَرَت الفلاسفة إزاءها شطرَين؛ فعقليُّون من جهة وتجريبيُّون من جهة أخرى، وهي نفسها المشكلة التي وقف هيوم حِيالها موقفه المعروف في تاريخ الفلسفة، وهو الموقف الذي أيقظ «كانْت» من سُباته كما قال عن نفسه؛ ذلك لأن النظرة التقليدية إلى الأمر كانت تؤدِّي بالفلاسفة العقليين إلى أن يقولوا إن بين الشيء الذي نقول عنه إنه «سبب» والشيء الآخر الذي نقول عنه إنه «مسبَّب» علاقةً ضرورية بحيث لا يكفي أن يكون الأول قد سبق الثاني في الوقوع، بل إلى جانب هذه الأسبقية هنالك ضرورة تُوجِب أن يكون هذا السابق متبوعًا بلاحقه هذا المعيَّن؛ فإذا قلت عن شيئين «س» و«ص» إن بينهما علاقةً سببية، فقد قلت — في رأي الفلاسفة العقليين — إن بينهما علاقةً ضرورية الحدوث ليس عن قيامها بينهما مُنصرَف ولا مَحِيص؛ إذ يستحيل عندئذٍ أن يَحدُث أحدهما ولا يَحدُث الآخر في ترتيبه الذي جاء به، كأنما الشيئان قد شُدَّ أحدهما إلى الآخر شَدَّ حلقةٍ إلى أخرى من حلقات السلسلة الواحدة.

كان هذا هو الرأي الذي جاء هیوم فصبَّ عليه من تحليله ونقدِه ما انتهى به إلى رأيٍ جدید.

٢

المبدأ الأساسي عند هيوم هو أن أفكارنا كلها ليست إلا صورًا مما كانت حواسُّنا قد انطبعَت به انطباعًا مباشرًا، فيستحيل علينا أن «نفكِّر» في شيء لم يكن قد سبق لنا أن «أحسسناه» بإحدى الحواس الظاهرة أو الباطنة؛ فإذا كانت لدينا فكرة مركَّبة، واستطعنا تعريفها بسلسلة من ألفاظ وعبارات، كان ذلك نفسه معناه أننا نحاول أن نُحصي ما فيها من أفكار بسيطة، بحيث يكون لكل فكرة بسيطة منها الانطباع الحسِّي الذي يقابلها باعتباره مصدرًا لها. إن الفكرة المركَّبة لَتَتضح وضوحًا تامًّا كاملًا محدَّدًا إذا حلَّلناها إلى الأفكار البسيطة التي منها رُكِّبت، ثم إذا التمسنا لكل واحدة من هذه الأفكار البسيطة مصدرها الحسي؛ ذلك لأن الانطباع الحسي محدَّد وواضح ولا تعدُّد لمعناه. وهكذا يكون ردُّ الفكرة المركَّبة إلى مقدماتها البسيطة، بحيث نعود فنردُّ كل واحد من هذه المُقوِّمات إلى الانطباع الحسي الذي هو أصله ومصدره، بمثابة المِجهَر الذي نتعقَّب به دقائق أفكارنا لنميز زائفها من صحيحها.

وفي هذا الضوء خذ فكرة «الرابطة الضرورية» التي يقول الفلاسفة العقليون إنها تصل ما بين السبب والمسبَّب، وسَلْ نفسك: ما الانطباع الحسي الذي كان مصدرها؟ ماذا انطبعَت به هذه الحاسة أو تلك، بحيث بقيَ الانطباع في أنفسنا فكرة هي التي نقول عنها إنها فكرة «الضرورة»؟

إننا إذا ما تلفَّتنا حولنا متَّجِهين بأنظارنا إلى الأشياء الخارجية، باحثين فيما نُسمِّيه «أسبابًا» لنرى ما فِعلها، فلن نجد في أية حالة من الحالات كلها ما يكشف لنا عن «رابطة ضرورية» بين السبب ومسبَّبه، إننا لن نجد أبدًا صفةً تنطبع بها حواسُّنا وتكون هي الصفة التي تربط المعلول بعِلته ربطًا يجعل ذلك المعلول نتيجةً محتومة لعِلته، يَتبَعها دائمًا ولا يتخلَّف عنها بحكم ضرورة في طبائع الأشياء تقتضي ذلك؛ فكل ما نراه هو أن النتيجة تَتبَع سببها فعلًا، فنری — مثلًا — أن كرة البليارد المتحركة إذا ما صدمَت كرةً أخرى ساكنة، فإن هذه الثانية تتحرَّك كذلك. إن الذي ينطبع على حواسِّنا «الظاهرة» هو صورة كرة أولى تتحرَّك وصورة كرة ثانية تَعقُبها في الحركة، وليس هنالك من الحواس «الباطنة» ما يطبع العقل بانطباع آخر له علاقة بتعاقُب هاتين الصورتين؛ وإذَن فلا الحواس الظاهرة ولا الحواس الباطنة تأتينا بانطباع يُوحِي بفكرة العلاقة الضرورية المزعومة بين السبب والمسبَّب.

إن الصورة التي يظهر فيها الشيء لنا لأول مرة، لا تُنبِئنا بالحالة التالية التي سيكون عليها ذلك الشيء؛ إذ إن مظهر الشيء في حواسِّنا لا يكفي وحده أن يُعِيننا على معرفة ما سيَعقُبه بحيث يجوز لنا أن نقول إن هناك رابطةً ضرورية تحتم أن يَعقُب الشيء الفلاني الشيءَ الفلاني، على اعتبار أن ما يَحدُث منهما أولًا فيه من الطاقة الطبيعية ما يُنتِج الشيء الذي يَحدُث منهما ثانيًا. ولو كان في مُستطاع العقل أن يكشف في «السبب» عن قوة أو طاقة، لاستطاع بالتالي أن يتنبَّأ ﺑ «النتيجة» قبل وقوعها دون أن يعتمد في ذلك على خبرة حسية ماضية. نعم كان يكفي العقلَ عندئذٍ أن يتأمَّل «فكرة السبب» ليستنتج منها استنتاجًا منطقيًّا صِرفًا «فكرة المسبَّب».

إنه ليس في مادة الكون كلها جزء یكشف بما يُبدِيه من خصائص محسوسة عن قوة يُخفيها، كلا ولا هو يُمدُّنا بالأساس الذي يُبرِّر لخيالنا أن يتصوَّر أنه لا بد أن يُنتِج كذا وكذا من النتائج بحكم طبيعة ذلك الشيء نفسها؛ فللأشياء — مثلًا — صفات الصلابة والامتداد والحركة، وكل صفة من هذه الصفات قائمة بذاتها لا تعتمد في إدراكنا لها على صفة أخرى، لكنها في الوقت نفسه لا تدُلنا أبدًا على أية نتيجة مما يتحتَّم أنه يترتَّب عليها. نعم إن مَشاهد الكون دائبة التغير، يَتبَع شيء منها شيئًا في تعاقُب لا ينقطع، غير أننا لا نعلم من هذه الأشياء المتتابعة إلا هذا التتابع الظاهر بينها، ولا نملِك بحال من الأحوال أن نُجاوز حدود المشاهدة المستطاعة بحيث نستطلع ما وراءها لنقول إن وراء هذا التتابع الظاهر قوةً خفية هي التي تربط ربطًا ضروريًّا بين السابق واللاحق.

قد يُقال إن الرابطة الضرورية التي تصل بين الحوادث لاحِقها بسابقها، وإن تكن غير بادية للحواس فيما يقع للحواس من انطباعات جزئية، يمكن لنا إدراكها إذا ما تأمَّلنا عقولنا وهي في فاعليَّتها ونشاطها، نعم قد يُقال ذلك استنادًا إلى أن الإنسان في كل لحظة من لحظات حياته الواعية مُدرِك لهذه القوة الباطنية وهي تفعل فِعلها في ربط السبب بالمسبَّب، فانظر إلى نفسك وأنت تهمُّ بتحريك ذراع أو قدم، أليست إرادتك تأمر، وأعضاء البدن تُطيع؟ وإذَن فها هنا قد أدركنا القوة التي تربط معلولًا بعِلته؛ ومن ثَم استطعنا أن نُعمِّم القول بأن بين كل سبب ومسبَّبه مِثل هذه الرابطة الخفية التي وعَيناها في دخيلة أنفُسنا حين وعَينا الإرادة وهي تُحرِّك جارحةً في أبداننا أو تستثير فكرة في ذاكرتنا؛ فليس بنا حاجة إلى التماس فكرة «الرابطة الضرورية» في انطباعاتنا الحسية، ما دمنا قد وجدناها عند التأمل في عقولنا وهي تعمل، وفي إرادتنا وهي تُحدِث الأحداث.

قد يُقال هذا؛ وإذَن فلا بد من وقفة نُحلِّل فيها هذه القُوى الباطنية المزعومة، كقوة الإرادة مثلًا، أعني قدرتها على تحريك أعضاء البدن، وأول ما نُقرِّره في هذا الصدد هو أن تأثير الإرادة في هذا لا سبيل إلى إدراكه إلا إذا مارسناه بأنفسنا وأصبح بهذه الممارسة خبرة من خبراتنا، شأنه في ذلك شأن الحوادث الطبيعية كلها، التي لا سبيل إلى معرفتها إلا إذا باتت جزءًا من خبراتنا. أريد أن أقول إن الإرادة هنا باعتبارها سببًا يُسبِّب تحريك هذا العضو أو ذاك من أعضاء الجسم، شأنها شأن أي حادثة أخرى من حوادث الطبيعة مما نعُدُّه سببًا لحادثٍ يتلوه، لا بد لنا من تجرِبة تدُلنا على هذا التتابع بين الحادثَين لنقول عنهما إنهما سبب ومُسبَّب، وليس في طبيعة الحادثة الأولى نفسها ما يدل على أن الحادثة الثانية ستتلوها، وكذلك قُل في الفعل الإرادي، حين يكون هنالك إرادة من ناحية وجزء من الجسم يتحرك تبعًا لها من ناحية أخرى، فليس في الإرادة ذاتها ما يدل على أنه من الحتم أن تتبعها ما يتبعها من حركة بدنية.

نعم إننا في كل لحظة من لحظات حياتنا الواعية نُدرك أن حركة البدن تَتبَع أوامر الإرادة، لكن هل نَعِي شيئًا في أنفسنا غير هذا التتابع بين الأمر الإرادي وتنفيذه الجسدي؟ هل نَعِي رابطة بينهما بحيث نقول إنها الرابطة الضرورية التي تحتم أن يكون الطرف الأول متبوعًا بالطرف الثاني؟ كلا، إذ لو وعَينا العلاقة بين الجانب الإرادي من جهة والجانب الجسدي من جهة أخرى، إذَن لَانحلَّ لنا لغزٌ من أعقد وأغمض ما يُصادفنا في الطبيعة كلها من ألغاز، ألا وهو العلاقة بين النفس والجسم، التي يُقال فيها إن عنصرًا روحانيًّا فينا له القدرة على التأثير في عنصر مادِّي، أو بعبارةٍ أخرى، إن الفكر الخالص من ناحية له القدرة على تحريك المادة من ناحية أخرى؛ فليس تحريك إرادتك لذراعك بأقل غرابةً من أن تجلس مُفكِّرًا في الجبل مُريدًا له أن يتزحزح من مكانه، فيتزحزح الجبل تنفيذًا لفاعليَّة فِكرك؛ أقول إنه لو كان في مُستطاعنا أن نُدرك في أنفسنا «قوةً» هي التي تصل الإرادة بفِعلها، لَاستطعنا بالتالي أن نعرف علاقة النفس بالجسد، أو علاقة الفكر بالمادة وكيف يؤثِّر الأول في الثانية.١

لا، ليس في مُستطاع الإنسان أن يُدرك في نفسه «قوةً» كهذه، وكل ما يُدركه إذ هو يقوم بفعلٍ إرادي هو عزمه الإرادي من ناحية، ثم الحركة الجسدية المترتِّبة على ذلك العزم من ناحية أخرى؛ وأُعِيد القول بأنه ليس في الإرادة ذاتها ما يدل على أنها لا بد أن تتبعها حركة الجسم تنفيذًا لعزمها، بدلیل أننا لا نستطيع أن نحرِّك بالإرادة إلا بعض أجزاء الجسم دون بعضها الآخر، ولو سئلنا قبل الخبرة: أي أجزاء الجسم في مُستطاع الإرادة تحريكه، وأيها تعجز الإرادة عن تحريكه؟ لما كان في وُسْعِنا أن نُجيب؛ إذ لا بد أن ننتظر الخبرة لتدُلنا ماذا نستطيع تحريكه من أجزاء الجسم بالإرادة وماذا لا نستطيع. لماذا يكون للإرادة قدرة على تحريك اللسان والأصابع ولا يكون لها قدرة على تحريك القلب والكبد؟ كنا نُجيب عن هذا السؤال لو كان لنا علم بقوَّة معيَّنة موجودة في الحالة الأولى وغائبة في الحالة الثانية، لكن ليس لدينا مثل هذا العلم. نعم، لو كان لنا علم بقوة باطنية معيَّنة هي التي تجعل الرابطة ضرورية بين السابق واللاحق — كما يزعم الزاعمون — لَعلمْنا بالتالي، وقبل الخبرة، ماذا تستطيع تلك القوة أداءه وماذا لا تستطيعه.

إن من يُصيبه الشلل بَغتةً في ساق له أو ذراع، لَيُحاول بإرادته أن يُحرِّك العضو المُصاب كما ألِفَ أن يُحرِّكه من قبل، إنه يحاول ذلك وهو على أتم وعي بعزمه الإرادي، تمامًا كما كان على وعي بعزمه الإرادي حين كان يريد تحريك ساقه أو ذراعه قبل أن يُصيبهما الشلل. ولو كانت تلك القوة المزعومة (التي تربط بين الإرادة وفِعلها) مما يستطيع الإنسان إدراكه، لَعرَف هذا المشلول قبل محاولته الإرادية تحريك العضو المصاب أنه لن يستطيع ذلك لأن القوة قد غابت عنه، لكنه لا يُدرك هذا العجز إلا بعد أن يحاول دون جدوى؛ ومعنى ذلك أن الخبرة وحدها هي التي تدُلنا إن كان العزم الإرادي سيَصحَبه الفعل المعيَّن أو لا يَصحَبه، وليس في العزم الإرادي نفسه ما يدل على ذلك قبل الخبرة؛ فالخبرة وحدها هي الدالة على أن حدثًا معيَّنًا يَتبَع حدثًا، دون أن تدُلنا على موضع الرابطة الخفية التي تربط بين الحدثين، بحيث تجعل الحدث الثاني أمرًا محتومًا في تبعيَّته للحدث الأول.

وما قُلناه عن الإرادة في تحريكها لجزء من أجزاء البدن، من حيث إننا نُدرك الطرَفين ولا نُدرك ما بينهما من رابطة، نقوله أيضًا عن الإرادة واستحداثها لفكرة معيَّنة؛ ذلك أنك قد تستطيع بعزيمةٍ إرادية أن تُحضِر إلى الذهن فكرة لم تكن حاضرة فيه، وها هنا كذلك يمكنك أن تُدرك عزمك الإرادي من ناحية، والفكرة التي استحضرتَها إلى ذهنك من ناحية أخرى، ولكنه مُحال عليك أن تُدرك الرابطة التي بينهما؛ وإذَن فكل ما يجوز لك أن تتحدث عنه هو طرَف السبب وطرَف المسبَّب، أما أن العلاقة بينهما هي كذا أو كیت، فممَّا يُجاوِز حدود المستطاع.

وكما أن الإرادة في استحداثها لحركات الجسد محدودة بحدود، بحيث يمكنها تحريك بعض الأعضاء دون بعضها الآخر لعِلة لا ندريها، سوى أن الخبرة هكذا تدُلنا على الإرادة وحدود فِعلها، فكذلك الإرادة في استحضارها للأفكار في الذهن محدودة أيضًا بحدود، فيمكنها أن تستحضر هذه الفكرة ولا يمكنها أن تستحضر تلك لعِلة لا ندريها سوى أن هذه هي خبرتنا وما تدُل عليه، إننا لَنُلاحظ عن أنفسنا أننا أقدر على استحضار الأفكار في أذهاننا في بعض الحالات دون بعضها، فنحن أقدر في حالة الصحة منا في حالة المرض، وأقدر في حالة هضم الطعام منا في حالة التُّخمة، فهل يستطيع أحد أن يدُلنا على علة لهذا كله غير معتمِد على خبرته؟ هل يستطيع أحد أن يسبق الخبرة بحيث يُقرِّر بادئَ ذي بدء أنه أقدر على استحضار أفكاره في حالة الجوع منه في حالة الشبع، أم لا بد له أن ينتظر خِبرته لنفسه وهو جائع ثم خِبرته لنفسه وهو مليء ليقول بعدئذٍ عما قد عرفه في نفسه بالخبرة؟ وإذَن فالخبرة وحدها هي المصدر الذي نستقي منه العلم بأن كذا من الظواهر يتبع كیت، دون أن نعلم شيئًا قط عن علاقة ضرورية تربط بينهما ربطًا محتومًا يجعل الطرف الأول وحده كافيًا للدلالة على أن الطرف الثاني سیَتبَعه، سواء وقع لنا ذلك في الخبرة السابقة أو لم يقع.

هكذا ذهب هيوم، وهكذا نذهب معه نحن أنصار التجريبية العلمية، بأن عِلمنا بالرابطة السببية في جميع حالاتها لا يَنشأ عن التفكير العقلي الخالص، الذي يستغني عن الخبرة الحسية في تقريره لما يُقرِّره، أو بعبارةٍ أخرى، ليس عِلمنا بالرابطة السببية في أية حالة من حالاتها علمًا «قَبْليًّا» مستقِلًّا عن مصادر الخبرة الحسية في إثبات صدقه، بل هو عِلم مستمَدٌّ دائمًا وفي جميع الحالات من الخبرة الحسية التي تقدِّم لنا الشيئين اللذين نحكم بأن بينهما رابطة السبب بالمسبَّب، تُقدِّمهما لنا متَّصلًا أحدهما بالآخر في كل حالة يقعان فيها لنا في خبراتنا. وإذا لم يَحدُث لشيء معيَّن أن يقع لنا في خبراتنا الحسية أبدًا، بحيث لا ندري شيئًا عن سوابقه أو لواحقه أو مصاحباته، ثم سئلنا: ماذا يكون سببه أو ماذا يكون مسبَّبه؟ لاستحال علينا استحالةً قاطعة أن نُجيب عن ذلك بشيء، مهما تكن لدينا القدرات العقلية على أتمِّ ما تكون قوة وكمالًا؛ فآدم — على افتراض كمال قدراته العقلية — ما كان ليستدل من سُيولة الماء وشفافيَّته أنه يختنق به لو غرق فيه، أو يستدل من الضوء والدفء اللذَين ينبعثان من النار أنه يحترق لو وثب فيها؛ ذلك أنه مُحال على الإنسان أن يستدل من بعض الخصائص الحسية لشيءٍ ما بعضَها الآخر، دون أن تكون هذه وتلك قد اقترنتا في خبراته الماضية اقترانًا يُبرِّر له استدلال بعضها هذا من بعضها ذاك. وبعبارةٍ أخرى نقول إن التفكير العقلي وحده، أعني التفكير العقلي الخالص الذي لا يستند إلى خبرة حسية، مُحال عليه أن يستدلَّ شيئًا قطُّ عن طبيعة العالم الخارجي الواقع.٢

الخبرة الحسية وحدها — إذَن — لا التفكير العقلي الخالص، هي المصدر الذي نستقي منه عِلمنا بعالَم الواقع، ويستحيل علينا بغير تلك الخبرة أن نتوقَّع ما عساه أن يَحدُث من حوادث ذلك العالم، وإلا فكيف يمكن لإنسان بعقله البحت أن يحكم على قطعتين ملساوَين من الرخام التصقَت إحداهما بالأخرى أنهما لو جُذبتا في اتجاه عمودي لِتَنفصل إحداهما عن الأخرى فلا بد لهما من قوة عظيمة، على حين تكفي قوةٌ يسيرة لانفصالهما إذا ما دُفعت الواحدة منهما دفعًا أفقيًّا لِتَنزلق على الأخرى؟ كيف يمكن للإنسان بغير خبرة حواسه أن يَعلَم شيئًا عن دويِّ البارود إذا ما تفجَّر، أو جذبِ المادة المُمغطِسة للمعادن؟ كيف يمكن بغير الخبرة أن نعلم أن اللبن والخبز غذاءٌ صالح للإنسان، وغير صالح للأسد أو النمر؟

ومع ذلك فهنالك من خصائص الوقائع الطبيعية ما يُخيَّل إلينا أننا مُدرِكوه بغیر خبرة حسية، وأن العقل الصِّرف قادرٌ وحده أن يُدرك بعض العلاقات السببية بين الأشياء حتى ولو لم تقع لنا حالة واحدة من حالاتها في ماضي خبراتنا، مثال ذلك ما نتوهَّمه إزاء كرة البلياردو حين تتحرَّك حتى تصدم كرة أخرى فتُحرِّكها؟ فها هنا ترانا نظن أن تحريك الكرة الأولى للكرة الثانية أمرٌ كان يمكن الحكم بوقوعه بمجرَّد التفكير العقلي، وأن الضرورة لا تقتضي أن ننتظر حتى يَحدُث ذلك في خبراتنا لنحكم بعد ذلك بإمكان وقوعه، لكنها العادة هي التي تخدعنا عن حقيقة الموقف بأن تجعل لنا الأمر على درجة من الإلف بحيث نتوهَّم أنه أمرٌ ظاهر اليقين، وأن الإدراك الفطري وحده كافٍ للكشف عنه.

لكن العقل المحض يستحيل عليه أن يُجاوز حدود الأمر الواقع بحيث يقول إنه سبب لكذا أو مسبَّب لكذا، فمهما حلَّلتَ بعقلك البحت واقعةً ما، فلن تجد فيها ما يدُل على أنها كانت مسبوقة بكذا، أو أن كذا سيُصاحبها أو سيلحق بها؛ فالسبب شيء والمسبَّب شيءٌ آخر؛ السبب والمسبَّب حادثان مختلفان، وتحليل أحدهما تحليلًا عقليًّا لا يدُل وحده على الآخر؛ فحركة الكرة الثانية من كُرتَي البلياردو حادثٌ قائم وحده بالنسبة إلى حركة الكرة الأولى، وليس في أيٍّ من الحركتين أقل علامة تشير إلى ضرورة وجود الأخرى. اقذف بحجر في الهواء، واتركه غیر مستنِد إلى شيء، يسقط على الأرض من فوره، لكن لا بد من الخبرة الحسية السابقة لأعلم منها هذا التلاحق بين الحادثتين، وإلا فالعقل البحت وحده مهما أمعن في تحليل الموقف، فلن يجد أن السقوط إلى الأرض متضمَّن بالضرورة في وجود الحجر في الهواء؛ إذ ليس عند العقل الصِّرف ما ينفي أن يستمرَّ الحجر في صعوده إلى أعلى بدل سقوطه إلى أسفل، أو ما ينفي أن يتحرك الحجر إثر رميه في الهواء نحو اليمين أو نحو اليسار،٣ وما دام العقل لا ينفي أن يتحرك الحجر في أي اتجاه، إذَن فالخبرة هي مصدرنا في العلم بأن الاتجاه الفعلي للحجر — بين المُمكِنات الكثيرة — هو الاتجاه إلى أسفل.

إنني إذا شهدتُ كرة من كرات البلياردو متحركة في اتجاه كرة أخرى ساكنة، فهل يقضي العقل المجرَّد بضرورة أن تتحرك الكرة الأخرى إذا ما مسَّتها الأولى؟ ألا يمكن عقلًا تصوُّر أن تسكن الكُرَتان معًا؟ ألا يمكن عقلًا أن تصدم الكرة المتحركة الكرة الساكنة وبدل أن تُحركها تعود هي مرتدَّة، أو تقفز فوقها ثم تسير في أي اتجاه؟ هذه كلها أوضاعٌ ممكنة عند العقل الصِّرف، ولا مُبرِّر — من حيث التفكير العقلي الخالص — يُجيز لنا أن نُفضِّل حالة على أخرى من هذه الحالات التي يتساوی إمكانها عند حكم العقل؛ وإذَن فيستحيل علينا الحكم «قبل» الخبرة ماذا تكون عليه الحال في مثل هذه الظروف، وإنما الذي يقضي لنا في الأمر، بحيث نختار أحد المُمكِنات دون سائرها، هو الخبرة الحسية التي تدُلنا على ما قد يقع فعلًا، فنتوقَّع حدوثه — لا لأنه ضرورة عقلية محتومة — بل لأنه هو الذي شهدَت به التجرِبة كما وقعَت في الحس واحتفظت به الذاكرة.

٣

ليس هنالك في حدود ما نُلاحظه إلا أحداث تتتابع، فإن لاحظنا بين هذه الأحداث المتتابعة حادثًا بعينه يَلحَق دائمًا بحادث آخر معيَّن، فكلما وقعَت «س» لحِقَت بها «ص»، جاز لنا أن نقول إن «س» سبب وإن «ص» مسبَّب لها، دون أن نزعم بين الطرَفين أي نوع من الارتباط الضروري فيما عدا هذا التتابع الملحوظ.

لكنَّ قولًا كهذا هو الذي أيقظ «كانْت» ليأخذ في تحليل المستفيض لعمليات الإدراك، بحيث انتهى إلى أن الرابطة الضرورية التي تصل السبب بمسبَّبه إن تكن خافيةً على الحس فذلك لا يعني أنها غير قائمة، وإلا كنا بمثابة من يفرض بادئ ذي بدء أن ما ليس يُدرَك بالحس فلا وجود له، وحقيقة الأمر — عند «كانْت» — أن في العقل مقولات تنصبُّ الخبرات في قوالبها فتُصاغ على نحوِ ما نعهدها في إدراكنا. نعم إن السبب والمسبَّب يأتيان إلينا في مجری الخبرة وكأنما هما حادثتان مستقِلتان لا يربطهما إلا مجرد التتابع الذي لا ضرورة فيه ولا تحتيم، لكن العقل مُزوَّد بمقولة السببية — بین سائر المقولات — فیصوغ في قالبها المادة الخامة التي جاءته عن طريق الحواس، والمادة الخامة في هذه الحالة هي انطباعان حسِّيان لشيئين وقَعَا في مجال الخبرة متعاقِبَين، فإذا هذان الانطباعان المفرَدان يصبحان في قالب السببية حقيقةً واحدة مرتبطًا تاليها بمُقدَّمها ارتباطًا ضروريًّا يحتمه العقل وإن لم تحتمه خبرة الحواس.

الرابطة السببية عند الفلاسفة العقليين قائمة في حكم العقل، وإن لم تكن مما تدركه الحواس، وليست هي مجرَّد اقتران في الحدود بين العلة والمعلول، بل إن هذا الاقتران نفسه هو العلاقة الدالة على أن وراءه رباطًا عقليًّا، وهذا الرباط العقلي الذي يجعل المسبَّب أمرًا لا مندوحة عن وقوعه إذا ما وقع سببه، هو جوهر السببية وصميمها؛ ومعنى ذلك أن وراء كل موقف سببي مما يَعرِض لنا في الخبرة الحسية، جذورًا عقلية مما لا يَعرِض لنا في تلك الخبرة، ولو احتججت على العقليين قائلًا: ما دليلي على أن وراء الموقف الظاهر جذورًا خفيَّة، إذا لم يكن هنالك من وسيلة أمامي أهتدي بها إلى طرَفَي الموقف وما بينهما من علاقة إلا خبرتي؟ قال الفيلسوف العقلي مُجيبًا: إن مطالبتك أن ترى ما لا يُری بحكم طبيعته كمطالبتك أن ترى زجاجًا شفَّافًا من طبيعته ألا تُدركه الأبصار؛ فالضرورة العقلية التي تربط السبب بمسبَّبه إنما تُدرَك ﺑ «العقل» وحده، ومن قبيل المُصادَرة على المطلوب أن تطلب رؤيتها مع سائر ما تراه من أحداث الواقع المحسوس، لكن إن قال الفيلسوف العقلي ذلك أجبناه بأنه لا مُبرِّر يدعونا إلى افتراض ما ليست تدعو إليه حاجة، بل لا معنى لحديثنا إذا ما أدَرْنا هذا الحديث عما يستحيل أن نعثُر عليه في خبراتنا، وعما لا ضرورة لافتراضه حتى من الوجهة النظرية الخالصة، ما دام التفسير الكامل للموقف يمكن أن يتم بغير لجوء إلى مبدأ وراء الخبرة بما فيها من أحداث وتتابُعها في الوقوع. وإن شئت فانظر كيف تُحقِّق عبارة يقول بها القائل إن «س» تُسبِّب «ص»؟ ألستَ ترجع إلى الخبرة لترى إن كانت هذه الخبرة تُقدِّم لك فيما تُقدِّمه «س» و«ص» متتابعتَين تتابعًا مطَّرِدًا أو لم تكن؟ ثم كيف تُحقِّق عبارة تقول إن «س» مرتبطة ارتباطًا ضروريًّا ﺑ «ص»؟ ألستَ تلجأ إلى الوسيلة نفسها، وهي أن ترجع إلى الخبرة لترى إن كانتا مطَّرِدتَين في التتابع أو لم تكونا؟ فإذا كانت وسيلة التحقيق في الحالتين واحدة، أفلا يكون معنى العبارتين واحدًا، وتكون كلمة «الضرورة» الواردة في العبارة الثانية زائدة لا تُفيد شيئًا؟

يقول مورتس شليك:٤ إن الفرق بين مجرَّد التتابع الزمني بين حادثتين، والتتابع الذي يكون تتابعًا سببيًّا، هو أن هذا التتابع السببي يكون مطَّرِد الوقوع، فإذا ما اطَّرد تتابع «س» و«ص» بحيث تقع الثانية كلما وقعت الأولى، كانت «س» سببًا و«ص» مسبَّبًا، أما إذا لم يطَّرد هذا التتابع بينهما، بحيث يجوز أحيانًا أن تقع «س» ولا تلحق بها «ص»، كان الأمر في ارتباطهما مرهونًا بالصدفة ولا سببية هناك. ولما كانت ملاحظتنا للاطِّراد في الوقوع بين الحادثتين هو كل ما هنالك، لزم أن يكون هو المُبرِّر الوحيد الذي يدعونا إلى جعل الحادثتين سببًا ومسبَّبًا، وهو مُبرِّر كافٍ وحده أن يُفسِّر لنا كل ما نحتاج إلى تفسيره من الموقف؛ فكلمة «سبب» — كما نستخدمها في حياتنا اليومية — لا تستلزم شيئًا قط أكثر من اطِّراد التتابع؛ لأنه ليس ثَمة شيء قطُّ غير هذا الاطِّراد يمكن أن نلجأ إليه في تحقيق القضية التي تَرِد فيها هذه الكلمة.

ومما يعترض به العقليون على هذه النظرة التجريبية إلى السببية أن هذا الفصل بين السبب في ناحية والمسبَّب في ناحية لا يُصوِّر الواقع؛ فالحوادث في الواقع إنما يتصل بعضها ببعض اتصالًا لا يدَع فجوة بينها، ولو كان بين السبب ومسبَّبه فجوة مهما بلغت من القِصر، فماذا يُبرِّر لنا أن نقول عن الطرفين إنهما متَّصِلان اتصال العلة بمعلولها؟ إن هيوم في تحليله لمعارفنا إلى انطباعات مُتفرقة تصبح — بعد زوال مؤثراتها — أفكارًا متفرقة كذلك، إنما يُقطِّع أوصال التيَّار الشعوري المتصل، فليس قوام المعرفة حدودًا منفصِلًا بعضها عن بعض، ثم نربطها نحن بروابط مُصطنَعة من عندنا، نعم ليس هذا هو قِوام المعرفة، وإلا فلو كانت «س» من معارفنا تَرِد أولًا كاملة، ثم تتبعها «ص» غير موصولة بها، لَلَزم أن يكون بينهما فاصلٌ زمني يفصل بين آخر نقطة من «س» وأول نقطة من «ص»؛ ومن ثَم ينشأ سؤال عند العقليين: ماذا يملأ هذه الفجوةَ الزمنية التي تفصل «س» عن «ص» اللذين نقول عنهما إنهما علة ومعلولها؟

كلا، إن معارفنا ليست على هذه الصورة المفكَّكة التي يرسمها هيوم — هكذا يعترض الفلاسفة العقليون — بل إنها موصولة التيار؛ فمجموعة الحدود التي جعلناها سببًا إنما تمتد حتى يتصل آخر أطرافها بأول أطراف مجموعة الحدود التي تليها والتي تجعلها مسبَّبًا. خذ أيَّ مثال شئت لواقعةٍ سببية، كطعنة الخنجر التي طعن بها بروتس قيصرًا فقتله، فأين السبب هنا وأين المسبَّب؟ أتقول إن طعنة الخنجر سبب والقتل مُسبَّب؟ لكن أين تنتهي الطعنة وأين يبدأ الموت؟ حلِّل الموقف إلى عناصره التفصيلية تجده سلسلة متلاحقة من أحداث يستحيل التفرقة فيها بين ما هو «طعنة» وما هو «موت»؛ ومن ثَم يندمج ما هو سبب فيما هو مسبَّب فيكونان خطًّا واحدًا من الحوادث، إن قلت عن شطره الأول إنه سبب ومن شطره الثاني إنه مسبَّب فقد فصلتَ جزافًا ما لم يكن منفصِلًا بطبيعته. وخذ مثلًا آخر: عزيمتك أن ترفع ذراعك ثم رفعُك للذراع، فها هنا نقول عن «العزيمة» إنها سبب وعن «رفع الذراع» إنه مسبَّب، ولكن أين تنتهي عزمة الإرادة وأين يبدأ رفع الذراع؟ ألا إن الأمر تيَّار متَّصِل من أحداثٍ صغری إذا ما بدأ راحت أحداثه تتسلسل واحدةً بعد واحدة حتى تنتهي العملية كلها، والفصل بين ما هو «سبب» وما هو «مسبَّب» في هذه العملية الواحدة فصلٌ مصطنَع لا يُصوِّر من الواقع شيئًا.

كثيرًا ما يلجأ الفلاسفة المثاليون إلى مثل هذا الاعتراض ليؤيِّدوا به وجهة نظرهم في أن العلاقة القائمة بين العلة ومعلولها ضرورية وليست هي مجرَّد اقتران طرَفَين كما يرى هيوم ومدرسته.٥ ونحن وإن كنا نرى أن هیوم ربما أخطأ في تصوُّره للأفكار بأنها كِيانات مستقلٌّ بعضها عن بعض بحيث يكون للواحدة حدودها وفواصلها التي تُباعِد بينها وبين الأخرى، وأن الأمر على حقيقته ربما كان تیارًا متَّصلًا من أحداث صغرى، إلا أننا لا نرى كيف يمكن أن يكون هذا أساسًا لرفض التحليل الذي حلَّل به هيوم السببية وجعَلها مجرَّد اقتران بين سابق ولاحق؟ ما الفرق في هذا الصدد بين أن أقول إن «س» و«ص» مقترنتان دائمًا ولذلك فهما سبب ومسبَّب، وبين أن أقول إن «س» هي في الحقيقة مجموعة من حوادث صغرى هي «أ، ب، ﺟ»، وإن «ص» هي في الحقيقة مجموعة أخرى من حوادث صغری هي «د، ﻫ، و»، وإن تتابُع «س» و«ص» هو على ذلك تتابعٌ صورته «أ، ب، ﺟ، د، ﻫ، و»؟ إنه لا فرقَ بين الصورة الأولى المُجمَلة والصورة الثانية المُفصَّلة من حيث إن كلًّا منهما تتابُع واقترانُ لاحق بسابق؛ فلو كانت الصورة الثانية هي التي تُصوِّر الواقع في اتصال حوادثه، فما يزال التحليل الذي قدَّمه هيوم للسببية قائمًا بالنسبة إليها، كما كان قائمًا بالنسبة إلى «س» و«ص» في إجمالهما، ولم يُغيِّر من الموقف أن حشَوْنا الفجوة القائمة بينهما بحوادث صغرى تصل آخر السابقة بأول اللاحقة.

لكن الفلاسفة العقليين لا يُرضيهم أن ينحلَّ الأمر إلى صفٍّ من حوادث، نأخذ منها ما اطَّرد تتابُعها لِنَقول عنها إنها هنا مرتبطة برباط السببية، ويريدون أن يكون هنالك نوع من المِلاط الغيبي اللامحسوس ينسبون إليه ارتباط الحوادث بعضها ببعض، وهو المِلاط الذي يُبيح لهم أن يقولوا إن الرابطة بين السابق واللاحق من الحوادث أمرٌ محتوم، فمن أين جاءوا بفكرتهم هذه؟ إنهم يجعلون «السببية» مبدأً عقليًّا ليس هو بعینه اقتران الحوادث في التجربة، هم لا يُنكرون هذا الاقتران، بل يُقرِّرونه كما يُقرِّره التجریبیون سواءً بسواء، لكن التجريبيين يقِفون بالأمر عند هذا الحد، أما العقليون فيَمُدونه إلى جذور ضاربة وراءه في عالم الغيب، وتلك الجذور هي ما يُطلِقون عليه «السببية» بمعناها الميتافيزيقي، وما اقتران الحوادث في دنيا التجرِبة إلا علامة دالة على ما هو قائم هنالك في عالم المعقولات؛ العقليون والتجريبيون على السواء يلاحظون ما هو واقع، فكلاهما يرى العلاقة بين اتجاه الريح وسقوط المطر، لكنهما يعودان فيختلفان في أن التجريبيين يكفيهم أن يقولوا إن هذا هو ما يقع، وأما العقليون فيُصرُّون على إضافة؛ إذ يقولون إن هذا هو ما «يجب» أن يقع. والسؤال الرئيسي هنا هو هذا: من أين جاء العقلیون بهذا «الوجوب»؟ إن كل حصيلتنا من الخبرة في وقائع وقعَت على نحوٍ معيَّن، وليس في تلك الحصيلة عنصر «الوجوب»؛ فلئن شهدت الرياح الشمالية الغربية متبوعةً بالمطر في الشتاء، فلم أشهد معهما كائنًا ثالثًا هو «الوجوب» الذي «يضطر» الرياح والمطر أن يرتبطا على نحوِ ما ارتبطا. إننا لا نقول إن أمر الطبيعة فوضى، وإنها هي النزوات تجعل الرياح المعيَّنة تستتبع المطر آنًا ولا تستتبعه آنًا آخر مع تشابه الظروف كلها في الآنَين، بل نقول إن اطِّراد التتابع بين الظاهرتين قد جاءنا العلم به من الملاحظة وحدها؛ أي من الخبرة، ولا يسعنا إلا أن نقف بالأمر عند حد الملاحظة لا نعدوها، وليس في هذه الملاحظة التي أدركنا بها رياحًا ومطرًا ما يدل على «وجوب»، بل كل ما فيها اطِّراد في الحدوث وقع فعلًا.

وأُحِب للقارئ أن يلاحظ الفرق بين جملة تصِف وجملة تُوجِب؛ فالفرق واضح بين أن أقول إن النافذة مفتوحة وأن أقول إن النافذة ينبغي أن تكون مفتوحة. أما العبارة الأولى فتصِف الأمر الواقع، سواء جاء وصفها مُطابقًا للواقع فيكون صوابًا أو غير مطابق له فيكون خطأً، وأما العبارة الثانية فلا تصِف شيئًا بل تأمر سامعها أن افعل كذا وكذا إن لم تجده مفعولًا. وإذا كان هذا هكذا، فالكلمة الدالة على أمر، مثل «يجب» و«ينبغي» وما إليهما، ليست بذات معنًى في عالم الأشياء؛ فهنالك في عالم الأشياء نافذة، وهي على إحدى صورتين؛ فإما هي مفتوحة أو مغلقة، لكنه ليس هنالك في عالم الأشياء شيء قائم بذاته اسمه «يجب» أو «ينبغي»، وعلى ذلك فكل جملة مُحتوية على مثل هذه الكلمة هي جملة بغير معنًی واقعي، مهما يكن لها بعد ذلك من صدًى نفسي عند قائلها أو عند سامعها؛ وإذَن فعندنا أن قول الفلاسفة العقليين عن تتابع الأحداث إنه «يجب» أن يتم على نحوِ ما يتم عليه هو قول بغير معنًى. نعم إننا كثيرًا ما نُجري حديثنا هذا المجرى، حتى الحديث العلمي، فنقول إن الأحجار المُلقاة في الهواء «لا بد» أن تسقط بفعل الجاذبية، وإن الماء المُنساب على سفح الجبل «لا مناص» من انحداره إلى جوف الوادي، وإن كل حي «يجب» أن يموت يومًا، نقول عبارات كهذه لنَصِف بها ما قد علَّمتنا الطبيعة إياه من طرائق سيرها، لكننا إذ نقول كلمات «لا بد» و«لا مناص» و«يجب» وما إليها، فإنما نريد معاني مُستقاة من الخبرة، وهي المعاني التي ترتدُّ بالتحليل إلى اطِّراد في الوقوع، أما إذا أراد بها قائلها أوامر صادرة من آمِر وراء الحوادث وخبرتنا بها، كمبدأ السببية كما يفرضه العقليون مثلًا، فعندئذٍ يكون الكلام خلوًا من المعنى.

ونعود فنسأل: ما مصدر هذا الخلط عند الفلاسفة العقليين بين أمرين؛ الاطِّراد الملحوظ في اقتران الحوادث الواقعة، والوجوب العقلي الذي يظنونه قائمًا وراء الحوادث يُملِي عليها خُطة سيرها؟

مصدر الخلط عندهم هو اختلاط الأمر بین ما نقوله استنباطًا من مقدمات وما نقوله تسجيلًا لمُشاهَدات؛ فكلا القولين عندهم من طبيعة واحدة. ولما كان القول من النوع الأول يقينيًّا دائمًا، أرادوا للقول من النوع الثاني أن يكون هو الآخر يقينيًّا كذلك، لكن كيف والمشاهدة معرَّضة لخطأ المُشاهِد في تسجيل ما يشاهده؟ هنا تراهم يضعون مبدأً عقليًّا تجيء المُشاهَدات نتائج حتمية له؛ فهنالك المبدأ العقلي الذي يُوجِب أن تُنزِل الرياح الفلانية مطرًا، فإن رأيتها في دنيا الخبرة قد أنزلَت مطرًا كان ذلك نتيجةً ضرورية للمبدأ العقلي، لا مجرَّد مشاهدة لحظناها فسجَّلناها، ولحظنا فيها اطِّراد الحدوث فجعلناها هاديًا نهتدي به فيما عسی أن يقع في المستقبل إذا ما توافرت الظروف نفسها.

لو قصَر الفلاسفة العقليون كلمة «ضرورة» أو «وجوب» على الحالات التي نستدل فيها فكرةً من فكرة لما أخطئوا، فإذا كان المثلث هو بحكم التعريف شكلًا مستويًا محوطًا بثلاثة خطوط مستقيمة، فمن «الضرورة» أن يكون ذا زوايا ثلاث؛ لأن هذه النتيجة مترتبة «حتمًا» على تلك المقدمة، ومصدر «الحتم» و«الضرورة» هنا هو أن النتيجة تَكرار للمقدمة، وهي تَكرار لها لأنها محتواة فيها، لكن ما هكذا يكون الأمر بالنسبة للحوادث التجريبية الواقعة؛ لأن كل حادثة مستقلة عن سواها، ولا يتوقف قيام الواحدة على قيام الأخرى ﺑ «الضرورة»، بل كل ما في الأمر هو أننا نلاحظ اقتران حادثتَين اقترانًا مطَّرِدًا، فنتوقَّع للاطراد أن يدوم.

مصدر الخطأ عند الفلاسفة العقليين حين يصِفون العلاقة السببية بالضرورة أو بالوجوب أو بالحتم، هو نفسه مصدر خطئهم حين ينشُدون اليقين في عِلمنا بالطبيعة؛ وذلك أنهم ينسبون ما يجدونه في العلوم الصورية من ضرورة ويقين إلى ما يُحصِّلونه بحواسِّهم من خبرات. ولو تنبَّه القارئ إلى أوجُه الاختلاف بين الحالتين، لزال من طريقه كثير جدًّا من مشكلات الفلسفة التقليدية، التي لم تكن في حقيقة أمرها مشكلات بقدر ما كانت نقصًا في تحليل العبارات ومضموناتها. وعلى الرغم من أني قد فصَّلت القول في هذا الاختلاف الذي يُميِّز العلوم الصورية ويقينها من العلوم الطبيعية واحتمالاتها (راجع الفقرة الرابعة من الفصل السادس)، إلا أنني أعود هنا إلى الموضوع نفسه عودةً سريعة فأطلب إلى القارئ أن يقارن بين هاتين العبارتين: (١) أحمد أطول قامةً من محمود. (۲) إذا كان أحمد أطول قامةً من محمود إذَن فمحمود أقصر قامةً من أحمد. أطلب إلى القارئ أن يقارن بين هاتين العبارتين لِيُدرك الفرق بين جملة تُخبِر فتكون معرَّضة للخطأ، وجملة لا تُخبِر بشيء وإنما تُكرِّر الصدر في العَجُز فتكون ضرورية اليقين ويستحيل عليها الخطأ؛ فالجملة الأولى تُخبِر سامعها بأن أحمد أطول قامةً من محمود، وهو خبرٌ مستمَدٌّ من مشاهدة الشخصين والمقارنة بينهما، وقد يكون الناقل لهذه المشاهدة مصيبًا فيما نقل أو مخطئًا. وأما الجملة الثانية فلا تقول شيئًا عن الواقع، وإنما هي تستنتج نتيجةً من فرض، فإذا فرضنا أن أحمد أطول قامة من محمود إذَن فيمكنك أن تقول هذه الحقيقة نفسها بصياغة لغوية أخرى تكون مرادفة للصياغة الأولى بحكم تعريفنا للألفاظ ومدلولاتها، أو بعبارةٍ أخرى فإن الشطر الثاني من العبارة تحصيلُ حاصل؛ لأنه يُحصِّل من المعنى نفس ما قد حصَّله السامع من الشطر الأول، لا زيادة ولا نقصان. إنك لا تستطيع أن تقول العبارة الأولى «أحمد أطول قامة من محمود» إلا إذا خبرتَ العالَم بحواسك، لكنك تستطيع أن تقول العبارة الثانية «إذا كان أحمد أطول قامة من محمود، كان محمود أقصر قامة من أحمد»، تستطيع أن تقول هذه العبارة دون أن تَخبُر شيئًا إطلاقًا من العالم الخارجي، بل دون أن يكون في العالَم كله إنسان من البشر سِواك؛ لأنك بهذه العبارة لا تُقرِّر شيئًا بذاته عن حقيقة معيَّنة، بل تَذكُر علاقةً منطقية قائمة بين «أطول» و«أقصر»، فهما ضدَّان، وإذا صدق أحد الضدَّين تحتَّم أن يكذب الآخر، والعلاقة التي تُعبِّر عنها كلمة «أطول» علاقةٌ لا تماثلية؛ بمعنى أنك إذا قرأت العبارة الواردة فيها هذه الكلمة من اليمين إلى اليسار، استحال عليك أن تقرأها هي نفسها من اليسار إلى اليمين وتظل محتفظًا بمعناها الأول نفسه؛ فعبارة «أ أطول من ب» لا تساوي «ب أطول من أ»، ولكي أستخرج من العبارة الأولى ما يُساويها، حين أقرأ بادئًا من اليسار، وجب أن أضع مكان العلاقة ضدها.

كذلك قُل في كل جملة تُنبِئ بنبأ عن الطبيعة حين تقارنها بجملة أخرى تذكُر علاقةً منطقية بين طرَفَين ولا تُنبِئ بشيء؛ فعندئذٍ لا يكون في الجملة الأولى ضرورة صِدق، على حين تكون الجملة الثانية ضرورية الصدق لأنها لا تُنبِئ بشيء كما تُنبِئ الجملة الأولى؛ فقارِن بين قولنا «الغاز يقلُّ حجمه إذا زاد الضغط عليه»، وبين قولنا «إنه إذا صدق القول بأن الغاز يقلُّ حجمه إذا زاد الضغط عليه، فلا بد أن يكون الغاز في هذه الأنبوبة قد قلَّ حجمه حين ازداد الضغط عليه»؛ ففي الجملة الأولى يُقرِّر المتكلم اطرادًا معيَّنًا في ظواهر الطبيعة، يُقرِّر اطرادًا بين زيادة الضغط على الغاز وقلة حجمه، مستمِدًّا ذلك من مشاهداته، لكن هنالك إمكان منطقي أن يكون قد أخطأ المشاهدة وتسجيلها؛ وإذَن فلا ضرورة تحتم صدق هذا النبأ، ومن حق أي سامع أن يُطالِب المتكلم بإجراء تجرِبة تُثبِت صدق زعمه. أما في الجملة الثانية فالمتكلم لا يُورِّط نفسه في إقرار حقيقة بعينها عن الطبيعة، بل يبني نتيجة على فرض، دون أن يدَّعي للفرض صدقًا، فإذا صدق الفرض صدقَت معه النتيجة؛ لأن النتيجة ليست سوى تكرار ما جاء في الفرض نفسه؛ وإذَن فهي تحصيل حاصل؛ ومن ثَم فهي ضرورية الصدق ما دامت مقدمتها قد فُرِض فيها الصدق.

وهذا بعينه هو الفرق بين أي قانون من قوانين الطبيعة التي تثبت فيها اطِّرادات الظواهر، وبين تطبيق ذلك القانون نفسه بعد ذلك على مواقف بعينها؛ ففي حالة القانون نفسه يكون العالِم القائل بمثابة من يُنبِئ عن الطبيعة نبأً يروي به أن الظاهرة الفلانية مطَّرِدة الوقوع مع الظاهرة الفلانية بالنسبة الفلانية، ولكل سامع الحقُّ في أن يُطالِب المتكلم بإجراء التجارب التي تُثبِت صدق النبأ؛ مما يدل على أن النبأ نفسه قابل لأن يكون باطلًا؛ أما في حالة التطبيق فنحن بمثابة من يقول عندئذٍ إنه «إذا» كان القانون الفلاني صادقًا، فسيَحدُث كذا وكذا في الموقف الفلاني، فها هنا تكون النتيجة ضرورية الصدق لأننا نرتِّبها على مقدمة فرَضْنا فيها الصدق.

هكذا يخطئ الفلاسفة العقليون حين ينقلون «الضرورة» و«الوجوب» من نتيجة القانون إلى القانون نفسه، مع أن الفرق المنطقي واضح بين القانون ونتيجته؛ فالأول تؤيِّده المشاهدة، وأما النتيجة فاستنباطٌ منطقي صِرف يَصدُق حتمًا ما دام القانون مُسلَّمًا به؛ أرأیت — إذَن — متى يجوز لنا ومتى لا يجوز أن نستعمل كلمة «لا بد» أو كلمة «لا مناص» أو كلمة «يجب» أو ما في معناها في السياق العلمي؟ إنه لا يجوز استعمالها ما دمنا في المرحلة الأولى التي هي مرحلة التعميم عن مشاهداتنا للطبيعة في قانونٍ ما، بحيث نقول إن كل «أ» هي «ب» فلا وجوب هنا ولا ضرورة، بل هكذا شاهدنا «أ» و«ب» مقترنتين بغير تخلُّف، فعمَّمنا هذا الاقتران في قانون، لكن الضرورة والوجوب وما إليهما يكون حين نستنبط من القانون — على فرض التسليم به — نتيجةً ما، فإذا كانت كل أ هي ب، وهذه الحالة المعيَّنة التي أنا بصددها هي أ؛ إذَن فهذه الحالة التي أنا بصددها لا بد أن تكون ب؛ إذا كانت الحرارة تُمدِّد الأجسام دائمًا، وهذه الحالة التي أنا بصددها الآن هي حالة جسم معرَّض لحرارة، فلا بد أن يكون هذا الجسم قد تمدَّد بفعل تلك الحرارة.

ضرورة الصدق في العلوم الطبيعية — إذَن — لا تكون إلا في النتائج التطبيقية لا في المقدمات التي نستولدها هذه النتائج، ولكن ما أسرع ما نخطئ هنا فنظن أننا ما دمنا نقول عن النتيجة المعيَّنة في الموقف المعيَّن إنها «لا بد» أن تكون على النحو الفلاني، فكذلك نستطيع أن نقول «لا بد» هذه عن القانون نفسه الذي اتخذناه مقدمة سلَّمنا بصوابها ورُحنا نستنبط منها النتائج التطبيقية. ألا ما أكثر ما نسمع من علماء الطبيعة أنفسهم ما يدل على نفورهم إذا ما أنبأناهم بأن قوانين الطبيعة «احتمالية» لا يقينية؛ وذلك لأنهم ينقلون «وجوب الصدق» من النتيجة إلى المقدمة، ينقلونه من التطبيق إلى القانون الذي نُطبِّقه، وقد فات هؤلاء جميعًا أن النتيجة المنطقية المستنبَطة من أية مقدمات — صادقة أو غير صادقة — هي دائمًا ضرورية الصدق ما دام استنباطنا لها سليمًا؛ أي ما دمنا نُكرِّر في النتيجة نفس الذي نُقرِّره في المقدمات، لكن ما هكذا تكون المقدمات التي نستمدُّها من المشاهَدات والتجارِب، فلا استنباط هنا يُكرِّر مقدمة في نتيجة، بل هنا وصفٌ يصف وقد يُصيب التصوير وقد يخطئ؛ فات هؤلاء جميعًا أنني أستطيع من مقدمات كاذبة في ذاتها أن أستنتج نتيجةً «لازمة» الصدق «إذا» سلَّمنا بالمقدمات جاهلين أو متجاهلين ما فيها من كذب، فلنا أن نقول مثلًا: إذا كانت الجِياد كلها من ذوات الجناح، وإذا كانت قطتي هذه جوادًا؛ فهي إذَن من ذوات الجناح. هذه نتيجةٌ «ضرورية الصدق» بغير شك لأنها مترتِّبة منطقيًّا على مقدماتها، ولكن ما الحكم في المقدمات نفسها؟ قل هذا تمامًا في أي قانون طبيعي وتطبيقه، فإذا كانت أشعة الضوء تسير في خطوط مستقيمة، وإذا كان هذا النافذ من غُرفتي شُعاعًا من الضوء، فهو إذَن يسير في خط مستقيم. هذه نتيجةٌ «ضرورية الصدق» لأنها مستنبَطة من مقدماتها، ولكن ما هكذا المقدمات نفسها؛ فكونُ أشعة الضوء تسير في خطوط مستقيمة أو في خطوط منحنية أمرٌ يحتاج إلى تجارِب علمية تُثبِته أو تَنفيه؛ أي إنه قول يحتمل فيه الصواب كما يحتمل فيه الخطأ.

٤

إذا كان الاطِّراد الملحوظ بين ظواهر الطبيعة أمرًا مرهونًا بالخبرة وحدها، دون أن يكون هنالك ضرورة عملية تُوجِب وقوعه هكذا وتحتم حدوثه على نحو ما يحدث، فما الذي يُغري الفيلسوف العقلي أن يُضيف إلى الأمر ما ليس فيه، فيُضيف «ضرورة عقلية» حيث لا ضرورة، ويُضيف «وجوبًا» حيث لا وجوب؟ ما الذي يُغريه أن يقول عن ظواهر الطبيعة إنها «لا بد» أن تقع على نحو ما هي واقعة وإنها «يجب» أن ترتبط على الصورة التي نراها مرتبطة عليها؟ إنه إذا رأی «أ» مطَّرِدة الوقوع دائمًا مع «ب» — كارتفاع الحرارة وتمدُّد الأجسام مثلًا — فلماذا لا يقف عند حدود خبرته فيقول إن «أ» و«ب» مطَّرِدتان دائمًا في الوقوع، فلا يُضيف من عنده «وجوبًا» لم يقع له في خبرته تلك، بحيث يقول إن «أ» لا بد أن تتبعها «ب»؟

لعل ما يُغري الفيلسوفَ العقلي بهذه الإضافة هو أن يُلقيَ بزِمام الكون إلى «عقل» يُسيِّره كيف شاء؛ لأنه إذا كانت الظاهرتان المطَّرِدتان في تلازُم الوقوع أمرًا واجب الحدوث وضروريَّ الصدق، كان لا بد لهذا الوجوب من مُوجِب، ولهذه الضرورة من عقل سنَّ لها السُّنن التي لا مندوحة عن السير بمقتضاها. وإذا شئت فعُد في تاريخ الفكر إلى «نیوتن» من جهة و«كانْت» من جهة أخرى؛ تَرَ الأول قد جعل الأمر في قوانين الطبيعة حتمًا محتومًا وضرورةً عقلية لا مندوحة عن قيامها، فجاء الثاني يُفلسِف هذا الاتجاه العلمي نفسه فيسأل سؤاله المشهور: كيف أمكن لما يُملِيه العقل من ضرورات أن يكون هو نفسه ما يقع في عالم الطبيعة من حوادث؟ أو بعبارةٍ يعرفها دارِسو الفلسفة: كيف أمكن للقضية العلمية أن تكون قَبْلية وتركيبية في آنٍ معًا؟ إنه لا جُناح على «كانْت» أن يسأل سؤاله هذا وأن يحاول عنه الجواب؛ لأنه صدًی يُردِّد العلم الطبيعي السائد في عصره، وهو العلم كما خلَّفه نیوتن؛ فلم يكن معقولًا أن يقول العلم شيئًا عن الطبيعة وأن تقول الفلسفة في العصر نفسه شيئًا آخر.

فإذا كانت الفلسفة صدًى للعلم في العصر الواحد، كان علينا أن نضع نُصْب أعيُننا علم الطبيعة في القرن العشرين إذا أردنا أن نفهم ما يقوله الفلاسفة المعاصرون في منطق القانون العلمي.

إنه من سوء الحظ أن تجتمع لكلمة «قانون» عدَّةُ معانٍ مختلفة فيما بينها أشد اختلاف، فأدَّى ذلك إلى خلط في التفكير لا حدَّ لِمَداه؛ فهنالك القانون الذي يسنُّه الحاكم لرعيته فيكون بمثابة أمر يُصدِره لهؤلاء حتى يرسم لهم ما يجوز فعله وما لا يجوز؛ فإذا شرع الحاكم — مثلًا — ألا يزيد سعر الأُقَّة من البرتقال عن خمسة قروش «وجب» على البائع ألا يُجاوز هذا الحد الأقصى، ومعنى «الوجوب» هنا هو أن الحاكم قد أمرَ وعلى المحكوم أن يُطيع. ولما كنا نستخدم كلمة «قانون» في الطبيعة وظواهرها، كما نستخدمها في الحاكم وأوامره لرعيته، نقَلْنا معنى «الوجوب» من هذا المجال الاجتماعي إلى ذلك المجال الطبيعي، فوقعنا في الخطأ؛ فنقول — مثلًا — إن الماء على سَفحِ الجبل لا بد أن ينحدر إلى أسفل، ثم نظن أن هنالك آمِرًا قد أمرَ وعلى الماء أن يُطيع، كما يأمر الحاكم وعلى الرعية أن تَصدَع بالأمر؛ وبهذا نخلط بين معنيَين لكلمة واحدة — كلمة «قانون» — كان يجب أن يكونا واضحَين في اختلافهما البعيد؛ فالقانون في حالة الحاكم ورعيته «أمر»، والقانون في حالة الطبيعة وظواهرها «وصف»، فإن استخدمنا كلمة «الوجوب» في الحالتين كان ذلك أيضًا بمعنيَين مختلفين؛ فالقانون التشریعي «يجب» أن يُطاع وإلا تعرَّض العاصي للعقاب، وأما حين نقول عن القانون الطبيعي إنه «يجب» أن يَسرِي، وإن الظواهر «يجب» أن تسير على مُقتضاه، كان معنى الكلمة هنا هو «هكذا تسير الأمور» كما لاحظناها، فلا آمِر هناك ولا مأمور.

حين يصوغ عالم الطبيعة قانونًا من قوانينه، يصف به اطِّراد الحدوث بنسبة معيَّنة بين ظاهرتين أو أكثر، يكون بمثابة من يقول: «إذا حدث كذا فإن كذا يحدث دائمًا.» فقوله مثلًا عن التيار الكهربائي إنه يُسبِّب انحرافًا في الإبرة المغناطيسية معناه أن المشاهَدة قد دلَّت على أنه إذا كان هناك تيار كهربائي انحرفت الإبرة المغناطيسية بغير تخلُّف.

فلا فرق بين ما يقع مصادفة وما يقع وَفْق قانون إلا أن الاطِّراد في الحالة الثانية لا يتخلَّف على حين أنه في الحالة الأولى قد يظهر وقد يختفي؛ فلو حدث مرةً أن ظهرت على شاشة السينما صورة انفجار شديد ثم حدث في الوقت نفسه أن اهتزَّت الأرض فعلًا بزلزال (كما قد تَصادَف حدوث ذلك فعلًا ذات مرة)، عدَدْنا الأمر اتفاقًا بالمصادفة؛ لأنه لا يحدث هذا الاقتران بين الحادثتين دائمًا، ولو اطَّرد حدوثه دائمًا وبغير تخلُّف لجعلناه قانونًا كأي قانون آخر من قوانين الطبيعة.

إنه لا إلزام في الطبيعة ولا وجوب إذا كان معنى الوجوب تنفيذ مأمور لأمر آمِر، وكل ما في الأمر اقترانٌ بين الحوادث يَطرد أو لا يَطرد، فإن اطَّرد كان قانونًا وإلا فهو من قبيل المصادفة التي لا يُركَن إليها في الحكم على الحالات المستقبَلة، وإنما نحن البشر قد رأينا لأنفسنا إرادةً تفعل هذا وذاك، فشبَّهْنا فِعل الطبيعة بفعلنا، وجعلنا لها مريدًا يريد لها أن تفعل كذا وألَّا تفعل كیت.

لو كان القانون العلمي صادقًا بحكم الضرورة المنطقية، لا بحكم اطِّراد الوقوع، لكان نقيضه مستحيلًا استحالةً منطقية كذلك، فهل القانون الطبيعي نقيضه مستحيل من الوجهة المنطقية؟ كلا، فنقيض أي قانون طبیعي ممكنٌ عقلًا، وغاية ما في الأمر أن هذا النقيض لم يحدث، وفرقٌ بعيدٌ بين الحالتين. ولنضرب للمعنى الذي نريده مثلًا من العلم الطبيعي الحديث، لنضرب له مثل القانون الذي يُسمَّى بالقانون الثاني للديناميكا الحرارية،٦ والذي مؤدَّاه أن الحرارة تنتقل دائمًا من الجسم الأكثر حرارة إلى الجسم الأقل حرارة، وأن العكس لا يحدث أبدًا؛ فلا يحدث أبدًا أن تضع قطعة من الثلج في كوب من الماء فتنتقل البرودة من الماء إلى قطعة الثلج لتزيدها بُرودة وليزيد الماء بذلك حرارة، إنه لا يحدث أبدًا أن تضع قطعة من الحديد المحمى على قطعة من الحديد البارد فينتقل شيء من الحرارة القليلة الموجودة في القطعة الباردة إلى القطعة المحماة فتزيدها حرارة بينما تزيد الأولى برودة، بل الذي يحدث دائمًا هو أن تنتقل حرارة الماء إلى الثلج البارد حتى يتعادَلَا، وأن تنتقل حرارة الحديدة المحماة إلى الحديدة الباردة حتى تتعادلا أيضًا. وهكذا قل في كل حالة يتصل فيها جسمٌ أكثر حرارة بجسمٍ أقل حرارة؛ فإن الحرارة دائمًا تسير من الأحرِّ إلى الأبرد، فلماذا؟ لماذا لا يحدث العكس؟ جوابنا هو: هكذا لاحظنا الظواهر كيف تحدث، فجعلنا ما قد اطَّرد حدوثه في ملاحظتنا قانونًا، على الرغم من أن العقل الصِّرف لا ينفي حدوث العكس.

ولشرحِ ذلك نقول: إن مقدار الحرارة في جسمٍ ما متوقِّف على حركة ذرَّاته، ولما كانت هذه الذرَّات مختلفة السرعة في حركتها، كانت حرارة الجسم متوقفة على «متوسِّط» تلك السرعات المختلفة؛ فكلما زاد هذا المتوسط ازدادت حرارة الجسم، وكلما قلَّ قلَّت. والذي يحدث عندما يمسُّ جسمٌ حارٌّ جسمًا أقل منه حرارة، هو التِقاء مجموعتين من الذرَّات؛ فمجموعةٌ متوسط السرعة في أفرادها أكثر من متوسط السرعة في أفراد المجموعة الثانية؛ فماذا تكون نتيجة هذا الصِّدام بين المجموعتين؟ إن الذرة البطيئة إذا ما اصطدمَت بذرَّة أسرع منها، فهنالك احتمالان؛ فإما أن تزيد سرعة البطيئة وتقلَّ سرعة السريعة حتى يتعادلا، أو أن تفقد البطيئة بعض سرعتها فتزداد بطئًا، وتكسب السريعة سرعةً تُضاف إلى سرعتها فتزداد سرعة، لكنه على الرغم من أن كلًّا من الاحتمالين جائز الحدوث، إلا أن «الإحصاء» قد دلَّ على أن تعادُل السرعة بين البطيئة والسريعة أقرب جدًّا إلى الوقوع من أن تزداد البطيئة بطئًا وتزداد السريعة سرعة؛ ومعنی ذلك بلُغة الحرارة هو أن التقاء جسم حارٍّ بجسم أقل حرارة يميل بالحرارتين المتفاوتتين نحو التعادل؛ فهكذا قد دلَّت المشاهدات، على الرغم من جواز حدوث العكس، وهو أن تزداد حرارة الحار وتزداد برودة البارد.

ونزيدك توضيحًا فنقول: إن مجموعتَي الذرَّات، المجموعة السريعة في متوسطها التي تُكوِّن الجسم الحار، والمجموعة البطيئة في متوسطها التي تُكوِّن الجسم البارد، حين يمتزجان بالتقاء إحداهما بالأخرى، تَكُونان أشبه شيء بمجموعتَي أوراق اللعب، المجموعة الحمراء والمجموعة السوداء؛ فهاتان المجموعتان بادئ ذي بدء تكونان متجانستين؛ فالحمراء على حِدة والسوداء على حِدة، لكن ابدأ في «تفنيط» الأوراق ومزجِها بعضها في بعض، وامضِ في هذه العملية ما شئت أن تمضي، فهل يجوز أم هل يستحيل أن تعود المجموعتان كما كانتا أول مرة، فالحمراء على حِدة والسوداء على حِدة؟ ذلك بالطبع ممكن؛ لأن هذه الحالة إن هي إلا حالة من حالات أخرى تُعَد بالملايين، غير أن إمكان حدوثها قليل الاحتمال إلى درجة تُبرِّر لنا أن نقول إنَّ مَزْج أوراق اللعب بعضها في بعض سيظل يُبعثِر الأحمر في غضون الأسود، ولن يعود النظام إلى حالته التي كان عليها أول الأمر أبدًا؛ إن مِثل هذا الرجوع غیر مستحيل «عقلًا»، ولكنه مستحيل تجرِبةً وإحصاءً. وهكذا قُل في القانون الثاني للديناميكا الحرارية الذي يُقرِّر أن الحرارة تنتقل دائمًا من الأحرِّ إلى الأبرد، وأن بقاء مجموعتَي الذرَّات المختلفتَي السرعة على حالهما، بحيث تظل الذرَّات السريعة مجتمعة معًا والبطيئة مجتمعة معًا، أمرٌ إن لم يكن مستحيلًا «عقلًا» فهو مستحيل تجرِبةً وإحصاءً.

هكذا الحال في قوانين الطبيعة كلها، فهي نتائج نستخرجها من المشاهَدات على سبيل الإحصاء لا على سبيل القطع واليقين، ونقيضها إن لم يكن مستحيلًا من الوجهة المنطقية الخالصة، فهو مستحيل على أساس التجرِبة وما دلَّت عليه. خذ وعاءً نِصفه مليء بالماء ونِصفه الآخر خلاء مُفرَّغ، وبين النصفين حاجز، فماذا يحدث لو ثُقِب الحاجز؟ الجواب الذي يتفق مع قوانين الغازات في علم الطبيعة هو: سينتشر الهواء في النصف المُفرَّغ، بحيث يتعادل انتشاره في نِصفَي الوعاء على السواء، لكن هل يجوز أم هل يستحيل أن نثقب الحاجز ومع ذلك يظل الهواء في مكانه لا يتسلَّل إلى النصف المفرَّغ؟ إن ذلك ممكن «عقلًا» ولكنه غير ممكن تجرِبةً وإحصاءً؛ فبقاء الهواء متجمِّعًا في نصف المكان وتاركًا نِصفه الآخر خلاءً مفرَّغًا إن هو إلا حالة من حالاتٍ أخرى كثيرة جدًّا كلها جائز في طريقة توزيع كمية الغاز في المكان، لكن احتمال وقوع هذه الحالة الواحدة دون بقية الحالات هو كاحتمال أن تعود أوراق اللعب أثناء عملية «التفنيط» إلى نظامها الأول؛ فهو احتمال ممكن الوقوع من الناحية المنطقية لكنه مُستبعَد من الناحية الإحصائية. هل يستحيل أن نصبح غدًا فإذا دُورُ القاهرة كلها قد احترقت، كل دار منها احترقَت لسببٍ غير السبب الذي احترقَت له الأخرى؟ هل يستحيل أن نصبح غدًا فإذا كل سكان القاهرة موتى، كلٌّ منهم قد مات لسببٍ يختلف عن السبب الذي أدَّى إلى موت الآخرين؟ كل ذلك محتمل من الوجهة المنطقية، لكنه مستحيل من الوجهة الإحصائية التجريبية. وهكذا كل قانون طبيعي، فهو إجمال إحصائي لما يقع، نقيضه محتمل منطقيًّا، لكنه مستبعَد تجرِبةً وإحصاءً.

وقد يقول قائل: وماذا علينا أن يُقال عن القانون العلمي إنه ضروري الصدق ضرورةً منطقية جريًا مع الفلاسفة العقليين، أو أن يُقال إنه محتمل الصدق على أساس تجريبي إحصائي جريًا مع جماعة التجريبيين العلميين، ماذا علينا من مثل هذا الاختلاف إذا لم يكن من نتيجته عدم انطباق القانون عند تطبيقه؟ إذا كان القانون العلمي صادقًا دائمًا من حيث التطبيق العملي، فقل بعد ذلك ما شئت في تفسير ذلك الصدق، أهو من إملاء المنطق أم هو من ترجيح الخبرة والإحصاء؛ قد يُقال ذلك ويكون للقائل مُبرِّراته العملية، لكن الفرق بعيدٌ جدًّا من الوجهة النظرية بين رجل يأخذ بضرورة الصدق في القوانين الطبيعية وآخر يأخذ باحتمال ذلك الصدق؛ الفرق بعيدٌ جدًّا في النظرة التي يُكوِّنها كلٌّ من الرجلين، فبينما الأول يُقبِل على العالم وكأنه قد أقبل على حقيقة سكونية قد فرغ صانعها من صناعتها وأعدَّ لها قوانينها فلم يعُدْ أمَل في تغيير ما قد كان ولا في ارتقاب جديد بعد قديم، ترى الثاني في النهاية يُكوِّن لنفسه رأيًا عن العالم بأنه تطوُّري حرَكي لا حدَّ لممكناته، ولا نهاية لِسَيره وأوجه نشاطه.

١  An Enquiry Concerning Human Understanding، فقرة ٥٢.
٢  Enquiry، فقرة ٢٣.
٣  المرجع السابق، فقرة ٢٥.
٤  Schlick, Moritz, Causality in Everyday Life and in Science, (Univ. of California Publications in Philosophy, Vol. 15).
٥  راجع مثلًا كتاب: Taylor, A. E., Elements of Metaphysics، ص١٧١ وما بعدها.
٦  القانون الأول هو القانون القائل بأن الطاقة لا تزيد ولا تَنقُص، بل تحتفظ بمقدارها؛ فقد تتحوَّل من نوع إلى نوع، كأن تتحوَّل مثلًا من حرارة إلى حركة، لكن المقدار يظل كما هو؛ فالأمر شبيه بالصَّيرفي الذي قد يُحوِّل ما عنده من نقود إلى أنواع مختلفة، فيفُكُّ القِطع الكبيرة إلى قِطع صغيرة أو يُجمِّد القِطع الصغيرة في قِطع كبيرة، لكن المقدار يظل واحدًا.
وبناءً على قانون حفظ الطاقة هذا، يجوز أن تضع قطعة من الحديد الساخن على قطعة أخرى من الحديد الأقل حرارة، فتمتصُّ القطعة الأولى بعض حرارة القطعة الثانية، بحيث تزيد حرارة الأولى وتقلُّ حرارة الثانية، ومع ذلك يظل مقدار الحرارة في القطعتين كما كان في البداية.
لكننا نلاحظ أن انتقال الحرارة يكون دائمًا في اتجاهٍ واحد، وهو اتجاهٌ يسير من الأكثر حرارة إلى الأقل حرارة، فأُطلقَ على هذه الظاهرة اسم «القانون الثاني للديناميكا الحرارية».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤