ولد اسمه «جيران»

بدأت خطة البحث عن الشخص الذي أرسل هذا الطرد تتَّضح في مناقشة طويلة بين المغامرين الخمسة، ثم استقرَّ رأيهم على سرعة التحرُّك، واتفقوا على أن يقوموا بزيارة محطَّات البنزين الثلاث التي في المعادي وعلى طريق حلوان … كان ذلك مرحلة أُولى، فإذا صحَّت استنتاجاتهم حول مُرسِل الطَّرْد فسوف يحاولون معرفة القصة منه … فإذا لم يعرفوه فإنهم يعودون للاجتماع في المساء، وانقسموا إلى ثلاث فِرَق، كل فرقة تزور محطة من محطات البنزين الثلاث في المعادي.

وسرعان ما خرجت «نوسة» و«عاطف» معًا، و«لوزة» و«محب»، في حين خرج المغامر السمين «تختخ» مع «زنجر»، وقد اختار «تختخ» أن يذهب مع «زنجر» إلى المحطة البعيدة في طريق حلوان، وهي محطة صغيرة تخدم سيارات النقل الكثيرة التي تمرُّ في المنطقة قادمة من منطقة المصانع … وقد كان المشوار طويلًا ولكن الجو كان طيبًا. واستعدَّ «تختخ» للرحلة بإحضار بعض الشطائر له من المنزل، كما أحضر وجبة للكلب الأسود، ثم انطلق في سبيله.

كانت محطة الخدمة في مدخل المعادي هي هدف «لوزة» و«محب»، وكان الاتفاق بين الجميع أن يكون دخول المحطة بدعوى الرغبة في نفخ إطار الدرَّاجة، وهو مطلب غير صحيح؛ لأنَّ ضغط الهواء في أجهزة محطات البنزين قوي جدًّا وقد يُفَجِّر الإطار الرقيق للدرَّاجة، وعادة ما يرفض العاملون في المحطات أداء هذه الخدمة لراكب الدرَّاجات، ولكِنَّ المغامرين كانوا يبحثون عن أي سبب لدخول المحطة.

دخل «محب» وهو يقود الدرَّاجة بعد أن أفرغ بعض الهواء من العجلة الأمامية لها، وكانت الخطة هي ملاحظة العاملين بالمحطة، والبحث عن أيِّ آثار لورق اللف من نفس النوع الذي أتى به الطَّرْد، وكذلك نوع «الدوبارة» التي رُبط بها.

وقد تمت الخطة بنجاح، واستطاعت «لوزة» أن تقوم بجولة سريعة في المحطة راقبت فيها كل شيء، وبحثَت بجوار الجدران عن آثار الورق و«الدوبارة»، ولكن المحطة كانت نظيفة، ولم تكن هناك أيَّة آثار لما جاءت تبحث عنه، وأحسَّت «لوزة» بالضيق … أولًا: لأنها كانت صاحبة الاستنتاج الخاص بمحطات البنزين، وثانيًا: لأنها كانت في عجلة من أمرها كعادتها دائمًا حين تُحاول حلَّ أحد الألغاز.

وعندما خرجَت من المحطَّة قالت ﻟ «محب»: إنني لا أستطيع الانتظار إلى المساء لأعرف أخبار بقية المغامرين.

محب: وماذا نفعل إذن؟

لوزة: تعالَ نلحق ﺑ «تختخ»؛ إنه بطيء في قيادة الدرَّاجات، ثم إنه سيذهب لإعداد بعض الطعام كما قال.

وافَق «محب» على هذه الخطة، وقفزا إلى درَّاجتهما، وانطلقا في طريق حلوان، وعندما اقتربا من المحطة لاحَظا أن الشاويش «علي» يتبعهما، وأدركا أنه كان خلفهما طوال الوقت دون أن يعرفا.

وقالت «لوزة»: لا بدَّ من تضليل الشاويش عن طريقنا؛ لأننا إذا دخلنا المحطة فسوف يعرف أننا نبحث عن شيء له علاقة بمحطات البنزين.

محب: ولكنه سيُشاهد «تختخ» ويعرف الحقيقة.

لوزة: إذن لا بد من تعطيله.

وعادا مُسْرعَين إلى الشاويش … وحاول الشاويش أن يتظاهر بأنه لم يَرهُما، وأخذ يسرع بدرَّاجته، ولكن «محب» ناداه قائلًا: يا حضرة الشاويش … يا حضرة الشاويش.

توقف الشاويش وقال بصوت غاضب: ماذا تريدان؟

محب: إننا نسألك، ماذا تريد؟

الشاويش: ليس لكما أيُّ حق في توجيه هذا السؤال.

محب: وهل لك الحق في اقتفاء أثرنا من المعادي إلى هنا؟

الشاويش: هذا عملي.

وبينما كان الحديث يدور بين الثلاثة، كان «تختخ» و«زنجر» يدخلان محطة البنزين، وخُيِّل ﻟ «تختخ» أنه بمجرد دخوله حدث شيء مريب … هناك ولد صغير اختفى بسرعة خلف مبنى المحطة من الناحية التي تطلُّ على الحقول … لم تَخْفَ هذه الحركة عن عينَيْ «تختخ»، ولكنه تظاهر بأنه لم يرَ شيئًا … ودون أن يتوقَّف عند جهاز الهواء أسرع فورًا إلى خلف المحطة، وكانت بانتظاره مُفاجأة، فقد وجد الولد الصغير يجمع بعض الأوراق وقِطع «الدوبارة» ويُحاوِل إخفاءها، وكان مُنحنيًا فلم يَرَ «تختخ» وهو يتقدَّم منه، ولكن ما إنْ رفع عينَيه حتى شاهد «تختخ» ينظر إليه مبتسمًا.

تردَّد الولد للحظات، ثم فجأةً ألقى ما في يده من أوراق وغيرها، وأطلق ساقَيهِ للريح في اتجاه الحقول … وترك «تختخ» درَّاجته وانطلق خلفه ومعه «زنجر» الذي فهم ما يحدث.

كان الولد يجري كالسهم بين عيدان الذرة العالية، واستطاع بسرعة أن يختفي عن عين «تختخ» بينها، ولكن «زنجر» كان كالمغناطيس سرعان ما لحقَ بالولد، وسمع «تختخ» صوت «زنجر» الغاضب والولد يُحاول التخلُّص منه، واستطاع تحديد مكانه … وفي لحظات كان يقف أمامه وهو يطلب من «زنجر» الهدوء.

قال الولد بصوت مُرتعِد: ماذا تُريد مني؟

تختخ: إنني لا أريد منك أي شيء … بل إنني الذي أسألك نفس السؤال.

الولد: إنني لم أفعل شيئًا.

تختخ: ومن الذي قال إنك فعلت أي شيء؟

الولد: إنك ستُبلغ رجال الشرطة.

تختخ: إذا كنت قد ارتكبت أي خطأ فسوف أبلغ عنك الشرطة بالطبع، ولكنني أؤكد لك أنني سأفعل المستحيل لحمايتك.

كان الولد في سنِّ «تختخ» تقريبًا، ولكنه رفيع وأسمر، يلبس بعض الملابس البالية المكونة من قميص متسخ بالشحم، وسروالًا قد اختفى لونه الأصلي، وحذاءً مُموَّجًا … وكان شعره منكوشًا ووجهه هزيلًا. وبدون كلمة واحدة أخذ «تختخ» طعامه، ثم مدَّ يده بقطعة من الشطائر المحشوَّة بالبسطرمة والبيض.

نظر الولد إلى «تختخ» بدهشة وقال: ما هذا؟

كانت الرائحة المُميزة لهذا النوع من الطعام واضحة، فقال «تختخ»: سوف نأكُل معًا … نأكل «عيش وملح» لنُصبح أصدقاء. تناول الولد الطعام وهو غير مُصدِّق، ثمَّ انهمَكَ من الفور في أكله، واختار «تختخ» جانبًا من الحقل قرب الترعة، وقال: تعالَ نجلس. وجلسا معًا وأخذا يأكلان وقد ساد الصمت، ووضع «تختخ» طعام «زنجر» أمامه، فأخذ يأكل هو الآخر … كانت وجبة ثلاثية بين الحقول؛ فقد كانوا بعيدين عن الكورنيش الصاخب بحركة السيارات، حيث كان الشاويش و«محب» و«لوزة» قد انتهوا من حوارهم الغاضب، وأسرع الشاويش عائدًا بدرَّاجته.

انتظر «محب» و«لوزة» حتى اختفى الشاويش بين حركة السيارات الضخمة ثم دخلا المحطة، ولم يكن هناك أثر ﻟ «تختخ»، وانتابتهما الدهشة … لقد شاهدا الولد السمين وهو يدخل المحطة منذ عشر دقائق، فأين ذهب؟

أخذا ينظران حولهما، ولكن لم يَعثُرا على شيء … وقال «محب»: أين صديقنا السمين؟

لوزة: لا أدري، وحتى درَّاجته غير موجودة!

كان «تختخ» قد ترك الدرَّاجة خلف محطة البنزين فلم يرها المغامران الصغيران.

وقال «محب»: هيَّا نَعُدْ سريعًا إلى المعادي … ولنُنفِّذ الخطة كما وُضعت، ونَنتظِر بقية المغامرين في المساء.

وفي تلك الأثناء كان «تختخ» والولد يأكلان، ثم أخرج «تختخ» من جيبه الخطاب الذي كان في اللفة وقال: أأنتَ الذي أرسلت هذا الخطاب؟

تردَّد الولد لحظات، وأخذ ينظر حوله كأنه يُريد الفرار مرة أخرى فقال «تختخ»: أؤكد لك أنني سوف أحميك، لا تخشَ شيئًا وقُلْ لي ماذا خلف هذه القصة كلها، فردة الحذاء، والخطاب، وهل …؟

الولد: إنني لم أفعل شيئًا. إنَّ رجال الشرطة …

قاطعه «تختخ»: لا تخفْ، إنني أشعر شعورًا قويًّا أنك لم ترتكب أيَّ خطأ، إن رجال الشرطة يخدمون العدالة، ويحمون المظلومين، وأنا أعرف المفتش «سامي» مدير البحث الجنائي … وسوف أجعلك تقابله.

الولد: ماذا تُريد؟

تختخ: ما اسمك أولًا؟

الولد: اسمي «زيد عبد الرحيم» وشهرتي «جيران».

تختخ: «جيران»! اسمك «جيران»؟!

الولد: نعم … فقد تربَّيْتُ عند الجيران بعد أن مات أبي وأمي في حادث سيارة، وكنت أقضي ليلة عند كل جار من جيراننا فسمَّوني «زيد جيران»!

أحسَّ «تختخ» بالعطف على الولد الصغير وقال: وما حكاية فردة الحذاء التي أرسلتها لي يا «جيران»!

صمت الولد لحظات ثم قال: إنها قصة طويلة سوف أرويها لك!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤