الفردة الثانية

استمرَّا يأكلان فترة … كان واضحًا أنَّ الولد «جيران» جائع وخائف، ولكن بعد الطعام، وبأسلوب بسيط، استطاع «تختخ» أن يَقضي على خوفه، وقال له: لا تخشَ شيئًا، إنني أعدك بمُساعدتك إذا رويت لي قصتك.

قال الولد: القصة كلها حزينة ولا أدري متى تَنتهي؟

تختخ: سينتهي كل شيءٍ على ما يرام.

الولد: ماتت أمي وأبي في حادث واحد، وكنت معهما في سيارة أجرة في طريقنا إلى زيارة أقارب لنا في بلدنا البعيد، وسقطت السيارة في ترعة نتيجة السرعة المجنونة، وماتا معًا، وبقيت وحدي، كنتُ صغيرًا فربَّاني جيراننا، وهم فقراء، وتقلَّبت منذ صغري في أعمال كثيرة: صبي مكوجي، صبي حلاق، صبي ميكانيكي، ثم اشتغلتُ في منزل رجلٍ غني، وكنتُ سعيدًا.

تختخ: وماذا حدث؟

الولد: اختفى الرجل، سمعتُ أنهم أبعدوه عن مصر لأسباب لا أعرفها حتى الآن!

رنَّت جملة «أبعدوه عن مصر» في ذهنِ «تختخ» كأنه سمعها منذ لحظات، نعم لقد سمع هذه الجملة قريبًا جدًّا … ولكن!

استمر الولد يقول: كان رجلًا أجنبيًّا … وجاء ذات يوم ليحلق شعره في المحل الذي أعمل فيه، ولا أدري لماذا عطف عليَّ، المهم أنه أعطاني «بَقْشِيشًا» سخيًّا، ثم طلب مني بعد إغلاق المحل أن أمر عليه في «الفيلا» التي يسكن فيها؛ لأنه يُريدني أن أعمل بها … تردَّدتُ … ولكني في اليوم التالي ذهبت إليه، فوجدت الرجل يعيش وحيدًا في «الفيلا» الكبيرة، وقال لي إنه يبحث عن ولد في مثل سني للعمل في «الفيلا»، بالطبع لستُ وحدي؛ فقد كان هناك شخصان يَحضُران أسبوعيًّا للنظافة الكاملة، وكانت هناك غسَّالة تأتي لغسيل الملابس، ولم يكن المطلوب منِّي سوى غسيل الأطباق وفرش السرير.

كان «تختخ» يَستمع باهتمام وبحزن في نفس الوقت؛ فقد بدا أن الزمن قد قسا على الولد كثيرًا، وأحسَّ بالعطف عليه، ومضى الولد يقول: وقضيت مع الرجل فترة طويلة طيبة كان يعاملني فيها كابنِه، بل إنه أرسلني إلى إحدى المدارس الخاصة، حيث تعلَّمتُ الكتابة والقراءة إلى حَدٍّ ما.

وسكت الولد لحظات يتأمل ما حوله ثم مضى يقول: وقد لاحظتُ حرصه الشديد في حياتِه؛ فهو يستَرِيب في أي شخص يأتي بقُرب «الفيلا»، وهو حريص على البقاء حتى يتسلَّم رسائله وبعض الطُّرود التي كانت تصل إليه من الخارج!

تختخ: وماذا كان عمله؟

الولد: لا أدري … فلم يقل لي شيئًا، ولم تكن له مواعيد منتظمة؛ فهو أحيانًا يظهر طول النهار في «الفيلا» جالسًا في مكتبه وقد أغلق عليه الباب، وبين لحظة وأخرى يدقُّ لي الجرس ليطلب لي فنجانًا من القهوة أو كوبًا من الشاي، فإذا خرج فإنه يسألني عند عودته إنْ كانت قد وردت له رسائل، أو دُقَّ التليفون، أو حضر شخص لزيارته … إنَّهُ كان مهتمًّا جدًّا بهذه الأشياء.

تختخ: وهل تعرفت على الأشخاص الذين كانوا يزورونه؟

الولد: لا … كانوا عادة يأتون في وقت متأخر من الليل، وكنت أسمع وَقْع أقدامهم فقط، ولكني لم أقابل منهم أحدًا.

تختخ: وبعد؟!

الولد: في الأيام الأخيرة بدا أنه مُضطرِبٌ إلى حَدٍّ ما، بدا خائفًا، وكان يسأل عن الرسائل بإلحاح، وأحيانًا كان يُرسلني إلى مكتب البريد للسؤال عن الرسائل والطرود، وذات يوم ما قال لي إنه في انتظار «طَرد» هامٍّ جدًّا، وإنه إذا حدث له شيء، وتسلَّمتُ أنا الطرد فيجب أن أحتفظ به عندي، وألَّا أسلمه إلى أي مخلوق مهما كان … واستأجر لي غرفة في منزلٍ عند أطراف المعادي، وقال لي إذا حدث لي شيء ووصل إليك الطرد؛ فخذه واحتفِظْ به عندك في غُرفتك … ولا تسلمه لأي مخلوق إلَّا إذا أمرتُك بهذا، أو جاءتك مني رسالة.

وسكت «جيران» لحظات ثم قال: وذات يومٍ ذهبت إلى مكتب البريد وجدت الطرد الذي كان ينتظره مستر «مورياتي» …

وعدتُ مسرعًا إلى «الفيلا» وأنا سعيد جدًّا لأنني وجدت الطرد الذي كان ينتظره، وكانت مفاجأة لي عندما وصلتُ إلى «الفيلا» وجدتها مُحاصَرة برجال الشرطة … وقفتُ بعيدًا أنظر إلى ما يحدث وقد أُصبت برعب شديد؛ لقد تربيت متشردًا في الشوارع، ومنظر رجال الشرطة يبعث الفزع في قلوب المتشرِّدين، حتى لو كانوا أبرياء.

أُعجب «تختخ» بملاحظة الولد الصغير … إنه ذكيٌّ حقًّا، وإنْ كانت الظروف لم تسمح له بزيادة تعليمه، غير أن الحياة علمته الكثير. وعاد «زيد» يتحدث قائلًا: ظَلَلْت واقفًا بضع دقائق وأنا أفكر فيما أفعل، ثم بعد لحظات وجدت مستر «مورياتي» خارجًا بين رجال الشرطة، فأدركت أنه كان يقوم بعمل غير قانوني لا أعرفه، وإلا ما قبضت عليه الشرطة.

عدت إلى غرفتي أفكر فيما أفعل، إن الرجل أحسن معاملتي، وجعلني موضع ثقته، وفي الوقت نفسه كنت قد وعدته بالمحافظة على هذا الطرد مهما حدث. ولكن القبض عليه أثار مخاوفي فلم أدرك ماذا أفعل.

تختخ: وماذا حدث بعد ذلك؟

زيد: كنت قد قرأت وسمعت عنكم، عن المغامرين الخمسة، ففكرت أن أضع المسألة كلها بين أيديكم، ولكن حدث شيء مُضحك!

وابتسم الولد وابتسم «تختخ» مُنتظِرًا أن يسمع هذا الشيء المضحك.

وقال «زيد»: أخذت أتحسَّس الطرد من الخارج، كنت أريد أن أستنتج شيئًا مثلما تفعلون، ولكن الصندوق الذي به الطرد كان قويًّا، ولا يُمكن تحسُّس شيء عن طريق اللمس، ولم يعُد أمامي إلَّا أن أفتح الطرد.

وتوقف الولد لحظات وقد غابت ابتسامته: كنت أعرف أن في هذا خيانةً للأمانة والثقة، ولكن الإغراء كان قويًّا، والقبض على مستر «مورياتي» أثار شكوكي فيه.

وتردد الولد لحظات ثم قال: وفي ليلة بعد مرور أيام من التفكير فتحت الطرد … وكانت دهشتي شديدة!

تختخ: وجدت فردة الحذاء.

زيد: ليس فردة واحدة … ولكن فردتين!

تختخ: إذن أين الثانية؟

زيد: عندي!

تختخ: ولماذا إذن أرسلت فردة واحدة؟

زيد: قلت إنها تَكفي لكي يحلَّ المغامرون الخمسة اللغز … فإذا حلُّوه فسوف يحصلون على الفردة الثانية.

تختخ: وإذا لم نَحلَّه؟

زيد: لم يكن ذلك مهمًّا … فقد كنت أنوي الاتصال بك مباشرةً … وقد أعطيتُكم مهلة ثلاثة أيام لحلِّ لغز فردة الحذاء … ولكنها لم تأخذ منكم إلا ثلاث ساعات … إنكم فعلًا أذكياء!

تختخ: وماذا تصوَّرتَ عندما وجدت ما في الطرد؟

زيد: أصابتني دهشة شديدة كما قلت لك … فما قيمة حذاء مُستعمَل يُرسَل في طرد بالبريد؟ وأخذت أفحص الحذاء مرارًا وتكرارًا، ولكنه لم يكن أكثر من مجرَّد حذاء، كأي حذاء آخر.

وساد الصمت، ولم يعد يُسمع إلا صوت السيارات المارة في الطريق البعيد، وكان الولدان قد انتهيا من تناول طعامهما، وكذلك «زنجر» … واستغرق «تختخ» في تفكير عميق … وهناك شيء يلح على خاطره، وهو حكاية إبعاد رجل من البلاد يَسكُن في «فيلا» … لقد تذكَّر الآن … إنها الجُملة التي قالها الشاويش عندما كان يشرب الشاي في الصباح … فهل هو الشخص نفسه؟!

وإذا كان ذلك كذلك … فما حقيقة مستر «مورياتي»؟ إن القبض على شخص يعني أنه يُمارس شيئًا ضد القانون، ولكن لماذا لم يُحاكَم ويُسجَن؟ لماذا أُبعِدَ من البلاد؟

إنَّ هذا السؤال يحتاج إلى إجابة … ما الأسباب القانونية التي تُؤدِّي إلى إبعاد شخص عن البلاد دون محاكمة؟ وقرَّر أن يسأل والده، أو المفتِّش «سامي». وقف «زيد» فجأة وقال: يجب أن أعود إلى عملي وإلا طُرِدْتُ!

تختخ: وأين أجدك؟

زيد: إنني أعمل في محطة البنزين، وأنام فيها أيضًا … تستطيع إذن أن تجدني في أيِّ وقت تشاء!

تختخ: وفردة الحذاء الثانية؟

زيد: لقد أعطيتُها إلى صديقٍ لي، فقد نسيتُ أن أقول لك إنَّ ثمة أشخاصًا سألوا عنِّي في الغرفة التي كنتُ أسكن فيها، ويبدو أنَّهم من طرف مستر «مورياتي» لهذا سارعت بترك الغرفة، وأقمتُ في المحطة، ولكني فضلت أن أُبقِي الحذاء عند صديقي في علبته حتى لا يضيع في المحطة، فليس هناك مكان هنا للاحتفاظ به.

تختخ: إذن سأمُرُّ عليك، إما الليلة أو غدًا صباحًا، وأريدك أن تُحضِر فردة الحذاء معك، إنَّ المسألة تبدو مهمَّة.

زيد: ولكن ما موقفي إذا ثبَت أن مستر «مورياتي» كان يقوم بعمل ضد القانون!

تختخ: أعدك أن أساعدك، إنَّ المفتش «سامي» مدير البحث الجنائي صديقي، وسوف أشرح له موقفك، وأعتقد أنه سيُقدِّر ما فعلت.

وقام الولدان، وبعد دقائق كان «تختخ» يسير بدرَّاجته على الكورنيش وخلفه «زنجر». كان مُستغرقًا في التفكير حتى إنه لم يلاحظ أن الشاويش «علي» كان مُختفيًا خلف بعض الأشجار في الطريق، وعندما شاهد «تختخ» يمرُّ بدرَّاجتِه انطلق خلفَه، فلا بد أن هذا المغامر السمين قد عرف شيئًا … إنه دائمًا يَعرف أشياء عجيبة … هكذا حدَّث الشاويش نفسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤