مقلب حقيقي!

كان تفكير «تختخ» مُرَكَّزًا حول حكاية الحذاء هذه، لقد اكتسبت القضية أبعادًا جديدة، فما حكاية هذا الحذاء؟ وما أهميته بالنسبة للمدعو «مورياتي»؟ … ولماذا كان خائفًا عليه إلى هذا الحد؟ ولماذا طلب من «جيران» أن يحتفظ به مهما كانت الظروف؟!

وابتسم «تختخ» وهو يتذكَّر هذا الاسم، إنَّ «زيد» قد تحوَّل إلى اسم «جيران» وهزَّ رأسه، ولمح الشاويش وهو يتبعه بجوار الرصيف المقابل، وانتقل من التفكير في الحذاء إلى التفكير في الشاويش، ما حكاية «الفيلا» التي تحت الحراسة؟ وصاحبها الذي أُبعِدَ عن البلاد، إن قصة الشاويش مطابقة لقصة «جيران»، فهل الرجل المُبْعَد هو «مورياتي»؟!

واستدار «تختخ» فجأة إلى ناحية الشاويش، ثم توقف عن السير، وركن الدرَّاجة على الرصيف، وتلاقت عيونهما، وتظاهر الشاويش أنه كان في طريقه العادي، وأنه مُندهِش لوجود «تختخ» في هذا المكان، ولكن نظرة «تختخ» كانت واضحة كأنها تقول للشاويش: لماذا تتبعني؟

وتوقف الشاويش مكانه، واتجه «تختخ» إليه … وقال دون مقدمات: يا حضرة الشاويش … إنك منذ الصباح، لماذا لا تسألني عمَّا تريد؟

عبث الشاويش بشاربه لحظات فعاد «تختخ» يقول: إننا نَفقِد وقتًا ثمينًا بهذا الأسلوب، وسأسألك أنا: هل الرجل المُبْعَدُ من البلاد الذي كان يُقيم في «الفيلا» اسمه مستر «مورياتي»؟

بدت الدهشة على وجه الشاويش وتلوَّن وجهه بألوان قوس قُزَح، وأخذ ذهنه يعمل بسرعة … كيف عرف هذا الولد السمين اسم «مورياتي»؟ … وهل لهذا علاقة برحلته الغامضة إلى محطة البنزين في طريق حلوان؟

عاد «تختخ» يتحدث قائلًا: إنه هو الرجل المُبْعَدُ … وأحب أن أقول إنَّ فردة الحذاء التي رأيتها هذا الصباح عندنا لها علاقة بإبعاد مستر «مورياتي» من البلاد!

وقبل أن يَفهم الشاويش هذه المعلومات التي انطلقت من فم «تختخ» كالمدفع الرشاش كان «تختخ» قد أدار بدال درَّاجته وابتعد، تاركًا الشاويش يتخبَّط في أفكاره ودهشته المؤلمة.

وصل «تختخ» إلى منزله مُرهَقًا وقد حانت ساعة الغداء، ولكنه كان لا يزال نصف شَبْعَان بالوجبة الصغيرة التي تناولها هو و«جيران»، ولكن رائحة السمك المقلي التي كانت منتشرة في البيت جعلته يجلس إلى مائدة الطعام، وتذكَّر من الفور أنه يريد أن يسأل والده عن سبب إبعاد شخص من البلاد.

قال والده مُجيبًا: لماذا تسأل يا «توفيق»؟

تختخ: إنني أحاول …

وقبل أن يكمل حديثه قال والده: تحلُّ لغزًا من ألغازك الشهيرة!

تختخ: نعم!

الوالد: إنَّ إبعاد شخص من البلاد دون محاكمة يمكن أن يتمَّ لأسباب كثيرة، أهمها إذا كان الشخص يتمتَّع بالحصانة الدبلوماسية، فكل دبلوماسي يتمتع بهذه الحصانة إذا قام بعمل مخالف للقانون يُطْلَبُ استبعاده من البلاد، وكذلك الأجنبي الذي يُشَكُّ في أنه يقوم بنشاط غير مشروع، ولكن لا يمكن جمع أدلة على قيامه بهذا العمل، فإنَّ الحكومة تقوم بترحيله من البلاد؛ لأنه شخص غير مرغوب فيه!

وصمت والد «تختخ» لحظات ثم سأل: ولكن … هل اللغز الذي تحلُّه له علاقة بأحد الدبلوماسيين؟

تختخ: لا أدري حتى الآن يا أبي … ولكن يبدو أننا نواجه حالة مثل هذه!

انتهى «تختخ» من الغداء، ودخل غرفته ليستريح قليلًا كعادته بعد الظهر، ولكنه لم يستطع الاستسلام للنوم، كان موضوع الحذاء يشغله، وفجأةً قفز من فراشه … أين فردة الحذاء؟ لقد تركوها في حديقة منزل «عاطف» ولم يأخذوها معهم … أما زالت هناك؟

قام «تختخ» إلى التليفون واتصل بمنزل «عاطف» … وردت عليه «لوزة» قائلةً: أين أنت؟

تختخ: لقد عثرت على كنز من المعلومات، ولكنَّ المهم الآن … أين فردة الحذاء؟

«لوزة»: أيُّ فردة؟

تختخ: الفردة التي كانت معنا هذا الصباح … التي أرسلها الشخص المجهول.

«لوزة»: ألم تُرسِل في طلبها؟

تختخ: أنا؟!

«لوزة»: نعم … جاء ولد صغير منذ ساعة تقريبًا، وقال إنك تريد فردة الحذاء فأعطيتها إيَّاه!

تختخ: «لوزة» … أحقًّا حدث هذا أم هذه كذبة أبريل أخرى؟

«لوزة»: هذا ما حدث يا «تختخ» … ألم تُرسل حقًّا في طلبها؟

تختخ: أبدًا!

«لوزة»: شيء عجيب!

تختخ: العجيب أن تُعطوه الفردة بدون أن تتصلوا بي!

«لوزة»: لقد صدقناه، فليس هناك أحد يعلم بوجود هذه الفردة عندنا سوى أنت.

تختخ: لقد وقعنا ضحية مقلب حقيقي هذه المرة، إنكِ لا تتصورين بَعْدُ مدى أهمية فردة الحذاء هذه … إن وراءها قصة من أخطر القصص!

«لوزة»: لماذا لم تتَّصل بنا عندما عدت؟

تختخ: لقد رأيت أن نجتمع في المساء كالمعتاد.

«لوزة»: على كل حال، دعنا نجتمع الآن؛ لعلنا نستطيع عمل شيءٍ.

أسرع «تختخ» يرتدي ثيابه مرة أخرى، وقفز إلى درَّاجته وخلفه «زنجر» وبعد دقائق قليلة كان المغامرون الخمسة مجتمعين في حديقة منزل «عاطف» وقد بدا عليهم الوجوم … وقال «محب»: ماذا حدث يا «تختخ»؟

أخذ «تختخ» يروي عليهم قصة لقائه مع الولد «زيد» أو «جيران» واستمع المغامرون إلى حديثه باهتمام بالغ، فقد كانت القصة شائقة، خاصةً بعد أن ضاعت فردة الحذاء التي كانت مفتاح اللغز، وتمَّ الاستيلاء عليها بذكاء شديد.

وبعد أن انتهى «تختخ» من حديثه وروى ما حدث بينه وبين الشاويش أخذ المغامرون يتناقشون في كل ما حدث، وانتهوا إلى شيء واحد، هو العثور على الفردة الثانية التي عند «جيران» وهذا أملهم الوحيد الآن!

قال «تختخ»: لقد اتفقت معه على أن أمرَّ عليه هذا المساء أو غدًا صباحًا!

محب: لا داعي للانتظار … يجب أن نذهب فورًا!

تختخ: إنني أفضِّل كالعادة أن نقسم العمل بيننا … أقترح أن تبقى «لوزة» و«نوسة» هنا لانتظار أي تطورات … ثم التفت إلى «لوزة» وسألها: بالمناسبة يا «لوزة» … ما هي أوصاف الولد الذي حضر مُدَّعِيًا أنني أرسلته وأخذ فردة الحذاء؟

«لوزة»: إنه ولد متوسط القامة … كبير الرأس … منكوش الشعر … أبيض اللون.

وفكرت قليلًا ثم قالت: وتبدو عليه علامات السذاجة!

تختخ: إنه بالتأكيد ليس «زيد» «جيران»!

وانهمك في التفكير لحظات ثم قال: إنني أظن أن «مورياتي» هو الذي أرسله!

نوسة: «مورياتي» … ألم تقل إنه أُبعدَ من البلاد؟

تختخ: نعم … ولكن لعله عاد متنكرًا، أو بجواز سفر باسم مُختلِف … أو أرسل مندوبًا عنه … فالمسألة غاية في الخطورة، كما أفهمني أبي أن «مورياتي» هذا أبعدته السلطات المصرية، إمَّا لأنه يتمتع بالحصانة الدبلوماسية، أو لأنه غير مرغوب فيه … وفي كلتا الحالتين هناك شيء كبير يموت … أسرار خطيرة!

وقف «عاطف» قائلًا: دعونا ننطلق، إن المساء يهبط بسرعة! قفز الأولاد الثلاثة إلى درَّاجاتهم، وأسرع «زنجر» يقفز خلف «تختخ» ثم انطلقوا جميعًا في اتجاه حلوان … كانت الشمس قد مالت للمغيب عندما وصلوا إلى محطة البنزين … ووقف «محب» وعاطف بعيدًا، في حين تقدم «تختخ» إلى المحطة، ووجد رجلًا عجوزًا يقوم بغسل سيارة فسأله عن «جيران» فتوقف الرجل عن العمل لحظات وقال: ماذا حدَث لهذا الولد؟ … إن أشخاصًا كثيرين سألوا عنه!

دقَّ قلب «تختخ» بعنف وسأل: وأين هو؟

ردَّ الرجل: لا أدري أين ذهب … لقد استأذن منذ نحو ثلاث ساعات، ولكنه لم يَعُد حتى الآن!

تختخ: وهل تعرف أين يسكن؟

الرجل: إنه يُقيم هنا في هذه المحطة … ولكن أحيانًا يذهب لينام عند صديق له هناك.

وأشار الرجل بعيدًا إلى مجموعة من البيوت القديمة بين المزارع والنخيل.

وشكر «تختخ» الرجل وانصرف مسرعًا. ومرة أخرى أسرع الثلاثة بالدرَّاجات و«تختخ» يشير إلى العزبة.

كان الظلام قد هبط، ولمعت الأضواء الصغيرة في المزارع، وبدا الطريق شاقًّا ووعْرًا، وأضاء الثلاثة أضواء درَّاجاتهم، وأخذ «زنجر» ينبح بين لحظة وأخرى ردًّا على نباح الكلاب الكثيرة التي توجد في مثل هذه الأماكن.

اقترب الأولاد الثلاثة من العزبة الصغيرة … ووجدوا محلًّا لبيع أنواع البقالة … محل صغير يقف فيه ولد صغير للزبائن … واتجه إليه «محب» واشترى قطعة صغيرة من الشوكولاتة ثم سأله: أين يسكن الولد «زيد»؟

نظر إليه الولد لحظات ثم قال: «زيد»!

قال «محب»: نعم «زيد» الذي يعمل في محطة البنزين.

ابتسم الولد وهو يقول: تَقصد «جيران»!

محب: نعم … «جيران».

في مثل هذه العزب الصغيرة يعرف الناس بعضُهم بعضًا … لهذا فقد قال الولد على الفور: إنه لا يسكن هنا، ولكن له صديقٌ اسمه «حنفي» يسكن عند السيدة «سكينة» في آخر منزل بعد هذا الطريق … وأمام المنزل ثلاث نخلات ستدلُّك على المنزل!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤