ليلة حافلة

نزل المغامرون من على الدرَّاجات وساروا على أقدامهم نحو ربع ساعة حتى وصلوا إلى المنزل الذي وصفه البقَّال الصغير … وجدوا النخلات الثلاث، وأمامها البيت الصغير المظلم، وتقدم «تختخ» ودقَّ الباب، وانتظر لحظات دون أن يجيب أحد، وعاود الدق من جديد … وبعد دقائق مرت كأنها ساعات فُتح الباب وظهرت سيدة عجوز تَرفع في يدها مصباحًا صغيرًا وقالت: مَنْ هناك؟

رد «تختخ»: أنا صديق ﻟ «حنفي» … هل هو موجود:

ردت السيدة: «حنفي» لا أدري ماذا جرى لهذا الولد … إنه طول النهار يجري هنا وهناك، وقد خرج منذ ثلاث ساعات ولم يعد!

ثلاث ساعات … ثلاث ساعات … فكَّر «تختخ» لحظة … خرج «زيد» من المحطة منذ ثلاث ساعات، وخرج «حنفي» من منزله منذ ثلاث ساعات … ما الحكاية؟!

سألها «تختخ» من جديد: هل كان معه «جيران»؟

ردَّت السيدة: منذ ساعتَين حضر «جيران» وسأل عنه ولم يكن موجودًا!

وابتعد «تختخ» وقد أحسَّ أن الأمور تسير في طريق غامض، وأن اللغز يفلت من بين أصابعهم … وعاد إلى «محب» و«عاطف» وروى لهما ما دار بينه وبين السيدة.

قال «محب»: دعنا ننتظرهما!

عاطف: ولكننا لا نعرف إذا كانا سيعودان أوْ لا!

محب: إن المسألة مهمة جدًّا … لا بد من العثور على أحد الولدين … إن أحدهما سيُفسِّر لنا ما حدث.

كان كلام «محب» منطقيًّا … وهكذا جلس الأولاد الثلاثة مختفين خلف النخلات الثلاث يراقبون المنزل … ومرت ساعة، وساعتان، وبدا واضحًا أن انتظارهم لن يؤدي إلى أي نتيجة. وقال «عاطف»: أظن أننا انتظرنا بما فيه الكفاية … هيا بنا.

ولم يكن هناك اعتراض، وركب الثلاثة درَّاجاتهم، ولكن فجأة ظهر ولد تَنطبق عليه الأوصاف التي قالتها «لوزة» عن الولد الذي حضر وأخذ فردة الحذاء … كان يسير في اتجاه المنزل، وهو يحمل في يدِه لفَّة صغيرة، عرف الأصدقاء أنها الفردة التي أخذها من عند «عاطف»، فبرز الثلاثة أمامه، وحدثت مُفاجأة؛ فقد انحرف الولد في حارة ضيقة ثم أطلق ساقيه للريح، ولم يتردد «محب» أقوى وأسرع المغامرين، فقد ترك درَّاجته وانطلق خلف الولد يعدو بكل قوته … كانت الحارة مظلمة، والبيوت غير منتظمة … ولكنَّ أُذُنَي «محب» الحادتين كانتا تسمعان صوت قدمي الولد على أرض الحارة الملتوية … فكان يجري ويجري ثم يقف ليَستمع ثم يجري مرة أخرى.

ظل الولد يجري في الحواري الفارغة، وكان يجري على شكل دوائر، فهو يلف ويدور ويلف ويدور … ولم يقف «تختخ» و«عاطف» في انتظار نهاية المطاردة المثيرة، فقد أطلق «تختخ» كلبه «زنجر» الذي انطلق وراء «محب» في حين أخذ «تختخ» و«عاطف» يَجريان في اتجاهات مختلفة … ومضت نحو نصف ساعة من المطارَدة، ثم سمع «تختخ» صوت نباح «زنجر»، وصوت الولد وهو يَصيح ذعرًا … واتجه إلى المكان، وشاهد الولد مُلتصِقًا في جدار أحد المنازل، وهو يلهث، وكان «زنجر» يحاصره، في حين كان «محب» يقترب منه مُحذِّرًا إيَّاه من محاولة الفرار.

صاح الولد: ماذا تُريدون مني؟

رد «تختخ» من الفور: لقد سرقتَ شيئًا منَّا.

الولد: إنني لم أسرق شيئًا.

تختخ: لا تحاول الإنكار، سنُسلمك إلى قسم الشرطة فورًا إذا لم تقل الحقيقة، لقد ذهبت إلى منزل زميلنا هذا «عاطف» وأخذت شيئًا ليس لك، وقلت إنك قادم من عندي … وأنا لم أرسلك!

انهار الولد وقال: فردة الحذاء؟

تختخ: نعم فردة الحذاء.

الولد: وهل هذه المطاردة كلها من أجل فردة الحذاء؟

تختخ: نعم … هاتها.

الولد: إنها ليست معي.

تختخ: إذن ما هذا الذي معك؟

الولد: إنه طعام اشتريتُه لأمي المريضة!

أحس المغامرون بالغضب يَجتاحهم … وسأله «محب» بعنف: وأين فردة الحذاء!

الولد: لقد بعتُ الفردتين لبائع «روبابكيا»!

تختخ: بائع «روبابكيا»؟

الولد: نعم … كان «جيران» قد أخذ فردةً وقال لي إنه سيُرسلها لكم لأنكم تحلون الألغاز، وكنت أسمع عنكم، وكانت عندي الفردة الثانية … فقلت في نفسي إنها ليسَت بذات فائدة لأحد، فعرضتها على بائع «روبابكيا» فلم يرضَ شراءها، وطلب مني إحضار الفردة الثانية، فذهبت إلى منزلك، وقالوا لي إنك خرجت، فذهبت إلى منزل صديقك حيث حصلت على الفردة الثانية.

تختخ: وأين «جيران»؟

الولد: لا أدري … إنه منذ أن أخذ منِّي فردة الحذاء أمس لم أره!

تختخ: إنه في خطر شديد … والآن أين بائع «الروبابكيا»؟

الولد: إنه يسكن عند سور استاد «المعادي» القديم.

تختخ: هيَّا بنا!

الولد: أريد أن أُعطي أمي هذا الطعام!

وسار الأربعة حتى منزل الولد … ودخل فأعطى أمه لفة الطعام وخرج، وكان المغامرون الثلاثة يتحدثون، وقال «عاطف»: لو أن بائع «الروبابكيا» باع الحذاء لأي شخص لوقعنا في مشكلة كبيرة!

تختخ: نعم … ستكون نهاية حزينة لمغامرة رائعة.

ركب الولد أمام «محب» على الدرَّاجة، وانطلق الأربعة عبر الحواري العتيقة خارجين إلى الكورنيش، ومنه اتجهوا إلى المعادي.

كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة ليلًا عندما أشرفوا على «الاستاد» الكبير المهجور، وأخذوا يتلمسون طريقهم وسط السيارات القديمة في الظلام، حتى وصلوا إلى أكواخ صغيرة عند نهاية السور … وشاهدوا عدة عربات من النوع الذي يستخدمه باعة «الروبابكيا»، وأشار الولد إلى إحدى العربات وقال: هذه هي العربة!

اقترب المغامرون منها … كانت مُحَمَّلَة بالأشياء القديمة، ونظروا إلى الأكواخ الصغيرة، وسمعوا أصوات الرجال والنساء والأطفال وأجهزة «الراديو»، وقال «محب»: هل سنُفتِّش العربة دون سؤال صاحبها!

تختخ: إن في ذلك مخاطرة؛ فقد يرانا أحد ويظن أنَّنا لصوص … من الأفضل أن نبحث عن الرجل ونسأل عنه!

وعندما استداروا ناحية الأكواخ حدثت مفاجأة … لقد ظهر «زيد» «جيران» أمامهم وهو يتلمَّس طريقه في الظلام … وصاح «حنفي»: «جيران»! التفت «جيران» إليهم، وبدت على وجهه علامات الدهشة الشديدة ثم اتجه إليهم … وفي كلمات سريعة فهموا منه أنه علم من بعض أصدقائه أن «حنفي» باع الحذاء لأحد باعة «الروبابكيا» من منطقة «المعادي»، فحضر إلى هذا المكان الذي يعرفه جيدًا.

دار عتاب بين «جيران» وصديقه «حنفي» … ودافع «حنفي» عن نفسه قائلًا: لقد أبقيت الحذاء عندي فترة طويلة، وكنت محتاجًا إلى نقود … فأنت تعرف أنهم طردوني من العمل، وكانت أمي تُطالبني بنقود طوال النهار، ولم أكن أعرف أن حذاءً قديمًا له كل هذه الأهمية عندكم، ولم يكن أمامي أن أفعل غير ما فعلت.

جيران: أي تاجر الذي بِعْتَهُ الحذاء!

حنفي: إنه سليمان أبو طويلة!

جيران: إنه تاجر سخيف … كم أخذت منه؟

حنفي: ثلاثة جنيهات!

وأخرج «تختخ» من جيبه خمسة جنيهات وأعطاها ﻟ «حنفي» وقال له اذهب إليه، وادفع له الجنيهات الخمسة وهات الحذاء!

واختفى «حنفي» في الظلام، ومعه الجنيهات الخمسة، ووقف الأصدقاء معًا في صمت … كانوا جميعًا يدركون أهمية ما يحدث الآن … فلو أنهم عثروا على الحذاء فسيتمكَّنون من الاستمرار في المغامرة. أما إذا فقدوه فسوف يكون أملهم ضعيفًا جدًّا في الوصول إلى حلٍّ للغز الحذاء العجيب. ولكن كل شيء مضى على ما يُرام؛ فقد ظهر «حنفي» وهو يحمل الحذاء بيده على ضوء الكوخ، وصاح الأصدقاء بفرح، ولكن فرحهم لم يستمر إلا لحظات، فقد ظهر فجأةً شخص في الظلام وانقضَّ على «حنفي» محاولًا انتزاع الحذاء منه … وتجمد المغامرون في مكانهم لحظات، وعندما انتبهوا إلى ما يحدث كان الرجل قد اختفى في الظلام، ووصَل الأصدقاء إلى «حنفي»، كان مطروحًا على الأرض بعد أن دفعه الرجل دفعة قوية، ولكن الرجل لم يكن قد حصل على فردتَي الحذاء … كان قد حصل على فردة واحدة، وكان «حنفي» … ما زال مُتَشَبِّثًا بالفردة الثانية.

ولم يكد الأصدقاء يُنْهِضُون «حنفي» من سقطته حتى انقضَّ عليهم رجلان، ودار صراع طويل … وكان أسرعهم في التصرف «محب»، الذي خطف فردة الحذاء وجرى بعيدًا.

استمر الصراع لحظات قليلة، وعندما لم يجد الرجلان فائدة من مُحاولة الحصول على فردة الحذاء تركا المكان واختفيا في الظلام.

كانت حصيلة المعركة عدة إصابات خفيفة في وجه الأولاد. وقد أبدى «جيران» وصديقه بطولة في المعركة، واستطاع «جيران» أن يُصيب أحد الرجلين بضربة قوية في أسنانه … ولكن لم تكن هذه هي كل الحصيلة؛ فقد كان هناك شيء مهم جدًّا، لقد سقطت من أحد الرجلين محفظة نقوده … وأمسكها «تختخ» بين يديه مفكِّرًا لحظات ثم قال: قد يعود الرجلان مرة أخرى … هيَّا بنا سريعًا.

عاطف: أين «محب»؟

تختخ: سنجدُه في الطريق، أو قد يعود إلى «المعادي» وينتظرني هناك!

وركب «جيران» أمام «تختخ» و«حنفي» أمام «عاطف» … وانطلق الأربعة وخلفهم «زنجر» الذي اشترك في المعركة، وخرج منها وفي فمه قطعة من ثياب أحد الرجلين بعد أن عضَّه عضة مؤلمة في ساقه. ووصلوا إلى المعادي في سلام … واتجهوا إلى حديقة منزل «عاطف».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤