الجرمَاني ابنُ الله

أحدثت في ألمانيا سنة ١٩٣٥ كنائس وثنية حل فيها تمثال هتلر محل تمثال السيد المسيح، وتمثال المرأة الألمانية وأولادها محل تمثال العذراء، وأنشد جوق من الشباب الهتلري في إحدى هذه الكنائس الترنيمة التالية:

أنت يا ألمانيا ستبقين إلى الأبد، ونحن نذهب.
أنت يا ألمانيا سوف تزدهرين بينما نذبل نحن؛ كل ما نفعله نفعله لأجلك، وكل ما ضحَّينا ضحَّيناه لأجلك!
إن أبناءنا وأحفادنا سينشأون ويعيشون ويعملون ويحاربون لأجلك.
لأجلك أنت يا ألمانيا!
ثم أعلن «قانون الإيمان» الألماني الجديد وهذا نصه:

أؤمن بالإنسانية سيدة كل شيء وكل قوة في الأرض.

وأؤمن بالجرماني ابن الله المحبوب وسيد نفسه، فقد حُبل به تحت الفلك الشمالي واحتمل العذاب في حكم الباباوات وعبدة المال؛ ووشي به وضرب وأهبط إلى مهاوي الشقاء، وحكم عليه الشياطين — على اختلاف صفوفهم — بالنزول إلى الجحيم.

وأؤمن بروح الإنسانية الصالح، وبكنيسة المستقبل المقدسة، وطائفة جميع الذين هم أصحاب نيَّات حسنة ولا سبيل فيها إلى الأنانية، وبولادة الكمال ولادة ثانية، وبالحياة الأبدية التي لا أوَّل لها يُعرَف ولا آخر يُوصَف — من الأزل إلى الأبد!

وكان أن اطَّلعت على نبأ هذا الحدث الجديد فكتبت الفصل الذي يلي تحت عنوان:

ثلاثة أقانيم

انفث، أيها البركان المصدور، صديدَك الحديدي، في الأثير المتململ!

ارشق الخواء بالحمم، ولا تبالِ بغمز النجوم وبسم القمر!

أيها الجبار الضرير، ستبصر، ولكن الدموع السوداء والأشلاء الصاخبة.

أيها الشاعر المحموم، ارقم ملحمتك الحمراء على الرقعة المرقشة بإزميل الفن وريشة العبقرية.

أيها الطمَّاح المقرور، ستحصد مناجلك الراقصة، سنابل المروج وشماريخ الجبال.

أيها الملتهم العنيد، لثمار البطون وولائد الفنون.

رويدًا، رويدًا، رويدًا، لا تغرَّك شهرة البراكين، وعظمة التنانين!

ستصيرنَّ براعيم البركان الوردية رمادًا، وسيحور حممه سمادًا، فترعى الحملان على الفوهة الخضراء، وتبعر الأرانب على الجبهة الشاحبة.

أما لحوم التنانين فتباع للطهي والدق، وعظامها للحليِّ.

أيها الطامع بالألوهة، أين عيناك؟ فكم من إله صار هزْأة، وكم هيكل تداعى وتهدَّم!!

إن الألوهة خزعبلة بلقاء ينكرها عقلنا الإله.

الخلود للنبوغ الهادي، القابض على مبضع الجراح بيد من زبد.

أما العباقرة الحمر فخلودهم في سماء سوداء …

الخلود لأمنا الأزلية الأبدية.

الخلود والمجد للمثرية المترفة التي تصيِّر جهمة الفحم ابتسامة مبلورة.

الخلود والمجد للتي تحتضن الماء لتدفعه بترولًا يتقد.

الخلود والمجد للتي تصيِّر الكلس رخامًا صلبًا ينفخ فيه الفن روحًا محييًا، وتحطم التمثال لتعيده كما بدأته.

الخلود لهذه الهازئة بلا لسان، الساخرة بصمت وسكون.

الخلود للتي تصبر على شراسة أبنائها الأسود والنمور ولا تضيق صدرًا ببطء بناتها السلاحف …

فيا لحماقة الذئاب ونباهة النمال!

ما أصبر الوردة والزنبقة، وأعجل الكتاب والشعراء!

ما أشد بَلهَ الناس، وما أذكى النحل!

ألم تر الناس كيف ينصبون التخوم، ويشيدون الحصون …

كيف يهدِّمون أمة مطمئنة ليوسعوا حدود المملكة …

كيف يقسمون أنفسهم فصائل كالبهائم، وأصنافًا كالحشرات …

ومن أكفرُ ممن يحرقون حبوب الحياة ليغلو سعرها وَتَرِمُ أكياسهم؟!

إن البهائم خير من الناس، فهي تأكل ولا تجمع، وهم يجمعون ولا يأكلون.

•••

أما كنيسة المستقبل، فكنيسة جامعة غير مقدسة، لا جرماني فيها ولا صيني.

والله — ابن الإنسان الوحيد — لا ابن له.

وابن الله المحبوب من لا يحلم بالجنسية، ولا يفكر بالطائفة والملَّة.

لا أحد فوق الكلِّ، الأرض وحدها فوق الجميع.

آمنوا بها أيها الضالون، تبرأوا من جشعكم.

السلام، السلام، السلام، ثلاثة أقانيم في إله واحد! السلام الإله الأسمى والرب الذي لا يموت!

السلام هو «الفينيق» الخالد، يتجدد كل خمسة قرون في بعلبك، ويطير إلى المغرب فمن يسقط ريشة من جناحيه يشحذ مليار حربة.

السلام الأبدي الأزلي لمن لا يحلم بالدم، كإله إسرائيل.

والويل العتيد السرمدي للخزنات الخرساء والصناديق الطرشاء.

رموز الأشباح

واطَّلعتْ على هذا جريدة البشير الغرَّاء، فكتب رئيس تحريرها المونسينيور لويس خليل يرد عليَّ تحت عنوان «رموز الأشباح»:

بركان مصدور، غمز النجوم وبسم القمر، دموع سوداء، شاعر محموم، حملان ترعى على الخضراء وأرانب تبعر على الجبهة الشاحبة، لحوم التنانين تباع للطهي والدق، خلود النبوغ، وعباقرة حمر، حماقة الذئاب ونباهة النمال، البهائم خير من الناس …

وهكذا دواليك من سرد كلام رنَّان المبنى فارغ المعنى، تجهد العقل والذهن في تمحيصه عساك تدرك ما قد يمكن إن أدرك مؤلف هذه السطور، فيذهب تعبك ضائعًا.

وهذه «أشباح الرموز» أو إن شئت «رموز الأشباح» ينشرها الكاتب العلامة، فيتناول كل ما في الأرض والسماء وما فوقهما وتحتهما، إذ كل شيء خاضع حتمًا لسيطرة «نبوغه» المقلد، و«ثقافته» الفارغة، فهو يحدثك عن الطب وعلم الفلك والطبيعة وما فوق الطبيعة، وقد درس اللاهوت على موائد المقاهي، وتعمق في لججه ما بين لعب النرد والطاس والكاس، فحدِّث ولا حرج عن حقائق وبراهين، يأتيك بها ذلك المحدث وبكل طمأنينة بال، دونما تلعثم في اللسان ولا حيرة في وزن الأمور، ثم يعطف على هذا برجم الحجارة ذات اليمين وذات اليسار، ويقبض على سيفه فيقطع رأس هذا ويضعه على ذاك، فيقضي مثلًا على كيان الكنيسة ويجعلها «جامعة غير مقدسة، لا جرماني فيها ولا صيني»، ويا ليته زاد على ذلك الأمر: «ولا ماسوني، ولا كافر ولا مغتصب الحريات الشخصية، والحقوق الإنسانية، ولا مفتر على شرف العيال وحرمة الأعراض من قاتلي سفتون وبرانس ومستهترين بمقدرات الشعوب …

ثم يبلغ الأمر منه إلى الله — عز وجل — فيقول عنه، كمن يتجرع شربة ماء صافية، إنه «ابن الإنسان الوحيد، لا ابن الله … لا أحد فوق الكل، الأرض وحدها فوق الجميع».

ألا حيا العبقري اللوذعي الفهامة، دعاه والده مارون، أما هو فقد سمى ابنه محمدًا، فأقام من نفسه ومن ابنه نقيضين حيين، تجسمت فيهما روح المناوأة الفارغة والتعصب اللاديني اللاشعبي، لكنه — على ما نرى — قد صدق في واحدة، وذلك أنه صورة طبق الأصل لجده الأفاق فولتير، الذي قد طالما جاهر بابتعاده عن المناضلات الدينية والتعصب الملي، وأعلن لادينيته المطلقة وترفعه عن الخرافات الدينية، يتركها للصبيان والنساء من ذوي العقول الضعيفة على أنه رغم كل هذا، (آه من المنطق وصدق العقيدة) قضى حياته كلها، ومات وفي قلبه حرقة لهابة كانت شغله الشاغل حتى آخر نسمة تنهدت بها لواعج صدره، وهي القضية الدينية وحقيقة الدين ورجال الدين.

بيد أن فولتير لم يغامر في ميدان التعصب الطائفي بل حصر جهوده في محاربة العدو الوحيد لكل الكفرة والمتمرغين في أوحال الرذيلة: الناصري، فمات وهو يصرخ بانتصار خصمه الجبار: الناصري، أما صاحبنا فلمن يعقد إكليل النصر: أَلِمارون أم لابنه محمد؟

ل. خليل

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤