مغامرة لاعب الرجبي المختفي

كنَّا مُعتادين إلى حدٍّ ما على تلقِّي برقيَّاتٍ غريبة في شارع بيكر ستريت، ولكنِّي أذكُر بصورةٍ خاصَّة برقية وَصلتْنا في صباح يومٍ مُوحش من أيام شهر فبراير، منذ حوالي سبع أو ثماني سنين، أصابَتِ السيد شيرلوك هولمز بالحيرة مُدَّةَ رُبع ساعة. كانت البرقية موجَّهةً إليه، وكان نصُّها كالتالي:

أرجوك انتظِرْني. مُصيبة فظيعة. لاعب الجناح الأمامي الأيمن اختفى؛ ولا بديل له غدًا.

أوفرتن

قال هولمز وهو يَقرؤها مرَّةً بعدَ مرَّة: «عليها خَتم بريد شارع ستراند، وأُرسِلتْ في العاشرة وستٍّ وثلاثين دقيقة. من الواضح أن السيد أوفرتن كان مُنفعلًا جدًّا عندما أرسلها، وكان مُشوَّشًا إلى حدٍّ ما، نتيجةً لذلك. حسنٌ حسن، أَحْسَب أنه سوف يكون هنا عندما أنتهي من مُطالعة جريدة ذا تايمز، وسنعرِف عندَها كلَّ شيءٍ عن الأمر. حتى أكثر القضايا تفاهةً سيكون مُرحَّبًا بها في أيام الركود هذه.»

كانت الأوضاع في الواقِع مُمِلَّةً للغاية، وكنتُ قد تعلمتُ أن أتوجَّسَ من فترات البطالة هذه؛ لأنني أدركتُ من خلال التَّجربة أنَّ عقل صديقي كان نَشِطًا على نحوٍ غير طبيعيٍّ بالمرة، بحيث كان من الخطير أن يُتْرَك دون أفكارٍ يَعمل عليها. كنتُ قد أمضيتُ أعوامًا أساعِدُه على التخلِّي تدريجيًّا عن ذلك الوَلَع بالمُخَدِّرات، الذي هدَّد ذات مرةٍ بإنهاء مَسيرته المِهنية المرموقة، وبِتُّ على علمٍ الآن أنه لم يَعُدْ يَتوق إلى ذلك المُثير الصِّناعي في الظروف العادية، ولكنَّني كنتُ أُدركُ جيدًا أنَّ شيطان هذا الإدمان لم يَمُت، وإنما كان نائمًا؛ وأدركتُ أن نَومَه كان خفيفًا وأنَّ إفاقَتَه وَشيكة؛ ذلك عندما أرى — في فترات البطالة — تلك النظرة الذابلة تعتلي وجه هولمز الواجِم، وذلك القلق في عَينَيه الغائرتَين المُلغِزتَين؛ لذا دَعوتُ بالبَرَكة للسيد أوفرتن هذا، كائنًا من كان؛ لأنه أتى برسالتِهِ الغامضة هذه ليَكْسِر ذلك الهدوء الخطير الذي عرَّض صديقي للهلاك أكثرَ من عواصف حياته الصاخِبة مُجتمعةً.

وكما توقَّعنا، لَحِق بالبرقية مُرسِلُها بعد قليل، وآذَنَتْ بطاقةُ التعريف التي تحمِل اسم السيد سيرل أوفرتن، من كليَّة ترينيتي بكامبريدج، بوصول شابٍّ ضخم الجثَّة، تتكوَّن بِنْيَتُه مِمَّا يُجاوِزُ مائة كيلوجرام من العِظام والعَضَلات الصُّلْبة. وقد تَجاوَزَ المدخل بِمَنْكِبَيْهِ العَريضَين، وراح يَنتقِل بنظرَهِ من أحدِنا إلى الآخر بِوجهٍ وسيمٍ أنهكه القلق.

وقال: «السيد شيرلوك هولمز؟»

أومأ صديقي مُقِرًّا.

«لقد كنتُ في مَقرِّ شرطة سكوتلاند يارد يا سيد هولمز، وقابلتُ المفتِّش ستانلي هوبكنز، فنصحَني بالمجيء إليك، قائلًا إنَّ القضية — فيما يرى — أقرَبُ إلى مجال تَخصُّصِك منها إلى تَخصُّصِ الشرطة النظامية.»

«اجلِس من فضلك وأَخبِرْني ما الأمر.»

«إنه أمرٌ مُروِّع يا سيد هولمز؛ أمرٌ مُروِّع حقًّا! إني لأعجَبُ كيف لم يَشِبْ له شَعْري. جودفري ستونتن؛ لقد سَمِعتَ عنه بالتأكيد. أليس كذلك؟ إنه حقًّا الرَّكيزة التي يعتمِد الفريق كله عليها. إنِّي لا أُبالي بالاستِغناء عن مُهاجِمَين من الفريق طالَما احتفظتُ بجودفري في منطقة الجناح، فما من أحدٍ يستطيع أن يلمِسَه، سواء تعلَّق الأمر بتمرير الكرة أو عرقلة المُهاجمين أو مُناوَرَة المُدافعين، وعلاوة على ذلك فهو قائد الفريق ويستطيع أن يُبقِيَنا جميعًا مُتماسكين. ماذا عسايَ أن أفعل؟ هذا ما أطلُب مُساعدتك فيه يا سيد هولمز. هناك اللَّاعب موروهاوس؛ اللاعب الاحتياطي الأول، لكنه تدرَّب على اللعب في خَطِّ الوسط، وهو دائمًا ما يتقدَّم باتِّجاه خطِّ التشابُك مُباشرةً بدلًا من البقاء خارجًا على خطِّ التَّماس. إنه يُجيد تنفيذ الضرَبَات الثابِتة. هذ صحيح، لكنه أيضًا يَفتقِر إلى مَلَكة التمييز، كما أنه لا يُجيد العدْوَ السريع نهائيًّا. يا إلهي! إن مورتن أو جونسن، صانِعَي الألعاب في فريق أوكسفورد، يستطيعان الفوز عليه بسهولة. أما ستيفنسن فهو سريع بالقدْر الكافي، لكنه لا يستطيع إحراز الأهداف من منطقة الخمسة والعشرين مِترًا. ولاعب الجناح الذي لا يستطيع تنفيذ ركلَةِ الإسقاط أو تسجيل الأهداف لا يستحقُّ اللعِبَ لأجل سُرعته وحسْب. لا يا سيد هولمز، سوف نَبُوء بالهزيمة إذا لمْ تُساعِدْني في العثور على جودفري ستونتن.»

استَمَع صديقي باندهاشٍ تُخالِطُه المُتعة إلى هذا الخِطاب المُطوَّل الذي اندفع في حماسةٍ وجدِّيَّةٍ استثنائيتَين، والذي كان صاحبُه يضرب بيدِه القوية على رُكبته ليؤكِّد كلَّ نقطةٍ فيه. وعندما انتهى ضَيفُنا من كلامه مدَّ هولمز يدَه وأخرج الجُزء الخاصَّ بحرف «السين» من دفتر مُلاحظاته. وللمرة الأولى راح يُنَقِّب دُون جدوى في ذلك المَنْجَم الغنيِّ بمعلومات شتَّى.

وقال: «هناك آرثر إتش ستونتن، الشاب المُزوِّر الصاعِد، وكان هناك هِنري ستونتن، الذي ساعدْتُ في إعدامه شنقًا، لكنَّ اسمَ جودفري ستونتن جديدٌ عليَّ.»

وهنا جاء دَور ضَيفِنا في الاندِهاش.

وقال: «كيف هذا يا سيد هولمز، فقد كنتُ أَحْسَب أنك مُطَّلِع على الأمور؟! أحسَبُك إذن لا تَعرِف سيرل أوفرتن هو الآخر، ما دُمتَ لم تسمَع قَطُّ عن جودفري ستونتن. أليس كذلك؟»

فهزَّ هولمز رأسه بطريقةٍ مرِحة.

فصاح اللاعب الرياضي قائلًا: «يا إلهي! كيف هذا وقد كنتُ لاعب الاحتياط الأول لفريق إنجلترا في مُواجهة فريق ويلز، وقُدتُ مُنتخَب الجامعة طِيلة هذا العام؟! لكن ذلك لا يُهِمُّ! لم أتخيَّلْ أنَّ هناك إنسانًا واحدًا في إنجلترا لا يعرِف جودفري ستونتن؛ لاعب الجناح الأول في فريق كامبريدج ونادي بلاكهيث وصاحب خمس مُباريات دولية، يا إله السماء! سيد هولمز، في أي عالمٍ تعيش؟»

فأخذ هولمز يضحك من الدَّهشة الساذَجة على وجْهِ العِملاق الشاب.

وقال: «إنك تعيش في عالَمٍ مُختلِفٍ عن عالَمي يا سيد أوفرتن؛ عالمٍ أجملَ وأصحَّ. إنَّ مُلابَسات قَضايايَ تمتدُّ إلى كثيرٍ من شرائح المجتمع، ولكن يُسعدني أن أقول إنها لم تقترِب أبدًا من مِضمار رياضة الهُواة، وهو أفضل دوائر إنجلترا وأكثرُها استقرارًا. ولكن زيارتك المُفاجِئة هذا الصباح تُظْهِر لي أنه حتى في ذلك العالَم من الهواءِ النقيِّ واللعب النَّزِيه ربما يكون لي عمل أقوم به؛ لهذا سيدي الكريم فإنني أرجوك الآن أن تتفضَّل بالجلوس وأن تُخبِرَني بتمهُّلٍ وهدوءٍ عمَّا حدث بالضبط، وكيف تُريدُني أن أساعِدَك.»

اكتسى وجهُ الشابِّ أوفرتن تلك النظرة القَلِقة التي تكسو وجهَ من تعوَّد على استِخدام عضلاتِهِ أكثر من عقله؛ ولكنه شيئًا فشيئًا، ومع كثير من التَّكْرار والغموض الذي ربما أَحْذِفُهُ من روايته، تلا قصَّتَه الغريبة على مَسامِعِنا.

«إن الأمر كالتالي يا سيد هولمز؛ كما أسلفتُ، أنا مُدرِّب فريق جامعة كامبريدج للرجبي، وجودفري ستونتن هو أفضل لاعبٍ عِندي. غدًا سنُواجِهُ فريق أوكسفورد. لقد وَصلْنا كلنا أمس وأقَمْنا في فُندق بِنتلي الخاص، وفي الساعة العاشرة خرجتُ أتجوَّل، ووجدتُ أنَّ جميع الرِّفاق خَلَدوا إلى النوم، لأنَّني أؤمِنُ بأهميَّةِ التدريب الصارِم ونَيل قِسْطٍ وافر من النوم؛ للحِفاظ على لِياقة أيِّ فريقٍ رياضي، وتحدَّثتُ قليلًا مع جودفري قبلَ أن يذهبَ إلى فِراشه، فبدا لي شاحِبَ الوجه مَهموم الفؤاد، فسألتُهُ ما بالُه، فأجابَني أنه على ما يُرام، غير أنَّه يُعاني من صُداعٍ خفيف، فتمنَّيتُ له ليلةً سعيدةً وتركتُه. وبعد نِصف ساعةٍ أخبَرَني حارس الفندق أنَّ رجلًا خَشِنَ المظهر ذا لِحيَةٍ جاء ومعه رسالة لجودفري. لم يكن جودفري قد نام بعدُ، فسلَّمَه الرسالة، وعندما قرأها جودفري هوى على كُرسيٍّ وكأنما ضُرِبَ بفأسٍ على رأسه. أُصِيبَ الحارس بهَلَعٍ شديد حتى إنه كان على وشْكِ إحضاري إلى الغُرفة، لكن جودفري منَعَه من ذلك، وتناوَلَ شربةَ ماء، واستجمَعَ قُواه، ثم نزل إلى الطابق السُّفلي، وقال بضعَ كلماتٍ للرجل الذي كان ينتظر في الرَّدْهة، ثم غادرا معًا. وآخِرَ ما رآه الحارس منهما أنهما كانا يتَّجِهان إلى شارع ستراند شِبْهَ راكِضَيْنِ. وفي هذا الصباح كانت غُرفة جودفري خالية، لم يَنَمْ على فراشه مُطلقًا، وكانتْ أغراضه كلها على حالِها التي رأيتُها عليها في الليلة السابقة. لقد رحل مع هذا الغريب في الحال، ولم نَسمعْ عنه شيئًا منذ ذلك الحِين. لا أعتقِد أنه سيعود أبدًا. لقد كان رياضيًّا؛ نعم كان جودفري رياضيًّا حتى النُّخاع، وما كان ليقطعَ مِرانَهُ ويضعَ مُدرِّبَه في مَأْزِقٍ لو لمْ يكن هذا لِداعٍ أقوى منه. لا؛ إنَّني أشعُر وكأنه اختفى إلى الأبد وأنَّنا لن نراه ثانيةً أبدًا.»

أنصَتَ شيرلوك هولمز بأقصى درجات الانتباه لهذه القصة الغريبة.

ثم سأل قائلًا: «وماذا فعلتَ؟»

«أرسلتُ برقيةً إلى جامعة كامبريدج لأرى إن كان أحدٌ عرَف عنه أيَّ شيءٍ هناك، وتلقَّيتُ ردًّا من هناك؛ لم يَرَهُ أحد.»

«هل كان يستطيع الرجوع إلى كامبريدج؟»

«نعم، فهناك قطار يُغادِر في وقتٍ مُتأخر، في الحادية عشرة والربع.»

«ولكن بقدرٍ ما تستطيع أن تَتَثبَّتَ من حقيقة الأمر، فإنه لم يركبْ هذا القطار. أليس كذلك؟»

«بلى؛ فلم يَرَهُ أحد.»

«وماذا فعلتَ بعد ذلك؟»

«أرسلتُ برقِيَّةً إلى اللورد ماونت-جيمس.»

«ولماذا اللورد ماونت-جيمس؟»

«إن جودفري يَتيم، واللورد ماونت-جيمس هو أقْرَبُ أقربائه إليه؛ إنه عَمُّهُ على ما أظن.»

«عجبًا! إنَّ هذا ليُلقي ضوءًا جديدًا على القضية؛ فاللورد ماونت-جيمس من أغنى أغنياء إنجلترا.»

«سمعتُ جودفري يقول نحوًا من هذا.»

«وهل كان صديقك على علاقةٍ وثيقة به؟»

«نعم، إنه وَرِيثُه، والرجل العجوز في سنِّ الثمانين تقريبًا، كما أنَّ جِسمه طافحٌ بمرض النَّقرَس. يقولون إنه يستطيع تَخشين رأس عصا البلياردو بمفاصِل أصابعه. لم يَمنحْ جودفري شِلنًا واحدًا في حياته قط؛ لأنه في غاية البُخل، ولكن الثروة ستئول كلها إلى جودفري حتمًا.»

«وهل تلقَّيْتَ ردًّا من اللورد ماونت-جيمس؟»

«لا.»

«وبأيِّ دافعٍ قد يذهب صديقُك إلى اللورد ماونت-جيمس؟»

«حسن، لقد كان شيءٌ ما يُقلقه أمس، ولو أنَّ الأمر كان مُتعلقًا بالمال، فمِن المُحتمَل أن يتوجَّهَ إلى أقرب أقربائه الذي يَمتلك الكثير منه، برغم أنه — بناءً على كلِّ ما سمعتُ — لم تكن فُرصته في نَيْلِ ما يُريد كبيرة جدًّا. لم يكن جودفري يحبُّ الرجل العجوز، وما كان ليذهبَ إليه لو أنه كان يستطيع ألَّا يذهب.»

«حسن، يُمكِنُنا حسْمُ هذا سريعًا، فلو أنَّ صديقك كان ذاهبًا إلى قريبه، اللورد ماونت-جيمس، فعليك إذن أن تُوضِّح سِرَّ زيارة هذا الرجل الخَشِنِ المظهر في مثل هذه الساعة المُتأخِّرة، وسرَّ القلق الذي نَجَمَ عن زيارته.»

فضغطَ سيرل أوفرتن بيدَيْه على رأسه، وقال: «لا أجِدُ تفسيرًا للأمر.»

قال هولمز: «حسنٌ حسن، أنا اليوم غير مشغول، وسَيسُرُّني أن أُحقِّق في الأمر، ولكنَّني أقترِح عليك بشدَّةٍ أن تُعِدَّ لمُباراتك بصرف النظر عن وجود هذا الشاب. فلا بُدَّ — كما تقول — أنَّها ضرورة قاهِرة تلك التي أقصَتْه بهذه الطريقة، ومن المُحتمَل أن تُبقِيَه هذه الضرورة نفسها بعيدًا. لنذهبْ معًا إلى هذا الفندق، ولنرَ إن كان الحارس يستطيع إلقاء أيَّ ضوءٍ جديد على القضية.»

كان شيرلوك هولمز خبيرًا في فنِّ طمأنَةِ الشهود البُسَطاء، وسُرعان ما نجح في أن يَستخرِج من الحارس كلَّ ما أمكنَهُ البَوْحُ به بعدَ أن انفرد به داخل غرفة جودفري ستونتن الخالية. لم يَكُن الزائر الذي أتى الليلةَ السابقة من طبقة النُّبَلاء، ولا من الطبقة العاملة كذلك، بل كان مُجرَّدَ «رجل مُتوسِّط المظهر»، حسْب وصْف الحارس؛ رجل في الخمسين من عُمره، ذو لِحيةٍ شَهْباء، شاحِب الوجه، ويرتدي ملابس عادية. كان هو نفسه يبدو قَلِقًا؛ فقد لاحظ الحارسُ أنَّ يدَه كانت ترتَعِش وهو يُسلِّم الرسالة. دسَّ جودفري ستونتن الرسالة في جَيْبِه، ولمْ يُصافِحِ الرَّجُلَ في الرَّدْهة، لكنهما تبادَلا عِباراتٍ قليلةً لمْ يَتبيَّن البواب منها سوى كلمة «الوقت»، ثم أسرَعا بالمُغادَرة على النحو الذي وُصِف من قبل. كان ذلك في تمام العاشرة والنصف بحسْب الساعة التي كانت في الرَّدْهة.

قال هولمز وهو يَجلس على سرير ستونتن: «أمْهِلْني قليلًا. أنت حارس الفترة الصباحية. أليس كذلك؟»

«بلى يا سيدي؛ فأنا أنصَرِف من العمل في الحادية عشرة.»

«وعلى ما أظنُّ لمْ يرَ حارس الفترة المسائية شيئًا. أليس كذلك؟»

«نعم يا سيدي؛ لقد أتت فِرقة مسرحية في وقتٍ مُتأخِّر. لم يأتِ غيرهم.»

«هل كُنتَ في عملك أمس طيلةَ اليوم؟»

«أجل يا سيدي.»

«هل أوصلتَ أيَّ رسالةٍ إلى السيد ستونتن؟»

«نعم يا سيدي؛ برقِيَّة واحدة.»

«آه! هذا مُثير للانتِباه. كم كان الوقتُ حِينها؟»

«حوالي السادسة.»

«وأين كان السيد ستونتن عندما تلقَّاها؟»

«كان هُنا في غُرفته.»

«هل كُنتَ حاضِرًا عندما فتَحَها؟»

«نعم يا سيدي؛ فقد انتظرتُ لأعرِف إن كان سيُرسِل ردًّا على البرقية.»

«حسن، وهل فعل؟»

«نعم يا سيدي. لقد كتبَ ردًّا.»

«وهل أرسلتَه؟»

«لا؛ فقد أرسَلَه بنفسِه.»

«ولكنَّهُ كتَبَه في حُضورك. أليس كذلك؟»

«بلى يا سيدي، لقد كنتُ واقفًا عند الباب، وكان هو مُدِيرًا ظهرَه إليَّ عند تلك الطاولة، وعندما انتهى من كِتابَتِها قال: حسنًا أيها الحارس، سوف أُرسِلُ هذه بنفسي.»

«بأيِّ شيءٍ كتَبَها؟»

«بقلم حِبر يا سيدي.»

«هل كان نموذج البرقية أحدَ هذه النماذج التي على الطاولة؟»

«نعم يا سيدي؛ كان ذلك الذي على قِمَّتها.»

فنهض هولمز من فَوْق السرير، وأخذ نماذج البرقِيَّات ناحيةَ النافذة، وبدأ يفحص ذلك النموذج الذي كان على قِمَّتِها بدقَّة.

قال وهو يُلقي النماذج على الطاولة ثانيةً ويَهُزُّ كتفَيه في إحباط: «مِنَ المُؤسِف أنَّه لم يكتُب بالقلم الرصاص، فإنَّ أثر القلَم الرصاص — كما لاحظتَ كثيرًا بلا شكٍّ يا واطسون — عادةً ما ينطبِع على الورق؛ الأمر الذي تسبَّب في إنهاء كثيرٍ من الزِّيجات السعيدة. ولكنِّي لا أجِد أيَّ أثرٍ هنا، وعلى الرغم من هذا فأنا مُستبشِر بِمُلاحَظة أنه كتَبَ البرقية بريشة كِتابةٍ ذات طرفٍ عريض، ولا أكاد أشكُّ أننا سوف نَجِد شيئًا من أثَرِ الكتابة على نَشَّافة الحبر هذه. آه، نعم، هذا هو ما أبحث عنه بالتأكيد!»

قطَعَ هولمز شريطًا من الورَق النَّشَّاف ثم عرَض علينا هذه الحروف المُبهَمة:

فتحمَّس سيرل أوفرتن جدًّا، وصاح قائلًا: «ضعْها أمام المرآة!»

فقال هولمز: «ليس هذا ضروريًّا. فالوَرَق رقيق، وسوف يُظْهِر الجُزءُ الخلفيُّ منه الرسالة، ها هي ذي.» وقَلَبَه هولمز فقرأنا التالي:

قِف إلى جانِبِنا بحقِّ الرَّبِّ.

«هذه إذن هي خاتِمة البرقية التي أرسلها جودفري ستونتن قبل ساعاتٍ قليلة من اختفائه. لقد فاتَتْنا ستُّ كلماتٍ على الأقلِّ من الرسالة؛ ولكن ما تبقَّى — «قف إلى جانِبِنا بحقِّ الرب!» — يُثبتُ أنَّ هذا الشابَّ رأى خطرًا جسيمًا دانِيًا منه، وأن شخصًا آخر كان يستطيع حمايته من هذا الخطر. «جانبنا»، لاحِظوا هذا! كان هناك شخص آخَرُ مقصود أيضًا، مَن تُراه يكون غير هذا الرجل الشاحِب الوجه ذي اللحية، والذي بدا هو نفسه في حالةٍ شديدة من القلق؟ ما الرابط إذن بين جودفري ستونتن والرجل المُلتحي؟ ومَن هو الطرف الثالث الذي ناشَدَاه الغَوْثَ من الخطر المُحدِق؟ لقد صار تحقيقنا مُنحصِرًا في تلك التساؤلات.»

فقلتُ مُقترحًا: «يَلزمُنا فقط أن نكتشِف لِمَن أُرسِلَت تلك البرقية.»

«بالضبط عزيزي واطسون، إن فكرتك، برغم صُعوبتها، قد خطرَتْ بذِهني، ولكنِّي أظنُّ أنك ربما تكون قد لاحظتَ أنك إذا دخلتَ مكتَبَ بريدٍ وطلبت الاطِّلاع على بيانات رِسالة شخصٍ آخَرَ فرُبَّما يكون هناك بعض المُمانَعَة من جِهة المُوظفين في أن يُؤدُّوا إليك هذه الخِدمة، فهذه الأمور يُعرقِلها الكثير من الإجراءات الرُّوتينية! ومع ذلك، فأنا مُوقنٌ أنه بقليلٍ من الكِياسة والبَراعة سَيُمكن بلوغُ الغاية. والآن، أُحبُّ — وأنت موجود يا سيد أوفرتن — أن أفحصَ هذِه الأوراق التي تُرِكتْ على الطاولة.»

كان هناك عددٌ من الخِطابات والفواتير والمُفكرات، فأخَذَ هولمز يُقلِّبها ويتفحَّصُها بأصابع عَجِلةٍ مُتوتِّرةٍ، وأعينٍ سريعة ثاقِبة، ثم قال أخيرًا: «لا شيء هنا. بالمُناسبة، أعتقد أن صديقك كان شابًّا يتمتَّعُ بصحَّةٍ جيدة. أما كان يُعاني من شيء؟»

«بل كان في كامِلِ الصِّحة.»

«أما شِهدْتَه مريضًا قط؟»

«ولا ليومٍ واحد. لقد اضطُرَّ يومًا للمُكوث في الفِراش على إثر تَعرُّضه لإصابةٍ في قصبة رِجله، وانزلقتْ رَضْفَةُ ركبتِهِ ذات مرَّة، ولكن لم يكن لهذا تأثير.»

«رُبما لمْ يكن قويًّا جدًّا كما تعتقِد، وأظنُّ أنه ربما كان يُعاني مُشكلةً صحيَّةً ما يُخفِيها. وإذا أذِنْتَ لي فسأضعُ واحدةً أو اثنتَين من هذه الأوراق في جَيبي؛ عسى أن يكون لها علاقة بتحقيقنا في المستقبل.»

«انتظروا! انتظروا!» صاح بهذه الكلمات صوتٌ مُتذمِّرٌ، ونظرْنا فإذا برجلٍ عجوز ضئيل البِنية غريب الأطوار يرتعِش وينتفِض عند مدخل الباب. كان يرتدي ملابِس سوداء باهِتة، ويعتمِرُ قُبَّعةً عالية ذات حَوافٍ عريضة للغاية ورابطة عُنق بيضاء مفكوكة. كان مظهره في مُجمَلِه مظهرَ كاهنٍ شديد الجَلافة أو نادبٍ تابعٍ لحانوتي. ولكن، على الرغم من رَثاثة بل حتى سَخافة مَظهره، فقد كان لصَوتِهِ خَشخَشةٌ حادَّة، وفي أسلوبه حِدَّة نَزِقة تستحوِذ على الانتباه.

وتساءل قائلًا: «من أنتَ يا سيدي؟ وبأيِّ حقٍّ تمَسُّ أوراق هذا الرجل؟»

«إنَّني مُحقِّقٌ خاص، وأنا أحاوِل تفسير اختفائه.»

«أوه، هكذا أنت! أليس كذلك؟ ومَن وَكَل إليك هذه المُهمة. ها؟»

«إنه هذا الرجل المُحترَم، صديق السيد ستونتن، وقد أحالته إليَّ شُرطة سكوتلاند يارد.»

«من أنت يا سيِّدي؟»

«أنا سيرل أوفرتن.»

«أنت إذن من أرسلَ إليَّ ببرقِيَّة، أنا اللورد ماونت-جيمس، لقد أتيتُ بأقصى سُرعةٍ استطاعت حافلة مَحطَّة بيزوتر أن تُحضِرَني بها. أوَكَّلْتَ مُحقِّقًا إذن؟»

«نعم يا سيدي.»

«وهل أنت مُستعدٌّ لدفْع الأتعاب؟»

«أنا مُتأكد يا سيدي أنَّ صديقي جودفري سيكون مُستعدًّا — عندما نجِدُه — لفِعل هذا.»

«ولكن إذا لمْ يُعْثرْ عليه أبدًا! ها؟ جاوِبْني!»

«لا شكَّ في هذه الحال أنَّ عائلته …»

فصرَخ الرجل الضئيل البِنية قائلًا: «لن يكون شيءٌ من هذا يا سيدي! لا تطلُبْ مِنِّي بِنسًا، ولا بِنسًا واحدًا! أتفْهَم ذلك يا سيادة المُحقِّق؟ إنني أنا عائلةُ هذا الشابِّ كلُّها، وأؤكد لك أنني لستُ مسئولًا. لو كان لديه أيُّ أملٍ في الفَوز بإرثٍ، فهذا لأنَّني لم أُبدِّد المال قطُّ، ولا أنتوي البدْءَ في فعل هذا الآن. أمَّا بخصوص تلك الأوراق التي تتصرَّف فيها بِحُريَّة تامَّة، فأستطيع أن أقول لك إنه إذا كان بَينها أيُّ شيءٍ له أيَّةُ قِيمةٍ فسوف تكون مسئولًا مسئوليةً صارِمة عن توضيح ما سوف تفعله به.»

قال شيرلوك هولمز: «مفهوم يا سيدي. أتسمَح لي بالسؤال في الوقت نفسه إن كان لدَيك أنت شخصيًّا أيَّةُ فكرةٍ عن سبب اختفاء هذا الشاب؟»

«لا يا سيدي، ليس لديَّ فكرة، إنه كبير وناضِجٌ بما يكفي لكي يَعتني بنفسه. وإذا كان هو من الحَماقة بِمكانٍ كي يُضَيِّع نفسه فأنا أرفُض تمامًا تحمُّلَ مسئولية البحث عنه.»

فقال شيرلوك هولمز وعيناه تلتمِعان التِماعةً عابِثة: «إنني أتفهَّمُ موقفك تمامًا. ربما أنت لا تفْهَم مَوقفي أنا جيدًا. من الواضح أنَّ جودفري ستونتن كان رجلًا فقيرًا، ولو أنه كان اختُطِف فلا يُمكن أن يكون هذا من أجل أيِّ شيءٍ يَمتلِكُه هو نفسه. إن شُهرةَ ثروتك قد بلغَتِ الآفاق يا لورد ماونت-جيمس، ومن المُمكن جدًّا أن تكون عِصابةُ لصوصٍ قد احتجَزُوا ابن أخيك ليَحصُلوا منه على بعض المعلومات عن أشياء مثل منزلك وعاداتك وثروتك.»

فاستحال وجه ضَيْفِنا البغيض الضئيل أبيضَ كبياض رابطة عُنقه.

وقال: «يا إلهي، سيدي، يا لها من فكرة! ما خطر ببالي مثل هذه النذالة قطُّ. يا لِما في الحياة من أوغاد همَجيِّين! لكن جودفري فتًى طيب؛ إنه فتًى مُخلِص، ما من شيءٍ سيدفعه إلى التخلِّي عن عمِّه الهَرِم. سوف أَنْقُل التُّحَفَ إلى البنك هذه الليلة، أمَّا الآن فلا تَدَّخِرْ وُسعًا سيدي المُحقِّق! أتوسَّل إليك ألا تترُك سبيلًا لردِّه آمنًا إلَّا طرقْتَه. أما عن المال، حسنًا، فيُمكنك دائمًا أن تلجأ إليَّ ما دامتِ الحاجة إلى المال لم تتجاوَزْ خمسةً أو حتى عشرة جُنيهات.»

لم يستطع الثريُّ الشحيح أن يُمِدَّنا بمعلومة تُساعدنا حتى وهو في حالته النفسية الأكثر تهذيبًا؛ لأنه لم يكن يَعلم إلَّا القليل عن حياة ابن أخيه الخاصَّة. كان مِفتاحنا الوحيد يكمن في هذه البرقية المَبتورة، وقد بدأ هولمز — وفي يدِهِ نُسخةٌ منها — رحلةَ البحث عن حَلْقةٍ ثانية في سلسلة أدلَّتِه. تَخلَّصْنا من اللورد ماونت-جيمس، وذهب أوفرتن للتَّشاوُر مع أعضاء فريقه الآخرين حول المُصيبة التي حاقَتْ بهم.

كان يُوجَد مكتب تِلغراف على مسافةٍ قصيرة من الفندق، فحطَطْنا رحالنا خارِجَه.

قال هولمز: «الأمر يستحقُّ المُحاولة يا واطسون، كان بإمكاننا قطعًا أن نُطالِب برؤية بيانات البرقية مُستعينِين بمُذكرة تفتيش، لكنَّنا لمَّا نصِل إلى هذه المرحلة بعد. لا أظنُّ أنهم يتذكَّرون الوجوه في مكانٍ مليء بالحركة كهذا، فلنُغامِر بالمُحاولة.»

قال هولمز للفتاة الجالِسَة خلفَ الحاجز المُشبَّك بأرقِّ أسلوب لديه: «أعتذِر على إزعاجك، ولكن يُوجَد خطأ صغير في برقيةٍ أرسلتُها أمس. فأنا لمْ أتلقَّ ردًّا، وأخشى بِشدَّة أن أكون قد نَسيتُ كتابةَ اسمي في نهايةِ البرقية. هلَّا أخبرتِني إن كان الأمر كذلك؟»

أخذتِ الفتاة تُقَلِّب في حزمة أوراقٍ تحتوي على بيانات البرقيات.

وسألتْ: «متى أرسلتَها؟»

«بعد السادسة بقليل.»

«وكانت مُوجَّهةً لمن؟»

فوضع هولمز إصبَعَهُ على شفتَيه واختلس النَّظر إليَّ، وهمس كمن يقول سرًّا: «كانت آخِر كلمات مكتوبة فيها «بحقِّ الرب» إنَّني قلقٌ جدًّا لعدَم تلقِّي رد.»

فأخرجتِ الفتاة أحد نماذج البرقيات.

وقالتْ وهي تُسوِّيها على النَّضَدِ المُقابل للحاجز: «ها هي ذي، لا يُوجَد اسم عليها.»

فقال هولمز: «إذن هذا بالطبع يُفسِّر عدمَ حصولي على رد. يا لَخَيبة أملي، كم أنا غَبيٌّ، بلا شَك! طاب صباحُك يا آنِسَتي، وشكرًا جزيلًا لطمأنتك بالي.» وأخذ يَضحك بينَه وبين نفسه ويفرُك يديه عندما وجدْنا أنفسنا في الشارع مرة أخرى.

وسألتُه: «والآن؟»

«نحن نُحرِز تقدُّمًا يا عزيزي واطسون، نُحرِز تقدُّمًا. لقد كان لديَّ سبعُ خططٍ مُختلِفة لكي أُلقي نظرةً على هذه البرقية، ولكنِّي لم أكن آمُلُ أن أنجح من أول مرة.»

«وعلامَ حصلت؟»

«نقطة انطلاق لتحقيقنا.» ونادى عرَبَة أُجرة قائلًا: «إلى محطة كينجز كروس.»

«سنذهب في رحلةٍ إذن. أليس كذلك؟»

«بلى، أظنُّ أنه يلزمُنا التوجُّه إلى كامبريدج معًا. يبدو لي أن كلَّ الدلائل تُشير إلى ذلك الاتجاه.»

فسألتُه والعرَبَة تُقعْقِع بنا فوق طريق جرايز إنْ روود: «أخبِرْني يا هولمز، ألم تَشتبِه بعدُ في أيِّ شيءٍ قد يكون سببًا في اختِفاء الرجل؟ لا أعتقد أني صادفتُ قضيةً بين جميع قضايانا دوافِعُها أكثر غُموضًا من هذه. من المؤكد أنك لا تعتقِدُ حقًّا أنه ربما يكون قد اختُطف لكي يُفصِح عن معلوماتٍ ضِدَّ عمِّهِ الثري. أليس كذلك؟»

«أعترِف يا عزيزي واطسون أن هذا لم يَرُق لي باعتباره تفسيرًا شديدَ الرُّجْحان، ولكنه خطَرَ ببالي لأنه كان التفسيرَ الأقربَ إلى إثارة اهتِمام ذلك الشخص العجوز البالِغِ البَشاعة.»

«لقد أثار اهتمامه بالتأكيد، ولكن ما هي تفسيراتك البديلة؟»

«يُمكنني ذِكر العديد منها. يجِب عليك الاعتراف بأنه من اللَّافِت للنظر والمُثير للتفكير أن تقَع هذه الحادثة عَشيَّةَ هذه المُباراة المهمة، وأن يتورَّط فيها الرجل الوحيد الذي يبدو وجوده ضروريًّا من أجل فوز الفريق. من المُمكن — بالطبع — أن يكون هذا من قبيل المُصادفة، ولكنه مُثير للانتباه. إنَّ رياضة الهُواة خاليةٌ من المُراهنات، ولكنَّ قدْرًا لا بأس به من المُراهنات الخارجية يجري بين الجمهور، ومن المُحتمَل أنَّ شخصًا ما قد اعتقد أنه من الجدير بالمُحاوَلة النَّيلُ من أحد اللاعبين، تمامًا كما ينال همَجِيُّو مِضمار السباق من أحد الخيول. هذا تفسير، ويُوجَد تفسيرٌ ثانٍ واضحٌ للغاية، وهو أنَّ هذا الشاب هو حقًّا الوَريثُ الشرعيُّ لثروةٍ عظيمة، برغم ما قد تكون عليه مَوارِدُه المالية من ضآلةٍ في الوقت الراهن، وليس من المُستحيل أن تُدَبَّر مَكيدةٌ لاحتِجازه من أجل الحصول على فِدية.»

«هذه النظريات لا تضع البرقية في الاعتبار.»

«هذا صحيحٌ تمامًا يا واطسون؛ فلا تزال البرقيةُ الدَّليلَ الملموس الوحيد الذي يَلْزَمُنا التَّعامُل معه، وعلينا ألَّا نسمحَ لانتباهِنا أن يَحيد بعيدًا عنها، ولسنا في طريقنا الآن إلى كامبريدج إلا لإلقاء الضوء على الغرَض من هذه البرقية. إن مسار تحقيقنا مُبهَمٌ الآن، ولكنني سأكون مُتفاجِئًا للغاية إذا لمْ نُزِل ما يكتنِفُه من غموضٍ أو نُحرِز تقدُّمًا ملحوظًا فيه قبل حلول المساء.»

كان الظلام قد أقبل بالفعل عندما وصلْنا إلى المدينة التي تحتضن الجامعة العتيقة، فأخذ هولمز عربة أُجرة من عند المحطة، وأمر الرجل أن يقودها إلى منزل الدكتور ليزلي أرمسترونج. وبعد دقائقَ قليلةٍ توقَّفْنا عند قصرٍ كبير في أكثر الشوارع ازدحامًا. اصطحَبَنا أحدُهم إلى الداخل، وبعد انتظارٍ طويل سُمح لنا أخيرًا بدخول غُرفة الفحص، حيث وجدنا الطبيب جالسًا خلف مكتبه.

إن عدَم معرفتي باسم ليزلي أرمسترونج لَيَنمُّ عن الدرجة التي بلغتُها من فُقدان الصِّلة بمِهنتي، لكنَّني عرفتُ الآن أنه ليس فقط أحد عُمداء كلية الطب بالجامعة، ولكنه أيضًا مُفكرٌ ذائع الشهرة في أوروبا، ذو خِبرة في أكثر من فرع من فروع العلم. بالرغم من ذلك، فحتى وإن لمْ يَعرِف المرءُ شيئًا عن سِجِلِّ إنجازاته الحافل، فلا يُمكِنه ألَّا يمتلئ إعجابًا من مُجرَّد نظرةٍ خاطِفةٍ إلى الرجل، إلى الوجه المُربَّع الكبير، والعينَين المُتأمِّلتَين تحت حاجبَيه الكثيفَين، والهيكل الصُّلب لِفَكِّه الجامد. رجل ذو نزاهةٍ شديدة، رجل ذو عقل يَقِظ، مُتجهِّم، زاهد، مُتحفِّظ، وقور؛ هكذا رأيتُ الدكتور ليزلي أرمسترونج. أمسك بطاقة التعريف الخاصَّة بصاحبي في يدِه، ونظر إلينا وليس على ملامِحِه الصارمة ما يَنمُّ عن كثيرِ رضًا.

وقال: «سمعتُ باسمك من قبل يا سيد شيرلوك هولمز، وأعرِف مِهنتَك، وهي مِهنة لا أستسيغُها على الإطلاق.»

فقال صديقي في هدوء: «في هذه الحال يا دكتور، ستجِد نفسك على تَوافُقٍ في الرأي مع كلِّ مُجرمٍ في البلاد.»

«طالما أنَّ جُهودك مُوجَّهةٌ إلى منع الجريمة يا سيدي، فلا بُدَّ أن تحظى بتأييد كلِّ عُضوٍ عاقلٍ من أعضاء المجتمع، على أنَّني لا أستطيع أن أشُكَّ في أنَّ الجهات الرسمية كافية جدًّا لتأدِيَةِ هذا الغرَض. إن مِهنتَكَ تكون أكثر عُرضةً للنقد عندما تتتبَّعُ أسرار الأفراد، وعندما تنبِش الشئون العائلية التي يَحسُن إخفاؤها، وعندما تُهدِرُ من دون قصدٍ أوقات رجالٍ هم أكثر انشِغالًا منك. ففي اللحظة الراهنة، على سبيل المثال، كان من المُفترَض أن أكون مُنهمِكًا في كتابة بحثٍ بَدَلَ الحديث معك.»

«من دون شَكٍّ يا دكتور؛ ولكن ربما يَتبيَّنُ أنَّ المُحادثة أكثر أهمية من البحث. واسمح لي بالمُناسبة أن أقولَ لك إنَّنا نقوم بنقيض هذا الذي لك كلَّ الحق في انتقاده، وإنَّنا نسعى لمنع أي شيءٍ من قَبيل كشف الشئون الخاصَّة للعَلَن، وهو ما يقَع بالضرورة بِمُجرَّد أن تُصبح القضية فعلًا في يد الشرطة الرسمية. يُمكنك النظر إليَّ ببساطةٍ على أنَّني جُندي غيرُ نِظامي يُمهِّد الطريق بتقدُّمه أمام قوات البلاد الرسمية. لقد أتيتُ لأسألك عن السيد جودفري ستونتن.»

«ما شأنه؟»

«أنت تعرِفه. أليس كذلك؟»

«إنه أحد أصدقائي المُقرَّبين.»

«أتعرِف أنه اختفى؟»

«آه، حقًّا!» لم تتغيَّر ملامح الطبيب الصارمة.

«لقد غادر الفُندق الذي كان يُقيم به في الليلة الماضية، ولم يعرِف أحدٌ عنه شيئًا.»

«لا شَكَّ في أنه سيعود.»

«إنَّ غدًا هو مَوعِد مُباراة الجامعة.»

«أنا لا أحبُّ هذه الألعاب الصِّبيانية. بالنِّسبة إلى مصير الفتى، فهو يُهمُّني بشدَّة؛ لأنني أعرفه وأُحبُّه، أمَّا مُباراة الكرة فلا تقَع ضِمن نِطاق اهتماماتي على الإطلاق.»

«فأنا أستحقُّ تَضامُنَك معي إذن في تحقيقي بشأن مصير السيد ستونتن. أتعلمُ مكانه؟»

«بالتأكيد لا.»

«ألم تَرَهُ منذ أمس؟»

«نعم، لمْ أرَه.»

«أكانت صِحَّة السيد ستونتن جيدة؟»

«دون أدنى شك.»

«هل رأيتَه مريضًا من قبل قطُّ؟»

«إطلاقًا.»

فوضع هولمز وَرقةً أمام عَينَي الدكتور فجأة، وقال: «إذن فرُبما ستشرَح سِرَّ هذه الفاتورة بقِيمة ثلاثة عشر جُنيهًا، وقد سدَّدها السيد جودفري ستونتن الشهر الماضي للدكتور ليزلي أرمسترونج القاطِن في كامبريدج. لقد التقطتُها من بين الأوراق التي كانت على مكتبه.»

فاحمرَّ وجهُ الطبيب غضبًا.

وقال: «لا أرى أنه يُوجَد أيُّ سببٍ يدعوني لتقديم تفسير لك يا سيد هولمز.»

فأعاد هولمز الفاتورة إلى مُفكرته قائلًا: «إذا كنتَ تفضل تقديم تفسيرٍ علنيٍّ فلا بُدَّ أن ذلك سيحدُث عاجِلًا أم آجِلًا. لقد قُلتُ لك بالفعل إنني أستطيع إخفاء ما سيتحتَّمُ على الآخرين إعلانُه، وسوف تكون أكثرَ حكمةً حقًّا إذا أطلعْتَني على كامل أسرارك.»

«أنا لا أعلم شيئًا عن هذه الفاتورة.»

«هل تلقَّيْتَ أية رسالة من السيد ستونتن وهو في لندن؟»

«بالتأكيد لا.»

فقال هولمز مُتنهِّدًا في ضَجَر: «يا إلهي، يا إلهي؛ مكتب البريد ثانيةً! لقد أرسل إليك جودفري ستونتن برقيَّةً مُستعجِلة جدًّا من لندن، أرسلها في الساعة السادسة والرُّبع من مساء أمس، وهي برقية لها علاقة باختفائه لا محالة، ولكنك برغم هذا لمْ تتسلَّمْها. إنَّ هذا لجدير باللَّوم، سأتوجَّهُ حتمًا إلى المكتب هنا وأُسجِّل شكوى.»

فنهض الدكتور ليزلي أرمسترونج من خلف مكتبه وقد اصطَبَغ وجهُهُ الداكن باللون القرمزي من شدَّة الغضب.

وقال: «تفضَّل بالخروج من بَيتي أيها السيد، يُمكنُك أن تُخبر مُوَكِّلك، اللورد ماونت-جيمس، أنَّني لا أريد أن يكون لي أية علاقة به أو بوكلائه. لا يا سيدي، لا تَزِد كلمةً واحدة!» ودقَّ الجرَسَ في حنق، وقال: «جون، أوصِل هذَين السيِّدين إلى الخارج!» فقادنا خادمٌ مُختال إلى الباب بصرامة، ووجدْنا أنفُسنا في الشارع، ثم انفجر هولمز في الضحك.

وقال: «لا شكَّ أنَّ الدكتور ليزلي أرمسترونج رجل ذو بأس ومكانة. لم أرَ رجلًا أكثر مُناسبةً منه لمَلْء الفجوة التي خلَّفها البروفيسور الشهير موريارتي، لو أنه حوَّل مَواهِبَهُ إلى هذا الطريق. والآن يا صديقي المِسكين واطسون، ها نحن أولاء بِلا أصدقاء في هذه المدينة غَير المِضيافة، وقد تقطَّعَت بنا السُّبل، ولا نستطيع مُغادرتها من دون أن نتخلى عن قضيتنا. غير أنَّ هذا الفندق الصغير في مُواجهة منزل أرمسترونج تمامًا مُتناسِب مع احتياجاتنا بصورةٍ غريبة. لو تفضَّلْتَ باستئجار غُرفةٍ أمامية وشِراء مُتطلَّبات الليلة فسأتمكَّنُ من إجراء قليلٍ من الاستعلامات.»

ولكن تَبيَّن أن هذه الاستِعلامات القليلة تَطوَّرتْ إلى أحداثٍ أطولَ مِمَّا قد تخيَّلَ هولمز، فلمْ يَعُد إلى الفندق إلَّا الساعة التاسِعة تقريبًا. كان شاحِبَ الوجه مُكتئبًا، يُلطِّخُه الغبارُ، ويَنْهَكُه الجوعُ والتعب، كان ثَمَّ عشاءٌ بارِد مُهيَّأ على الطاولة، وعندما أشبع حاجاته منه وأشعل غليونه أصبح مُستعدًّا لاتِّخاذ هذه الهيئة السَّاخرة جُزئيًّا والفلسفيَّة كليًّا التي كان مُعتادًا عليها عندما تَخرُج أمورُه عن مسارها الصحيح. لكن صَوت عجلاتِ عَربةٍ ما جعله ينهَضُ من جلسته ويُلقي نظرةً خارجَ النافذة، فرأى عربةً يَجرُّها فَرَسان رمادِيَّان يَعلوهما وَهَجُ مِصباح الغاز المُعلَّق بها، وقد توقَّفَت أمام باب منزل الطبيب.

فقال هولمز: «لقد كانتْ هذه العَرَبة في الخارج مُدَّةَ ثلاث ساعات، بدايةً من السادسة والنصف، وها هي ذي تعود مرةً أخرى، ويَعني هذا أنها قطعَتْ مسافَةَ عشرة أو اثني عشر ميلًا، وهو يفعل هذا مرة، أو أحيانًا مَرَّتَين في اليوم.»

«ليس هذا بالشيء المُستغرَب بالنسبة إلى طبيب يُمارِس مِهنتَه.»

«ولكن أرمسترونج ليس طبيبًا مُمارِسًا لمِهنتِهِ في الواقع، إنه مُحاضِر واستشاري، ولكنه لا يهتمُّ بالمُمارسة العامة للمِهنة؛ لأنها تصرِفُه عن عمله النظري. لماذا إذن يقوم بهذه الرحلات الطويلة التي لا بُدَّ أنها مُزعِجةٌ له جدًّا، ومن هذا الذي يزوره يا تُرى؟»

«إن سائق عربته …»

«عزيزي واطسون، أتشكُّ أنه كان أول من تواصلتُ معه؟ لا أدري أكان ما فعله نابعًا من فساد أخلاقه الغريزي هو نفسه أم كان بتحريضٍ من سيده، ولكنَّهُ كان من الفَظاظة بمكانٍ أنْ أطلقَ عليَّ كلبًا؛ لم يُعْجِبْ مَنظر عصاي الكلبَ ولا صاحِبَه ولم يَنجحِ الأمر. تَوتَّرَتِ العلاقات بيننا بعد هذا، ولم يكن ثمَّةَ مَوضِعٌ لمزيد تَساؤلات. كلُّ ما عرفتُه تحصَّلتُ عليه من رجلٍ ودودٍ من سكان المدينة في فناء الفندق، وهو الذي أخبَرَني عن عادات الطبيب وعن رحلته اليومية. وفي تلك اللحظة، ومن أجل تأكيد كلامه، وصلتِ العربةُ إلى بيت الطبيب.»

«ألمْ تستطِعْ أن تتعقَّبَها؟»

«مُمتاز يا واطسون! إنك مُتألِّق هذه الليلة، لقد جالت الفكرة برأسي بالفعل. لعلَّكَ لاحظتَ وجود محلِّ درَّاجاتٍ بجوار الفندق فأسرعتُ إليه واستأجرتُ درَّاجة وأصبحتُ قادرًا على البَدْء في العمل قبل اختفاء العربة تمامًا عن ناظري، سُرعان ما لحقتُ بها، ثم تعقبتُ أضواءها — مُحافظًا على مسافةٍ معقولة تُقدَّر بحوالي مائة ياردة — حتى ابتعَدْنا عن المدينة. قطعْنا قدرًا لا بأس به على الطريق الريفي خارج المدينة ثم حدث شيء مُخزٍ نوعًا ما؛ فقد توقَّفَتِ العربةُ وترجَّل الطبيب منها وعاد سريعًا إلى حيث توقَّفتُ أنا الآخر، وقال لي بطريقةٍ ساخِرة من الطراز الأول إنه يَعتذِر لأنَّ الطريق ضَيِّقة وإنه يَرجُو ألَّا تَعوق عربتَه طريق درَّاجتي، ما كان شيء يبْعثُ على الإعجاب أكثرَ من طريقة صِياغته لِما قال. ولكني ركبتُ الدراجة وتخطَّيتُ العربة على الفور، وتابعتُ السير — على الطريق الرئيسي — بِضعة أميال، ثم توقَّفتُ في مكان مُناسب لأرى إذا ما كانت العربة واصلَتِ السير، ولكني لم أعثُر لها على أثر، وصار من الواضح أنها انحدرَتْ إلى أحد الطرق الفرعية التي كنتُ قد لاحظتُ وجودها هناك، فسرتُ عائدًا بالدراجة، ولكني لمْ أرَ أثرًا للعربةِ مُجدَّدًا، والآن كما تُلاحِظ، فقد عادتْ بعدي. بالطبع لم يكن لديَّ في البداية مُبرِّر دقيق لربط هذه الرحلات باختفاء جودفري ستونتن، وكنتُ فقط أميل للتحقيق فيها على أساس أنَّ كلَّ ما يَتعلق بالدكتور أرمسترونج مُهمٌّ لنا في الوقت الحاضر. ولكن الآن وأنا أرى أنه يُراقِب عن كثَبٍ كلَّ من قد يُلاحِقه في هذه الرحلات القصيرة، فإن المسألة تبدو أكثر أهمية، ولن يهدأ لي بال حتى أستوضِح الأمر.»

«نستطيع أن نَتعقَّبَه في الغد.»

«أيُمكننا هذا؟ ليس الأمر بالسهولة التي تتخيَّلها. إن الطبيعة في مُقاطعة كامبريدجشاير ليست مألوفة لديك. أليس كذلك؟ إنها لا تَسمح لأحدٍ أن يتَّخِذ منها مَخبأ. إنَّ هذا الريف الذي مررتُ به الليلة كله مُنبسِط وخالٍ من العوائق مثل راحة كفِّك، وإن الرجل الذي نُلاحِقه ليس مُغفَّلًا، وقدالمُصيبة التي حاقَتْ بهم. أظهر هذا بِجلاءٍ الليلة. لقد أرسلتُ برقيَّةً إلى أوفرتن لكي يُطلِعنا على أية تطوُّراتٍ جديدة تحدُث في لندن على هذا العنوان. والآن يُمكنُنا فقط أن نُركِّز انتِباهَنا على الدكتور أرمسترونج، والذي سمَحَتْ ليَ الفتاة الخَدومة في مكتب البريد بقراءة اسمِه على بيانات رسالة ستونتن العاجلة. إنه يعلم مكان الفتى — أنا مُستعدٌّ للقَسَم على هذا — وما دام يعرِف، فلا بُدَّ إذن أنَّ الخطأ سيكون خطأنا نحن لو لم ننْجَحْ في معرفته كذلك. لا بُدَّ من الاعتِراف في الوقت الحالي أنَّ الورقة الرابحة في حَوزته هو. وكما تعرِف يا واطسون، فليس من عادتي أن أترُك اللعبة في تلك الحالة.»

ورغم هذا فلمْ يُقرِّبْنا اليوم التالي من حلِّ اللُّغز، لكنْ وصلتْنا رسالة بعد الإفطار، فناوَلَنيها هولمز وهو يبتسِم، وكان نصُّها كالتالي:

سيدي

أؤكد لك أنك تُهدِر وقتك بمُلاحَقَتي. إنَّ لديَّ — كما اكتشفتَ ليلة أمس — نافِذة في ظهر عربتي، وإذا كُنتَ ترغَب في جولةٍ تقطع خِلالها عشرين ميلًا تقودك إلى المكان الذي بدأتَ منه، فليس عليك سوى أن تَتعقَّبَني. وحتى يَحينُ ذلك، يُمكنني إخبارك أنَّ التجسُّس عليَّ لن يُفيد السيد جودفري ستونتن بأيِّ حالٍ من الأحوال، وأنا على يَقينٍ أنَّ أفضَلَ خِدمةٍ يُمكنك تقديمها لهذا الرجل المُحترَم هي أن تعود إلى لندن على الفور، وأن تُخبِر مُوكِّلَك أنك غير قادرٍ على اقتِفاء أثره. سوف يَضيع وقتك في كامبريدج سُدًى لا محالة.

مع تحياتي
ليزلي أرمسترونج

قال هولمز: «خَصمٌ صريحٌ ونزيهٌ هذا الطبيب. حسنٌ حسن، لقد أثار فضولي، ولا بُدَّ لي حقًّا أن أعرِف المَزيد قبل أن أترُكه.»

فقلت: «إنَّ عربَته أمام باب بيته الآن، ها هو ذا يركبها. لقد رأيته يختلس النظر إلى نافِذَتِنا وهو يَستقلُّ العربة. ماذا لو جرَّبتُ حظِّي في قيادة الدراجة؟»

«لا، لا يا عزيزي واطسون! فمع كامِل احترامي لفِطنتك الفِطرية لكنَّني لا أظنُّك الندَّ الأنسب لهذا الطبيب البارز. أعتقِد أنَّني ربما أستطيع بُلوغَ غايتنا بإجراء بعض التحرِّيات المُستقلَّة بنفسي. يُؤسِفني أنَّني مُضطرٌّ لأن أدعَكَ تَعتمِد على نفسك؛ فظهور مُحقِّقَيْن غريبَيْن في قريةٍ هادئة كهذه ربَّما يُثير القِيل والقال أكثر مِمَّا أريد. لا شكَّ أنك ستجِد بعض المَعالم التي ستُسلِّيك في هذه المدينة المَهيبة، وآمُل أن أعود إليك بأخبارٍ أفضل قبل حلول المساء.»

لكن كان مُقدَّرًا لصديقي أن يَخيب أمَلُه من جديد، فقد رَجَع في المساء مُنهَكًا بِخُفَّي حُنَين.

بادَرَني قائلًا: «لقد ضاع يومي سُدًى يا واطسون. فبعد أن عرفتُ وجهة الطبيب العامة، أمضيتُ اليوم في زيارة كلِّ القرى الواقعة على ذلك الجانب من كامبريدج، وفي مُقارَنة مُلاحظاتي مع المعلومات المُستمَدَّة من أصحاب الحانات ووكالات الأنباء المحلية الأخرى. لقد غَطَّيتُ بعض المناطق: تشيسترتن وهيستن ووتربيتش وأوكينجتن. لقد استطلعتُ كلَّ واحدة منها وخيَّبَ كلٌّ منها آمالي. لم يكن من السهل أن تظهر عَرَبة وحصانان يوميًّا دون أن يُلاحِظهم أحدٌ في أودية النعاس هذه. لقد تفوَّق عليَّ الطبيب مرةً أخرى. هل هناك برقيةٌ من أجلي؟»

نعم؛ وقد فتحتُها، ها هي ذي:

اطلُب بومبي من جيرمي ديكسون.
كلية ترينيتي.

ولكنِّي لا أفَهَمُها.

«أوه! إنها واضحة بما يكفي. إنها من صديقنا أوفرتن، وهي ردٌّ على سؤال منِّي. سوف أبعَثُ برسالةٍ إلى السيد جيرمي ديكسون، ولا أشكُّ أنَّ الحظَّ سيُحالِفنا بعدها. بالمُناسبة، ألا تُوجَد أية أخبارٍ عن المُباراة؟»

بلى، يُوجَد بالجريدة المحلية المسائية تقريرٌ ممتازٌ في طبعتها الأخيرة؛ لقد فاز فريق أوكسفورد بهَدَفٍ من كُرةٍ ثابتة وهدفَين مَيدانِيَّين. تقول السطور الأخيرة في وصف المباراة:

ربَّما ترجِع هزيمة الفريق الأزرق بِصورةٍ كلية إلى الغياب المُؤسِف للَّاعب الدولي المُمتاز جودفري ستونتن، الذي احتاجه فريقه في كلِّ لحظةٍ من المباراة. لقد كان لنقص التَّضافُر في الجناح وضَعفه في الهجوم والدفاع على حدٍّ سواء أكبر الأثَر في تبديد جهود هذا الفريق القوي المُجتهد.

فقال هولمز: «لقد صدقتْ هواجسُ صديقنا أوفرتن إذن. بالنسبة إلى رأيي الشخصي، فإنَّني أتَّفِق مع الدكتور أرمسترونج، ولا تقَع الكرة ضِمن نِطاق اهتماماتي. فلنَنَمْ مُبكرًا الليلة يا واطسون؛ فأنا أتوقَّع أن يكون الغدُ حافلًا بالأحداث.»

أفزَعَتْني أولُ نظرةٍ ألقَيْتُها على هولمز في صباح اليوم التالي؛ حيث كان يجلِس بجوار نار المِدفأة وفي يدِه مِحقنتُه الصغيرة. لقد كنتُ أقرِن بين هذه الأداة وبين نقطة الضعف الوحيدة في شخصيته، وخشيتُ وقوع الأسوأ عندما رأيتُها تلتمِع في يده، لكنه ضحك من تعابير الوجل التي اعتَلَتْ وَجْهي، ووَضَعها على الطاولة.

وقال: «لا، لا يا زميلي العزيز، لا دَاعِيَ للفَزَع؛ فما هي بأداة شرٍّ هذه المرَّة، وإنما ستكون المِفتاحَ الذي سيَحلُّ لُغزَنا، إنَّني أضَعُ آمالي كلها في هذه المِحقنة. لقد عدتُ لتوِّي من رحلةٍ استكشافية قصيرة، وكلُّ شيءٍ مُبشِّرٌ بالخير. تناوَلْ إفطارك جيدًا يا واطسون؛ لأنني عاقد العزم على اقتِفاء أثر الدكتور أرمسترونج اليوم، وبِمُجرَّد أن أبدأ فلن أتوقَّف من أجل الراحة أو الطعام قبل أن أتعقَّبَه حتى يَصِل إلى جُحره.»

فرددتُ قائلًا: «يَجدُر بنا في هذه الحالة أن نأخُذ إفطارنا معنا، لأنه سيبدأ جولته مُبكرًا؛ إن عربته على الباب.»

«لا بأس، دَعْه يذهب، فسيكون من الذكاء بمكانٍ لو تمكن من الذَّهاب إلى حيث لا أستطيع تعقُّبَ أثره، وعندما تنتهي من تناول فَطورك رافِقْني إلى الطابق السُّفلي، فسوف أُعرِّفك إلى مُحقِّقٍ يُعَدُّ مُتخصِّصًا بارزًا جدًّا في العمل الذي نحن مُقدِمون عليه.»

عندما نَزلْنا تَبِعتُ هولمز إلى ساحة الحظيرة، وهناك فتح باب مقصورةٍ وأخرج كلبًا قصيرًا ذا أُذُنَين مُتدلِّيَتَين، يجمع شعرُه بين اللَّونَين الأبيض والبُنِّي، وكان شكله هَجينًا بين نَوعَي البيجل والفوكسهاوند.

قال هولمز: «اسمحْ لي أن أُعرِّفَك إلى بُومبي. بُومبي هو أفضل كلاب الصيد المحليَّة التي تقتفِي الأثر، وهو ليس سريعًا جدًّا، كما يظهر من بِنْيَتِه، ولكنَّهُ لا يفوِّتُ رائحة طَريدةٍ البتَّة. حسنٌ يا بومبي، قد لا تكون سريعًا، ولكني أتوقَّع أن تكون سريعًا جدًّا بالنسبة إلى رَجُلَين في مُنتصف العمر قادِمَين من لندن، لذا سأسمحُ لنفسي بربْطِ هذا الزِّمام الجلدي في طَوْق رقَبَتِك. والآن تَقدَّم أيها الفتى، وأَرِنا ما تستطيع فعله.» وساقَهُ هولمز إلى باب منزل الطبيب، فتشمَّم الكلبُ المكانَ للحظة، ثم انطلَقَ في الشارع وهو يَعوي عواءً صاخِبًا من أثر انفِعاله، وكان يجرُّ زِمامه بقوةٍ مُحاولًا السير بِسُرعةٍ أكبر. بعد نِصف ساعة كنَّا قد ابتعدْنا عن المدينة وأخذْنا نحثُّ السَّيْر على طريقٍ ريفي.

فسألتُ هولمز: «ماذا فعلتَ يا هولمز؟»

«حِيلةٌ مُبتذَلَةٌ وعتيقة لكنَّها تُفيد من حينٍ لآخر، لقد تَسلَّلتُ إلى فِناء مَنزل الطبيب هذا الصباح وأفرغتُ من مِحقَنَتي المليئة بسائل بُذور الأنيسون على عَجَلة العرَبَة الخلفية. يستطيع أي كلبٍ من كِلاب الصيد واقتِفاء الأثَرِ أن يتتبَّع رائحة الأنيسون من هنا وحتى قرية جون آو جروتس، وسيكون على صديقنا أرمسترونج أن يَخوض بعربته نَهرَ كام لكي يَتمكَّن من تضليل بومبي وصرفِهِ عن تعقُّب أثره. أوه، يا للوغد الماكر! هكذا أفلتَ منِّي في الليلة السابقة.»

انحرف الكلب فجأةً عن الطريق الرئيسي واتَّجه إلى مَجازٍ ضَيِّق ينمو فيه العشب، وبعد مسافة نصف ميلٍ أدَّى هذا المَجازُ إلى طريقٍ آخر مُتَّسِع، ثم اتَّخذ الطريق مُنعَطفًا حادًّا ناحية اليمين باتِّجاه المدينة، التي غادَرْناها لتوِّنا. بعد ذلك سار الطريق في مُنحنًى باتِّجاه جنوب المدينة وواصلَ مَساره في اتِّجاهٍ مُعاكسٍ لذاك الذي كُنَّا قد بدأنا منه.

وهنا قال هولمز: «لقد كان هذا الالتِفاف في صالِحِنا تمامًا إذن. أليس كذلك؟ لا عَجَب أنَّ تحقيقاتي في تلك القُرى لمْ تؤدِّ إلى شيء، لا شكَّ أنَّ الطبيب أجاد لُعْبته على أكمل وجه، وإن المرء ليودُّ أن يَعرِف الدافع وراء مثل هذا التضليل المُتقَن. لا بُدَّ أن هذه التي إلى يَميننا هي قرية ترامبينجتن، يا إلهي! ها هي ذي العربة قادمة على مَرمى حَجَرٍ مِنَّا. أسرع يا واطسون، أسرع وإلا فسيُقضى علينا!»

اندفَعَ هولمز عبر بوابةٍ إلى داخل أحد الحقول وهو يَسحَبُ خلفَه بومبي الذي كان يأبى الانقِياد له. لم نَكدْ نَحتمي تحت السِّياج حتى سمِعْنا قعقعة العربة وهي تمر، ولمحتُ الدكتور أرمسترونج داخلها، كانت كَتِفاه مُتقوِّسَتَين ورأسه غارقًا بين يدَيه، في صُورةٍ مُعبِّرة تمامًا عن الأسى، ولاحظتُ من خلال ملامح وجه رفيقي الجادَّة أنه قد رآه هو الآخر.

وقال لي: «أخشى أن تكون ثَمَّةَ نهاية قاتمة لتحقيقنا، لكن لن يَطول بنا الوقتُ قبل أن نعرِفَها. تعالَ يا بومبي. آه، إنه ذاك الكوخ الذي داخل الحقل!»

لم يكن ثَمَّ شكٌّ في أنَّنا وَصلْنا إلى نهاية رِحلتنا. انطلَق بومبي راكضًا هنا وهناك وأخذ يعوي بشدَّة خارج البوابة، حيث كانت آثار عجلات العربة ما تزال بادِيةً للعَين. كان يُوجَد مَمرٌّ يؤدِّي إلى الكوخ المُنعزل. ربَط هولمز الكلب في السياج، وتقدَّمْنا إلى الأمام مُسرِعَيْن. طرَقَ صديقي الباب الريفي الصغير المَصنوع من أغصان الشجر، ثم طرَقَه مرَّةً أخرى، ولكن لم يَرُدَّ أحد. ورغم هذا فلم يَكُنِ الكوخ خاليًا؛ فقد نما إلى سمْعِنا صوتٌ خفيض؛ صوتٌ أشبَهُ بأنين البُؤس والقنوط، يَفيض بالحُزن بطريقةٍ يَعجِزُ عنها الوَصْف. توقَّفَ هولمز مُتردِّدًا، ثم ألقى نظرةً سريعةً خلفَه ناحية الطريق الذي كُنَّا قد اجتَزْناه لِتوِّنا، كان ثَمَّة عربة قادمة فوقه، ولم يكن ذانِكُمُ الحصانان الرَّمادِيَّان لِيُخطئَهُما النظر.

فصاح هولمز قائلًا: «يا إلهي، الطبيب عاد مرَّةً أخرى! إن ذلك لَيَحْسِم الأمر. ينبغي لنا استِكشاف ما يجري قبل أن يأتي.»

فتح هولمز الباب وخطَوْنا داخل الرَّدْهة، فأخذ صوتُ الأنين يعلو في آذانِنا حتى صار نحيبَ تَفجُّعٍ عميقًا مُمتدًّا، كان يأتي من الطابق العلوي، فانطلق هولمز إلى أعلى وانطلقتُ في إثرِه، ثم دفَعَ بابًا كان مُوارَبًا ففتحه، فوقف كِلانا وقد راعَنا المنظرُ الذي أمام أعيُنِنا.

كانت امرأةٌ شابةٌ جميلةٌ ترقُدُ مَيِّتةً على الفِراش ووجهُها الهادئ الشاحِبُ ينظرُ لأعلى بِعَينَين زَرقاوَيْن مُعتِمَتَين تُحدِّقان من بين غدائر شعرٍ ذَهبيةٍ وافرةٍ مُتشابكة، وعند نهاية الفِراش يقبَعُ شابٌّ في وضعٍ بين الجلوس والجَثْو وقد دَفَن وجهَهُ في ثِيابه وأنْهَكَ جسدَه نشيجُه. كان مُستغرِقًا تمامًا في حُزنه المرير لدرجة أنَّهُ لم ينظر إلينا قطُّ حتى استقرَّتْ يدُ هولمز على كتِفِه.

ثم سأله: «هل أنت السيد جودفري ستونتن؟»

«أجل، أجل، أنا جودفري، ولكنكما تأخَّرْتُما جدًّا؛ لقد ماتت.»

كان الرجل ذاهِلًا تمامًا، بحيث لم يكن من المُمكن أن يرانا سوى طَبيبَين أُرسِلنا لمُساعدته. حاول هولمز أن ينطِقَ ببعض كلمات التَّعزِية، وأن يُوضِّح ما تَسبَّب فيه اختفاؤه المُفاجئ من ذُعرٍ في قلوب أصدقائه، ولكنَّنا سمِعْنا عندها وقْعَ أقدامٍ على الدَّرَج، ثم ظهر وجهُ الطبيب أرمسترونج المُتجهِّم الصارِم المُرتاب عند الباب.

فقال: «حسنٌ إذن أيُّها السيِّدان، لقد أدركتُما غايتَكما، واخترتُما لتَطفُّلِكما لحظةً بالِغة الحساسية من دون شك، أنا لن أتشاجَرَ في حضرة الموت، ولكنِّي أؤكد لكما أنَّني لو كنتُ أصغر سِنًّا لَما كان سُلوكُكما البَشِعُ هذا لِيمُرَّ دُون عقوبة.»

فأجابه صديقي في وقار: «مَعذرةً يا دكتور أرمسترونج، أظنُّ أنَّ بينَنا القليل من سُوء التفاهُم. لو تفضَّلتَ بالنُّزول معنا إلى الطابق السُّفليِّ فرُبَّما تَمكن كلٌّ مِنَّا من إعطاء الآخَرِ بعض الإيضاحات بشأنِ هذه القضية التَّعِسَة.»

بعد هُنَيهةٍ صِرْنا نحن والطبيب المُتَجهِّم في غرفة الجلوس بالطابق السُّفلي.

فقال: «حسن، ما الأمر يا سيدي؟»

«أرجو أن تُدرِك، في المقام الأول، أنني لا أعمَلُ لحِساب اللورد ماونت-جيمس، وأنَّني لا أتعاطَفُ معه في هذه القضية بالمرة. إنَّ مُهِمَّتي عند اختفاء شخصٍ ما هي أن أتحقَّق من مَصيره، ولكنْ حيث إنَّني قد فعلتُ هذا، فإن الأمر ينتهي بالنِّسبة إليَّ؛ وما دام لا يُوجَد بُعْدٌ جِنائي في القضية فإنَّني أكون أكثرَ حِرصًا على كِتْمان الأشياء التي تُخزي أصحابَها مِنِّي على إذاعَتِها للملأ. إذا لم يكن ثَمَّ انتهاكٌ للقانون في هذه القضية — كما أعتقد — فإنَّ بإمكانك قَطْعًا أن تَثِقَ في تَعقُّلي وتَعاوُني من أجل إبقاء أحداث القضية بعيدةً عن الصحافة.»

فخطا الدكتور أرمسترونج للأمام خطوةً سريعةً وصافَحَ هولمز بقوَّة.

وقال: «أنت رَجُلٌ مُحترَم، لقد أسأتُ الحُكم عليك، وإني لأحمَدُ الله أنَّ نَدَمي على تَرْك ستونتن المسكين بِمُفردِه تمامًا في هذه المِحْنة قد ساقَني إلى العَودة بِعَربتي مرةً أخرى، ومن ثَمَّ إلى التعرُّف إليك، ما دام لديك هذا القَدْر من المعلومات عن المَوقِف، فإن شرحَهُ سيكون من أسهل ما يكون. قبل سنةٍ من الآن أقام جودفري ستونتن لِمُدَّةٍ في منزلٍ استأجَرَه في لندن وارتَبَط عاطفيًّا بابنة صاحِبَةِ المَنزل وتزوَّجَها، كانتْ فتاةً طيبةً بقدْر ما كانت جميلة، وذكيةً بقدْر ما كانتْ طيبة. ما كان أيُّ رجلٍ ليخجَلَ من زَوجةٍ مثلها، لكن جودفري كان وَريث هذا العجوز الثري السيِّئِ الطباع، وكان من المؤكد جدًّا أنَّ نبأ زَواجِهِ هذا كان من الممكن أن يؤدي إلى حرمانه من ميراثه. كنتُ أعرِف الفتى جيدًا، وكنتُ أحبُّه لمَيزاتِهِ الرائعة الكثيرة، ففعلتُ كلَّ ما أستطيع لمُساعَدَتِه على إبقاء الأمور في وَضعٍ طبيعي، وبَذَلْنا أقصى جُهودنا لإخفاء الأمر عن الجميع، لأنه بِمُجرَّد أن يُهمَس بكلمةٍ عن الموضوع فلن يَطول الوقت قبل أن يعرِف الجميع به. لقد نجح جودفري في ذلك حتى هذه الساعة؛ بفضل هذا الكوخ المعزول، وبفضل حصافته هو نفسه، لم يعرِف بِسرِّهما أحد سوايَ أنا وخادِم مُخلِص ذهب في الوقت الحالي للخِدمة في قرية ترامبينجتن، ولكنَّ مصيبةً مُروِّعةً وقعتْ في نهاية الأمر مُتمثِّلة في مرضٍ خطيرٍ ألمَّ بزوجته، كان دَرَنًا من أخبثِ الأنواع، فكاد الفتى يُجَنُّ بسبب الحُزن، ورغم هذا فقد كان عليه الذَّهاب إلى لندن للَعِبِ هذه المباراة؛ لأنه لم يكن يستطيع الاعتِذار عنها دون تقديم أسبابٍ يُخشى أن تكشِف سِرَّه. لقد حاولتُ التخفيف عنه ببرقية، فردَّ عليَّ بأخرى يُناشِدُني فيها أن أبذُل كلَّ ما أستطيع. كانت هذه هي البرقية التي يبدو أنك — وبطريقةٍ ما لا يُمكن تفسيرها — قد اطَّلَعْتَ عليها. لم أُخبِره كم كان الخطر مُلِحًّا، لأنني كنتُ أعرِفُ أنه لم يكن بِوُسعه عملُ شيءٍ هنا، ولكنِّي أرسلتُ إلى والد الفتاة أُخبِرُه بالحقيقة، فما كان منه إلَّا أن نقَلَها إلى جودفري في طيشٍ شديد، فكانت النتيجة أنْ جاء جودفري من فَوْرِه في حالةٍ تقترِبُ من حافة الجنون، وبقِيَ على الحالة ذاتها، جاثيًا عند نِهاية الفِراش، حتى وضع الموت حدًّا لمُعاناتِها هذا الصباح. هذا هو كلُّ شيءٍ يا سيد هولمز، وأنا على يَقينٍ أنَّني أستطيع الوثوق في رُجحان عَقلِك أنت وصديقك.»

فشدَّ هولمز على يدِ الطبيب.

وقال: «هيا بنا يا واطسون.» فخَرجْنا من البيت الحزين إلى شمس الشتاء الشاحِبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤