الفصل الأول

البداية

في البدء كانت الفيزياءُ. تصف «الفيزياء» سلوك المادة والطاقة والمكان والزمان، وكيفية تفاعلها بعضها مع بعض. وتفاعل هذه الشخصيات في الدراما الكونية الخاصة بنا هو أساس الظواهر البيولوجية والكيميائية جميعها. وعلى هذا يبدأ كل ما هو جوهري ومألوف لنا — نحن الكائنات الأرضية — بقوانين الفيزياء ويعتمد عليها. وحين نطبق هذه القوانين على النطاقات الفلكية فإننا نتعامل مع الفيزياء على مستوى أكبر، وهو ما نطلق عليه الفيزياء الفلكية.

في جميع مناحي البحث العلمي تقريبًا — لا سيما الفيزياء — تقع جبهة الاكتشاف عند أقصى نطاق قدرتنا على قياس الأحداث والمواقف. ففي أكثر نطاقات المادة تطرفًا، كالقرب من أحد الثقوب السوداء، تحني الجاذبية متَّصَل الزمكان المحيط بقوة. وفي أكثر نطاقات الطاقة تطرفًا يغذي الاندماج النووي الحراري نفسه داخل مراكز النجوم البالغة حرارتها ١٥ مليون درجة. وفي كل نطاق متطرف يمكن تخيله نجد الظروف شديدة الحرارة والكثافة التي هيمنت على اللحظات الأولى من عمر الكون. ويتطلب فهم ما حدث في كل من هذه السيناريوهات الاستعانة بقوانين الفيزياء التي اكتُشفت بعد عام ١٩٠٠، إبان ما يسميه الفيزيائيون «العصر الحديث»، وذلك لتمييزه عن العصر الكلاسيكي الذي ضم كل قوانين الفيزياء السابقة.

من الملامح الرئيسية للفيزياء التقليدية أن الأحداث والقوانين والتنبؤات تتسم بالمنطقية عند التفكير فيها، فجميعها اكتُشفت واختُبرت في مختبرات عادية داخل مباني عادية. وإلى اليوم لا تزال قوانين الجاذبية والحركة، وقوانين الكهرباء والمغناطيسية، وطبيعة الطاقة الحرارية وسلوكها تُدَرَّس في صفوف الفيزياء بالمدارس الثانوية. وقد مثَّلت هذه الاكتشافات عن العالم الطبيعي وقود الثورة العلمية، التي غيرت بدورها الثقافة والمجتمع على نحو لم تتخيله الأجيال السابقة، وتظل هذه الاكتشافات أساس ما يحدث في عالم الخبرات اليومية وأسباب حدوثه.

على النقيض لا يوجد شيء منطقي في الفيزياء الحديثة؛ لأن كل شيء فيها يحدث في نطاقات تتجاوز كثيرًا ما تستطيع حواسنا البشرية الاستجابة له. وهذا أمر طيب. ويسعدنا القول إن حياتنا اليومية خالية تمامًا من صور الفيزياء المتطرفة. ففي صباح أي يوم عادي تستيقظ من الفراش، وتسير في أرجاء المنزل، وتأكل شيئًا، ثم تخرج من باب المنزل. وفي نهاية اليوم تتوقع أسرتك ألا يتغير شكلك عما كنت عليه عند مغادرتك، وأن تعود إليهم بجسد سليم. لكن تخيل أنك وصلت إلى العمل، ودلفت لحجرة اجتماعات مفرطة الحرارة لحضور اجتماع مهم يبدأ في العاشرة صباحًا، وفجأة فقدت كل إلكتروناتك، أو أسوأ من ذلك، تطايرت ذرات جسدك في أرجاء المكان. سيكون هذا أمرًا سيئًا. أو افترض بدلًا من ذلك أنك تجلس في حجرة مكتبك محاولًا القيام ببعض العمل تحت ضوء مصباحك المكتبي الذي تبلغ شدة إضاءته ٧٥ واط، وعلى حين غرة يسلط أحدهم عليك ضوءًا بقوة ٥٠٠ واط، ما يتسبب في أن يثب جسدك على نحو عشوائي من حائط إلى حائط، إلى أن تقفز من النافذة. وماذا لو ذهبت لحضور مباراة في مصارعة السومو بعد العمل، لتجد أن المتباريين ذوي الشكل شبه الكروي يرتطمان أحدهما بالآخر، ويفنيان، ويتحولان فورًا إلى شعاعي ضوء يغادر كل منهما القاعة في اتجاه معاكس للآخر؟ أو افترض أنك في طريقك إلى المنزل، وسلكت طريقًا أقل ازدحامًا، لتجد مبنًى مظلمًا يجذبك نحوه، ساحبًا قدميك أولًا، متسببًا في استطالة جسدك من الرأس إلى أصابع القدم، معتصرًا جسدك اعتصارًا وأنت تمر من إحدى فتحاته، لتختفي بعد ذلك من الوجود.

لو أن مثل هذه المشاهد تحدث في حياتنا اليومية، فسنجد الفيزياء الحديثة أقل غرابة بكثير، وكانت معرفتنا بأسس النسبية وميكانيكا الكم ستنبع من خبراتنا الحياتية بشكل طبيعي، ومن المرجح ألا يسمح لنا أحباؤنا بالذهاب للعمل أبدًا. لكن في الدقائق الأولى من عمر الكون حدثت هذه الأمور طوال الوقت. ولتصور المشهد وفهمه لا مناص أمامنا من إرساء شكل جديد من الحس البديهي، وحدس مختلف عن سلوك المادة، وكيفية تفسير قوانين الفيزياء لذلك السلوك في درجات الحرارة والكثافة والضغط القصوى.

علينا أن ندخل عالم المعادلة ط = ك × س٢.
نشر ألبرت أينشتاين أول نسخة من هذه المعادلة الشهيرة للمرة الأولى في عام ١٩٠٥؛ العام الذي نُشر فيه بحثه المبدع بعنوان «عن الديناميكا الكهربائية للأجسام المتحركة» في صحيفة «تاريخ الفيزياء»؛ الصحيفة الألمانية البارزة في الفيزياء. كان هذا هو العنوان الأصلي للبحث، لكنه صار معروفًا أكثر باسم نظرية النسبية الخاصة لأينشتاين، وهي النظرية التي قدمت مفاهيم غيرت إلى الأبد أفكارنا عن المكان والزمان. وقد قدم أينشتاين عام ١٩٠٥ — وكان عمره وقتها ٢٦ عامًا ويعمل موظفًا لبراءات الاختراع في برن بسويسرا — المزيد من التفاصيل، بما في ذلك معادلته الأشهر، التي أوردها في ورقة بحثية أخرى شديدة القصر (لم تتعدَّ الصفحتين والنصف)، والمنشورة في وقت لاحق من العام نفسه، في الصحيفة نفسها، بعنوان «هل يعتمد القصور الذاتي للجسم على محتواه من الطاقة؟» ولنجنبك عناء العثور على المقال الأصلي، وتصميم التجربة، ومن ثم اختبار نظرية أينشتاين، نخبرك أن الإجابة عن السؤال المطروح في عنوان المقال هي «نعم». وكما كتب أينشتاين:
إذا أطلق الجسم الطاقة ط في صورة إشعاع، فإن كتلته تتناقص بمقدار ط/س٢ … إن كتلة الجسم مقياس لمحتواه من الطاقة، وإذا تغيرت الطاقة بالقدر ط، تتغير الكتلة بنفس الطريقة.
وبسبب عدم تيقنه من صحة تصريحه هذا فقد اقترح بعد ذلك أنه:

ليس من المستحيل مع الأجسام ذات محتوى الطاقة المتغير بدرجة كبيرة (مثل أملاح الراديوم) أن يُجرى اختبار النظرية بنجاح. (من كتاب ألبرت أينشتاين «مبدأ النسبية»، ترجمة دابليو بيريت وجي بي جيفري (لندن: ميثوين آند كومباني، ١٩٢٣) ص٦٩–٧١.)

الآن صرنا نملك كل ما نحتاج؛ الوصفة الجبرية لكل موقف نريد فيه تحويل المادة إلى طاقة أو الطاقة إلى مادة. فمعادلة ط = ك × س٢، أو الطاقة تساوي الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء، تمدنا بأداة حسابية فائقة القوة تعزز من قدرتنا على معرفة الكون وفهمه انطلاقًا مما هو عليه الآن، رجوعًا بالزمن إلى الوراء حتى كسر بسيط من الثانية بعد مولد الكون. ومن خلال هذه المعادلة يمكننا معرفة كم الطاقة المشعة الذي يمكن لأي نجم إنتاجه، أو كم الطاقة الذي يمكن أن تحصل عليه لو حولت العملات المعدنية في جيبك إلى أشكال مفيدة من الطاقة.
الفوتون هو الشكل الأكثر شهرة من أشكال الطاقة، وهو موجود في كل مكان حولنا، مع أن العقل دائمًا لا يدركه أو يميزه، وهو جسيم عديم الكتلة غير قابل للتقسيم من الضوء المرئي، أو من أي شكل آخر من أشكال الإشعاع الكهرومغناطيسي. إننا نعيش وسط سيل متواصل من الفوتونات؛ القادمة من الشمس، والقمر، والنجوم، والمنبعثة من موقدك، وثريا منزلك، ومصباح الإضاءة الليلي، خلاف تلك الآتية من مئات المحطات الإذاعية والتليفزيونية، ومن عدد لا حصر له من الهواتف المحمولة والرادارات. لماذا إذن لا نشهد بأعيننا التحول اليومي للطاقة إلى مادة، أو للمادة إلى طاقة؟ إن طاقة الفوتونات العادية أقل بكثير من كتلة أقل الجسيمات دون الذرية الضخمة، وذلك عند تحويلها لطاقة باستخدام المعادلة ط = ك × س٢. ولأن هذه الفوتونات لا تحمل سوى قدر ضئيل من الطاقة لا يمكنها من التحول إلى أي شيء آخر، فهي تعيش حياة بسيطة نسبيًّا وخالية من الأحداث المهمة.
هل تشتاق لبعض النشاط باستخدام المعادلة ط = ك × س٢؟ ابدأ في قضاء الوقت إلى جوار فوتونات أشعة جاما، التي تتمتع ببعض الطاقة الحقيقية، قدر فوتونات الضوء المرئي ﺑ ٢٠٠ ألف مرة على الأقل. سريعًا ما ستمرض وتموت بالسرطان، لكن قبل أن يحدث هذا سترى أزواجًا من الإلكترونات، يتكون الزوج منها من إلكترون للمادة العادية وآخر للمادة المضادة (وهذا مجرد واحد من ثنائيات الجسيمات والجسيمات المضادة العديدة النشطة في الكون)، وهي تظهر للوجود في المكان الذي وُجدت فيه الفوتونات في وقت من الأوقات. في الوقت نفسه سترى أزواجًا من إلكترونات المادة والمادة المضادة وهي تتصادم، مفنية بعضها بعضًا، مطلقة فوتونات أشعة جاما مجددًا. وإذا زدت طاقة الفوتونات بألفي ضعف، فستكون لديك أشعة جاما بها ما يكفي من الطاقة لتحويل البشر مرهفي الحس إلى عمالقة خضر. تملك أزواج هذه الفوتونات طاقة كافية، تفسرها المعادلة ط = ك × س٢ بالكامل، لتخليق جسيمات مثل النيوترونات والبروتونات ونظيراتها من المادة المضادة، وكل واحد منها أكبر في الكتلة بحوالي ألفي مرة من الإلكترون. لا توجد الفوتونات عالية الطاقة في أي مكان كيفما اتفق، بل توجد في العديد من البوتقات الكونية. وفيما يتعلق بأشعة جاما فأي بيئة حرارتها أعلى من بضعة ملايين درجة تعد مناسبة تمامًا.
إن لحزم الطاقة والجسيمات التي تحول نفسها من شكل لآخر أهمية بالغة على مستوى الكون. وفي الوقت الحالي تبلغ درجة حرارة كوننا المتمدد — التي جرى التوصل إليها من خلال فيض الفوتونات الميكرونية المنتشرة في الفضاء — ٢٫٧٣ درجة كلفينية وحسب. (على مقياس كلفن كل درجات الحرارة موجبة، وتملك الجسيمات أقل درجة حرارة ممكنة وتبلغ صفرًا، في حين تبلغ درجة حرارة الغرفة حوالي ٢٩٥ درجة، أما درجة غليان المياه فهي ٣٧٣ درجة.) ومثل فوتونات الضوء المرئي، فإن الفوتونات الميكرونية باردة للغاية بدرجة تمنعها من تحويل نفسها إلى جسيمات من خلال المعادلة ط = ك × س٢. بعبارة أخرى، لا توجد جسيمات معروفة لها كتلة منخفضة تتيح لها أن تتكون من الطاقة الهزيلة التي تحملها الفوتونات الميكرونية. الأمر عينه ينطبق على الفوتونات المؤلفة لموجات الراديو، والأشعة تحت الحمراء، والضوء المرئي، إلى جانب الأشعة فوق البنفسجية والأشعة السينية. باختصار، تتطلب جميع عمليات تحول الجسيمات من المادة لطاقة والعكس إلى أشعة جاما. بالأمس، كان الكون أصغر وأشد حرارة مما هو عليه اليوم. وأول أمس، كان أصغر من ذلك وأشد حرارة. وإذا عدنا بالزمن إلى الوراء، لنقل ١٣٫٧ مليار عام، فسنجد أنفسنا في الحساء البدائي التالي لوقوع الانفجار العظيم، وقت أن كانت حرارة الكون مرتفعة بما يكفي كي تثير اهتمامنا من منظور الفيزياء الفلكية؛ حين كانت أشعة جاما تملأ الكون بأسره.

يعد فهمنا لسلوك المكان والزمان والمادة والطاقة منذ الانفجار العظيم إلى يومنا هذا أحد أعظم انتصارات الفكر البشري. وإذا أردنا الحصول على تفسير كامل للأحداث التي وقعت في اللحظات المبكرة من عمر الكون، حين كان الكون أصغر وأشد حرارة من أي وقت آخر بعد ذلك، علينا أن نعثر على وسيلة تمكن قوى الطبيعة الأربع المعروفة — الجاذبية والكهرومغناطيسية والقوتين النوويتين القوية والضعيفة — من التحدث بعضها إلى بعض، وأن تتحد وتصير قوة واحدة فائقة. علينا أيضًا أن نجد سبيلًا للتوفيق بين فرعي الفيزياء غير المتوافقين في وقتنا الحالي: ميكانيكا الكم (علم الجسيمات الصغيرة)، والنسبية العامة (علم الأجسام الكبيرة).

•••

عمد الفيزيائيون، مدفوعين بالتزاوج الناجح بين ميكانيكا الكم والكهرومغناطيسية في أواسط القرن العشرين، إلى المزج بين ميكانيكا الكم والنسبية العامة في نظرية واحدة مترابطة للجاذبية الكمية. ومع أن كل هذه الجهود باءت بالفشل إلى وقتنا هذا، فإننا نعرف بالفعل موضع العوائق الرئيسية التي تحول دون هذا الهدف: إبان «زمن بلانك»؛ ونعني بهذا الفترة الكونية الممتدة حتى عمر ١٠−٤٣ ثانية (أي واحد على عشرة مليون تريليون تريليون تريليون من الثانية) بعد بداية الكون. ولأنه يستحيل أن تنتقل المعلومات بسرعة تفوق سرعة الضوء، البالغة ٣ × ١٠٨ أمتار في الثانية، يستحيل على أي مراقب افتراضي موجود في أي مكان في الكون إبان زمن بلانك أن يرى أبعد من مسافة ٣ × ١٠−٣٥ مترًا (أي ثلاثمائة جزء من مليار تريليون تريليون من المتر). كان الفيزيائي الألماني ماكس بلانك — الذي سميت باسمه تلك الأزمنة والمسافات الضئيلة إلى حد يستحيل تخيله — هو من قدم فكرة الطاقة الكمية في عام ١٩٠٠، وهو يوصف بأبي ميكانيكا الكم.

لكن لا داعي للقلق، ما دامت الحياة اليومية مستمرة. فالتعارض بين ميكانيكا الكم والجاذبية لا يفرض أيَّ مشكلة أمام الكون في الوقت الحالي. والفيزيائيون الفلكيون يطبقون مبادئ وأدوات النسبية العامة وميكانيكا الكم على فئات مختلفة تمامًا من المشكلات. لكن في البداية، إبان زمن بلانك، كان الكبير صغيرًا؛ لذا من المؤكد وجود نوع من التزاوج السريع بين الاثنين وقتها. لكن بكل أسف لا تزال التعهدات المتبادلة بين الطرفين أثناء الاحتفال تراوغنا، ومن ثم لا توجد أي قوانين (معروفة) للفيزياء تصف بأي قدر من الثقة الطريقة التي تصرف بها الكون خلال شهر العسل القصير هذا، قبل أن يحتم تمدد الكون حدوث الانفصال بين ما هو كبير للغاية وما هو صغير للغاية.

في نهاية زمن بلانك حررت الجاذبية نفسها من القوى الأخرى، التي ظلت حتى حينها القوى الموحدة للطبيعة، محقِّقَة لنفسها هوية مستقلة تصفها نظرياتنا الحديثة بدقة. مع تجاوز الكون عمر ١٠−٣٥ ثانية، استمر في التمدد وفقدان الحرارة، وانفصم ما تبقَّى من القوى التي كانت من قبل متَّحِدة إلى شقين: القوة النووية القوية، والقوة الكهروضعيفة. وفي وقت لاحق انقسمت القوة الكهروضعيفة بدورها إلى القوة الكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة، وهو ما خلف لنا أربع قوى مألوفة متمايزة؛ حيث تتحكم القوة النووية الضعيفة في التحلل الإشعاعي، والقوة النووية القوية هي المسئولة عن ربط الجسيمات بعضها ببعض داخل نواة الذرة، والقوة الكهرومغناطيسية تربط الذرات معًا داخل الجزيئات، بينما تربط الجاذبية المادة بعضها مع بعض في أحجام كبيرة. حين بلغ عمر الكون واحدًا على التريليون من الثانية، كانت قواه المتحولة، إلى جانب أحداث أخرى حاسمة، قد صبغته بسماته الجوهرية، وكل واحدة منها تستحق كتابًا خاصًّا بها.

مع مرور الوقت ببطء في أعقاب أول واحد على التريليون من الثانية من عمر الكون استمر التفاعل المتبادل بين المادة والطاقة دون توقف. فمنذ وقت يسير أثناء وبعد انفصال القوة النووية القوية عن القوة الكهروضعيفة، احتوى الكون على محيط هائج من الكواركات واللبتونات ونظيراتها من المادة المضادة، إضافة إلى البوزونات، وهي الجسيمات التي تمكن الجسيمات الأخرى من التفاعل بعضها مع بعض. وعلى حد علمنا اليوم لا يمكن لأي واحدة من عائلات الجسيمات هذه أن تنقسم إلى وحدات أصغر أو أبسط. لكن مع أن هذه العائلات تمثل البنى الجوهرية للمادة، فإن كل واحدة منها تأتي في فصائل متعددة. فالفوتونات، بما فيها فوتونات الضوء المرئي، تنتمي لعائلة البوزونات. أما اللبتونات فمعروفة لدى غير الفيزيائيين بالإلكترونات و(ربما) النيوترينوات، أما الكواركات المألوفة فهي … حسن، لا توجد كواركات مألوفة؛ لأننا في الحياة العادية نجد الكواركات مرتبطة بعضها مع بعض في جسيمات على غرار البروتونات والنيوترونات. مُنحت كل عائلة من الكواركات اسمًا مجردًا لا يخدم أي هدف لغوي أو فلسفي أو تعليمي سوى تمييزها بعضها عن بعض، وهذه الأسماء هي: «العلوي» و«السفلي»، و«الغريب» و«الساحر»، و«القمي» و«القاعي».

البوزونات، بالمناسبة، مسماة على اسم الفيزيائي الهندي ساتيندراناث بوز. أما كلمة «اللبتون» فمشتقة من كلمة يونانية بمعنى «خفيف» أو «صغير». وكلمة «الكوارك» لها أصول أدبية إبداعية. فقد اشتق الفيزيائي الأمريكي موراي جيلمان — الذي افترض عام ١٩٦٤ وجود الكواركات، وكان يظن وقتها أن عائلة الكواركات تضم ثلاثة أفراد وحسب — اسم هذه الجسيمات من إحدى العبارات المحيرة الشائعة في قصيدة جيمس جويس «صحوة فينيجان» التي كانت تقول: “Three quarks for Muster Mark!”. وإحدى المزايا التي يمكن نسبتها للكواركات هي أنها تحمل أسماءً بسيطة، وهو ما يبدو أن الكيميائيين والبيولوجيين والجيولوجيين عاجزون عن فعله عند تسمية الأشياء في مجالاتهم.
للكواركات سمات خاصة؛ فعلى العكس من البروتونات، التي تحمل شحنة كهربية موجبة قدرها +١، والإلكترونات التي تحمل شحنة سالبة قدرها −١، للكواركات شحنات جزئية تأتي في وحدات قدرها ١ / ٣. وباستثناء أكثر الظروف تطرفًا يستحيل عليك أن تمسك بأحد الكواركات منفردًا؛ إذ إنه سيكون دومًا ملتصقًا بكوارك أو اثنين آخرين. في الحقيقة، إن القوة التي تُبقي على كل اثنين (أو أكثر) من الكواركات معًا تزداد في الشدة عند محاولة الفصل بينهما، كما لو أن الكواركات مربوطة بعضها مع بعض بنوع من الرباط المطاطي دون الذري. وإذا فصلت بين الكواركات بقوة كافية ينقطع الرباط المطاطي، ثم تخلِّق الطاقة المختزنة في الرباط الممدود، وفق المعادلة ط = ك × س٢، كواركًا جديدًا في كل طرف، وبهذا نعود من حيث بدأنا.

خلال فترة الكواركات-اللبتونات في أول جزء على التريليون من عمر الكون، تمتع الكون بكثافة كافية جعلت متوسط المسافة الفاصلة بين الكواركات الحرة مساويًا لمقدار المسافة بين الكواركات المرتبطة. وفي ظل هذه الظروف لم يكن ولاء الكواركات المتجاورة تامًّا؛ لذا تنقَّلت الكواركات بحرِّيَّة بعضها بين بعض. أُعلن الاكتشاف التجريبي لهذه الحالة للمادة، والمسماة على نحو مفهوم ﺑ «حساء الكواركات»، لأول مرة عام ٢٠٠٢ على يد فريق من الفيزيائيين العاملين في مختبرات بروكهافن الوطنية في لونج أيلاند.

إن مزيجًا من الملاحظة والفكر النظري يشير إلى أن حدثًا ما وقع بعد بداية الكون بفترة بسيطة، ربما أثناء إحدى عمليات الانفصال بين أنواع القوى المختلفة مُنِحَ الكون قدرًا ملحوظًا من عدم التناظر، زادت بموجبه جسيمات المادة عن جسيمات المادة المضادة بمقدار جسيم واحد في المليار، وهو الفارق الذي سمح بوجودنا اليوم. لم يكن بالإمكان تقريبًا ملاحظة هذا الفارق الطفيف في تعداد الجسيمات وسط عمليات تكون الكواركات والكواركات المضادة، والإلكترونات والإلكترونات المضادة (المعروفة بالبوزيترونات)، والنيوترينوات والنيوترينوات المضادة، وفنائها وتكونها من جديد. وإبان هذه الفترة سنحت فرص عديدة أمام الجسيم الزائد — تلك الزيادة الطفيفة للمادة على المادة المضادة — كي يجد جسيمات أخرى يفنى معها، وهو ما حدث بالفعل مع جميع الجسيمات الأخرى.

لكن ليس لوقت طويل، فمع استمرار الكون في التمدد والبرودة انخفضت درجة حرارته بسرعة لما دون التريليون درجة كلفينية. مرَّ جزء على المليون من الثانية الآن على بداية الكون، ولم يعد ذلك الكون الفاتر يملك الحرارة أو الكثافة الكافيتين لطهي الكواركات. وسرعان ما انجذبت الكواركات كلها بعضها إلى بعض، مكونة عائلة جديدة دائمة من الجسيمات الثقيلة تسمى الهادرونات (المشتقة من كلمة يونانية بمعنى «غليظ»). وسريعًا أنتج هذا التحول من الكواركات إلى الهادرونات كلًّا من البروتونات والنيوترونات، إلى جانب أنواع أخرى أقل شهرة من الجسيمات الثقيلة، وجميعها تتألف من تجميعات متباينة من الكواركات. لقد انتقل عدم التناظر البسيط بين المادة والمادة المضادة في الكواركات-اللبتونات إلى الهادرونات، وهو ما حمل تبعات مذهلة.

مع برودة الكون قلَّ مقدار الطاقة المتاح لعملية التكون التلقائي للجسيمات باطراد. وإبان فترة الهادرونات لم يعد باستطاعة الفوتونات الاعتماد على المعادلة ط = ك × س٢ لتصنيع أزواج من الكواركات والكواركات المضادة؛ إذ لم تعد طاقاتها تكفي لتغطية الكتلة المضروبة في سرعة الضوء لتلك الأزواج. إضافة إلى ذلك استمرت الفوتونات التي ظهرت للوجود نتيجة عمليات الإفناء المتبقية في فقدان الطاقة لمصلحة الكون دائم التمدد، وبهذا قلَّت طاقاتها في نهاية المطاف إلى أقل من المستوى المطلوب لتخليق أزواج الهادرونات-الهادرونات المضادة. خلفت كل مليار عملية إفناء مليارًا من الفوتونات، في حين نجا هادرون وحيد، كشاهد صامت على الزيادة الطفيفة للمادة على المادة المضادة في فترة الكون المبكر. وفي النهاية ستحظى تلك الهادرونات المنفردة بكل المتعة التي يمكن أن تستمتع بها المادة؛ إذ ستنشأ المجرات والنجوم والكواكب والبشر منها.

من دون هذا الخلل في التوازن بين جسيمات المادة والمادة المضادة البالغ مليارًا وواحدًا إلى مليار، كانت كتلة الكون بأسرها (باستثناء المادة المظلمة التي يظل تكوينها مجهولًا) ستفنى قبل مرور ثانية وحيدة من عمر الكون، تاركة لنا كونًا لا نرى فيه (لو كان لنا وجود وقتها) سوى الفوتونات ولا شيء آخر؛ وهذا هو السيناريو الأساسي لوجود الضوء.

بحلول ذلك الوقت كانت قد مرت ثانية واحدة من عمر الكون.

في درجة حرارة قدرها مليار درجة كان الكون حارًّا بدرجة كبيرة، ولا يزال قادرًا على طهي الإلكترونات التي تواصل الظهور للوجود والاختفاء، إلى جانب نظيراتها من البوزيترونات (المادة المضادة). لكن مع استمرار الكون في التمدد والبرودة صارت أيامها (ثوانيها في الواقع) معدودة. وما انطبق قبل ذلك على الهادرونات بات ينطبق على الإلكترونات والبوزيترونات؛ إذ بدأت في إفناء بعضها بعضًا، مع بقاء إلكترون وحيد من كل مليار، هو الناجي الوحيد من عملية الانتحار الجماعي للمادة والمادة المضادة. أما بقية الإلكترونات والبوزيترونات فقد فنيت لتغمر الكون ببحر أعظم من الفوتونات.

مع انتهاء مرحلة فناء الإلكترونات-البوزيترونات «جمد» الكون إلكترونًا واحدًا لكل بروتون. ومع استمرار برودة الكون، وهبوط درجة حرارته إلى ما تحت المائة مليون درجة، اندمجت البروتونات مع غيرها من البروتونات والنيوترونات، مكونة أنوية الذرات ومتمخضة عن كون ٩٠ بالمائة من أنوية ذراته هي أنوية لذرات هيدروجين و١٠ بالمائة أنوية لذرات هيليوم، إلى جانب نسبة طفيفة من أنوية ذرات الديوتيريوم والتريتيوم والليثيوم.

مرت دقيقتان الآن على لحظة البداية.

على مدار ٣٨٠ ألف عام تالية لم يحدث الكثير لحساء الجسيمات المكون من أنوية الهيدروجين والهيليوم والإلكترونات والفوتونات. وخلال تلك الآلاف من السنوات ظلت حرارة الكون مرتفعة بما يكفي كي تتجول الإلكترونات بحرية بين الفوتونات، مطيحة بها جيئةً وذهابًا.

وكما سنوضح بتفصيل أكبر في الفصل الثالث انتهت فترة الحرية هذه بصورة مباغتة حين هبطت حرارة الكون إلى ما تحت الثلاثة آلاف درجة كلفينية (حوالي نصف درجة حرارة سطح الشمس). في ذلك الوقت تقريبًا كانت الإلكترونات كلها تدور في مدارات حول الأنوية، مكونة الذرات. ترك تزاوجُ الإلكترونات بالأنوية الذراتِ المتكونةَ حديثًا وسط فيض شامل من فوتونات الضوء المرئي، وهو ما أكمل قصة تكون الجسيمات والذرات في الكون البدائي.

ومع استمرار الكون في التمدد واصلت الفوتونات فقدان الطاقة. وفي كل اتجاه ينظر فيه الفيزيائيون الفلكيون اليوم يجدون بصمة كونية للفوتونات الميكرونية البالغة حرارتها ٢٫٧٣ درجة كلفينية، التي تمثل انخفاضًا بمقدار ألف مرة في طاقة الفوتونات عن الوقت الذي تكونت فيه الذرات للمرة الأولى. إن أنماط الفوتونات في السماء — مقدار الطاقة الدقيق الذي يصل من جميع الاتجاهات — يحتفظ بذكرى التوزيع الكوني للمادة قبيل تكون الذرات تمامًا. ومن هذه الأنماط يستطيع الفيزيائيون الفلكيون اكتساب معارف مذهلة؛ بما فيها عمر الكون وشكله. ومع أن الذرات الآن تشكل جزءًا من الحياة اليومية للكون، فإن معادلة أينشتاين لا يزال أمامها الكثير من العمل لتقوم به، وذلك في معجلات الجسيمات، حيث تُخلَّق جسيمات المادة والمادة المضادة على نحو روتيني من مجالات الطاقة؛ وفي قلب الشمس، حيث يتحول ٤٫٤ ملايين طن من المادة إلى طاقة كل ثانية؛ وفي قلوب النجوم الأخرى جميعها.

تنطبق المعادلة ط = ك × س٢ بالقرب من الثقوب السوداء أيضًا، خارج أفق الحدث الخاص بها مباشرة، حيث يمكن أن تظهر أزواج المادة والمادة المضادة للوجود على حساب طاقة الجذب المرعبة للثقب الأسود. كان عالم الكونيات البريطاني ستيفن هوكينج هو أول من وصف ذلك التزاوج الصاخب في عام ١٩٧٥، مبينًا أن الكتلة الكلية للثقب الأسود يمكن أن تتبخر ببطء بفعل هذه الآلية. بعبارة أخرى، ليست الثقوب السوداء سوداء بالكامل. تُعرف هذه الظاهرة باسم إشعاع هوكينج، وهي تذكير بالفعالية المستمرة لأشهر معادلات أينشتاين.

لكن ما الذي حدث «قبل» هذا الهياج الكوني الهائل؟ ما الذي حدث قبل البداية؟

ليست لدى الفيزيائيين الفلكيين أي فكرة. بل إن أغلب أفكارنا الإبداعية ليست مبنية إلا على أقل القليل من الأساس العلمي التجريبي، إن كان هناك أساس أصلًا. يؤكد البعض — بمسحة من الرضا — أن شيئًا ما لا بد أنه بدأ كل هذا؛ قوة أعظم من بقية القوى؛ مصدر جاء منه كل شيء آخر؛ محرك أساسي. في عقول المتدينين هذه القوة هي بالطبع القوة الإلهية، التي تتباين طبيعتها من مؤمن لآخر، لكن تُعزى إليها دومًا مسئولية بدء كل شيء.

لكن ماذا لو كان الكون موجودًا طوال الوقت، في حالة أو وضع لم نحدده بعد؛ كون متعدد على سبيل المثال يكون فيه كل ما نطلق عليه اسم الكون ليس إلا فقاعة ضئيلة في محيط يمتلئ بفقاعات كفقاعات الصابون؟ أو ماذا لو أن الكون، مثل جسيماته، ظهر للوجود بغتة من لا شيء يمكن رؤيته؟

لا ترضي مثل هذه الأجوبة أحدًا. ومع هذا فهي تذكرنا بأن الجهل المستنير هو الحالة الطبيعية لعقول العلماء الباحثين عند حدود المعرفة دائمة التغير. إن مَن يؤمنون بأنهم لا يجهلون شيئًا لم يبحثوا بعدُ عن الحد الفاصل بين المعروف والمجهول في الكون أو لم يعثروا عليه، ومن هنا تنبع مفارقة مدهشة. فالجواب «الكون موجود على الدوام» لا يحظى بالاحترام الكافي كجواب منطقي للسؤال: «ماذا كان يوجد قبل البداية؟» لكن للكثيرين تكون الإجابة «القوة الغيبية البادئة للكون موجودة على الدوام» إجابة بديهية ومرضية للسؤال «ماذا كان يوجد قبل هذه القوة؟»

بصرف النظر عما تعتقده فانخراطك في السعي لاكتشاف أين وكيف بدأ كل شيء يمكن أن يستثير بداخلك بعض الحماس، كما لو أن معرفتك بالبدايات سوف تلقي على عاتقك نوعًا من عبء مواكبة كل ما سيحدث، أو ربما السيطرة عليه. وما ينطبق على الحياة ينطبق على الكون أيضًا؛ فمعرفة من أين أتينا لا تقل في الأهمية عن معرفة إلى أين نحن ذاهبون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤