حياة أحد الحمقى

إلى الصديق ماساو كومِه:١

إنني أفوِّضك تمامًا في وقت ومكان نشر هذه المخطوطة، وبالطبع أفوِّضك في نشرها أو عدم نشرها من الأصل، على الأرجح أنت على علم بأغلب المذكورين في هذه المخطوطة، ولكن حتى لو نشرتها، أريد منك عدم وضع هوامش.

إنني أعيش الآن في «سعادة مُنتهى التعاسة»، ولكن العجيب أنني لستُ نادمًا، ولكنني فقط أشعر بالأسى لمن كنتُ لهم بئس الزوج، وبئس الابن، وبئس الأب. الوداع. إنني على الأقل لم أتعمَّد الدفاع عن نفسي بوعي في هذه المخطوطة.

وأخيرًا أعتقد أن سبب ائتماني لك أنت بالذات على هذه المخطوطة، أنني أعتقِد أنك تعرفني أكثر من أي شخص آخر. أرجو منك (إن استطعت فقط نزع القشرة الخارجية للإنسان المدائني) أن تضحك نوعًا ما، على مقدار حماقتي في هذه المخطوطة.

ريونوسكيه أكوتاغاوا
(العشرون من الشهر السادس للعام الثاني من عصر شوا [٢٠ / ٦ / ١٩٢٧م])

(١) عصر

في الطابق الثاني من مكتبة لبيع الكتب، صعد الأحمق٢ ذو العشرين ربيعًا فوق سُلَّم غربي الطراز معلَّق على رفوف الكتب ليبحث عن جديد الكتب. موباسان، بودلير، ستريندبرغ، إبسن، شو، تولستوي …

وأثناء ذلك اقتربت الشمس من الغروب، ولكنه استمر يقرأ بشغف حروف ظهر الكتب. لم تكن الكتب هي التي تراصَّت هناك، بل على العكس نستطيع القول إنها ثقافة نهاية القرن ذاته. نيتشه، فرلين، الأخان غونكور، دوستويفسكي، هاوبتمان، فلوبير …

أخذ يحصي أسماءهم وهو يُصارع الظلام، ولكن بدأت الكتب نفسها تسقط داخل ظلالها الكئيبة، وأخيرًا استنفد قوة احتماله وكان على وشك النزول من فوق السلم الغربي، وعندها أُضيئت فجأة إحدى لمبات الضوء التي بلا طربوش، فوق رأسه مباشرة. ظل واقفًا كما هو فوق السلم يُطالع من أعلى العاملين والزبائن الذين يتحركون بين الكتب. كانوا يبدون في حجم صغير بدرجة مريبة. ليس هذا فقط، بل كان منظرُهم في غاية البؤس.

ظلَّ الأحمق لفترة ينظر إلى هؤلاء الناس من فوق السلم وهو يفكر: «إن الحياة لا تُعادل سطرًا واحدًا كتبه بودلير.»

(٢) أم

لبس المجاذيب جميعًا ملابس بلون فئراني، وبسبب ذلك بدت الغرفة الواسعة أكثر كآبة.

يجلس أحدهم قبالة آلة الأرغن ويستمر في عزف أناشيد التمجيد بحماس، وفي نفس الوقت يقف فرد آخر منهم في منتصَف الغرفة تمامًا ويدور في الغرفة يقفز قفزًا أكثر منه رقصًا.

كان الأحمق يتأمَّل ذلك المشهد مع طبيب تبدو على وجهه علامات الصحة الجيدة. منذ عشرة أعوام كانت أم الأحمق لا تختلف عنهم شيئًا ولو قليلًا، ولو قليلًا … في الواقع لقد كان يشعر في روائحهم برائحة أمه.

«هيا بنا نذهب.»

قاده الطبيب وذهب به إلى غرفة ما في الممر. في ركن من أركان تلك الغرفة، عدد من القناني الزجاجية الكبيرة مُمتلئة بالكحول، وداخل كل منها مخ مغمور. لقد اكتشف الأحمق شيئًا خفيفًا أبيض فوق مخ منهم. كان بالضبط شيئًا يشبه قليلًا من بياض بيضة مسكوب. تذكر الأحمق أمه مرة أخرى وهو يحاور الطبيب واقفًا.

«كان صاحب هذا المخ مهندسًا في شركة كهرباء xx، وكان دائمًا يعتقد أن ذاته دينامو كبير يشع شعاعًا أسود.»

من أجل أن يتفادى الأحمق عين الطبيب تأمَّل المنظر خارج النافذة، ليس هناك إلا السور المبني من الطوب غُرست فوقه قطع زجاج مكسور، ولكنه بدا ضبابيًّا ومبيضًا بنقاط فطر عفن دائرية.

(٣) بيت

كان الأحمق ينام ويصحو في غرفة بالطابق الثاني في ضاحية من الضواحي، كان ذلك الطابق الثاني مائلًا قليلًا بسبب رخاوة طبقات الأرض.

كانت خالته تتعارَك معه مرة بعد مرة في ذلك الطابق الثاني. ولم يعدم الأمر أن يتوسط بينهما خاله وزوجة خاله اللذان تبنَّياه، ولكن كان الأحمق يشعر بالحب تجاه خالته أكثر من أي شخص آخر. عندما كان هو في العشرين من عمره كانت خالته التي ظلت طوال عمرها بلا زواج تقترب بالفعل من الستين من العمر.

كان الأحمق يفكر مرات كثيرة وهو في الطابق الثاني من بيت في ضاحية من الضواحي، تُرى هل قدر المتحابَّين أن يعذب كل منهما الآخر؟ وهو يشعر أثناء ذلك بميل الطابق الثاني ميلًا ضئيلًا مُثيرًا للغثيان.

(٤) طوكيو

كان نهر سوميدا غائمًا غيمًا شديدًا، يتأمَّل الأحمق من نافذة المركب البخاري الصغير، أزهار الكرز في حي موكوجيما. كانت أشجار الكرز التي امتلأت بالأزهار تنعكس في عين الأحمق كئيبة مثل صف من الملابس الرثَّة، ولكن اكتشف الأحمق في ذلك الكرز — أي في كرز موكوجيما الموجود منذ عصر إيدو — ذاته فجأة.

(٥) الأنا

كان الأحمق يجلس على إحدى الموائد في مقهى مع صديق يكبره،٣ وينفث دخان سجائره بلا انقطاع، ولم يكن يَفتح فمه بالحديث كثيرًا، ولكنه كان يَستمِع بحماس إلى حديث صديقه الأكبر.

«لقد ركبت اليوم السيارة لمدة نصف يوم.»

«وهل كان لديك مهمَّة ما؟»

ظل زميله الأكبر سنًّا يسند خدَّه على ذراعه كما هو، ثم أجاب إجابة في منتهى العشوائية قائلًا: «ماذا! لقد كنت راكبًا السيارة فقط.»

قادت تلك الكلمات الأحمق إلى عالم مجهول … لقد تحرَّر الأحمق نفسه إلى عالم «الأنا» القريب من الآلهة، ثم أحسَّ بالألم، ولكن في نفس الوقت، أحس كذلك بالسرور.

كان ذلك المقهى صغير الجحم جدًّا، ولكن كانت شجرة مطَّاط زُرعت في أصيص أحمر أسفل جبهة الإله بان، تُدلِّي بأوراقها السميكة لأسفل.

(٦) مرض

فتح الأحمق معجم اللغة الإنجليزية الكبير وسط رياح البحر التي لا تتوقَّف، وأخذ يبحث عن الكلمات بأنامله.

  • Talaria: حذاء ذو أجنحة، أو صندل.
  • Tale: قصة.
  • Talipot: شجر نخيل يُزرع في الهند الشرقية، يبلغ ارتفاع جذعه من ١٥ إلى ١٠٠ قدم، ويُستخدَم سعفه في صنع المظلات والمراوِح والقبعات، وتتفتح زهوره مرة كل ٧٠ عامًا.

رسم خيال الأحمق زهرة النخيل تلك بوضوح، وعندها شعر بحكة في حلقه لم يشعر بها من قبل، فسقط بلغم بلا إرادة منه فوق المعجم. بلغم؟ … ولكن لم يكن ذلك بلغمًا. تخيل الأحمق زهرة النخيل تلك مرة أخرى وهو يفكر في قِصر الحياة، زهرة النخيل التي تشمخ عالية على الجهة الأخرى من ذلك البحر البعيد.

(٧) لوحة

وقف الأحمق فجأة … كان ذلك فجأة حقًّا، أمام محل لبيع الكتب، وأثناء رؤيته لمجموعة لوحات فان غوخ، فهم فجأة ماذا تعني اللوحة الفنية، وبالتأكيد ما من شك أن مجموعة لوحات غوخ تلك كانت نسخًا مصورة، ولكنه أحس بالطبيعة التي تبدو بارزة زاهية، وواضحة داخل تلك النسخ المصورة.

جدد شغف الأحمق تجاه تلك اللوحات أُفقه، لقد وزع انتباهه المتواصل بلا انقطاع تجاه أغصان الأشجار الملتوية وتجاه خدود المرأة المنتفخة.

في غروب شمس خريف ممطر، مرَّ الأحمق من طريق يمرُّ أسفل سكة قطار في إحدى الضواحي.

وعلى الجهة الثانية من السكة الحديدية تقف عربة نقل أمتعة تجرها أحصنة أسفل ضفة نهر، مرَّ من هناك وهو يشعر بأن شخصًا ما في الماضي قد مر أيضًا من هذه الطريق. مَن؟ … لم يكن ثمة ضرورة الآن لكي يسأل نفسه بنفسه، في داخل قلب الأحمق ذي الثالثة والعشرين ربيعًا، هولندي قطع أذنه يُصوِّب نظرات حادة من عينيه على تلك اللوحة الطبيعية الكئيبة وهو يضع غليونًا طويلًا في فمه …

(٨) شرارة

مشى الأحمق يطأ الأسفلت بقدمه وقد بلَّله المطر، كانت أمطارًا عنيفة جدًّا، شعر الأحمق وسط رذاذ المطر برائحة معطف مطاطي.

وعندها انطلقت أمام عينَيه شرارة بنفسجية من السلك الكهربائي العالي للقطار، شعر أن مشاعره تأثَّرت بريبة، وكان يُخفي في جيب معطفه مخطوطة عمل سينشره في المجلة التي يصدرها مع أصدقائه، نظر الأحمق لأعلى خلفه مرة أخرى وسط المطر إلى السلك الكهربائي.

كان السلك الكهربائي كما هو يُطلق شرارات بنفسجية. مهما نظر في حياته، لا يعثر على شيء يريد الحصول عليه بصفة خاصة، ولكنه فقط كان يريد الإمساك بتلك الشرارة بنفسجية اللون، تلك الشرارة الرهيبة التي تنطلق في الهواء، حتى وإن كان الثمن حياته.

(٩) جثث

كان يتدلى من جميع الجثث بطاقة مربوطة بسلك معدني في إبهام القدم، كانت تلك البطاقة مسجلًا عليها الاسم والعمر … إلخ، وكان صديق الأحمق منكفئ الخصر يستخدم المشرط بمهارة وهو ينزع الجلد عن وجه إحدى الجثث، يمتد تحت الجلد دهن جميل بلون أصفر.

كان الأحمق يتأمل الجثة، فبلا شك كان ذلك ضروريًّا من أجل أن يُنهي الأحمق تأليف قصة قصيرة ما — قصة قصيرة تدور خلفيات أحداثها في عصر الأسرات،٤ ولكن كانت رائحة الجثث الكريهة، قريبة الشبه من رائحة المشمش المتعفِّن، التي تنتشر في المكان منفرة. قضَّب صديق الأحمق من جبهته وحرك المشرط في هدوء.

قال الصديق: «هناك نقص حاليًّا في عدد الجثث.»

وعندها كان الأحمق قد أعدَّ ردَّه في غفلة من الزمن: «لو قابلتُ مشكلة نقص الجثث، لقتلت البشر دون أي إحساس بالذنب.» ولكنه بالتأكيد احتفظ الأحمق بتلك الإجابة داخل عقله فقط.

(١٠) الأستاذ٥

كان الأحمق يقرأ في كتاب أستاذه تحت شجرة سنديان مسنن عملاقة، لا تتحرك ولو ورقة واحدة من أوراقها تحت أشعة شمس الخريف.

يتدلى من ميزان ما في مكان ما وسط السماء البعيدة كفتان من الزجاج، وتحتفظ كفتا الميزان بتوازنِهما متساويتَين … كان الأحمق يحس بوجود مثل هذا المنظر وهو يقرأ في كتاب أستاذه …

(١١) فجر

بدأ الليل ينجلي تدريجيًّا، كان الأحمق في وقت من الأوقات ينظر نظرة شمولية على سوق في ركن إحدى المدن، كانت حشود الناس والسيارات في السوق قد اصطبغت بلون وردي.

أشعل الأحمق النار في سيجارة، وتقدَّم في هدوء داخل السوق، وعندها نبح عليه فجأة كلب أسود نحيف، ولكن الأحمق لم يَندهِش، ليس هذا فقط بل إنه أحب ذلك الكلب.

في منتصَف السوق كانت شجرة دلب واحدة تمتد أغصانها في الجهات الأربع، وقف الأحمق عند جذورها ونظر عاليًا إلى السماء من بين أغصانها، كانت تتألق نجمة في السماء بالضبط فوق رأسه مباشرة.

كان ذلك في الخامسة والعشرين من عمره … بعد ثلاثة أشهر من لقائه مع الأستاذ.

(١٢) ميناء حربي

كان المكان معتمًا داخل الغواصة، كان الأحمق منكفئًا داخل الآليات التي تُغطي كل شيء حوله من الأمام والخلف واليمين واليسار، ويختلس النظر إلى عين معدنية صغيرة، كان المنعكس على تلك العين المعدنية منظر مُشرق للميناء الحربي، وجَّه أحد ضباط البحرية الكلام إلى الأحمق قائلًا: «يمكنك رؤية الطراد «كونغو» هناك، أليس كذلك؟»

لسبب ما تذكر الأحمق البقدونس الهولندي وهو يتأمل الطراد الصغير من فوق عدسة مربعة الزوايا. البقدونس الذي تفوح رائحته قليلًا من فوق ستيك لحم بقري بمبلغ ثلاثين سنًّا للفرد.

(١٣) موت الأستاذ

كان الأحمق يَسير فوق رصيف موقف سيارات جديد وسط الرياح التي تهبُّ بعد توقف الأمطار، وكانت السماء ما زالت مُظلمة، وعلى الجانب الآخر من الرصيف ثلاثة أو أربعة عمَّال سكك حديدية يُحرِّكون معاولهم رأسيًّا وهم يغنون بصوت عالٍ.

بدَّدت الريح التي هبت بعد توقف الأمطار مشاعر الأحمق مع أغاني العمال، أحس الأحمق بمتعة تقترب من الألم بدون أن يشعل النار في سجائره، وهو يضع في جيب معطفه البرقية التي تقول: «الأستاذ يحتضر.»

بدأ يقترب منه صفُّ عربات قطار الساعة السادسة صباحًا الذاهب إلى طوكيو، من خلف جبل الصنوبر وهو يتلوى ويتصاعد من أعلاه دخان رفيع يهتز.

(١٤) زواج

قال الأحمق لزوجته في اليوم التالي لزواجه محذِّرًا: «سأضيق ذرعًا إن أنتِ أسرفتِ في النفقات.» ولكنه لم يكن تحذيرًا نابعًا منه، بل مجرَّد أنه ردَّد فقط قول خالته له: «قل لها ذلك» وعلى الفور اعتذرَت زوجته له بالطبع ثم لخالته، وهي تضع أمامها أصيص زهور النرجس التي اشترتْها من أجله.

(١٥) زوج وزوجة

عاش الزوجان في وئام وسلام، في ظل شجرة موز كبيرة ممتدة الأوراق … لأن بيتهما كان يقع في مدينة ساحلية يستغرق الذهاب إليها من طوكيو ساعة زمن بالتمام والكمال بقطار البخار.

(١٦) وسادة

وضع الأحمق مذهب الشك ذو رائحة الورود تحت وسادته، وهو يقرأ كتاب لأناتولي فرانس، ولم ينتبه لتسلُّل إله بنصف جسد إنسان ونصف جسد حصان داخل تلك الوسادة في غفلة منه.

(١٧) فراشة

تلمع فراشة وسط الريح المُمتلئ برائحة الطحالب، وأحس الأحمق أن جناحي تلك الفراشة لمست شفتيه الجافتين للحظة بسيطة جدًّا، ولكن ظل دقيق أجنحة الفراشة التي لمست شفتَيه وقتها يلمع فوقها حتى بعد سنوات من ذلك.

(١٨) قمر

التقى الأحمق صدفة مع امرأة في مُنتصَف سلَّم بأحد الفنادق. كان وجهها وكأنه تحت ضوء القمر حتى في مثل هذا الوقت من الظهيرة، كان وهو ينظر إليها (لم يكن بين الاثنين سابق معرفة)، يحسُّ إحساس وحدة لم يعرفه قط.

(١٩) أجنحة صناعية

انتقل الأحمق من أناتولي فرانس إلى فلاسفة القرن الثامن عشر، ولكنه لم يَقترب من روسُّو، وربما كان ذلك بسبب أنَّ إحدى صفاته وهي سهولة الشغف، قريبة من صفات روسُّو؛ ولذا اقترب الأحمق من فيلسوف «كانديد» القريب من صفة أخرى يمتاز بها الأحمق وهي صفة المنطق البارد.

لم تعطِ الحياة للأحمق ذي التاسعة والعشرين ربيعًا أي قدر ولو ضئيل من البهجة، ولكن منحه فولتير أجنحة صناعية.

فرَد الأحمق تلك الأجنحة الصناعية، وطار في السماء بسهولة ويسر، وفي نفس الوقت ترسب في قاع عينيه سرور حياته وحزنها التي امتلأت بأشعة العقلانية أيضًا، ثم ارتقى إلى الشمس مباشرة وسط السماء دون أن يحجبه شيء، وهو يُسقِط ابتساماته واعتراضاته الساخرة على المدينة البائسة، وكأنه نسيَ اليوناني الذي مات في الماضي بعد أن سقط في البحر في النهاية؛ لأنَّ أجنحته الصناعية الشبيهة بتلك قد احترقَت بسبب أشعة الشمس.

(٢٠) أصفاد

تقرر أن يُقيم الأحمق وزوجتُه في بيت واحد مع أبوَيه اللذَين تبنَّياه، وكان ذلك بسبب أن الأحمق قد توظَّف للعمل بإحدى الجرائد، كان الأحمق يعتمد على عقد كُتب على ورقة صفراء اللون، ولكن عند النظر إلى ذلك العقد فيما بعد، وجد أن العقد لا يُلزِم الجريدة بأي شيء وأن جميع الالتزامات تقع على عاتقِه فقط.

(٢١) ابنة المجنون

تَجري عربتا ريكشا في طريق ريفي خالٍ بسبب المطر، ومن الواضح أن ذلك الطريق متجه نحو البحر حتى من الرياح البحرية القادمة منه، كان الأحمق الذي يَركب العربة الخلفية يفكر مرتابًا في عدم اهتمامه بهذا اللقاء الغرامي، ما الذي قادَه هو شخصيًّا لمثل هذا المكان. لم يكن ذلك بسبب الحب مُطلقًا. فإن لم يكن الحب … من أجل أن يتفادى الإجابة على ذلك السؤال لم يكن هناك بدٌّ من التفكير في: «في كل الأحوال نحن على قدم المساواة.»

تركب في العربة الأمامية ابنة المجنون. ليس هذا فقط، بل لقد انتحرت أختها بسبب الغيرة.

«لم يَعُد باليد حيلة.»

لقد شعر الأحمق تجاه ابنة المجنون — تلك الفتاة ذات الغريزة الحيوانية الشديدة — بمشاعر كراهية من نوع ما.

أثناء ذلك كانت عربتا الريكشا تمرَّان من أمام مقبرة تفوح منهما رائحة البحر المميزة. هناك عدة نُصُب حجرية سوداء داخل السور المصنوع من أغصان الشجر والملتصق به قشور القواقع. تأمل الأحمق البحر المتلألئ على الجهة الأخرى من تلك النُّصُب، وبشكل ما بدأ فجأة يَحتقِر زوجها … زوجها الذي لم يستطع الاستحواذ على قلبها.

(٢٢) أحد الرسَّامين

لوحة في إحدى المجلات، إنها لوحة بالفحم تُظهر ديكًا في هيئة متفرِّدة، سأل الأحمق أحد أصدقائه عن ذلك الرسام، وبعد أسبوع واحد فقط زاره الرسام. كانت تلك حادثة متميزة في عمر الأحمق كله. لقد اكتشف الأحمق داخل ذلك الرسام شاعرًا لا يعرفه أحد غيره. ليس هذه فقط بل لقد اكتشف الأحمق روحه التي لم يكن هو ذاته يعرفها.

في غروب يوم من أيام الخريف البارِدة قليلًا، بسبب نبات ذُرة تذكر على الفور أمر ذلك الرسام. يَلتحِف نبات ذرة فارع الطول قشرته المضطربة كما هي مثل درع، فوق تربة مرتفعة ويُظهِر جذوره الرفيعة التي تشبه الأعصاب، ولم يكن هناك أي شك في أن تلك بالطبع هي كذلك لوحة ذاتية له هو الحساس الذي من السهل جرحه، ولكن كان هذا الاكتشاف يصيبه بالاكتئاب فقط.

«لقد فات الأوان، ولكن عندما تحين الفرصة …»

(٢٣) هي

تُوشِك الشمس أن تغيب أمام إحدى الساحات، يمشي الأحمق في تلك الساحة بجسد به قليل من الحُمَّى، تلمع أضواء كهربائية لنوافذ عدد من البنايات الكبيرة بلونٍ فضي باهت في سماء صافية.

توقف الأحمق عن السير على قارعة الطريق، وقرَّر انتظارها، بعد أن مرَّت خمس دقائق فقط، اقتربتْ تجاهَه بوجهٍ شاحب وجسد هزيل نوعًا ما، ولكنها ما إنْ رأت وجه الأحمق حتى ابتسمت وقالت: «لقد تعبتُ.» سار الاثنان كتفًا بكتف في الساحة المعتمة، وكان ذلك يحدث لأول مرة بينهما، وفكر الأحمق أنه على استعداد للتخلي عن أي شيء من أجل أن يظل معها.

بعد أن ركبا معًا الدراجة الهوائية، ظلت الفتاة تتأمل في وجهه ثم قالت: «ألن تندم؟» أجاب الأحمق بحسم: «لن أندم» ضغطت هي على يده وقالت: «عامة أنا لن أندم.» كان وجهها في مثل ذلك الوقت أيضًا وكأنه يسطع في ضوء القمر.

(٢٤) ولادة

ظل الأحمق واقفًا على الجهة الأخرى من الباب يتأمَّل «القابلة» التي ترتدي زي العمليات الأزرق وهي تغسل جسد الوليد، يكرر الوليد التذمُّر بتجعيد وجهه كلَّما لمس الصابون عينيه، ليس هذا فقط بل إنه استمر في البكاء بصوتٍ عالٍ، ومع إحساس الأحمق برائحة قريبة من رائحة أطفال الفئران، لم يكن بوسعه إلا أن يُفكِّر مليًّا كما يلي: «لماذا وُلد هذا الطفل في هذا العالم الممتلئ بالمعاناة؟ لماذا يحملُ هذا الطفل عبء أن أكون أنا بالذات أبوه؟»

والأدهى أن ذلك كان أول ولد تنجبه زوجته له.

(٢٥) ستريندبرغ

كان الأحمق يقف عند الباب وسط ضوء القمر الذي يسطع على شجرة الرمان المزهرة، يتأمَّل عددًا من الصينيِّين القَذرين يلعبون الماجونغ، وعندما عاد إلى غرفته بعد ذلك، بدأ يقرأ تحت إضاءة المصباح المُنخفِض كتاب «اعترافات مجنون»، ولكن قبل أن ينتهي من قراءة صفحتين، فلتت منه دون وعي ضحكة مريرة … إن ستريندبرغ أيضًا كتب في رسالة إلى عشيقته الكونتسة كذبًا لا يختلف عما يكتبه الأحمق.

(٢٦) الأزمنة الغابرة

لقد انسحق الأحمق تقريبًا تحت ضغط البوذات وسُكَّان السماء والأحصنة وزهور اللوتس التي نُزعت عنها الألوان، وقد نسيَ كل شيء وهو ينظر نحوها عاليًا، حتى سعادته هو نفسه وقد أفلت من يد ابنة المجنون.

(٢٧) تدريب على طريقة إسبرطة

كان الأحمق يسير مع صديقه في أحد الأحياء الشعبية. وعندها اقتربت نحوهما مباشرة عربة ريكشا عليها غطاء علوي، بل والعجيب أن من كانت تركب تلك العربة هي فتاة الأمس. حتى في مثل هذا الوقت من الظهيرة كان وجهها وكأنه يَسطع تحت ضوء القمر. بالطبع لم يتبادلا حتى التحية أمام صديقه.

قال الصديق للأحمق: «جميلة فعلًا.»

أجاب الأحمق بدون أدني تردُّد وهو يتأمل جبل الربيع المعتاد في نهاية الطريق أمامه: «أجل، إنها جميلة جدًّا!»

(٢٨) جريمة قتل

يصعد الأحمق طريقًا ريفيًّا، بينما تفوح رائحة براز البقر النتنة وسط أشعة الشمس على أطراف قدميه وهو يمسح عرقه. تنبعث رائحة زكية للقمح الناضج على جانبي الطريق.

«اقتله، اقتله …»

في غفلة منه كان الأحمق يردد تلك الكلمة في فمه. مَن؟ … كان ذلك في منتهى الوضوح. تذكر الأحمق رجلًا يحلق رأسه بطول سنتيمتر تقريبًا فيبدو في منتهى الوضاعة.

وعند هذا الحد ظهر في غفلة من الزمن سقف دائري مقبب لإحدى الكنائس الكاثوليكية لبابوية روما على الجانب الآخر لحقول القمح الصفراء.

(٢٩) شكل

كانت تلك قنينة ساكي حديدية، في وقت ما، كان أحدهم يُدرِّس للأحمق جمال «الشكل» على تلك القنينة المزينة بتصميم الخيوط.

(٣٠) أمطار

كان الأحمق يتحدَّث في أمور عديدة معها فوق السرير، وكان الجو خارج نافذة غرفة النوم مُمطرًا، وعلى ما يبدو أن زهور النبق قد تعفنت وسط تلك الأمطار، كان وجهها يبدو كالمعتاد وكأنه يَسطع تحت ضوء القمر، ولكن ليس معنى ذلك أن الأحمق لم يُصِبه الضجر من محتوى حديثها، أشعل سيجارة بهدوء وهو يزحف على بطنه على السرير، وتذكر أنه مرت سبع سنوات على معيشته معها.

سأل الأحمق نفسه: «تُرى هل أحبُّ هذه المرأة؟»

كانت الإجابة مُفاجئة وعلى غير ما توقَّعت له نفسه التي ظلَّت تُراقب نفسه: «أجل، إنني ما زلتُ أحبها حتى الآن.»

(٣١) زلزال طوكيو الكبير

أحس الأحمق وهو يمشي في أطلال الحرائق، بتلك الرائحة الخفيفة، رائحة قريبة من رائحة المشمش الناضج نضوجًا شديدًا، فكَّر أن رائحة الجثث المتعفنة من شدة الحرارة ليست سيئة على غير المتوقَّع، ولكنه عندما جرب أن يقف أمام البِركة التي تراكمَت بها الجثث تراكمًا مهولًا، اكتشف أن كلمة «فظيع» ليست مبالغة مطلقًا لذلك الإحساس. وما حرَّك مشاعره بصفة خاصة، كانت جثث الأطفال في الثانية أو الثالثة عشرة من عمرهم، لقد أحسَّ الأحمق وهو ينظر إلى تلك الجثث بما يُشبه إحساس الغيرة، وتذكر كذلك الجملة التي تقول: «إن الأشخاص المحبوبين من الآلهة يَموتون صغارًا.» لقد احترق بيت شقيقته الكبرى وبيت أخيه الأصغر غير الشقيق، كان زوج أخته الكبرى قد حُكِم عليه مع وقف التنفيذ بتهمة ارتكاب جريمة شهادة الزور.

لم يكن الأحمق وهو يقف بهدوء أمام أطلال الحرائق إلا أن يقول من كل قلبه: «من الأفضل موت الجميع، من الأفضل أن يموت هذا ويموت ذاك.»

(٣٢) عِراك

تعارك الأحمق مع أخيه الأصغر غير الشقيق عراكًا عنيفًا. لا شك أن أخاه يقع عليه ضغط بسببه، وفي نفس الوقت لا شك أن الأحمق فقد حريته بسبب شقيقه الأصغر. استمر أقرباء الأحمق يقولون لأخيه الأصغر: «تعلَّم منه.» ولكن ذلك يشبه أن يُقيِّد يدي الأحمق نفسه ورجليه. ظل الاثنان يتعاركان حتى تدحرجا إلى حافة الحديقة، عند حافة الحديقة هناك شجرة بنفسج هندية … ما زال الأحمق يتذكر ذلك حتى الآن … تحت السماء المُمطرة كانت زهور البنفسج زاهية تحت الضوء الأحمر.

(٣٣) بطل

كان الأحمق ينظر عاليًا إلى الجبل المرتفع من نافذة بيت فولتير، فوق قمة الجبل المرصَّعة بنهر جليدي، حتى لقد بدتْ وكأنها ظل لنسرٍ أصلع، ولكن استمر روسيٌّ قصير القامة في صعود طريق الجبل بإلحاح. يكتب الأحمق مثل ذلك الشعر المؤدلج حتى بعد مجيء الليل في بيت فولتير، تحت مصباح شديد الإضاءة، وهو يتذكَّر منظر ذلك الروسيِّ الذي يتسلق الجبل.

أنت يا من كنت الأكثر محافظة على الوصايا العشر،
كنت أكثر من خالف الوصايا العشر.

•••

أنت يا من كنت الأكثر حبًّا للشعب،
كنت أكثر مَن احتقر الشعب.

•••

أنت يا من كنتَ الأكثر شوقًا للمثاليات،
كنت الأكثر معرفة بالواقع.

•••

إنك عربة قطار كهربائية أنجبها شرقُنا،
تفوح منها رائحة الأعشاب والزهور.

(٣٤) ألوان

في غفلة من الزمن كان الأحمق الذي أصبح في الثلاثين من عمره يحب أرض فضاءً، كانت تلك الأرض ليس بها علاوة على الطحالب العفنة إلا أحجار طوب وقطع من القرميد مُتناثِرة هنا وهناك، ولكن لم يكن ذلك المنظر يختلف في عين الأحمق عن مناظر لوحات سيزان.

تذكر الأحمق فجأة شغفه قبل سبع أو ثماني سنوات، وفي نفس الوقت، اكتشف أنه من سبع أو ثماني سنوات لم يكن يعرف الألوان.

(٣٥) دمية المهرج

كان الأحمق ينوي أن يعيش حياة عنيفة بحيث لا يندم حين يأتيه الموت في أي وقت، ولكنه كان بلا أي تغيير يعيش حياة تميل إلى مراعاة خالته وأبويه بالتبني، وكان ذلك يخلق لحياته وجهها المظلم ووجهها المشرق، عندما رأى دمية المهرج تقف في أحد محلات الملابس الغربية، فكَّر: منذ متى تُشبه حياته دمية المهرج؟ ولكن خارج وعيه كان الأحمق ذاته، يُمكن القول ذاته الثانية، تتداخَل في قصة قصيرة تشبه هذا الحكي.

(٣٦) فتور

كان الأحمق يسير وسط حقول الغاب مع طالب جامعي: «على ما يبدو أنكم ما زلتم تملكون الرغبة الشديدة في الحياة.»

«أجل، … فحتى أنت …»

«ولكن أنا لا أملك أية رغبة، مع أنني أملك رغبة الإبداع فقط.»

كانت تلك هي مشاعر الأحمق الحقيقية، فلقد فقَد الأحمق في غفلة من الزمن اهتمامه بالحياة.

«ولكن رغبة الإبداع هي إحدى رغبات الحياة، أليس كذلك؟»

لم يجب الأحمق بأيَّة إجابة. كشفت حشائش الغاب فجأة عن جبل بركاني منفجر بوضوح فوق سنابل حمراء، أحس الأحمق بشيء ما قريب من الغيرة تجاه ذلك الجبل البركاني المتفجر، ولكن لم يكن سبب ذلك معروفًا حتى له هو شخصيًّا.

(٣٧) فتاة الشَّمال

لقد التقى الأحمق بامرأة تستطيع التنافُس معه في قوة الموهبة، ولكنه استطاع الإفلات من تلك الأزمة بصعوبة، عندما ألَّف قصيدة عاطفية مثل «فتاة الشمال»، ثمة شعور مؤلم للقلب كثلوج متألقة تجمَّدت فوق جذع شجرة.

قبعةُ قشٍّ تتراقصُ مرتفعةً مع الريحِ،
ثُمَّ لسببٍ مجهولٍ، لا تسْقط في الطريقِ،
لِمَ يجب المبالاة بسُمعتي؟!
ما أبالي به هو سمعتُكِ أنتِ فقط.

(٣٨) انتقام

كان المكان قاعة مكشوفة في فندق على حديقة وسط براعم أشجار نابتة، يرسم الأحمق إحدى اللوحات، وهو يُلاعب صبيًّا، إنه الابن الوحيد لابنة المجنون الذي قطع علاقته بها تمامًا منذ سبع سنوات. أشعلت ابنة المجنون سيجارة وهي تتأمَّل لعبهما معًا، ظل الأحمق يرسم قطارًا وطائرة بمشاعر كئيبة، من حسن حظه أن الطفل لم يكن ابنه، ولكن كان أكثر ما عاناه هو مناداة الطفل له بكلمة «عمي».

بعد أن ذهب الصبي إلى مكانٍ ما، تحدثت ابنة المجنون إلى الأحمق بدلال وهي تدخن السيجارة: «ألا ترى أنه يشبهك؟»

«لا يُشبهني. فأولًا …»

«ولكن أليس هناك ما يُسمَّى تعليم الجنين؟»

صمت الأحمق وأبعد عينيه عنها، ولكن لا ينفي ذلك شعور الأحمق برغبة متوحشة داخل أعماق قلبه في أن يَشنقها بيديه.

(٣٩) مرآة

كان الأحمق يتحدث مع صديق له في ركن بأحد المقاهي. كان الصديق يأكل تفاحًا مشويًّا ويتحدث عن برودة الجو في تلك الأيام، وشعر الأحمق فجأة بالتناقض في مثل ذلك الحديث.

«أنت ما زلتَ أعزب، أليس كذلك؟»

«بلى، سأتزوج الشهر القادم!»

سكت الأحمق فجأة، كانت المرآة الموضوعة على حائط المقهى تعكس صورته شخصيًّا مرات لا نهائية، صورة باردة وكأنها تهديد لشيء ما.

(٤٠) حوار

لماذا تهاجم النظام الاجتماعي المعاصر؟

لأنني أرى الشر الذي تسبَّبت فيه الرأسمالية؟

شر؟ لقد كنتُ أعتقد أنك لا تعرف الفرق بين الخير والشر. حسنًا، ماذا عن حياتك أنت؟

… هكذا دار الحوار بين الأحمق والملاك. الملاك الذي يَعتمِر قبعة حريرية لا يمكن مطلقًا أن يخجل منها أحد.

(٤١) مرض

بدأ الأرق يهجم على الأحمق، ليس هذا فقط، بل وبدأ جسده يضعف، فحَصه عدد من الأطباء وشخَّص كلٌّ منهم مرضه تشخيصًا مختلفًا … زيادة حموضة المَعِدة، ارتخاء المعدة، التهاب غشاء الرئة الجاف، الوهن العصبي، التهاب مزمن لغشاء باطن الجفن، الإرهاق العقلي.

ولكن كان الأحمق يعرف سبب مرضه بنفسه، كان ذلك إحساس الخوف منهم ممزوجًا بإحساس الخجل من نفسه. منهم ومن المجتمع الذي يحتقره الأحمق!

في ظهيرة يوم غائم بغيوم ثلجية، جلس الأحمق في ركن بأحد المقاهي يضع في فمه سيجارًا مشتعلًا ويسمع موسيقى فونوغراف على الجانب الآخر، كانت تلك الموسيقى تتسلَّل إلى داخل أحاسيسه بغرابة، وقرَّر الأحمق أن ينتظر حتى تنتهي تلك الموسيقى، ثم اقترب من آلة الفونوغراف لفحص بطاقة الاسم المُلصَقة على الأسطوانة.

Magic Flute – Mozart.

فهم الأحمق الأمر على الفور، لا ريب أن موتسارت الذي خرق الوصايا العشر، قد تألم وعانى. مثله تمامًا … عاد الأحمق إلى مقعده في هدوء وهو محني الرأس.

(٤٢) أصوات ضحك الآلهة

كان الأحمق الذي بلغ من العمر خمسة وثلاثين عامًا يسير وسط غابة صنوبر تسطع عليها شمس الربيع، وهو يتذكَّر كلمات كتبها بنفسه منذ سنتين أو ثلاث سنوات تقول: «ومِن التعاسة أن الآلهة لا تستطيع الانتحار مثلنا.»

(٤٣) ليل

بدأ الليل يقترب مرةً أخرى، ويرسل البحر الهائج رذاذه العالي المُتطاير في العتمة بلا انقطاع. تحت هذه السماء، تزوَّج الأحمق من زوجته للمرة الثانية، وكانا سعيدَين بذلك، ولكن في نفس الوقت كانا في معاناة أيضًا. كان أطفالهما الثلاثة يتأملون معهما البرق فوق سماء البحر. احتضنت زوجته أحد الأطفال، وبدا أنها تقاوم الدموع.

«تُرى على البعد سفينة، أليس كذلك؟»

«أجل!»

«السفينة التي كُسرت ساريتها إلى نصفين.»

(٤٤) موت

لحسن حظه كان الأحمق ينام وحده، فقرر أن يحاول الموت بشنق نفسه بربط حزام في أسياخ النافذة الحديدية، ولكنه عندما وضع الحزام حول عنقه، بدأ فجأة يخاف من الموت، لم يكن خوفه بسبب المعاناة من لحظة الموت مطلقًا. في المحاولة الثانية حمل الأحمق ساعة الجيب، وقرر أن يجرب قياس وقت شنقه لنفسه، وعندها، بعد أن اختنق قليلًا، بدأ كل شيء يصير ضبابيًّا. إن تخطى فقط تلك المرحلة مرة، لا ريب أنه سيدخل عالم الموت، فحص عقارب الساعة، فاكتشف أن إحساسه بالاختناق كان لمدة دقيقة وعشرين ثانية. كان المكان خارج النافذة الحديدية غارقًا في ظلام حالك، ولكن في وسط ذلك الظلام سُمِع أيضًا صوت دجاج صاخب.

(٤٥) الديوان Divan

مرةً أخرى كان كتاب الديوان على وشك أن يُعطي لقلب الأحمق قوة جديدة، كان ذلك «غوته الشرقي» الذي ظل الأحمق لا يعرف عنه شيئًا، نظر الأحمق إلى غوته الذي يقف بشجاعة على الجانب الآخر من مختلف أنواع الخير والشر، فشعر بغيرة قريبة من اليأس، كان غوته الشاعر في عين الأحمق أكثر عظمة من المسيح الشاعر، لقد تفتَّح في قلب ذلك الشاعر حتى الورد العربي بخلاف أكروبوليس وجبل الجمجمة. آهٍ لو كان الأحمق يملك قدرًا من القوة والطاقة لكي يَتبع خطوات أقدام ذلك الشاعر! أنهى الأحمق قراءة الديوان، وبعد أن هدأت مشاعر التأثُّر العنيف، لم يستطع إلا أن يصبَّ احتقاره على ذاته التي وُلدت غارقة في الحياة المعيشية مثل الخصيان.

(٤٦) كذب

لقد سبَّب انتحار زوج شقيقة الأحمق له صدمة نفسية مفاجئة؛ فقد كان يجب عليه أن يرعى كذلك شئون عائلة شقيقته، كان المستقبل على الأقل بالنسبة له مُعتمًا مثل غروب الشمس، ومع ذلك ظل الأحمق بلا أي تغيير مستمرًّا في قراءة أنواع مختلفة من الكتب، وهو يشعر بما يقرب من ابتسامة برود تجاه انهياره النفسي (إنَّ الأحمق يعلم تمامًا العلم بكل ضعف وكل شرٍّ داخله)، ولكن حتى كتاب روسُّو الاعترافات كان يَمتلئ تمامًا بالكذب البطولي، وبصفة خاصة عندما وصل إلى قراءة «حياة جديدة»،٦ لم يسبق للأحمق أن قابل منافقًا عتيد النفاق مثل بطل رواية «حياة جديدة»، ولكن شخصية فرانسوا فيون فقط هي التي استطاعت أن تتسلَّل إلى أعماق قلبه. اكتشف الأحمق وسط عدد من قصائد الشعر «ذَكَرًا جميلًا».

ولقد ظهر للأحمق في الحلم منظر فيون وهو ينتظر حكم الإعدام شنقًا، لقد كان الأحمق على وشك الوقوع عدة مرات في قاع الدنيا مثل فيون، ولكن لم تكن ظروفه ولا قدراته الجسدية تَسمح له بذلك، استمر جسد الأحمق يذبل ويضعف. بالضبط مثل أغصان الأشجار الواقفة الذابلة التي رآها سويفت في الماضي.

(٤٧) اللعب بالنار

كان لها وجه وضَّاء، بالضبط مثل سقوط أشعة شمس الصباح على جليد رقيق، كان الأحمق يحمل تجاهها مشاعرَ طيبة، ولكنه لم يشعر بالحب، ليس هذا فقط بل إنه لم يلمس جسدها بإصبع.

«لقد سمعتُ أنك تُريد أن تموت، حقًّا؟»

«أجل … كلَّا، لا أريد الموت، بل إنني مللتُ الحياة.»

من خلال هذا الحوار تواعد الاثنان على الموت معًا.

«إنه Platonic Suicide (انتحار أفلاطوني).»
«بل هو Double Platonic Suicide (انتحار أفلاطوني ثنائي).»

كان الأحمق غير قادر إلا على التعجب من حالة الهدوء التي هو نفسه عليها.

(٤٨) موت

لم يَمُت الأحمق معها، ولكنه كان يحسُّ بالرضا أنه حتى الآن لم يلمس جسدها بإصبع، كانت تتحدَّث من وقتٍ لآخر معه وكأن شيئًا لم يكن، ليس ذلك فقط بل إنها سلمته زجاجة سيانيد البوتاسيوم التي بحوزتها قائلة: «إنَّ وجود هذه فقط يجعل كل منا يشد من عضد الآخر.»

ولا شكَّ أن ذلك جعل قلبه سليمًا معافى فعلًا، جلس الأحمق وحيدًا على مقعد من الخيزران، يتأمَّل أغصان شجرة البلوط الفتية، ولم يستطع إلا أن يُفكِّر مرةً بعد مرة في موته الذي سيجلب له السلام.

(٤٩) بجعة محنَّطة

قرر الأحمق بذل آخر ما به من قوة، لكتابة سيرته الذاتية، ولكنه لم يستطع ذلك بالسهولة التي توقعها بنفسه، وكان سبب ذلك بقاء كبرياء وشكوك وحسابات المنافع والأضرار داخله حتى الآن، ولم يكن بوسعه إلا أن يحتقر ذاته تلك، ولكن من جهة أخرى لم يكن بوسعه إلا الاعتقاد بفكرة «أنه لو نزع كل شخص قشرته الخارجية سيبدو جميع البشر متشابهين»، كان عنوان كتاب «الشعر والحقيقة»٧ يجعل الأحمق يميل إلى التفكير بأسماء العديد من السير الذاتية، ليس هذا فقط بل كان يفهم بوضوح أنه ليس بالضرورة أن يتأثر الجميع بالأعمال الأدبية. لا يُفترض وجود أشخاص آخرين يريد أن تصلهم مؤلفاته إلا القريبين منه الذين عاشوا حياة تشبه حياته … كانت تلك الرغبة تعمل أيضًا عملها معه، ومن أجل ذلك قرر الأحمق أن يحاول كتابة «الشعر والحقيقة» الخاصة به بشكل مختصر.

بعد أن انتهى الأحمق من كتابة «حياة أحد الحمقى» عثر عن طريق الصدفة البحتة على بجعة محنَّطة في أحد محلات الأنتيكات، كانت تلك البجعة تقف رافعة عنقها، ولكن كانت الديدان تنخر حتى في أجنحتها الصفراء، فكَّر الأحمق في حياته، وأحس بقرب ظهور دموعه وابتسامته الباردة، فلم يكن أمام الأحمق إلا الجنون أو الانتحار. مع سيره وحيدًا تمامًا في طريق خيم عليه الغروب، حسم قراره بأن ينتظر قدره المحتوم الذي يأتي ببطء ليمحوه.

(٥٠) أسير

جُنَّ أحد أصدقاء الأحمق، وكان الأحمق يشعر دائمًا بالألفة تجاهه، وسبب ذلك أنه يعرف شعور ذلك الصديق بالوحدة معرفة حقيقية تفوق معرفة الآخرين … الوحدة المختفية تحت قناع الرشاقة والمرح. بعد أن جُنَّ صديقه هذا، زاره الأحمق مرتين أو ثلاث مرات.

«لقد طغت الأرواح الشريرة علينا أنا وأنت، أرواح نهاية القرن٨ الشريرة».

قال الصديق هذا القول للأحمق وهو يخفض من صوته، ولكنه بعد بضعة أيام من ذلك سمع أن صديقه كان يأكل حتى بتلات الورود في طريق ذهابه إلى أحد ينابيع المياه الساخنة. تذكر الأحمق في أحد الأوقات تمثال التراكوتَّا النصفي الذي أهداه إلى ذلك الصديق بعد دخوله المستشفى. كان تمثالًا نصفيًّا لمؤلِف «المفتش العام» الذي يعشقه صديقه، ثم تذكر الأحمق أن غوغول نفسه قد مات مجنونًا، ولم يكن يسعه إلا التفكير في أن قوة ما تسيطر عليهم جميعًا.

وفي نهاية تعبه الشديد قرأ فجأة كلمات راديجيه وهو يحتضر، وشعر مرة أخرى بصوت ضحكات الآلهة، كانت تلك الكلمات هي: «لقد جاء جنود الإله للإمساك بي.» كان الأحمق يحاول قتال خرافاته ومذهبه الوجداني، ولكن كان مُستحيلًا عليه جسديًّا أن يُقاتل أي قتال، لا ريب أن «الأرواح الشريرة لنهاية القرن» كانت تعذبه في الواقع، أحس الأحمق بالغيرة تجاه أهل العصور الوسطى الذين استعانوا بقوة الإله، ولكن لم يستطع الأحمق مطلقًا الإيمان بالإله — الإيمان بحبِّ الإله، ذلك الإله الذي آمن به كوكتو!

(٥١) هزيمة

بدأت يد الأحمق التي تمسك بالقلم تهتز، ليس هذا فقط بل لقد سال حتى اللعاب من فمه، لم يرجع لوعيه ولو مرةً واحدة منذ أن فاق مرة بعد استخدامه مُنوِّم فيرونال ٠٫٨٪، بل إن وقت إفاقته لم يزد على نصف ساعة أو ساعة على الأكثر. فقد كان يعيش طوال اليوم في ذلك الظلام المعتم، إن جاز التعبير أثناء استخدامه سيفًا رفيعًا على أنه عصا، صدأ النَّصل.

•••

(الشهر السادس من العام الثاني من عصر شوا [يونيو ١٩٢٧م]، مخطوطة تركها المؤلف قبل موته.)
١  ماساو كومِه (١٩٨١–١٩٥٢م) أديب وكاتب ياباني صديق العمر لريونوسكيه أكوتاغاوا، حيث قابله في العام الأول من المدرسة الثانوية ودخلا الجامعة معًا وتتلمَذا معًا على يد الأديب الكبير سوسيكي ناتسوميه وظلا أصدقاء حتى موت أكوتاغاوا. (المترجم)
٢  يستخدم المؤلف للإشارة إلى ذاته في هذه القصة ضمير الغائب «هو»، ولصعوبة استخدام ضمير الغائب بنفس الطريقة في اللغة العربية أبدلتُ بالضمير كلمة الأحمق التي وضعها المؤلف عنوانًا للقصة كلما سمح السياق بذلك. (المترجم)
٣  يُعتقد أنه يشير هنا إلى الأديب الياباني العظيم جونئتشيرو تانيزاكي الذي يكبر أكوتاغاوا بثمانية أعوام وخاض معه معركة أدبية على صفحات المجلات في أبريل من عام ١٩٢٧م أي قبل انتحار أكوتاغاوا بثلاثة أشهر فقط حول ماهية الأدب وهدفه وشكله … إلخ. (المترجم)
٤  ليس هناك ما يُسمى عصر الأسرات سياسيًّا في اليابان، حيث من المتعارف عليه أن الأسرة الإمبراطورية لم ينقطع نسلها منذ بدأت وحتى الآن، أما ثقافيًّا وأدبيًّا فيُطلق عصر الأسرات على الفترة من نهاية عصر هييان (٧٩٤م–١١٩٢م) إلى بداية عصر موروماتشي (١٣٣٦م–١٥٧٣م). (المترجم)
٥  هو أديب اليابان الأشهر سوسيكي ناتسوميه وقد تتلمذ أكوتاغاوا على يديه بداية من شهر ديسمبر في عام ١٩١٥م وحتى وفاة سوسيكي في ديسمبر من عام ١٩١٦م، وفي الأغلب الأعم تُشير كلمة الأستاذ في هذه الرواية وباقي أعمال أكوتاغاوا التي تَميل إلى أن تكون سيرة ذاتية إلى سوسيكي ناتسوميه. (المترجم)
٦  «حياة جديدة»: رواية للأديب اليابان توسون شيمازاكي تعتبر سيرة ذاتية له نشرها مسلسلة بين عامي ١٩١٨ و١٩١٩م في جريدة أساهي اليابانية. (المترجم)
٧  العنوان الفرعي للسيرة الذاتية «من حياتي» التي كتبها غوته في آواخر عمره عن شبابه، وتُعد من كلاسيكيات السير الذاتية. (المترجم)
٨  بالفرنسية fin de siècle إشارة إلى الحالة الثقافية القلقة التي اجتاحت العالم في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤