كابَّا١

أرجو منكم نطقها Kappa

تمهيد

إنها قصة يحكيها المريض رقم ٢٣ في مُستشفى للأمراض النفسية لكل الناس، إنه مجنون تخطَّى عمره الثلاثين عامًا بالفعل، ولكن مظهره الخارجي يبدو في ذروة الشباب، إن أغلب حياته … كلا، هذا أمر ليس ذا أهمية، إنه يظل ثابتًا يحضن ركبتيه، وينظر أحيانًا من النافذة (النافذة التي وُضع فيها أسياخ من الحديد، يُرى منها شجرة سنديان ليس بها حتى أوراق ذابلة، تفرد أغصانها في السماء الغائمة بغيوم ثلجية)، استمرَّ يتحدَّث لي وللدكتور «س» مدير المستشفى لوقتٍ طويل بلا انقطاع، وبالطبع لا يَعني قولي «يظلُّ ثابتًا» أنه لم يكن يحرك جسمه من حين لآخر، وعندما يقول مثلًا: «اندهشت» كان يشيح بوجه للخلف …

ولقد حرصتُ على أن أنقل حديثه هذا بدقة مُتناهية، وإن وُجد أحد لا يكتفي مما دونته هنا، فالأفضل الذهاب لزيارة مستشفى «س» للأمراض النفسية في قرية سوغامو خارج مدينة طوكيو. إنَّ المريض رقم ٢٣ الذي يبدو أصغر سنًّا من عمره الحقيقي، على الأرجح سيَحني رأسه في أدب بالغ ويُشير بيده إلى كرسي بلا وسادة للجلوس عليه، ثم بعد ذلك تَبرز على فمه ابتسامة كئيبة، ويبدأ في تكرار هذه القصة بهدوء. وفي النهاية، أتذكر وجهه عندما انتهى من هذه القصة. في النهاية، وبمجرد أن ينهض بجسمه أخذ يلف قبضة يده ويصرخ بما يلي: «اخرج أيها الشرير! إنك حيوان أناني وأحمق وغيور وداعر وخبيث وغارق في الغرور وقاسٍ، اخرج من هنا! أيها الشرير!»

١

في فصل الصيف منذ ثلاث سنوات، كنتُ على وشك الصعود إلى جبل هوتاكا من نُزل في منطقة ينابيع كاميكوتشي وأنا أحمل خلف ظهري حقيبة ظهر عادية، وكما هو معلوم فما من طريق آخر لصعود جبل هوتاكا، إلا الصعود بمُحاذاة نهر أزوسا إلى منابعه، ولأنني كنتُ قد صعدت من قبل جبل هوتاكا بالطبع وجبل ياريغاتاكه، ذهبتُ صاعدًا إلى منابع نهر أزوسا دون دليل يرشدني وسط وادي أزوسا الذي يسقط عليه الضباب في الصباح الباكر، يتساقط الضباب على الوادي في الصباح، ولكن مهما مر من وقت لا يبدو منظر هذا الضباب أنه سيزول، ليس هذا فقط، بل على العكس كان يَزداد عمقًا وشدة. مشيتُ ساعة ثم فكرتُ في العودة إلى النُّزل في ينابيع كاميكوتشي، ولكن حتى أستطيع العودة إلى كاميكوتشي كان يجب انتظار زوال الضباب، ومع قول ذلك كان الضباب يزداد عمقًا مع كل لحظة ولا يبدو أنه سيزول، فكرتُ «من الأفضل مواصلة الصعود» لذا مشيت وأنا أُبعد أغصان الخيزران حريصًا على ألا أبتعد عن وادي نهر أزوسا.

ولكن كان الضباب الكثيف يَحجب الرؤية عن عيني، ولكن لم يعدم الأمر أحيانًا من رؤية أغصان لأشجار الزان والشوح بأوراقها الخضراء تتدلى أمام عيني وسط الضباب، ثمَّ بعد ذلك، ظهر أمام عيني فجأة وجوه أبقار وأحصنة تُركَت لترعى بحريتها، ولكنها بمجرَّد أن ظهرت داخل الضباب الكثيف اختفَت فورًا، وأثناء ذلك بدأت قدماي تتعبان، ومعدتي تشعر بالجوع، وعلاوة على ذلك لم تكن ملابس تسلُّق الجبل والبطانية التي اخترَقَها الضباب فتبلَّلت بالثِّقل الطبيعي المعتاد. ولأنني قررتُ أخيرًا التوقُّف عن العناد، لذا بدأتُ الهبوط إلى وادي نهر أزوسا معتمدًا على خرير المياه التي تحثُّها الصخور على سرعة الجريان.

ثم جلستُ على صخرة على ضفاف النهر، وبدأت أتناول وجبة الطعام مؤقَّتًا، فتحت علبة بلوبيف، وجمعت الأغصان الجافة، وأشعلت فيها النار، أثناء ما كنتُ أفعل ذلك مر عشر دقائق على الأرجح، وخلال تلك المدة انقشع الضباب الذي كان مشاكسًا حتى النهاية، وأصبح الطقس صحوًا في غفلة من الزمن. نظرتُ سريعًا إلى ساعة يدي وأنا أقضم الخبز، كانت الساعة قد تخطَّت الواحدة وعشرين دقيقة، ولكن الذي أدهشَني أكثر من ذلك، كان وجه مريب، يُسقِط ظلَّه فوق زجاج ساعة اليد الدائري، اندهشتُ والتفتُّ إلى الخلف، وعندها … كان ذلك في الواقع أول مرة أرى فيها ما يُطلَق عليه حيوان الكابَّا، حيوان كابَّا كما يُرسم في اللوحات يقف فوق الصخور خلفي، يُمسك بإحدى يديه جذع شجرة قضبان بيضاء، ويضع اليد الأخرى فوق عينيه ليَحميها من أشعة الضوء، وينظر إليَّ من علٍ كأنَّه ينظر إلى شيء نادر.

أصابني الذهول، وبقيتُ لبعض الوقت مبهوتًا لا أتحرَّك، وبدا أنَّ الكابَّا أيضًا أصابته الدهشة، فلم تتحرَّك حتى يده التي فوق عينيه، وأثناء ذلك أسرعت بالنهوض واقفًا، وقفزتُ مسرعًا تجاه الكابَّا الذي فوق الصخور، وفي نفس اللحظة هرب الكابَّا. كلا، على الأرجح أنه بدأ الهروب. ففي الواقع أنه تَفاداني بخفَّة ورشاقة، ثم اختفى فورًا في مكان مجهول، وأخيرًا أخذتُ أدور بعيني داخل الخيزران القصير، وأنا ما زلتُ مذهولًا. فكان الكابَّا ينظر خلفه تجاهي على بعد مترَين أو ثلاثة أمتار وقد جفل من الدهشة، وليس هذا أمرًا عجيبًا مُطلَقًا، ولكن ما كنتُ أراه غير طبيعي، هو لون جسم الكابَّا، كان لون جسم الكابَّا الذي رأيته فوق الصخرة كله بلون رمادي، ولكن تغيَّر ذلك اللون تمامًا إلى الأخضر. رفعت صوتي بالصياح: «اللعنة!»، ثم قفزتُ مجددًا تجاهه، بالطبع هرب. بعد ذلك ولمدة ثلاثين دقيقة، اخترقتُ الخيزران القصير وتخطيتُ الصخور، وظللتُ أطارده باندفاع.

سرعة أقدام الكابَّا لا تقلُّ أبدًا عن القرود. وأثناء مطاردته بانهماك كنتُ على وشك أن أفقدَ أثره عدة مرات، ليس هذا فقط، بل لقد انزلقَت أقدامي وتدحرجتُ مرات عدة، وعندما أتيتُ حتى أسفل الأغصان الغليظة المُمتدة لشجرة كستناء الفرس اليابانية، لحسن حظي أن بقرة أعاقت الكابَّا عن التقدم للأمام. كلا، بل كان ثورًا ذا قرنين غليظين وينطلق الشرار من عينيه. عندما شاهد الكابَّا ذلك الثور، صرخ صرخة ما وهو يقفز داخل أجمة خيزران أطول من السابق وكأنه يتشقلب في الهواء، ثم لأنني أيضًا اندهشتُ وفكرتُ أنني فشلت، طاردته بالقفز أنا أيضًا داخل نفس الأجمة، وعلى الأرجح أن ذلك المكان كان به ثقب لم أكن أدري بوجوده، وعندما لمسَت أناملي ظهر الكابَّا الملس، سقطتُ على الفور متدحرجًا بالمقلوب في وسط ظلام حالك وعميق، ولكنَّنا نحن البشر في حالة وقوعنا في ورطة وأزمة شديدة، تفكِّر عقولنا في أمور لا تخطر على البال ولا على الخاطر، وفي اللحظة التي صرختُ فيها قائلًا: «آه!» تذكرتُ أن هناك جسرًا بجوار نُزل الينابيع في بلدة كاميكوتشي يُدعى «جسر الكابَّا»، ثم بعد ذلك … لا أتذكر شيئًا مما حدث بعد ذلك، بل إنني بعد أن شعرت بحدوث ما يُشبه الصاعقة أمام عيني، فقدت الوعي في غفلة من الزمن.

٢

وعندما عاد إليَّ وعيي أخيرًا، كنتُ راقدًا على ظهري، محاطًا بعدد كبير من حيوانات الكابَّا. ليس هذا فقط، بل كان منهم كابَّا يضع نظارة أنف فوق منقارِه الغليظ، يكشف على صدري بسماعة طبية وهو يجثو على ركبتَيه بجواري، وعندما رأى ذلك الكابَّا أنني فتحتُ عيني أشار لي بيده بما معناه «لا تتكلَّم»، ثم بعد ذلك تحدث إلى كابَّا خلفه بقوله xQuax, qua. وعندها جاء من مكان ما حيوانا كابَّا يمشيان وهما يحملان نقالة مرضى، وُضعتُ على تلك النقالة، وسارُوا بي في هدوء عدة مئات من الأمتار وسط حشد كبير من الكابَّا. كانت المدينة التي تتراصُّ على جانبي يمينًا ويسارًا لا تختلف كثيرًا عن شارع غينزا، كما هو متوقع فردت محلات متعدِّدة مظلاتها تحت ظلال أشجار الزان المتراصَّة على جانبي الطريق، وفي الطريق الذي أحاطت به تلك الأشجار يسير عدد من السيارات.

أخيرًا، عندما انعطفت النقالة التي تحملني في حارة جانبية ضيقة، حُملتُ إلى داخل أحد البيوت، وطبقًا لما عرفته فيما بعد، فهو بيت الكابَّا، ذلك الذي يضع نظارة على منقاره، أي بيت الطبيب الذي يُسمَّى تشاك، أنامني تشاك فوق سرير أنيق، ثم بعد ذلك أسقاني جرعة من دواء شرب بلون شفاف. لقد كانت كل مفاصل جسمي تُؤلمني ألمًا شنيعًا لدرجة أنني لم أكن أستطيع تحريك أي عضو من أعضاء جسمي.

كان تشاك يَكشف عليَّ حتمًا كل يوم مرتين أو ثلاث مرات، وأيضًا كان الكابَّا الذي رأيته في البداية — الصياد باغ — يأتي مرةً كل ثلاثة أيام لزيارتي. إن حيوانات الكابَّا تعرف عن البشر أكثر بكثير جدًّا مما يَعرفُه البشر عن الكابَّا، وعلى الأرجح أن سبب ذلك هو أن الكابَّا تصطاد البشر بعددٍ أكبر كثيرًا جدًّا من اصطياد البشر لها، وحتى لو كان ذلك لا يصلح أن يُطلق عليه اصطياد، ولكنَّ عددًا كبيرًا من البشر جاء إلى بلاد الكابَّا قبلي. ليس هذا فقط، بل ثمَّة عدد كبير منهم عاش عمره كله في بلاد الكابَّا. جرب أن تقول لماذا؟ لمجرَّد أننا لسنا كابَّا فقط، وأننا بشر، فلدينا ميزة أننا نعيش ونأكل دون عمل، وعلى أرض الواقع طبقًا لحديث باغ، فلقد جاء شاب كان يعمل في إنشاء الطرق عن طريق الصدفة إلى هذه البلاد ثمَّ تزوج من أنثى كابَّا وعاش هنا حتى وفاته، وعلاوة على أن أنثى الكابَّا تلك كانت أجمل إناث البلاد؛ فقد كانت على قدر كبير من الذكاء لكي تخدع زوجها عامل الطريق ذلك.

بعد مرور أسبوع واحد فقط، ومن خلال ما ينصُّ عليه القانون في هذه الدولة، تقرر أن أسكن بجوار تشاك بصفة «مُقيم بحماية خاصة». كان بيتي راقيًا مقارنة بصغر حجمِه، بالطبع كانت حضارة هذه الدولة لا تختلف كثيرًا عن حضارة الدول في عالم البشر، أو على الأقل لا تختلف كثيرًا عن حضارة في اليابان، ثمة بيانو صغير في أحد أركان غرفة الضيوف المطلة على الطريق العام، وأيضًا معلَّق في إطار على الحائط لوحة مطبوعة بالحفر، ولكن كان الجزء الأهم في البيت أن مقاسات كل شيء مثل المناضد والكراسي صُنع ليناسب طول قامة الكابَّا، فكان شعوري كأنني وُضعت في غرفة أطفال لا أرتاح معها.

كنتُ دائمًا عندما يأتي المغيب، أستقبل في هذا البيت تشاك وباغ، وأتعلم منهما لغة الكابَّا. كلا، ليس هذان الاثنان فقط، فلأن الجميع كان يحمل فضولًا تجاهي أنا الذي أحمل صفة «مقيم بحماية خاصة»، فقد كان مدير شركة زجاج يُدعى غيل، وكان يَستدعي تشاك خصوصًا كل يوم لكي يقيس له ضغط الدم، كان أيضًا يطل بوجهه في هذا البيت، ولكن في مدة نصف الشهر الأول، كان الصياد الذي يُدعى باغ هو أكثر مَن أقمتُ معه علاقتي الحميمية.

في غروب يوم دافئ رطب، كنتُ أجلس في بيتي هذا مع الصياد باغ وبيننا المنضدة، ثم لا أدري ماذا فكر باغ، ولكنه صمت فجأة ثم أخذ يُحملق فيَّ بعينيه الواسعتين، بالتأكيد شعرت أنا بغرابة وريبة، فقلت له: Quax, Bag, quo quel, quan?

وإن ترجمتُ ذلك للغة اليابانية فهو يعني «يا باغ! ماذا حدث لك؟» ولكن باغ لم يردَّ على سؤالي، ليس هذا فقط، بل وقف فجأة وأخرج لسانه، ثم أخذ وضع القفز وكأنه ضفدعة على وشك القفز، وفي النهاية شعرت بالاستياء فوقفتُ برفق من فوق مقعدي، وكنتُ على وشك الإسراع بالخروج من باب البيت في قفزة واحدة، ولحسن الحظ جاء في تلك اللحظة الطبيب تشاك.

«توقف يا باغ! ماذا تفعل؟»

ظل تشاك يُحدِّق في باغ هذا وهو يضع النظارة فوق أنفه كما هي، وبدا أن باغ شعر بالحرج، فوضع يده على رأسه عدة مرات وهو يَعتذر إلى تشاك كما يلي:

«أعتذر لك بشدة، في الواقع لقد كان منظر هذا السيد وهو خائف مني مشوِّقًا جدًّا، فأخذت أشاكسه دون وعيٍ مني، أرجو منك يا سيدي أن تسامحني أنت أيضًا.»

٣

قبل أن أواصل الحديث عن حكايتي فيما بعد ذلك يجب عليَّ أن أشرح بعض المعلومات الموجزة عن حيوانات الكابَّا، إنَّ الكابَّا هي حيوانات يُشكُّ في وجودها حاليًّا، ولكنني أنا شخصيًّا بما أنني عشتُ بينهم، فما من أدنى شك لديَّ. حسنًا، إن سألنا أي الحيوانات هي، بالتأكيد على رءوسهم شعر قصير، والأيدي والأقدام بها غشاء رقيق بين الأصابع لا خلاف ظاهر عما جاء في كتاب لوجود «دراسات عن نمور الماء»،٢ والطول في حدود متر واحد فقط يَزيد قليلًا أو ينقص قليلًا، والوزن طبقًا للطبيب تشاك، من عشرين إلى ثلاثين رطلًا، ويقول إنه من النادر العثور على كابَّا عملاق يصل وزنه إلى خمسين رطلًا. ثم في منتصف الرأس هناك صحن بيضاوي، وتزداد صلابة هذا الصحن تدريجيًّا مع زيادة العمر، وفي الواقع فإن ملمَس صحن باغ العجوز يختلف تمام الاختلاف عن صحن تشاك الشاب، ولكن الأمر الأعجب هو بالتأكيد لون بشرة الكابَّا. إن حيوانات الكابَّا ليس لها لون محدد مثلنا نحن البشر، ولكن لون بشرتها يتغير ليصبح نفس اللون المحيط بها، مثلًا لو كانت موجودة وسط الأعشاب يتغير لونها إلى لون الأعشاب الأخضر، وعندما تكون موجودة فوق الصخور يتغير لونها للون الصخور الرمادي، ولكن هذا بالطبع لا يقتصر على الكابَّا، ولكن الحرباء أيضًا لها نفس الصفة، وربما كان الكابَّا يمتلك فوق خلايا الجلد شيئًا قريبًا من الحرباء، وعندما اكتشفتُ تلك الحقيقة، تذكرتُ وثائق علم الفولكلور التي تذكر أن الكابَّا في غربي البلاد خضراء اللون والكابَّا في شمالي شرقي البلاد حمراء اللون، ليس هذا فقط، ولكنَّني تذكرت كذلك أنني عندما كنتُ أطارد باغ كان أحيانًا يختفي فجأة عن الأنظار ولا أعلم أين ذهب، بل ويبدو أن الكابَّا يمتلك دهونًا سميكة تحت الجلد، ومع أن درجة حرارة هذه البلاد تحت الأرض مُنخفضة نسبيًّا (متوسط درجة الحرارة في العام في حدود ١٥ درجة مئوية)، إلا أنهم لا يَعرفون شيئًا عن ارتداء الملابس. وبالتأكيد، يضع الكابَّا نظارات طبية ويَحملون علب سجائر، ويحلمون حافظات نقود، ولكن لأن الكابَّا له جراب بطني مثل حيوان الكانغر فهم لا يعانون من مشاكل من حمل تلك الأشياء، ولكن الأمر الذي أدهشني أنا، أنهم لا يُغطُّون ما حول الخصر بأي شيء، وفي أحد الأوقات سألت باغ عن سبب هذه العادة، وعندها ظلَّ باغ يَضحك بلا توقف وهو يحني ظهره للخلف، علاوة على ذلك قال لي: «إنني أرى أن إخفاءك أنت هو الغريب.»

٤

حفظتُ تدريجيًّا كلمات الحوار اليومي التي يستخدمها الكابَّا. وبالتالي بتُّ أفهم عاداتهم وتقاليدهم، وأعجب تلك الطباع الغريبة هي أن الكابَّا تسخر من الأمور التي نعتقد نحن البشر في جدِّيتها، وفي نفس الوقت تَعتقِد الكابَّا بجدية الأمور التي نسخر منها نحن البشر، مثلًا العدالة والأخلاق الإنسانية نراها نحن البشر أمور جدية، ولكن عندما يَسمع الكابَّا ذلك يضحك حتى يستلقي على الأرض من شدة الضحك. بمعنى أن معايير الفكاهة لديهم تختلف اختلافًا كاملًا عن مفهوم الفكاهة لدينا. في مرة من المرات تحدثتُ مع الطبيب تشاك عن تحديد النسل. وعندها ضحك تشاك بشدة فاغرًا فاه حتى سقطت النظارة من على أنفِه، ولأنني بالطبع غضبتُ بشدة فقد سألته عما يُضحكه، وأتذكر أن إجابة تشاك كانت على الأغلب كما يلي، ربما اختلفت بعض التفاصيل البسيطة، فعلى أيِّ حال وقتها لم أكن أستطيع فهم لغة الكابَّا فهمًا تامًّا:

«من المضحك التفكير في الأمر من موقف الأبوَين فقط؛ لأن ذلك في منتهى الأنانية.»

ومقابل ذلك ما من شيء في الواقع أعجب من ولادة الكابَّا بالنسبة لنا نحن البشر، وعلى أرض الوقع بعد مرور فترة بسيطة ذهبت إلى كوخ باغ لمشاهدة ولادة زوجته. إن أنثى الكابَّا عندما تلد طفلًا مثل البشر تمامًا، أي إنها تستعين بطبيب توليد وقابلة، ولكن عند وقت الولادة يضع الأب فمه على العضو التناسُلي للأم وكأنه يتحدَّث في الهاتف، ويسأل بصوت عالٍ: «فكر جيدًا في الأمر ثم أجب: هل تُريد حقًّا أن تولد في هذا العالم؟» وكما هو متوقَّع جثا باغ أيضًا على ركبتَيه وكرر ذلك القول عدة مرات، ثم بعد ذلك تمضمض بالمطهر السائل الموضوع فوق المنضدة، ثم أجاب الطفل الذي داخل بطن الأم الذي بدا مُتحيِّرًا قليلًا بما يلي بصوت منخفض: «إنني لا أريد أن أُولد، فأولًا جينات مرض الجنون التي يَحملها أبي ستكون معاناة شديدة، وعلاوة على ذلك أنا أؤمن أن وجود الكابَّا ذاته وجود شرير.»

عندما سمع باغ ذلك الرد، حك رأسه خجلًا، ولكن القابلة التي كانت حاضرة الموقف، أدخلت على الفور أنبوبًا زجاجيًّا غليظًا في مهبل الزوجة وحقنتها بسائل ما، وعندها أطلقت الزوجة زفرة غليظة وكأنَّ قلبها اطمئن، وفي نفس الوقت تقلَّص بطنها الذي كان منتفخًا انتفاخًا كبيرًا حتى ذلك الوقت مثل بالون نُزع منه غاز الهيدروجين.

ولأنه قادر على مثل هذا الرد، فالكابَّا بمجرَّد ولادته يستطيع الكلام والمشي فورًا، بل لدرجة أنه طبقًا لما قاله تشاك فقد ألقى طفلٌ محاضرةً عن وجود الإله من عدمه في اليوم السادس والعشرين من ميلاده، ولكن هذا الطفل مات في الشهر الثاني فقط من ولادته.

وبمناسبة أنني تحدَّثتُ عن الولادة، دعني أتحدث لك عن ملصق دعائي كبير الحجم رأيته صدفة على قارعة الطريق في الشهر الثالث من مجيئي لهذه البلاد. في أسفل ذلك الملصق الدعائي الكبير رُسم كابَّا عددها بضعة عشر حيوانًا، منها مَن ينفخ في بوق، ومنها من يمسك بسيف، وفوق الرسم صُفَّت حروف ملأت الصفحة من تلك التي يستخدمها الكابَّا وتُشبه بالضبط زنبرك الساعة الحلزوني، وعند ترجمة تلك الحروف الحلزونية، نجد معناها على الأغلب كما يلي، وتلك الترجمة أيضًا ربما بها بعض الأخطاء في التفاصيل الدقيقة، ولكنني على أي حال كتبت في مذكرتي كل ما قرأه لي الطالب الذي يُدعى لاب الذي كان يمشي معي وقتها:

نجمع ونحشد لقوات الشجاعة الجينية!

أيها الكابَّا الأصحاء ذكورًا وإناثًا!

من أجل إبادة الجينات الضارة!

تزوَّجوا من حيوانات الكابَّا غير الأصحاء!

وبالطبع تحدثتُ وقتها إلى لاب عن أن ذلك لا يَحدث حاليًّا. وليس لاب فقط، بل كل من كان بالقرب من الملصَق الإعلاني ضحك على قولي ضحكًا شديدًا.

«لا يحدث؟ ولكنَّني من حديثك اعتقدت أنكم أيضًا تفعلون ما نفعل نحن، أليس كذلك؟ تعتقد لأي سبب يَعشق الابن الخادمة، وتَعشق الابنة السائق، إن كل ذلك يحدث بدون وعي تقريبًا من أجل إبادة الجينات الضارة. وأولًا ما تحدَّثت أنت عنه منذ مدة، عن القوات التطوعية عند البشر — قوات التطوُّع التي تُقاتل بعضها بعضًا من أجل الاستيلاء على خط سكة حديد — ألا تعتقد أنه مقارنة بمثل تلك القوات المتطوعة فإن قواتنا التطوُّعية أكثر نبلًا ورُقيًّا؟»

كان لاب وهو يقول ذلك بجدية، يُحرِّك بطنه السمين فقط بلا انقطاع على شكل موجات عجيبة، ولكنني لم أضحك، بل كنتُ أحاول أن أقبض على كابَّا يمرُّ بجانبي. لأنني انتبهت أن ذلك الكابَّا يحاول أن يستغلَّ غفلتي ويَسرق قلمي الحبر، ولكننا لم نستطع أن نمسك به بسبب سلاسة جلد حيوان الكابَّا. وبعد أن أفلت ذلك الكابَّا بين أيدينا هرب في سرعة مهولة، وهو يبدو أنه على وشك السقوط للأمام بجسده النحيل الذي يشبه البعوضة.

٥

لقد اعتنى بي لاب ذلك عناية فائقة لا تقل على عناية باغ بي، ولكن ما لا يُمكن لي أن أنساه بين ذلك هو تعريفي بالكابَّا الذي يُدعى توك، وتوك هو أحد الأصدقاء الشعراء من الكابَّا. لا يختلف شعراء الكابَّا عن شعراء البشر في إطالة شَعر رأسهم، وكنتُ أحيانًا أذهب إلى بيت توك للترفيه ودفع ما أُحسُّ به من ملل. كان توك يبدو دائمًا أنه يعيش في راحة بال واستمتاع، يَكتب الشعر ويُدخِّن السجائر ويرص أُصُص نباتات أعالي الجبال في ركن من غرفته الضيقة، ثم في ركن آخر من تلك الغرفة ثمَّة أنثى كابَّا (لا يملك توك زوجة لأنه يتبع مذهب الحرية في الحب) تَغزِل شيئًا ما بالكروشيه أو ما شابه. عندما يرى توك وجهي، يقول دائمًا وهو يبتسم (إنَّ ابتسامة الكابَّا في الأغلب الأعم ليس لها معنًى جيد، أو على الأقل كنتُ أنا أشعر في البداية بنفور واستياء منها): «أهلًا، من الجيد أنك أتيت، تفضل بالجلوس على هذا الكرسي.»

كان توك يتحدث إليَّ كثيرًا عن حياة الكابَّا وعن فنونها، وطبقًا لما يؤمن بها توك، ما من شيء أغبى من حياة الكابَّا التقليدية الطبيعية، لا يجد الآباء والأبناء والأزواج والزوجات والإخوة والأخوات من متعة يَعيشون بها إلا التسبُّب في معاناة بعضهم البعض. إن غباء هذا النظام الأسري لا يفوقه أي غباء آخر. في أحد الأوقات أشار توك بيده إلى خارج النافذة وقال وكأنه يتقيَّأ: «انظر! إلى درجة ذلك الغباء!» كان خارج النافذة أنثى كابَّا شابة تبدو أُمًّا تسير بأنفاس متقطِّعة ويَتدلى من عنقها سبعة أو ثمانية من الكابَّا ذكورًا وإناثًا، ولكن لأنَّني تأثرت بروح التضحية لدى الكابَّا الشاب، فمدحتُ على العكس تلك الجراءة.

«آها، إنك تملك مؤهِّلًا أن تكون مواطنًا في هذه الدولة، بالمناسبة هل أنت تؤمن بالمذهب الاشتراكي؟»

أجبت بالطبع qua (في اللغة التي يستخدمها الكابَّا تُعبِّر تلك الكلمة عن معنى «هو كذلك»).

«إذن يُفترض أنك تُمانع من التضحية بعبقري واحد من أجل إرضاء مائة شخص عادي.»

«وأنت ما المذهب الذي تؤمن به؟ لقد قال أحدهم إنَّ ما يؤمن به توك هي اللاسلطوية …»

قال توك بفخر: «أنا؟ إنني سوبرمان (الترجمة الحرفية هي سوبركابَّا).»٣

كان توك هذا يحمل أفكارًا ذات طبيعة خاصة جدًّا فيما يتعلَّق بالفنون، فطبقًا لما يؤمن به، يجب أن يكون الفن غير محكوم بشيء، يجب أن يكون فنًّا من أجل الفن فقط، وبالتالي يجب على الفنان الحقيقي أن يكون سوبرمان وأن يَنقطع عن معايير الخير والشر قبل أيِّ شيء آخر، ولكن ليس هذا بالضرورة رأي توك وحدَه فقط، ولكن على ما يبدو أن كل أصدقاء توك من الشعراء لهم نفس الرأي، وفعليًّا لقد زرتُ عدة مرات مع توك نادي السوبرمان هذا، ويَجتمع في نادي السوبرمان الشعراء والروائيون والمَسرحيون والنقاد والرسَّامون والموسيقيون والنحَّاتون وهواة الفنون … إلخ، ولكنهم جميعًا سوبرمان، وهم يتبادلون الحوارات الصاخِبة في صالون مُنار بمصابيح كهربائية شديدة الإنارة. ليس هذا فقط، بل كانوا أحيانًا ما يتبادلون إظهار قدراتهم الفائقة تلك أمام بعضهم البعض بفخر. على سبيل المثال أحد النحَّاتين أمسك كابَّا شابًّا بين أُصَص نبات السرخس الشيطانية الكبيرة يُمارس معه الحب الذكري. وأيضا روائية من إناث الكابَّا صعدت فوق المنضدة وعلى الفور أظهرت قدرتها على شربِ ستِّين زجاجة من مشروب الأفسنتين الكحولي، وبعد أن شربت الزجاجة الستين سقطَت تحت المنضدة ميتة.

في ليلة قمرية رائعة، رجعتُ من نادي السوبرمان مع توك ونحن نشبك مرفقَينا معًا. كان توك مكتئبًا على غير العادة فلم يَنبس ببنت شفة، وأثناء ذلك مررنا من أمام نافذة صغيرة تشعُّ منها ظلال الإضاءة، وداخل تلك النافذة كان زوجان من الكابَّا وثلاثة أطفال يحيطون بمائدة وجبة العشاء، وعندها تنهَّد توك تنهيدة أسًى وتحدَّث إليَّ فجأةً بما يلي:

«أنا أعتقد أنني سوبرمان في الحب، ولكنَّني مع ذلك كلما رأيت مثل هذا المنظر العائلي أشعر بالغيرة.»

«ولكن مهما فكَّرنا في ذلك ألا تراه تناقضًا؟»

ولكن ظلَّ توك تحت ضوء القمر يُراقب مائدة عشاء تلك الأسرة والكابَّا الخمسة الهانئين في سلام على الجهة الأخرى من النافذة الصغيرة، ثم أجاب كما يلي بعد فترة: «لأنَّ البيض المقليَّ الموجود فوق تلك المائدة صحيٌّ أكثر من الحب.»

٦

في الواقع، إن الحب عند الكابَّا يختلف تمامًا عن الحب عندنا نحن البشر، فمجرَّد أن ترى أنثى الكابَّا ذكرًا يروق لها تُسرع في الإمساك به دون أي اعتبار للوسيلة في سبيل ذلك، والكابَّا الأكثر صراحة من الإناث هي مَن تُلاحق ذلك الذكر بلا هوادة، ولقد رأيتُ فعليًّا أنثى كابَّا تلاحق ذكرًا كالمجنونة. كلا ليس هذا فقط، فبالتأكيد تفعل الأنثى الشابة ذلك ولكن يُلاحق الذكرَ معها أيضًا والداها وإخوانها. إن ذكر الكابَّا فعلًا هو البائس حقًّا. أجل ففي نهاية اللف والدوران هنا وهناك محاولًا الهروب، وحتى لو لم تكتشفه، يَرقد بعد ذلك مريضًا في فراشه لمدة شهرَين أو ثلاثة. في أحد الأوقات، كنت أقرأ ديوان شعر من تأليف توك، وعندها أسرع بالمجيء الطالب لاب، وبعد أن اقتحم لاب بيتي سقط على الأرض، وقال وأنفاسه متقطعة ما يلي: «مصيبة! لقد ألحقتْ بي أخيرًا!»

ألقيت بديوان الشعر على الفور، وذهبتُ لأغلق باب البيت بالقفل، ولكنني تلصصتُ من ثقب المفتاح فرأيتُ أنثى كابَّا قصيرة القامة لطَّخت وجهها بمسحوق الكبريت ما زالت تحُوم حول الباب. ظلَّ لاب منذ ذلك اليوم يبيت في فراشي لعدة أسابيع. ليس هذا فقط، بل لقد تعفَّن منقار لاب تمامًا وسقط.

وبالطبع لا يعني ذلك عدم وجود ذكر كابَّا يُلاحق أنثى كابَّا بكل ما لديه من جهد، ولكن في الحقيقة هذا من أعمال أنثى الكابَّا التي تجعلُه لا يحتمل إلا أن يطاردها، ولقد رأيت ذكور الكابَّا يلاحقون إناث الكابَّا كالمجانين، وفي أثناء هروب الأنثى، أحيانًا ما تتعمَّد أن تقف أو تزحف على أربع. علاوة على ذلك أنها تجعله يمسك بها بسهولة فجأةً وكأنها يئستْ من الفرار. ذكر الكابَّا الذي رأيته بمجرد أن حضن أنثى الكابَّا ظل لبعض الوقت راقدًا في مكانه، ولكن، عندما قام واقفًا أخيرًا، كانت ملامحه لا يُمكن وصفها أهي ملامح ندم أم ملامح خيبة أمل، في كل الأحوال، كان وجهه يُثير الشفقة، ولكن ما زال ذلك أفضل في أي حال. فقد رأيتُ ذكر كابَّا، يلاحق أنثى كابَّا. كانت الأنثى كما هي العادة تَهرُب منه بالجري جريًا أكثر إثارة وإغراءً، وعندها جاء من الجهة الأخرى ذكر كابَّا كبير الحجم وهو يُصفر بمنخاره، ولسبب مجهول عندما رأت أثنى الكابَّا ذلك الذكر صرخت بصوت حاد قائلة له: «النجدة! أرجوك أنقذني! فهذا الكابَّا يريد قتلي!»

وبالطبع أمسك ذكر الكابَّا الضخم على الفور بالكابَّا الصغير وألقى به في عرض الشارع. حاول الكابَّا الصغير عدة مرات أن يمسك الهواء بيده ذات الأغشية التي بين الأصابع، ولكنه في النهاية لفظ أنفاسه الأخيرة ومات، ولكن وقتها أنثى الكابَّا تلك ابتسمت ابتسامة عريضة وطوَّقت عنق ذكر الكابَّا الضخم الجثة بذراعيها والتصقت به.

إن كل من أعرفهم من ذكور الكابَّا أجمعوا على قول واحد أنهم لُوحقوا من إناث الكابَّا، وبالتأكيد حتى باغ الذي لديه زوجة وأطفال لُوحق. ليس هذا فقط، بل وأُمسك به أكثر من مرة، ولكن الفيلسوف ماغ (إنه ذلك الكابَّا الذي يسكن بجوار الشاعر توك) فقط هو الوحيد الذي لم يُمسَك به قط، وعلى الأرجح أن سبب ذلك أن عدد الكابَّا الدميمين دمامة ماغ قليل بالتأكيد، وسبب آخر أن ماغ قليل ما يُظهر وجهَه في الطرقات العامة، بل هو يظلُّ داخل بيته على الدوام. لقد كنتُ أزور بيت ماغ هذا أيضًا من حين لآخر للتحدث معه. كان ماغ دائمًا يضيء البيت المعتم بقنديل زجاجي بسبعة ألوان، ويقرأ دائمًا في كتب ضخمة على مكتب أقدامه عالية، وفي أحد المرات تحاورت معه عن حب حيوانات الكابَّا.

«لِمَ لا تقبض هذه الدولة بحزم وصرامة أكثر على إناث الكابَّا اللائي يُطاردن الذكور؟»

«السبب أن عدد موظَّفي الدولة الإناث قليل؛ لأنَّ مشاعر الغيرة لدى إناث الكابَّا أقوى بكثير منها لدى الذكور، بمجرَّد زيادة عدد موظفي الدولة من الإناث فمن المؤكد أنهن سيعيشون حياة أفضل من الآن دون الاضطرار إلى مطاردة الذكور، ولكن فاعلية ذلك غير معروفة. جرب أن تسأل عن السبب؛ لأن الإناث تُطارد الذكورَ حتى بين موظفي الدولة.»

«وبهذا تكون الحياة على طريقتِك أنت هي أفضل وسيلة للعيش في سعادة، أليس كذلك؟»

وعندها ابتعدت ماغ عن مقعده، ثم قال ما يلي وهو يتنهَّد ويشبك يديه ببعضهما البعض: «من المنطقي أنك لا تفهم لأنك لستَ كابَّا مثلنا، ولكن لسبب أو لآخر حتى أنا، أشعر بالرغبة الشديدة في أن تُطاردني إناث الكابَّا تلك المطاردة المرعبة.»

٧

وكنتُ أذهب من وقتٍ لآخر إلى الحفلات الموسيقية مع الشاعر توك، ولكن ما لا يمكن أن أنساه حتى الآن هي ثالث مرة ذهبت فيها لسماع حفل موسيقي. كان المنظر العام لقاعة الموسيقى لا يَختلف كثيرًا عن اليابان. يجلس ثلاثمائة أو أربعمائة من ذكور وإناث الكابَّا على المقاعد المدرجة من أسفل لأعلى وكلٌّ منهم يُمسِك في يده بجدول البرنامج ويميل بإذنه للموسيقى. في المرة الثالثة تلك لذهابي إلى الحفل الموسيقى، كان معي توك وفتاته والفيلسوف ماغ، نجلس في مقدمة الصفوف، ثم بعد أن انتهى العزف المنفرد للتشيللو، صعد على المسرح كابَّا بعيون رفيعة مريبة يحمل بعشوائية نوتة موسيقية. وطبقًا لما يذكره جدول البرنامج فهذا الكابَّا هو المؤلف الموسيقي الشهير كراباك، وكما يذكر البرنامج … كلا، لا داعي للنظر إلى البرنامج. فلأن كراباك أيضًا عضو في نادي السوبرمان الذي ينتمي إليه توك، فقد كنتُ أنا أيضًا أعرف وجهه.

Lied-Craback (كان جدول برنامج هذه الدولة أيضًا تتراصُّ فيه الحروف الألمانية جنبًا إلى جنب).

بعد أن انحنى كراباك تجاهنا لتحيتنا وسط عاصفة من التصفيق، سار بهدوء تجاه البيانو، ثم بدأ بعد ذلك يعزف بعشوائية ليدة من تأليفه، وطبقًا لكلمات توك فإن كراباك هو العبقرية الموسيقية التي أنجبتْها هذه البلاد ولا يُقارن بمن جاء قبله ولا بمن سيأتي بعده، ولأنني كنتُ مهتمًّا بكراباك بالطبع ومهتمًّا كذلك بالشِّعر الغنائي الذي يُقرض على سبيل الهواية وليس الاحتراف، فكنت أميل بأذني بحماس شديد لأسمع الصوت الصادر من البيانو المقوس العملاق، وعلى الأرجح أن توك وماغ كانا في حالة من النشوة فاقتني كثيرًا، ولكن تلك الكابَّا الأنثى الجميلة (على الأقل هذا بناءً على أقوال حيوانات الكابَّا) فقط كانت تقبض على جدول البرنامج وتُخرج لسانها من حين لآخر بملل وضجر، وطبقًا لما قاله ماغ عن ذلك، فلقد حاولتْ قبل عشر سنوات الإمساك بكراباك ولكنَّه أفلت منها، ولذلك فهي تعدُّ هذا الموسيقار عدوَّها اللدود حتى الآن. استمرَّ كراباك في العزف على البيانو بكل شغف في جميع أعضاء جسده وكأنه في حرب وقتال، وفجأةً انطلقت صرخة كالصاعقة النارية في وسط القاعة تقول: «هذ الحفل ممنوع!» حدثت لي صدمة من ذلك الصوت، ونظرتُ للخلف لا إراديًّا. كان صاحب الصوت بلا أدنى شك هو شرطي الدورية طويل القامة القابع في آخر صف، كان الشرطي عندما التفتُّ أنا للخلف، يجلس في هدوء، ويَصيح مرة ثانية بصوت أعلى من السابق: «هذ الحفل ممنوع!» ثم بعد ذلك …

ثم بعد ذلك وقعت فوضى كبرى في القاعة. انطلقت صرخات من كل اتجاه في القاعة «إنه استبداد من الشرطة!» «اعزف يا كراباك! اعزف! اعزف!» «شرطي أحمق!» «اللعنة!» «انسحب!» «لا تيئس!» … ثم في وسط فوران تلك الأصوات سقطَت المقاعد، وتطايرت كتيبات البرنامج، بل وصل الأمر إلى هطول زجاجات صودا فارغة وبعض الحصى وقطع من خيار مقضوم كالأمطار ولا يُعلم من يقذفها، ولقد ذُهلت من الوضع فسألتُ توك عن أسباب ذلك، لكن بدا أن توك في ثورة هياج ظلَّ يصرخ وهو يقف فوق كرسيه: «اعزف! اعزف! يا كراباك!»

ليس هذا فقط، بل لدرجة أن فتاة توك نسيَت في غفلة من الزمن مشاعر العداء فأخذت تصرخ: «يسقط طغيان الشرطة!» بحماس لا يختلف عن توك بأي حال، ولم أجد مفرًّا من التوجه إلى ماغ بسؤال: «ما الذي حدث؟»

«أتقصد هذه الفوضى؟ يحدث هذا كثيرًا في هذه البلاد، ففي الأصل اللوحات والفنون … إلخ.»

شرح لي ماغ بهدوئه المعتاد وهو يُقلص عنقه قليلًا كلما طار فوقنا شيء مما يقذفه الجمهور الغاضب.

«في الأصل اللوحات والفنون … إلخ، يُفترَض أن معناها واضح لكل ذي عينَين يراها، فلا يُمنع البيع ولا يُمنع العرض في هذه البلاد، وبديلًا عن ذلك تُمنَع حفلات الموسيقى، والسبب بأيِّ حال أن الموسيقى فقط مهما كان اللحن مُفسِدًا للذوق العام، لا تفهمها حيوانات الكابَّا التي لا تملك آذانًا.»

«ولكن هل لذلك الشرطي آذان؟»

«هذا أمر مشكوك فيه، ربما يكون أثناء سماعِه لتلك الأنغام الآن تذكر فجأة نبض قلبه وهو نائم مع زوجته.»

وحتى أثناء هذا الشرح كانت الفوضى مُستمرَّة ووصلت إلى ذروتها، التفتَ كراباك ناحيتنا بتعالٍ وهو جالس أمام البيانو كما هو، ولكن مهما كانت درجة تعاليه، كان لا بدَّ أن يتفادى العديد من الأشياء التي تَتطايَر نحوه، وبالتالي اضطرَّ إلى تغيير وضعية جسمه الصارمة كل ثانيتين أو ثلاث ثوانٍ، ولكنه بأيِّ حال ظلَّ محافظًا على هيبة وجلال الموسيقار العظيم، وظلت عيناه الرفيعتان تتألقان تألقًا مَهولًا. أما أنا — فكنتُ أنا بالطبع أتخذ من توك درعًا واقية لي من المخاطر — فكان الفضول يَلتهمُني فظللتُ أتحدَّث مع ماغ بمنتهى الحماس.

«أليست هذه الرقابة الحكومية وحشيةً واعتداءً على الحريات؟»

«ماذا! إنها على العكس أكثر تقدمًا ورقيًّا من الرقابة في أيِّ دولة أخرى. انظر مثلًا إلى xx. ففي الواقع أنه منذ شهر واحد فقط …»
لحظة أن نطَق بذلك، للأسف سقطت زجاجة فارغة فوق رأسه فصرخ صرخة واحدة quack (وهي مجرَّد حرف تعجب فقط مثل وَي) ثم فقد وعيه.

٨

العجيب أنني كنت أحمل إعجابًا بغيل مالك شركة صناعة الزجاج، إن غيل رأسمالي أكثر من الرأسماليِّين، وعلى الأرجح أنه ما من كابَّا له كرش ضخم مثل غيل بين حيوانات الكابَّا في هذه البلاد، لا شكَّ في ذلك، ومنظرُه وهو يجلس على الكرسي المريح وعلى جانبَيه زوجته التي تُشبه نبات الكراث العريض، وطفله الذي يشبه الخيار، هو المثال الحقيقي للغنى والرفاهية. من حين لآخر كان القاضي بيب والطبيب تشاك يَصحبانني ونذهب لحفل عشاء في بيت غيل، وكذلك ذهبتُ في زيارات لمصانع عديدة لها علاقة إلى حدٍّ ما بغيل وزوجته وأنا أحمل خطابات توصية منهما، ومن بين تلك المصانع العديدة كان أكثر الزيارات إمتاعًا هي زيارة مصنع لشركة تعمل في إنتاج وطباعة الكتب. دخلت المصنع مع مهندس كابَّا شاب، وعندما تأملتُ تلك الآلات الضخمة التي تعمل بالطاقة الهيدروكهربائية، ازداد عجبي مجدَّدًا من التقدم المهول لصناعة الآلات في بلاد الكابَّا تلك، فكما سمعتُ يُنتج ذلك المصنع سبعة ملايين نسخة في العام، ولكن لم تكن دهشتي من عدد النسخ المنتَجة، بل لأن إنتاج مثل هذا العدد من الكتب لا يُكلفهم جهدًا ولو قليلًا، فعلى أي حال إنتاج الكتب في هذه الدولة لا يتطلب إلا وضع ورق وحبر ومسحوق رمادي فقط في فوَّهة آلة تصنيع الكتب التي على شكل قُمع. تدخل تلك المواد الأولية الآلة ثم قبل أن تمر خمس دقائق تقريبًا تُخرج أعدادًا لا نهاية لها من الكتب بأحجام كبيرة ومتوسطة وصغيرة. وأنا أتأمل أنواعًا مُختلفة من الكتب تتوالى الاندفاع ساقطة أمامي مثل الشلال، جربتُ أن أسأل المهندس الشاب الذي التوى ظهره للخلف عن ماهية المسحوق الرمادي المستخدَم، فأجاب المهندس وهو يقف ثابتًا أمام الآلة بنبرة متململة قائلًا: «تقصد هذه؟ هذه أمخاخ الحمير. أجل، تُجفَّف مرةً ثم تُسحق سريعًا. هذا كل ما في الأمر، وسعر الطنِّ منها بسِنَّين أو ثلاث سِنَّات …»٤

بالطبع تلك المُعجزة الصناعية ليسَت قاصرة على شركات صناعة الكتب فقط، بل كذلك شركات صناعة اللوحات، وشركات صناعة الموسيقى يحدث فيها نفس الأمر، بل وفي الواقع وطبقًا لحديث غيل، إن هذه البلاد يُخترع فيها من ٧٠٠ إلى ٨٠٠ آلة في المتوسط كل شهر، وكل المنتجات تُنتج بكميات ضخمة دون انتظارٍ ليدٍ عاملة كثيرة، وبالتالي عدد من يُفصَل من العمل من العمَّال لا يقل عن أربعين أو خمسين ألفًا من حيوانات الكابَّا، ومع ذلك ومع قراءة الجرائد كل يوم في هذه الدولة، لن تجد حرفًا من كلمة إضرابات عمالية، وأنا مع تفكيري أن ذلك أمر غريب، قررتُ أن أنتهز فرصة زياراتي القادمة لحضور حفل في بيت غيل مع بيب وتشاك أن أسألهم عن سبب ذلك.

«لأن الجميع يؤكل».

قال غيل ذلك ببساطة بعد الطعام، وهو يضع في فمه السيجار، ولكنَّني لم أفهم ماذا يعني بكلمة «الجميع يؤكل» تلك، ويبدو أن تشاك بنظارته التي على أنفه قد لاحظ ارتيابي، فتبرع من جانبه بشرح إضافي: «إنَّ هؤلاء العمَّال يتمُّ ذبحهم جميعًا وتُستخدم لحومهم في صناعة المواد الغذائية. انظر إلى هذه الجريدة، في هذا الشهر فُصل بالضبط ٦٤٧٦٩ عاملًا من وظيفته، ولذلك انخفضَت أسعار اللحوم بدرجة مهولة.»

«وهل يُذبح العمَّال ويُقتلون وهم صامتون؟»

«لا حيلة لهم في الأمر حتى إن ثاروا، فثمَّة قانون قتل العمَّال وذبحهم.»

كانت هذه كلمات بيب التي قالها بوجهٍ مرير وهو يجلس وخلفه أصيص الخوخ الجبلي. بالطبع أحسستُ بمشاعر كريهة، ولكن كان غيل بطل القصة، وبالتأكيد بيب وتشاك يفكران أن ذلك طبيعي، وفي الواقع تحدَّث إليَّ تشاك ضاحكًا وكأنه سخر من الأمر: «بمعنى أن الدولة تَختصر مجهودات المجاعة والانتحار؛ فهي تجعلهم يستنشقون غازًا سامًّا لوقتٍ قليل، لذلك لا يشعرون بآلام كبيرة.»

«ولكن أكل ذلك اللحم …»

«لا تمزح! لو سمعك ماغ فسوف يضحك ملء شدقَيه، أليس في بلادك تتحوَّل بنات الطبقة الرابعة٥ إلى عاهرات؟ إنَّ الغضب من أكل لحوم العمَّال يُعدُّ عاطفية منك!»

عرض عليَّ غيل الذي كان يسمع هذا الحوار بيننا صحنًا عليه سندويشات قريبًا منه وهو يقول: «ما رأيك، ألا تتناول واحدًا؟ فهذا أيضًا مصنوع من لحوم العمَّال!»

وبالتأكيد جفلت من ذلك، كلا ليس هذا فقط، بل لقد هربت من غرفة الضيوف في بيت غيل وأنا أسمع خلفي ضحكات كلٍّ من بيب وتشاك. صادف أن تلك الليلة كانت ذات طقس ملبَّد بالغيوم لا يُرى في سمائها التي فوق البيوت ضوء النجوم، وأنا عائد إلى مسكني وسط ذلك الظلام الحالك، تقيأتُ ما في بطني بلا توقُّف، قيئًا ينساب أبيض في ظلام الليل.

٩

ولكن مما لا شك فيه أن غيل رئيس شركة الزجاج كان لطيفًا في تعامله مع الآخرين. كنتُ أحيانًا أذهب مع غيل إلى النادي الذي يَنتمي إليه، وأقضي ليلة ممتعة، والسبب أن ذلك النادي كان بالنسبة لي مريحًا نفسيًّا أكثر بكثير من نادي السوبرمان الذي ينتمي له توك. ليس هذا فقط فحتى إنْ لم يكن لحديث غيل نفس عمق كلام الفيلسوف ماغ، ولكنه بالنسبة لي فتح عيني على عالم جديد بالكامل وجعلني أختلس النظر إلى عالم رحب. لقد تحدَّث غيل إليَّ بأحاديث متنوعة بحيوية ونشاط وهو يُقلِّب كوبَ قهوته بملعقة من الذهب الخالص.

كانت ليلة ذات ضباب كثيف وكنت أسمع حديث غيل وسط مزهريات مُلئت بورد الشتاء، وأتذكر — إن كان ما أتذكَّره صحيحًا — أن الغرفة بأكملها كانت على الطراز الألماني وأن المقاعد والمنضدة فوق أنها ناصعة البياض فهي مذهبة بقشرة ذهبية رقيقة. تحدَّث غيل عن حكومة حزب xQuora الذي كان في ذلك الوقت بالضبط قد سيطر على الحكم وابتسامة فخر عريضة تفيض من محياه أكثر من المعتاد، وكلمة كوراكس مجرد كلمة تعجب فيُمكن ترجمتها إلى «وَيْ» مثلًا، ولكن في كل الأحوال هو حزب شعاره المُناداة «لفائدة جنس الكابَّا كله» أكثر من أيِّ أمر آخر.

«إنَّ من يحكم حزب كوراكس هو السياسي الشهير روب، إن بسمارك يقول: «الصدق هو أفضل سياسة خارجية.» أليس كذلك؟ ولكن روب يصلُ بالصدق حتى إلى السياسة الداخلية …»

«ولكن ماذا عن خطبِ روب السياسية؟»

«اسمع ما أقول، بالتأكيد كل ما في خطبه كذب صراح، ولكن لأنَّ الجميع يعرف أنها كذب ففي النهاية هي والصدق سواء، أليس كذلك؟ إنَّ إصراركم على أنها كذبٌ كلها يُعدُّ تحيزًا منكم أنتم فقط. إننا نحن الكابَّا مثلكم أنتم … ولكن لا أهمية من هذا الكلام. ما أريد التحدُّث عنه هو روب. يتحكَّم روب في حزب كوراكس، ومن يتحكَّم في روب هو كويكوي مالك جريدة Pou-Fou (كلمة «بوفو» تلك هي أيضًا حرف تعجُّب. وإن كان لا بدَّ من ترجمتها فلن أجد ترجمة لها إلا «آها» فقط)، ولكن حتى كويكوي نفسه لا يملك أمره، فمن يملك كويكوي هو غيل هذا الذي أمامك.»

«ولكن، وربما كان ذلك قولًا وقحًا، ولكن ألا تُساند جريدة بوفو وجهة نظر العمَّال؟ ولكن أن يكون مالكها كويكوي تحت سيطرتك …»

«بالتأكيد صحفيو «بوفو» في جانب العمَّال، ولكن كويكوي هو المسيطر على الصحفيين، ولا يستغني كويكوي عن دعم غيل.»

كان غيل مبتسمًا بلا تغيير، وقد اتَّخذ من ملعقة الذهب الخالص ألعوبة في يدِه، وعندما نظرتُ إلى غيل هذا، أكثر من حِقدي على غيل نفسه، شعرت بالتعاطف مع صحفيي جريدة بوفو المساكين، ويبدو أن غيل قد أدرك شعور التعاطف هذا على الفور، فقال ما يلي وهو يَنفخ كرشه الضخم أكثر وأكثر: «ماذا! إنَّ صحفيِّي بوفو ليسوا جميعًا يُساندون العمَّال. على الأقل إننا نحن حيوانات الكابَّا، قبل أن يُساند المرء منا شخصًا آخر، فهو يُساند نفسه أولًا … ولكن الأمر الأكثر تعقيدًا هو حتى غيل هذا يتحكَّم فيه شخص آخر. من هذا الشخص في رأيك؟ إنها زوجتي السيدة غيل الجميلة.»

ثم ضحك غيل بصوت عالٍ.

«على العكس هذا يعني أنك سعيد.»

«على أي حال أنا راضٍ، ولكن أمامك أنت فقط — أنت لأنك لستَ كابَّا — أستطيع التذمر بحرية هكذا.»

«وهذا يعني أن حكومة كوراكس تسيطر عليها السيدة غيل، أليس كذلك؟»

«حسنًا، هذا ما يُشاع أيضًا … ولكن في الحرب التي وقعت قبل سبع سنوات، لا شك أن الحرب بدأت بسبب إحدى إناث الكابَّا على ما أتذكر».

«حرب؟ هل وقعت حروب في هذه البلاد؟»

«بالطبع وقعت، ومَن يدري متى تقع كذلك في المستقبل! طالما ظلَّت البلاد المُجاورة موجودة …»

وفي الواقع لقد عرفتُ في ذلك الوقت لأول مرة، أنَّ بلاد الكابَّا ليست دولة منعزلة وحيدة، فبناء على شرح غيل، فالكابَّا يَعدون القُضاعة عدوهم الدائم، بل والقضاعة تلك لديها استعدادات عسكرية لا تقل عن استعدادات الكابَّا، ولقد أحسستُ باهتمام بالغ بالحديث عن حروب الكابَّا ضد القضاعة (فمهما قلنا إنَّ وجود أعداء أقوياء مثل القضاعة لحيوانات الكابَّا هي حقيقة جديدة لم يعلمها مؤلف كتاب «دراسة عن نمور الماء» بالطبع ولا حتى مؤلف كتاب «الحكايات الشعبية للجبال والجزر» السيد كونيو ياناغيتا).

«قبل وقوع تلك الحرب كانت الدولتان بالطبع تراقب كلٌّ منهما الأخرى بدون أي تهاون، والسبب أن كل دولة كانت خائفة من الأخرى بنفس الدرجة، وعندها كان حيوان قُضاعة مقيم في هذه البلاد في زيارة لزوج وزوجة من حيوانات الكابَّا. وكانت أنثى الكابَّا تلك تنوي قتل زوجها، والسبب أنَّ زوجها كان زوجًا لعوبًا، وعلاوة على ذلك ربما كان وجود بوليصة تأمين على حياته سببًا في إغوائها أكثر لفعل ذلك.»

«هل تعرف الزوجين؟»

«أه، … كلا، كنتُ أعرف الكابَّا الذكر فقط، وزوجتي تقول عنه إنه يشبه الأشرار، ولكن إن سُمح لي بالقول، فقد كان على العكس مجنونًا ذا عقدة اضطهاد نابعة من خوفه من أن يُمسك من إناث الكابَّا أكثر منه شريرًا … عندها وضعت أنثى الكابَّا تلك لزوجها سيانيد البوتاسيوم في كوب الكاكاو، ولا يَدري أحد كيف فعلت ذلك الخطأ، فلقد جعلت ذكر القضاعة الضيف هو الذي يَشربه، وبالطبع مات ذكر القضاعة. ثم …»

«ثم وقعت الحرب على إثر ذلك؟»

«أجل، لسوء الحظ أن ذكر القضاعة ذلك كان يَحمل نوطًا من الدولة.»

«ومن الذي انتصر في الحرب؟»

«بالتأكيد بلادنا التي انتصرت، ومن أجل ذلك استُشهد في الحرب ببسالة ٣٦٩٥٠٠ فرد من الكابَّا، ولكن مقارنة بالعدو، لا يُمثل ذلك خسارة كبرى. إن كل أنواع الفراء التي في هذا البلاد هو فراء القضاعة، وأنا أيضًا وقت تلك الحرب بالإضافة إلى صناعة الزجاج كنتُ أرسل إلى الحرب رماد الفحم.»

«وفيمَ يُستخدم رماد الفحم؟»

«بالطبع يُستخدم غذاءً للكابَّا.»

«لأننا نحن الكابَّا نأكل أي شيء وقت الجوع.»

«معنى ذلك، وأرجوك لا تغضب، ولكن لحيوانات الكابَّا في أرض القتال … هذا نُسميه نحن في بلادنا فضيحة.»

«ولا خلاف أيضًا أن ذلك فضيحة في هذه البلاد. ولكنَّني شخصيًّا إن قلت ذلك لن يعدَّها أحد فضيحة، فحتى الفيلسوف ماغ يقول: «اعترف بلسانك بكل شرورك، وعندها تنمحي كلها» … ولكنني بالإضافة إلى الحرص على مَصالحي كنتُ مُشتعلًا بالوطنية أيضًا.»

وفي تلك اللحظة بالضبط دخل النادل التابع للنادي. انحنى النادل إلى غيل ثم قال ما يلي وكأنه يقرأ من كتاب:

«حريق … إنه حريق!»

اندهش غيل ووقف قفزًا من على مقعده. بالتأكيد وقفتُ أنا أيضًا، ولكن كان النادل هادئًا للغاية وأتبع كلامه: «لقد تمَّ إطفاؤه بالفعل.»

كانت ملامح غيل قريبة من الضحك الباكي وهو ينظر إلى النادل مودعًا، وعندما رأيت ذلك الوجه، أدركتُ أنني أصبحت في غفلة من الزمن أكره صاحب مصنع الزجاج هذا بشدة، ولكن كان غيل يقف أمامي كحيوان كابَّا لا حول له ولا قوة ولا يظهر أنه رأسمالي فاحش الثراء. أخذتُ زهرة ورد الشتاء من المزهرية وأعطيتُها له قائلًا: «ولكن حتى وإن أُطفئ الحريق فمن المؤكَّد أن السيدة زوجتك في حالة صدمة، خذ هذه وارجع إليها.»

«أشكرك.»

قبض غيل على يدي للسلام، ثم ابتسم فجأة ابتسامة خبيثة، وقال لي بصوت منخفض: «إن البيت المجاور مِلكي أيضًا، يمكنني الحصول على مبلغ التأمين.»

ما زلت حتى هذه اللحظة أتذكر ابتسامة غيل وقتها تلك … الابتسامة التي لا أستطيع أن أحتقرها ولا أستطيع أن أكرهها.

١٠

«ماذا حدث؟ إنك اليوم في حالة اكتئاب مريبة، أليس كذلك؟»

في اليوم التالي لذلك الحريق قلتُ ذلك للطالب لاب الجالس في غرفة الضيوف ببيتي وأنا أضع السيجارة على فمي. كان لاب في الواقع يضع ساقه اليسرى فوق ساقه اليمنى، وينظر بشرود إلى الأرض لدرجة لا يظهر فيها منقاره المتعفن.

«ما رأيك يا لاب لو تقل لي ماذا حدث؟»

«لا عليك، فهو أمر مُمل …»

أخيرًا رفع لاب رأسه وأخرج من منخاره صوتًا حزينًا، وقال: «اليوم وأنا أنظر من النافذة همستُ بلامبالاة قائلًا: «تفتَّح البنفسج قاتل الحشرات.» وعندها شحب وجه أختي الصغرى فجأة، وتعاركت معي قائلة: «أجل في كل الأحوال أنا بنفسج قاتل حشرات.» علاوةً على ذلك قامت أمي أيضًا بالهجوم عليَّ لأنها أكبر محابٍ لأختي.»

«ولماذا غضبت أختك من كلمة تفتح بنفسج قاتل الحشرات؟»

«لا أدري، ربما أنها أخذت معناها على أنه الإمساك بذكور الكابَّا. وهنا تدخَّلت خالتي التي على علاقة سيئة مع أمي ولذا أصبح الأمر جلبة كبرى، بل وسمع أبي — الذي يظلُّ سكران طوال العام — العراك فبدأ يَضرب ويلكم الجميع دون تمييز، ومع أنَّ هذه لوحدها مشكلة لا نهاية لها، إلا أن أخي الأصغر في غضون ذلك سرق حافظة نقود أمي، وذهب لمشاهدة السينما. وأنا … أنا لم أعد أطيق …»

دفن لاب وجهه بين كفَّيه، وتوقف عن الكلام وأخذ يبكي. وبالتأكيد تعاطفتُ معه، وفي نفس الوقت، تذكرتُ بالتأكيد احتقار الشاعر توك للنظام الأسري. خبطتُ على كتف لاب وواسيته بكل ما لديَّ من جهد.

«إن هذا يحدث في جميع الأسر، أرجو منك أن تُظهر بسالة وشجاعة لمواجهة الموقف.»

«ولكن … إن لم يكن منقاري قد تعفَّن …»

«ما باليد الحيلة إلا الاستسلام لذلك الأمر. حسنًا، دعنا نذهب معًا إلى بيت توك».

«إن توك يحتقرني؛ لأنَّني لا أستطيع أن أتخلَّى عن الأسرة بجراءة مثله.»

«إذن لنذهب إلى بيت كراباك.»

وقد بتُّ بعد حفل الموسيقى إيِّاه صديقًا لكراباك أيضًا، فقررتُ أن أصحب لاب إلى بيت ذلك الموسيقار العظيم. كان كراباك يعيش في رفاهية من العيش مقارنة بتوك، ولكن لا يعني هذا أنه يَعيش مثل الرأسمالي غيل، ولكن يَمتلئ البيت بالعديد من التحف الأثرية، تتراصُّ في أرجاء الغرفة تماثيل تناغرا وخزف فارسي وأرائك تركية الطراز، ودائمًا يلعب أطفاله تحت صورة بورتريه لكراباك نفسه، ولكنه كان اليوم لسبب مجهول يجلس شابكًا ذراعيه حول صدره بملامح وجه كئيبة. ليس هذا فقط بل تناثرت قمامات كثيرة من الأوراق تحت أقدامه. يُفترض أن لاب التقى كراباك عدة مرات مع توك، ولكنه يبدو أنه خاف من حالته تلك، وانحنى له اليوم بأدب بالغ، وجلس في ركن الغرفة صامتًا.

سألت الموسيقار العظيم على سبيل التحية: «ماذا حدث يا كراباك؟»

«ما الذي حدث؟ هذا الناقد الأحمق! يقول إن أشعاري الغنائية لا يمكن مقارنتها بأشعار توك.»

«ولكنَّك موسيقار …»

«إن هذا فقط ما قاله لكنتُ أستطيع الصبر، ولكنه أضاف أنني لا قيمة لي كموسيقار مقارنة بلوك.»

كان لوك موسيقارًا غالبًا ما يُقارن بكراباك، ولكن للأسف لأنه لم يكن عضوًا في نادي السوبرمان، لم يَسبق لي التحدُّث معه ولو لمرة واحدة، ولكنَّني كنتُ فقط أرى أحيانًا وجهه الذي يحمل طبيعة خاصة بمنقاره الملوي لأعلى في صور له.

«لا شكَّ أن لوك أيضًا عبقري، ولكن موسيقى لوك ليست مثل موسيقاك التي يفيض منها الحماس والشغف الحديث.»

«هل أنت ترى ذلك حقًّا؟»

«بالتأكيد هذا ما أعتقده.»

فقبض كراباك بيده على تماثيل تناغرا وألقى بها على الأرض مُحطمًا إياها، وبدا أن لاب دُهش بشدة فصرخ صرخة مجهولة وحاول القفز هاربًا من البيت، ولكن أشار كراباك له ولي بيدِه بما معناه «لا تَندهِشا»، ثم بدأ يتحدَّث ببرود وهدوء: «ذلك لأنك لا تحمل آذانًا مثل الناس العاديين، إنني أخشى لوك …»

«أنت؟ أرجوك لا تتظاهَر بالتواضُع!»

«ومَن الذي يتظاهر بالتواضُع؟ فأولًا إن كنتُ بدرجة التظاهُر أمامكم أنتم، لكنت تظاهرتُ أمام النقاد، إنني كراباك العبقري. في هذه النقطة لا أخشى لوك.»

«ماذا تخشى إذن؟»

«أخشى شيئًا مجهول المُحتوى … أي إنني أخشى النجم الذي يسيطر على لوك.»

«إنني لا أفهم على وجه الدقة.»

«إذن هل تفهم إن قلت كما يلي: إن لوك لا يتأثر بي، ولكنَّني في غفلة من الزمن أصبحتُ أتأثَّر بلوك؟»

«إنَّ حساسيتك العاطفية …»

«انتظر واسمعني! ليس الأمر شأن حساسية عاطفية، إنَّ لوك مطمئن أنه يُنجز عملًا لا يستطيع إنجازه سواه، ولكنَّني أصاب بالانفعال، وهذا بالنسبة إلى لوك مجرد بُعد بمقدار خطوة واحدة فقط، ولكنه بالنسبة لي عشرة أميال من البعد.»

«ولكن موسيقاك البطولية …»

ضيَّق كراباك من حدقة عينيه ورمق لاب بنظرات حادَّة مؤلمة.

«اصمت! ما الذي يفهمه شخص مثلك؟! إنني أعرف لوك. إنني أعرف لوك أكثر من الكلاب التي تنبطح أرضًا وتطلُب السماح من لوك.»

«حسنًا، حاول أن تهدأ!»

«دائمًا أفكر: … آه لو كنتُ قادرًا على التزام الهدوء، إنني أعلم جيدًا أن الفيلسوف ماغ يقول: «إن شيئًا لا نعرفه وضع لوك أمام كراباك من أجل السخرية منه.» مع أنه لا يفعل إلا قراءة الكتب العتيقة دائمًا تحت قنديلٍ بسبعة ألوان.»

«لماذا؟»

«انظر إلى كتاب «كلمات الأحمق» الذي ألفه ماغ مؤخرًا …»

ثم أعطاني كراباك أحد الكتب … بل الأصح القول إنه قذف به إليَّ، ثم بعد ذلك رجع يشبك ذراعيه على صدره، وقال بعنف: «حسنًا يكفي هذا اليوم.»

وقررتُ أن أخرج للشارع مرة أخرى مع لاب الذي كان في كآبة شديدة. تراصت المحلات على جانبي الطريق تحت ظلال أشجار الزان في الشارع الذي كثر فيه المارة كالمعتاد. كنا نمشي صامتين بدون هدف، وعندها مرَّ أمامنا الشاعر توك بشعره الطويل، وعندما رآنا توك، أخرج من جراب بطنه منديلًا ومسح جبهته عدة مرات.

«أهلًا، لم نتقابل منذ مدة، لقد كنت ذاهبًا لزيارة كراباك بعد فترة غياب …»

وفكرتُ أن تركهما يتعاركان معًا أمر غير حميد، فتحدثتُ إلى توك بطريقة غير مباشرة عن مدى سوء حالة كراباك المزاجية.

«حقًّا. إذن ما من ضرورة لزيارته، فكراباك على أي حال مصاب بالوهن العصبي … وأنا أيضًا في حالة سيئة لأنني لا أستطيع النوم منذ أسبوعين أو ثلاثة أسابيع.»

«ما رأيك في التنزه معنا؟»

«كلا، اعفِني اليوم، عجبًا!»

هكذا صرخ توك ثم أسرع بإمساك بذراعي بقوة، بل وكان كل جسمه ينز بعرق بارد.

«ماذا حدث؟»

«ماذا حدث؟»

«لقد رأيت وكأن قردًا أخضر اللون يُخرج عنقه من نافذة تلك السيارة.»

أصابني القلق إلى حدٍّ ما، ونصحته بأن نذهب ليكشف عليه الطبيب تشاك، ولكن لم يبد توك أي بادرة للموافَقة على ذلك. ليس هذا فقط، بل ظل ينظر إلى كل منَّا بالتبادل نظرات شك وارتياب لدرجة أنه بدأ يقول لنا: «إنني لست أناركيًّا مطلقًا. أرجو منك ألا تنسى هذا الأمر فقط … وداعًا إذن. لن أذهب مطلقًا إلى تشاك أو غيره.»

وقفنا مذهولين في شرودٍ نتأمَّل ظهر توك الذي رحل. كنا … كلا ليس «كنا». فجأة فرج الطالب لاب بين ساقيه في وسط الطريق على حين غفلة وانقلب برأسه ليختلس النظر إلى المارة والسيارات من بين ساقَيه، وفكرت أن ذلك الكابَّا قد جُنَّ واندهشت، ثم جذبته ليعتدل.

«لا تمزح! ما الذي تفعله؟»

ولكن فرك لاب عينيه بيديه، وقال بهدوء لم أتوقعه: «كلا، ولكن لأنني مكتئب، قررتُ النظر إلى العالم بالمقلوب، ولكنه كما توقعت هو نفسه بدون تغيير.»

١١

هذه بعض الفصول الذي كتَبها الفيلسوف ماغ في كتابه «كلمات الأحمق».

•••

يؤمن الأحمق دائمًا أن الآخرين غيره حمقى.

•••

إن حبنا للطبيعة نابع من أن الطبيعة لا تكرهنا ولا تغار منا.

•••

إن حياة الفطنة هي أن تعيش محتقرًا عادات وتقاليد العصر، وفي نفس الوقت لا تخرقها بتاتًا.

•••

إنَّ الشيء الذي نريد أن نفخر به بشدة هو فقط الشيء الذي لا نملكه.

•••

ما من أحد لديه اعتراض على تحطيم الأصنام، وفي نفس الوقت لا أحد لديه اعتراض على أن يُضحي هو نفسه صنمًا، ولكن من يجلس مُطمئنًّا على قاعدة الصنم هم أكثر من أنعمت عليهم الآلهة … أي الحمقى أو الأشرار أو الأبطال. (وضع كراباك آثار أظافره تحت تلك الجملة.)

•••

ربما تكون الأفكار الضرورية للحياة قد انتهت قبل ثلاثة آلاف عام، وعلى الأرجح أننا فقط نُضيف لهبًا جديدًا على الحطب القديم.

•••

دائمًا ما تفوق مميزاتنا الخاصة ما ندركه نحن شخصيًّا منها.

•••

إنْ كانت السعادة تُصاحبها الآلام، والسلام يُصاحبه الملل …

•••

إن الدفاع عن النفس أصعب بكثير من الدفاع عن الآخرين. مَن يَشك في ذلك فلينظر إلى المحامين.

•••

منذ ثلاثة آلاف عام تنبع كل أنواع الجرائم من ثلاثة … الفخر والحب والشك، وفي نفس الوقت — ويا له من رعب! — تنبع كل أنواع الفضائل.

•••

ليس من الضرورة أن نقص الشهوات المادية يُؤدي إلى السلام، بل يجب علينا لكي نحصل على السلام أن نقلل من شهواتنا الروحية كذلك. (وضع كراباك آثار أظافره تحت تلك الجملة.)

•••

نحن أكثر تعاسة من البشر؛ لأن البشر لم يبلغُوا بعد مبلغ الكابَّا من التطور. (عندما قرأت تلك الجملة ضحكتُ رغمًا عني.)

•••

المفعول هو ما يمكن فعله، وما يُمكن فعله هو ما يُفعل. إن حياتنا في النهاية لا يمكنها أن تخرج عن تلك الحلقة المُفرغة … أي إنها غير منطقية من البداية للنهاية.

•••

بعد أن جُنَّ بودلير كانت نظرته للعالم في كلمة واحدة … عبَّر عنها بفرج المرأة، ولكنه شخصيًّا لم يكن ما يَحكيه يعبر عن ذلك بالضرورة. على العكس بل لأنه وثق في عبقريته … عبقريته الشاعرية التي تكفي للحفاظ على معيشته، فقد نسي كلمة المعدة. (كما هو متوقع وضع كراباك آثار أظافره تحت تلك الجملة أيضًا.)

•••

إن اتَّبعنا العقل والمنطق حتى النهاية، من الطبيعي أننا نحن أنفسنا يجب أن ننفي ونُنكر وجودنا. إن نهاية حياة فولتير الذي جعل المنطق إلهًا نهاية سعيدة، هي الدليل على أن البشر أقل تطوُّرًا من الكابَّا.

١٢

في ظهيرة يوم يَميل إلى البرودة، لأنني مللتُ من قراءة كتاب «كلمات أحمق»، خرجتُ للقاء الفيلسوف ماغ، وعندها وجدت ذكر كابَّا نحيفًا مثل البعوضة في ركن مُوحِش من هذه المدينة، يستند في شرود على الحائط، بل وكان بلا أي شك هو الكابَّا الذي سرق ذلك الوقت قلمي الحبر وهرب به، ولأنني فكرت أنني أمسكت به استدعيت شرطي الدورية الذي كان يمر بالصدفة في هذا المكان.

«أرجو منك أن تستجوب ذلك الكابَّا؛ لأنه سرق قلمي الحبر منذ حوالي شهر.»

رفع ذلك الشرطي يده اليُمنى الممسكة بالعصا (إن شرطي الدورية في هذه الدولة يُمسك عصا من خشب السَّرو بدلًا من المسدس) وتحدث إلى ذلك الكابَّا قائلًا: «يا هذا!»

وخشيتُ من أن يفرَّ ذلك الكابَّا هاربًا، ولكنه اقترب من شرطي الدورية في حالة هدوء غير متوقعة. ليس هذا فقط، بل ظل يُحملق بمنتهى التبجح في وجهي وفي وجه شرطي الدورية وهو كما هو يُشبك ذراعيه معًا، ولكن لم يُبدِ الشرطي غضبه بل أخرج مفكرة من جراب بطنه وبدأ على الفور التحقيق معه: «ما اسمك؟»

«غورك.»

«ما وظيفتك؟»

«كنتُ أعمل ساعيَ بريد حتى أيام قليلة مضت.»

«حسنًا، طبقًا لادِّعاء هذا الشخص، فلقد سرقتَ منه قلمه الحبر.»

«أجل. لقد سرقته منذ شهر تقريبًا.»

«ولِمَ سرقتَه؟»

«فكرتُ أن أجعله لعبة لطفلي.»

«أين ذلك الطفل؟»

«مات منذ أسبوع.»

«وهل معك شهادة وفاته؟»

أخرج الكابَّا النحيل ورقة من جراب بطنه، فمرَّ الشرطي بعينيه على تلك الورقة ثم ضرب فجأة بيده على كتف الطرف الآخر وهو يَضحك بمرح.

«حسنًا. شكرًا لتعاونك معنا.»

تأملتُ وجه شرطي الدورية وأنا مذهول، بل وقد تركنا ذلك الكابَّا النحيل وراء ظهره ورحل وهو يُغمغم بفمه بكلام مُبهَم. استعدت وعيي أخيرًا وسألت شرطي الدورية السؤال التالي: «لِمَ لا تقبض على ذلك الكابَّا؟»

«لأنه بلا جرم.»

«ولكنه سرق قلمي الحبر …»

«من أجل أن يجعله لعبة لطفله، أليس كذلك؟ ولكن ذلك الطفل قد مات. إن كان لديك شك فأرجو منك أن تقرأ المادة رقم ١٢٨٥ من قانون العقوبات.»

قال الشرطي ذلك ورحل مُبتعدًا عني على الفور، ولأنني لم يكن لديَّ حيلة أخرى أخذت أردِّد كلمة «المادة رقم ١٢٨٥ من قانون العقوبات» على لساني وذهبتُ مسرعًا إلى بيت ماغ. إن الفيلسوف ماغ يحبُّ الزوار، وفعليًّا كان يتجمَّع عنده اليوم في غرفته المعتمة القاضي بيب والطبيب تشاك ورئيس شركة الزجاج غيل، وينفثُون دخان سجائرهم تحت القنديل الزجاجي ذي السبعة ألوان، وقدوم القاضي بيب معهم كان بالنسبة لي فرصة رائعة، وبمجرَّد أن جلست على المقعد، وبدلًا من أن أبحث في المادة رقم ١٢٨٥ من قانون العقوبات سألت بيب على الفور: «يا سيد بيب سيبدو سؤالًا في منتهى الوقاحة، ولكن ألا تعاقب هذه الدولة المجرمين؟»

رفع بيب ببطء دخان سيجارته ذات المبسم الذهبي عاليًا، ثم أجاب بملل شديد: «بالتأكيد تعاقبهم، بل لدرجة تنفيذ حكم الإعدام عليهم.»

«ولكنني منذ شهر تقريبًا …»

وحكيت له الحكاية ثم سألته عن المادة رقم ١٢٨٥ من قانون العقوبات.

«أجل، إن هذه المادة تنص على ما يلي: «مهما كانت الجريمة المرتكَبة فلا يمكن توقيع العقوبة على الجاني بعد زوال الظروف التي أدَّت إلى ارتكابه للجريمة» بمعنى أنه في حالتك كان ذلك الكابَّا أبًا في السابق ولم يَعُد أبًا الآن، ولذا فقد زالت الجريمة.»

«إن ذلك غير منطقي.»

«لا تمزح. إن من غير المنطقي النظر إلى كابَّا كان أبًا نفس النظرة إلى كابَّا لم يعد أبًا. أجل، أجل إن قوانين اليابان تُعاملهما نفس المعاملة، وذلك أمر مضحك جدًّا بالنسبة لنا هاهاها، هاهاها.»

تسرَّبت ضحكات خافتة بلا رُوح من بيب وهو يخرج دخان سيجارته، وتدخل في الحديث هنا تشاك الذي ليس له أية علاقة بالقانون. عدل تشاك النظارة الطبية على أنفه ثم سألني: «هل في اليابان أيضًا عقوبة الإعدام؟»

«أجل. في اليابان يتم الإعدام شنقًا.»

ولأنني شعرت بالاعتراض تجاه بيب الذي بدا لا مباليًا انتهزت هذه الفرصة لكي أصبَّ عليه سخريتي.

«من المؤكَّد أن الإعدام هنا يُنفذ بطريقة أكثر تحضرًا من اليابان، أليس كذلك؟»

«بالتأكيد هي طريقة متحضِّرة.»

كان بيب كما هو متوقَّع هادئًا.

«نحن لا نَستخدم في هذه الدولة طريقة الإعدام شنقًا. أحيانًا نادرة نستخدم الصعق بالكهرباء، ولكن في الأغلب لا نَستخدم الكهرباء كذلك، بل فقط نُردِّد على مسامع الجاني اسم تلك الجريمة.»

«وهل يموت الكابَّا بذلك فقط؟»

«يموت بالتأكيد، فتأثير الخلايا العصبية لنا نحن الكابَّا أكثر حساسية بكثير منكم أنتم أيها البشر.»

«ولا يَنطبق هذا على طريقة الإعدام فقط، بل تستخدم تلك الطريقة في جرائم القتل كذلك …»

أبدى غيل رئيس الشركة وجهًا محبوبًا لدى الآخرين، وقد انعكسَت عليه إضاءة القنديل الزجاجي الملون.

«لقد كنتُ على وشك الإصابة بالشلل مؤخرًا لأن أحد الاشتراكيين قال لي: «أنت لص».»

«هذا يحدث كثيرًا على غير المتوقَّع، لأن أحد معارفي من المحامين مات بسبب ذلك.»

نظرت للخلف للكابَّا الذي قال ذلك وهو الفيلسوف ماغ، وكما هي عادتُه دائمًا كان ماغ يتحدَّث وهو يَبتسِم ابتسامة ساخرة دون أن ينظر إلى وجه أحدٍ منا.

«لقد قال أحدهم لذلك الكابَّا يا ضفدع — كما أعتقد أنك أنت أيضًا تعلم أن قول يا ضفدع في هذه البلاد أشد أنواع الشتائم — فكان كل يوم يُفكِّر أحقًّا أنا ضفدع أم أنني لست ضفدعًا؟ إلى أن مات في النهاية.»

«معنى هذا أنه انتحر، أليس كذلك؟»

«ولكن تُرى هل ذلك الكابَّا الذي نعته بالضفدع كان يقصد بذلك قتلَه؟ أم أن الأمر يبدو من وجهة نظركم انتحار؟ …»

وفي ذلك الوقت بالضبط الذي قال ماغ فيه ذلك، على الجانب الآخر تمامًا من جدار تلك الغرفة — على ما أتذكَّر أنها شقة الشاعر توك — صدر صوت طلقة مسدس مدوية زلزلت الهواء بقوة عارمة.

١٣

أسرعنا بالذهاب إلى بيت توك، كان توك ساقطًا على ظهره وسط أُصص نباتات الجبال العليا وتَنزِف الدماء بغزارة من صحن رأسه ويده اليُمنى قابضة على المسدس كما هي. وبجواره أنثى كابَّا تدفن وجهها في صدر توك وتَنحب نحيبًا شديدًا. حملتُ أنثى الكابَّا وجعلتها تنهض واقفة (في الأصل كنت لا أحب لمس جلد الكابَّا اللَّزِج)، وسألتها: «ما الذي حدث؟»

«لا أدري ما الذي حدث، ولكنه كان يكتب شيئًا ما، وفجأة أطلق المسدس على رأسه. آه. ما الذي يحب عليَّ فعله؟ qur-r-r-r-r, qur-r-r-r-r» (إن هذا هو صوت بكاء حيوانات الكابَّا).

هز غيل رئيس مصنع الزجاج رأسه وتحدث إلى بيب القاضي قائلًا: «على أي حال لقد كان السيد توك أنانيًّا.»

ولكن لم يَقُل بيب شيئًا، فقط أشعل النار في سيجارته ذات المبسم الذهبي. وعندها تشاك الذي كان جاثيًا حتى الآن يفحص الجرح أعلن فجأةً لنا نحن الخمسة: «كنا إنسانًا واحدًا هو أنا وأربعة كابَّا» بهيئة تليق جدًّا بطبيب.

«نُفِّذ الأمر. لقد كان السيد توك في الأصل مريضًا بمرضٍ معوي، لذا كان من السهل وقوعه في براثن الاكتئاب».

«وماذا كان يكتب؟»

همس الفيلسوف ماغ بهذا السؤال محدثًا نفسه وكأنه يدافع عنه، ثم أمسك بالورقة التي فوق المكتب. مددنا جميعًا أعناقنا (أنا الوحيد الذي كنتُ استثناءً)، وأخذنا نختلس النظر على الورقة من فوق كتف ماغ العريض.

«حان وقت الرحيل، إلى الوادي الذي يَفصلنا عنه عالم المعاناة.

إلى الوادي الذي يفوح فيه أريج زهور الأعشاب الطبية.

وتتجمَّع الصخور في وادٍ ضيق وعر، ومياه الجبال الصافية.»

التفت ماغ ناحيتنا وقال ما يلي وعلى وجهه ابتسامة مُتكلَّفة: «إنها انتحال من أغنية «ميغنون Mignon» لغوته، وهذا يعني أن السيد توك انتحر بسبب تعبِه وإرهاقه من كونه شاعرًا.»

وفجأة جاء الموسيقار كراباك راكبًا سيارة، وعندما رأي كراباك ذلك المنظر وقف مذهولًا لبعض الوقت عند الباب، ولكنه عندما اقترب من أمامنا، ثم تحدث إلى ماغ وكأنه يصرخ: «هل تلك هي وصية توك؟»

«كلَّا، إنها آخر ما كتب من شعر.»

«شعر؟»

وكما هو متوقَّع سلم ماغ الذي لم يَندهِش ولو قليلًا، شعر توك إلى كراباك ذي الشعر المشعث. بدأ كراباك يقرأ مسودة ذلك الشعر بحماس بدون أن ينظر إلى المحيطين، بل إنه لم يجب على كلمات ماغ.

«ما رأيك في موت توك؟»

«في وقت الرحيل، … حتى أنا لا أدري متى أموت! إلى الوادي الذي يَفصلنا عن عالم المعاناة …»

«ألم تكن أحد أصدقاء توك المقرَّبين؟»

«مقربين؟ لقد كان توك في وحدة دائمة، إلى الوادي الذي يفصلُنا عن عالم المعاناة … ولكن كان توك لتعاستِه … الصخور وعرة …»

«لتعاسته؟»

«مياه الجبال صافية … إنكم سعداء … الصخور وعرة …»

ولأنني كنتُ مُتعاطفًا مع أنثى الكابَّا التي ما زالت حتى ذلك الوقت لا تتوقف عن البكاء، لذا حضنت كتفَها برقَّة وصحبتها لتجلس على أريكة في ركن الغرفة. كان هناك طفل كابَّا في عمر سنتين أو ثلاث سنوات يضحك وهو لا يدري شيئًا مما يَحدث، ولاطفتُ الطفل بدلًا من الأنثى، وعندها شعرتُ في غفلة من الزمن أن الدموع تجمَّعت في عيني، وكانت تلك أول وآخر مرة أذرف فيها دموعي في الفترة التي قضيتُها في بلاد الكابَّا.

«إن هي الأسرة المسكينة هي ضحية العيش مع هذا الكابَّا الأناني.»

«أجل فهو لم يُفكِّر في عاقبة ما فعله.»

هكذا أجاب القاضي بيب على رجل الأعمال غيل وهو يُشعل النار في سيجارة جديدة، ثم أدهشنا صراخ الموسيقار كراباك. صرخ كراباك وهو يقبض على مسودة الشِّعر دون أن يوجه كلامه إلى شخص بعينه: «وجدتها! لقد ألفتُ موسيقى جنائزية رائعة.»

قبض كراباك على يد ماغ وعيناه تلمعان، ثم خرج فجأة قفزًا من الباب. بالطبع كان في ذلك الوقت كل جيران بيت توك قد تجمَّعوا عند مدخل بيته، يتلصَّصون إلى داخل البيت بنظرات من ينظر إلى شيء نادر، ولكن بالطبع دفعهم كراباك بقوة يَمينًا ويسارًا وأسرع بالركوب في سيارته برشاقة، وتزامن ذلك مع إطلاق السيارة ضجيج مُحرِّكها واندفاعها في الطريق إلى مكان مجهول.

«اذهبوا! لا يجب عليكم التلصُّص هكذا.»

قال القاضي بيب ذلك قائمًا بدور الشرطة وطرد حيوانات الكابَّا التي تجمعت بعدد كبير، ثم أغلق باب بيت توك، وربما بسبب ذلك تنزَّل الصمت المطبق على المكان فجأة. كنا ونحن في ذلك الصمت والهدوء، وسط شذى أزهير نباتات الجبال الشاهقة المختلطة برائحة دماء توك، نَتناقش فيما يجب علينا فعله بعد ذلك، ولكن كان ذلك الفيلسوف ماغ فقط شاردًا يفكر في أمر ما وهو يتأمل جثة توك. ربت على كتف ماغ، وسألته: «فيم تفكر؟»

«في حياة الكابَّا.»

«إلام ستصير تلك الحياة؟»

«إننا نحن الكابَّا، مهما حدث ومهما سيكون، من أجل أن نستمرَّ في هذه الحياة أنْ …»

ثم أضاف ماغ بصوت خفيض وهو يبدو خجلًا قليلًا: «على أي حال يجب علينا أنْ نؤمن بقُدرة شيء ما خارج نطاقنا نحن حيوانات الكابَّا»

١٤

إن ما جعلني أتذكر الأديان هو كلمة ماغ تلك، ولأنني أتبع المذهب المادي، فلا شك أنني لم يسبق أن فكرت بجدية في الأديان، ولكن في ذلك الوقت من أجل أنني تأثَّرتُ بموت توك إلى حدٍّ ما، بدأت أفكر تُرى ما هو ديانة الكابَّا؟ وعلى الفور سألت الطالب لاب ذلك السؤال: «تُقام تعاليم المسيحية والبوذية والإسلام٦ والزرادشتية،٧ وفي البداية أكثر الأديان انتشارًا هو الديانة العصرية، التي يمكن وصفها بالديانة المعيشية.»
[ربما تكون ترجمتي (الديانة المعيشية) غير صائبة؛ فأصلها كلمة Quemoocha، وعلى الأرجح أن cha تُشبه كلمة ism في اللغة اللاتينية، وكلمة quemoo أصلها فعل quemal، وهي ليس بمعنى «يعيش» ببساطة، بل إن معناها «يأكل ويشرب الخمر ويتناسل … إلخ».]

«معنى ذلك إذن أن في هذه البلاد كنائس ومساجد ومعابد، أليس كذلك؟»

«لا يجب أن تمزح. إن معبد الديانة العصرية هو أكبر مباني هذه البلاد. ما رأيك ألا نذهب لزيارته؟»

خرج لاب بفخر معي لزيارة ذلك المعبد الكبير في ظهيرة يوم غائم دافئ بعض الشيء. كان بالفعل مبنًى عملاقًا يبلغ حجمه عشرة أمثال كاتدرائية نيقولاي. ليس هذا فقط، بل كان مبنى ضخمًا أنشئ من تجميع مختلف الطُّرز المعمارية في طراز واحد. عندما وقفتُ أمام ذلك المعبد، أتأمل الأبراج العالية والقباب الدائرية، شعرت نوعًا ما بالنفور والاستياء، ولقد بدا لي في الواقع وكأنه مجسات بلا عدد تمتدُّ تجاه السماء. ظللنا واقفين بثبات أمام البوابة الرئيسة (تُرى إلى أي مدًى كنا صغارًا مقارنة بتلك البوابة العملاقة!) ننظر عاليًا إلى ذلك المعبد النادر الذي كان يبدو كأنه وحش عملاق أكثر منه مبنى معماري.

وكان المعبد الكبير ضخمًا من الداخل كذلك. كان القادمون للزيارة وللعبادة يمشون وسط تلك الأعمدة الكورنيثية الدائرية الواقفة، ولكنهم ظهروا مثلنا في منتهى الصغر، وقابلنا من بينهم كابَّا محنيَّ الظهر، وعندها بعد أن أحنى لاب رأسه لذلك الكابَّا، تحدث إليه كما يلي بأدب بالغ: «من الجيد يا شيخنا أن تكون هكذا في خير حال.»

حيَّاه ذلك الكابَّا برأسه ثم أجاب كذلك بأدب بالغ: «هل أنت السيد لاب؟ أنت كما أنت لا تتغير … (على الأرجح أنه بدأ يقول ذلك ولكنه لم يُكمل كلامه لأنه انتبه إلى منقار لاب المتعفِّن) … آه، على أي حال تبدو في صحة جيدة أليس كذلك؟ ولكن ماذا حدث لكي تأتي اليوم؟»

«لقد جئتُ اليوم بصحبة هذا الرجل. إنه وكما تعلم على الأرجح …»

تحدَّث لاب عني باندفاع وسلاسة، ويبدو أن ذلك كان حُجة قوية لعدم حضور لاب إلى المعبد إلا نادرًا.

«بهذه المناسَبة كنتُ أرجو أن تُرشد هذه الرجل داخل المعبد.»

أولًا وجَّه الشيخ التحية لي بابتسامة عريضة، وأشار بهدوء إلى المذبح المقدَّس الذي في الواجهة.

«مهما قلت إرشاد فأنا لا يُمكن أن أفيد بشيء. إن ما نعبده نحن المؤمنين هو «شجرة الحياة» تلك التي في المذبح المقدَّس في الواجهة، وكما ترى فإن «شجرة الحياة» ثمارها بلون ذهبي ولون أخضر، الثمر الذهبي يُسمَّى «ثمر الخير» والثمر الأخضر يُسمى «ثمر الشر» …»

بدأتُ أشعر بالملل أثناء هذا الشرح، وذلك لأنني سمعت في كلمات ذلك الشيخ مجازًا عتيقًا، ولكنَّني بالتأكيد تظاهرت بأنني أسمع بحماس، ولم أنسَ أن ألتفتَ بنظري إلى داخل المعبد الكبير من وقتٍ لآخر.

الأعمدة الكورنيثية والقباب القوطية والأرضية بتصميمات الشطرنج على الطراز العربي ومنصَّة الصلاة التي هي أقرب ما تكون إلى الطراز الألماني الانفصالي … كان ذلك التوافق الذي يَصنع كل تلك الأشياء يَحتوي على جمال همجي مريب، ولكن أكثر ما شدني هو تمثالان صُنِعا من المرمر داخل مقصورتين على الجانبين. كنتُ أفكر أنني أعرف التمثالين من قبل، ولم يكن ذلك غريبًا؛ فبعد أن أنهى ذلك الكابَّا محني الظهر شرح «شجرة الحياة»، اقترب معي ومع لاب من التابوت الذي على اليمين، وبدأ يضيف الشرح التالي الخاص بالتمثال النصفي الذي داخل المقصورة: «إن ذلك هو أحد القديسين … إنه القديس ستريندبرغ الذي اعترض على كل شيء. إن هذا القديس بعد أن عانى معاناةً شديدة، يُقال إنه نجا من فلسفة سويدنبورغ، ولكنه في الحقيقة لم ينجُ، وهذا القديس ما زال يؤمن بالديانة المعيشية مثلنا تمامًا … أو يجب القول إنه لم يكن أمامه إلا أن يؤمن بها. أرجو أن تجرب قراءة كتاب «الأسطورة» الذي تركه لنا ذلك القديس، فهذا القديس بنفسه يعترف فيه أنه حاول الانتحار.»

أصبتُ بالاكتئاب قليلًا، ثم بعد ذلك نظرتُ إلى المقصورة. كان من في المقصورة التالية رجل ألماني بشارب غليظ.

«إن هذا هو نيتشه شاعر زرادشت. لقد كان هذا القديس يَطلب النجاة من السوبرمان الذي صنعه القديس بنفسه، ولكنه كما هو متوقَّع أصيب بالجنون، ولكنه إن لم يُجن، فربما لم يكن ليدخل في عداد القديسين …»

صمت الشيخ قليلًا ثمَّ أرشدنا إلى المقصورة الثالثة.

«من يشغل المقصورة الثالثة هو تولستوي. إنَّ هذا القديس هو أكثر من قام بالممارسات التنسُّكية الشاقة؛ وذلك لأنه كان يكره أن يُظهر معاناته للعامة كثيري الفضول بسبب أنه كان في الأصل من النبلاء. لقد بذل ذلك القديس جهدًا لكي يؤمن بالمسيح الذي لا يؤمن به في الحقيقة. كلا بل لدرجة أنه قال علانية إنه يؤمن به. وأخيرًا أصبح في نهاية حياته لا يستطيع تحمل المأساة والبطولة معًا، ويُشتهر عن هذا القديس كذلك أنه كان يشعر بالخوف من عوارض مكتبتِه، ولكنه لم ينتحر بالطبع، ولذلك دخل في عداد القديسين.»

كان التمثال النِّصفي الذي تَحتويه المقصورة الرابعة هو أحد اليابانيين، وعندما رأيت وجه ذلك الياباني، أحسستُ بالحنين والشوق إليه.

«هذا هو دوبُّو كونيئدا. إنه شاعر يَعرف بوضوح مشاعر العمَّال الذين يموتون دهسًا بالسيارة، ولا شك أنه لا حاجة لأن أشرح لك أكثر من ذلك. حسنًا انظر إلى المقصورة الخامسة …»

«أليس هذا فاغنر؟»

«بلى، الثوري الذي كان صديقًا للملك، لقد كان القدِّيس فاغنر في أواخر عمره يُصلي حتى صلاة قبل الوجبات، ولكنه بالطبع كان أحد المؤمنين بديانة المعيشة أكثر من الديانة المسيحية، وطبقًا للرسالة التي ترَكها فاغنر، فلا يُعرف عدد المرات التي أودت المعاناة بهذا القديس إلى عتبات الموت.»

كنا في ذلك الوقت نقف بالفعل أمام المقصورة السادسة.

«إن هذا صديق القديس ستريندبرغ. رسام فرنسي كان في الأصل تاجرًا تزوج بدلًا من زوجته أمِّ أطفاله الكثيرين، ببضع عشرة امرأة من نساء جزيرة تاهيتي. إن هذا القديس تجري في عروقه الغليظة دماء بحَّار، ولكن انظر إلى شفتيه. يتبقَّى بها آثار زرنيخ أو ما شابه. المقصورة السابعة بها … أنت تعبتَ أليس كذلك؟ حسنًا أرجو أن تأتي إلى هنا.»

ولأنني كنتُ في الواقع مُتعبًا حقًّا، أطعنا أنا ولاب الشيخ ودخلنا غرفة متصلة بممر تفوح فيه رائحة البخور. تحت تمثال أسود لفينوس يقع في ركن من تلك الغرفة الصغيرة قُدِّم قربان عبارة عن عنقود عنب جبلي، ولقد شعرتُ بالدهشة إلى حد ما لأنني كنتُ أتخيل صومعة راهب بلا أية زينة، ويبدو أن الشيخ شعر بمَشاعري تلك من مظهري، وقبل أن يعرض علينا الجلوس على المقاعد شرح لي الأمر بما يُشبه الأسى.

«أرجو منك ألا تنسى أن ديانتنا هي ديانة الحياة المعيشية. إلهنا وتعاليم «شجرة الحياة» تقول لنا «عيشوا في حيوية ونشاط»… يا سيد لاب: هل جعلت هذا السيد يقرأ كتابنا المقدس؟»

أجاب لاب بصدق وهو يحك الصحن الذي فوق رأسه: «كلا … في الواقع أنا نفسي لم يَسبق لي قراءته تقريبًا.»

ولكن الشيخ ظل مبتسمًا ابتسامة هادئة لا تتغيَّر وأكمل حديثه.

«إن كان الأمر كذلك فما من افتراض أن يَعلم. إنَّ إلهنا خلق هذا العالم في يوم واحد. (إن شجرة الحياة شجرة، ولكنَّها قادرة على فعل أي شيء) ليس هذا فقط، بل خلق أيضًا أنثى الكابَّا. ثمَّ وصل الضجر بأنثى الكابَّا مداه، وطلبت وجود ذكور الكابَّا. أشفق إلهنا من ذلك النحيب، أخذ مخُّ أنثى الكابَّا وخلق منه ذكر الكابَّا، ووهب إلهنا بركتَه لهذين الزوجين من الكابَّا قائلًا لهما: «كُلا وتناسلا وعيشا بحيوية ونشاط» …»

تذكرتُ الشاعر توك في كلمات الشيخ. إن الشاعر توك لتعاستِه كان مثلي لا ديني، ولأنني لستُ كابَّا فلا لوم عليَّ لعدم معرفتي بديانة المعيشة، ولكن يُفترض أن توك الذي وُلد في بلاد الكابَّا كان يعرف بالطبع «ديانة الحياة المعيشية»، ولأنني أشفقتُ على نهاية توك الذي لم يطع تلك التعاليم، قاطعت كلمات الشيخ وبدأت أتحدث عن حكاية توك.

سمع الشيخ حديثي وأطلق زفرة عميقة، وقال: «آه، إنه ذلك الشاعر المسكين.»

«إن ما يُحدد مصيرنا هو الإيمان والظروف والصدف فقط. (ربما أنتم تعدُّون مع ذلك الجينات الوراثية أيضًا)، ولتعاستِه لم يكن توك يحمل إيمانًا.»

«على الأرجح أن توك كان يَغبطك أليس كذلك؟ كلا، بل أنا أيضًا أغبطك. أما السيد لاب فهو ما زال صغير السن …»

«لو أن منقاري فقط بلا مشاكل لربما كنتُ متفائلًا.»

عندما قلنا ذلك للشيخ، أطلق زفرة عميقة مرة أخرى، بل وظلَّ يُحملق بثبات في تمثال فينوس الأسود وعيناه تدمعان.

«إنني أيضًا في الواقع … ولأن ذلك سرِّي، أرجو منكما عدم البوح لأحد أيًّا كان … إنني في الواقع لا يُمكنني الإيمان بإلهنا، ولكن في يوم ما أتمنى أن صلاتي …»

في تلك اللحظة التي تكلَّم فيها الشيخ. فُتح باب الغرفة، وهجمت أنثى كابَّا كبيرة الحجم على الشيخ فجأة، وبالتأكيد حاولنا أن نمنع أنثى الكابَّا تلك، ولكن أنثى الكابَّا في غفلة من الزمن أسقطت الشيخ وطرحته أرضًا.

«أيها العجوز المخرِّف! لقد سرقت اليوم أيضًا الكثير من النقود من حافظة نقود، أليس كذلك؟!»

بعد مرور عشر دقائق فقط، تركنا الشيخ وزوجته وراءنا ونحن في الواقع نَهرُب، وخرجنا من بوابة المعبد عائدين.

قال لاب لي بعد فترة من المشي في صمت: «بهذا الحال يُفترض أن الشيخ حقًّا لا يؤمن ﺑ «شجرة الحياة».»

ولكنني لم أفكر في الرد، بل نظرت خلفي تجاه المعبد الكبير. كان المعبد يمدُّ أبراجه وقبابه المرتفعة مثل المجسَّات في السماء الملبَّدة بالغيوم، وهو يُثير شعورًا بالنفور مثل السراب الذي يظهر في صحراء مجهولة.

١٥

ثم بعد ذلك بعد حدوث هذا وذاك ومرور أسبوع، سمعتُ حكاية نادرة من الطبيب تشاك، وهي أن الأشباح تَظهر في بيت الكابَّا المدعو توك. في ذلك الوقت كانت أنثى الكابَّا قد ذهبت إلى مكان مُختلِف، وتغيَّر بيت صديقنا الشاعر إلى استديو للتصوير، وعلى أيِّ حال طبقًا لما قاله تشاك، فإنَّ تصوير صورة في ذلك الاستديو، تظهر أيضًا صورة توك ضبابية خلف ظهر العميل في غفلة من الزمن، ولأن تشاك في الأصل يؤمن بالمادية، فهو لا يؤمن بالحياة بعد الموت، وفي الواقع أنه عندما تحدَّث إليَّ بهذه الحكاية كان يُظهر ابتسامة شريرة وأضاف من عنده تفسيرًا بالقول: «يبدو كما هو متوقَّع أن ما تُسمى الروح لها وجود مادي.» أنا أيضًا لا أختلف عن تشاك في عدم الإيمان بالأشباح، ولكن لأنني كنتُ أشعر بحميمية تجاه الشاعر توك، هرعتُ من فوري إلى مكتبة لبيع الكتب، واشتريت الصحف والمجلات التي نشرت المقالات والصور التي ظهر فيها شبح توك، ولكن عند النظر إلى تلك الصور، وجدتُ أنها تُظهر كابَّا يشبه توك خلف أنواع مختلفة من الكابَّا رجالًا ونساءً، شبابًا وعجائز، ولكن ما أدهشني أكثر من صور توك، هي المقالات الخاصة بالأشباح … خاصة تقرير خاص بشبح توك أصدرته الجمعية العلمية للأرواح، ولأنني ترجمتُ ذلك التقرير ترجمة حرفية، فلا مانع من أن أذكر فيما يلي ملخَّصًا عامًّا له، ولكن ما بين القوسين هو شرح كتبته أنا بنفسي.

تقرير عن شبح الشاعر توك (نُشر في العدد رقم ٨٢٧٤ لمجلَّة الجمعية العلمية للأرواح).

إننا الجمعية العلمية للأرواح، أنشأنا لجنة تقصٍّ وبحث موقتة رقم ٢٥١ في البيت السابق للشاعر المنتحر السيد توك الذي تحوَّل حاليًّا إلى استديو XX الواقع في منطقة XX. وتألَّفت اللجنة من أعضاء الجمعية التالية أسماؤهم (قمتُ بحذف الأسماء).

نحن أعضاء الجمعية السبعة عشرة، بمعية السيد بيك رئيس الجمعية، في الساعة العاشرة والنصف صباحًا من يوم ١٧ سبتمبر، اصطحبنا السيدة هوب الوسيط الأكثر مصداقية بيننا، واجتمعنا في غرفة من غرف الاستديو المشار إليه، وبمجرَّد أن دخلت السيدة هوب الاستديو المذكور، شعرتْ بالفعل ببيئة وجود أرواح، وبدأ جسدها كله في الرعدة والارتعاش ووصل الأمر إلى أن تتقيَّأ عدة مرات، وطبقًا لما حكته السيدة، سبب ذلك هو احتواء ذلك الجو الروحاني للنيكوتين نتيجة لحب ذلك الشاعر السيد توك الشديد للسجائر.

جلس أعضاء اللجنة مع السيدة هوب حول مائدة مُستديرة في صمت مطبق. بعد مرور ثلاث دقائق وخمس وعشرين ثانية، سقطت السيدة في سرعة فجائية دراماتيكية في حالة نعاس عميق، بالإضافة إلى ذلك تلبَّستها روح الشاعر السيد توك. طرحنا نحن أعضاء اللجنة على السيدة هوب الأسئلة بالترتيب طبقًا لأكبر الأعضاء سنًّا فالذي يليه.

س: ما سبب ظهور روحك؟

ج: من أجل أنني لا أعلم شهرة ما بعد الموت.

س: أنت … أو أيتها الأرواح المبجَّلة، هل تريد الحصول على الشهرة حتى بعد الموت؟

ج: على الأقل أنا يجب عليَّ فعل ذلك، ولكن على ما يبدو أن أحد الشعراء اليابانيين الذين قابلتُهم بعد الموت يَحتقر المجد والشهرة.

س: وهل تعلم اسم ذلك الشاعر؟

ج: لسوء الحظ لقد نسيتُ اسمه، ولكنَّني فقط أحفظ قصيدة الشعر الذي ألفها ذلك الشاعر المكوَّنة من ١٧ حرفًا.

س: أية قصيدة شعر تلك؟
ج: «بِرْكة عَتيقة/قَفَزَ ضُفْدع/صوت الماء.»٨
س: وهل تعدُّ ذلك الشعر عملًا عظيمًا؟

ج: أنا لا أعدُّه عملًا سيئًا بالضرورة، ولكن لماذا لم يُبدَل بالضفدعِ حيوانَ الكابَّا؟ لو فعل لأصبح الشعر أكثر بهاءً وتألقًا.

س: ولكن ما سبب ذلك؟

ج: إننا نحن حيوانات الكابَّا نبحث بألم ومعاناة عن الكابَّا في كل فن من الفنون.

في تلك اللحظة لفت السيد بيك رئيس الجمعية نظرنا نحن الأعضاء السبعة عشر إلى أن لجنة التقصي والبحث المؤقتة لا يجب أن تتحول إلى لجنة لنقد الشعر.

س: كيف هي حياة الأرواح؟

ج: لا تختلف عن حياتكم.

س: إن كان الأمر كذلك فهل أنت نادم على انتحارك؟
ج: لستُ نادمًا بالضرورة على ذلك. إنْ مللتُ من حياة الروح، فيجب أن أمسك المسدَّس وأعيد إحياء نفسي.٩
س: أمن السهل إحياء النفس؟
ردَّت روح السيد توك بسؤال للإجابة على هذا السؤال، وهو رد فعل طبيعي جدًّا لمن يعرف السيد توك.

ج: وهل يا ترى من السهل الانتحار؟

س: هل حصلت على حياة الخلود؟

ج: لا يجب الإيمان بنظريات متنوِّعة ومشتتة تتعلق بحياتنا. ولا تنس أنه لحسن الحظ بيننا أديان مثل المسيحية والبوذية والإسلام والزرادشتية … إلخ.

س: وبماذا تؤمن أنت به شخصيًّا؟

ج: إنني أتبع مذهب الشك على الدوام.

س: ولكنَّك على الأقل لا تشكُّ في وجود الروح؟

ج: أنا لا أملك اليقين مثلك.

س: ماذا عن علاقاتك مع الآخرين؟

ج: تمتد علاقاتي شرقًا وغربًا، قديمًا وحديثًا، ولا تقلُّ عن ٣٠٠ شخص، وإن ذكرت المشاهير منهم، هاينريش فون كلايست، وفيليب ماينلندر، وأوتُّو فينينغر …

س: وهل علاقاتك مع المُنتحِرين فقط؟

ج: لا، ليس بالضرورة، فإن ميشيل دي مونتين الذي يدافع عن الانتحار من بين أصدقائي الذين أبجِّلهم، ولكنني ليس لي علاقة بالسيد شوبنهاور الذي يتبع مذهب كراهية العالم ولكنه لم يَنتحِر.

س: وهل شوبنهاور بصحة جيدة؟
ج: لقد أسس مذهب كراهية الأرواح ويجادل الآن في جدوى إحياء النفس jikatsu،١٠ ولكنه عرف مرض الكوليرا ومرض الميكروبات، ويحيا في أمان واطمئنان شديد.

سألناه نحن الأعضاء عن مصير أرواح كلٍّ من نابليون وكونفوشيوس ودوستويفسكي ودارون وكليوباترا وبوذا وديموستيني ودانتي وسن نو ريكيو … إلخ، ولكن لسوء الحظ لم يُجِب السيد توك بالتفصيل، بل على العكس بدأ يسألنا عن عدد من الشائعات المتنوِّعة التي تخصُّ توك نفسه.

س: تُرى ما هي سُمعتي بعد انتحاري؟

ج: قال ناقد «إنه أحد الشعراء المجهولين.»

س: إنه أحد الذين يكرهونني لأنني لا أهديهم دواوين شعري. هل صدرت أعمالي الكاملة؟

ج: لقد صدرت أعمالك الكاملة، ومبيعاتها أحدثت ضجة.

س: إن أعمالي الكاملة بعد ثلاثمائة عام، أي بعد انتهاء حقوق الملكية الفكرية، يجب أن تكون تكفيرًا عن الجميع. ماذا عن المرأة التي كنتُ أعيش معها؟

ج: أصبحت زوجة راك بائع الكتب.

س: إنها لا تَعرف بعد لسوء حظها أن راك عينُه صناعية. وماذا عن أبنائي؟

ج: سمعنا أنهم أُودِعُوا ملجأ الأيتام القومي.

بعد صمت توك لفترة، بدأ الأسئلة مرة أخرى.

س: ماذا عن بيتي؟

ج: أصبح استديو لأحد المصورين.

س: وماذا حدث لمكتبي؟

ج: ما من أحد يعرف ما حدث له.

س: إن في أحد أدراج مكتبي رزمة من خطاباتي السرية … ولكن لحسن الحظ بسبب انشغالي لم أذكر شيئًا يتعلَّق بأحد منكم، والآن حان الوقت غروب روحي في عالم الأرواح ببطء وتأنٍّ في وقت الغسق. يجب عليَّ أن أودعكم، الوداع. الوداع أيها الجمع، الوداع أيها الجمع الطيب.

مع آخر كلمة فاقت السيدة هوب مرةً أخرى فجأة. نقسم نحن أعضاء اللجنة السبعة عشر بإله السموات العُلى أن هذا الحوار حدث بالفعل في الحقيقة (ولقد دفعنا أجرة السيدة هوب التي نثق فيها جميعًا طبقًا لأجرها اليومي عندما كانت تعمل في الماضي مُمثلة).

١٦

قرأت هذه المقالة، ثم أصبحتُ أشعر تدريجيًّا باكتئاب لوجودي في مثل هذه الدولة، ولذا فكَّرت أن أعود بطريقة ما إلى عالَمنا الإنساني، ولكنَّني مهما مشيت وبحثت لم أستطع العثور على الثُّقب الذي سقطتُ منه، وأثناء فعلي ذلك سمعتُ حديث الصياد باغ الذي يحكي فيه عن حيوان كابَّا عجوز يعيش في هدوء وسكينة على أطراف هذه الدولة يقرأ الكتب ويعزف على الناي، وعندما جربتُ أن أزور ذلك الكابَّا العجوز وأسأله هل يعرف طريق الهروب من هذه الدولة؟ فعلى الفور قرَّرت الذهاب إلى أطراف المدينة، ولكن عندما وصلت إلى هناك، ما وجدته في بيت صغير ليس كابَّا عجوز، بل كابَّا صغير لم يتثبَّت الصحن فوق رأسه بعدُ، ويبدو في الثانية أو الثالثة عشرة من عمره يعزف الناي في استرخاء. بالطبع فكرتُ أنني من المؤكد أنني دخلت البيت الخاطئ، ولكنَّني عندما سألته عن اسمه، كان هو الاسم الذي علَّمني باغ بلا أي خطأ.

«ولكنك تبدو وكأنك طفل …»

«ألا تعرف؟ ألا تعرف ما قدري ومصيري؟ إنني عندما خرجتُ من بطن أمي كانت رأسي تملؤها الشيب، ومن وقتها كنت أصغر في السنِّ تدريجيًّا، والآن أصحبت طفلًا بهذا الشكل، ولكن إن حسبنا عدد السنين فإن حسبتُ ستين عامًا قبل مولدي، ربما يكون عمري مائة وأحد أو اثني عشر عامًا.» درتُ بنظري في الغرفة، وربما كان ذلك وهمًا توهمتُ ولكنَّني شعرتُ بطيف من السعادة النقية تفوح بين المنضدة والمقاعد المُتواضِعة.

«على ما يبدو أنك تعيش في سعادة أكثر من باقي حيوانات الكابَّا، أليس كذلك؟»

«حقًّا! ربما كان الأمر كذلك فعلًا، فأنا منذ شبابي وأنا مُسن، وفي شيخوختي أنا شاب، وبالتالي أنا مثل الشيوخ لا تنبع داخلي الشهوات، ولا أغرق في الملذَّات مثل الشباب، وعلى أيِّ حال حتى وإن كانت حياتي ليسَت سعيدة فلا شك أنها هادئة.»

«فهمتُ إنها بذلك حقًّا تكون هادئة.»

«كلا، ولكنَّها لا تكون هادئة بهذا فقط، فأنا قدراتي البدنية جيدة، وأملك ثروة من المال تجعلني لا أعاني في مأكلي طوال العمر، ولكن ربما كان الأمر الأكثر سعادة هو أنني كنتُ عجوز منذ وقت ميلادي.»

تحدثتُ مع ذلك الكابَّا لبعض الوقت عن حكايات توك الذي انتحر وعن غيل الذي يتردد يوميًّا على الأطباء، ولكن لسببٍ ما كان ذلك الكابَّا العجوز تبدو على ملامح وجهه أنه غير مُهتم بما أقوله مطلقًا.

«أنت إذن ليس لديك تعلُّق خاص بالحياة مثل باقية حيوانات الكابَّا، أليس كذلك؟»

أجاب الكابَّا العجوز بهدوء وهو يَنظر إلى وجهي: «إنني على أي حال مثل باقي الكابَّا تركت رحم أمي بعد أن سألني أبي عن رغبتي في المجيء إلى هذه البلاد أم لا؟»

«ولكنني سقطتُ في هذه البلاد في لحظة مصادَفة فجائية. وأرجو منك أن تُعلمني طريق الخروج من هذه البلاد.»

«ما طريق للخروج إلا طريقًا واحدًا فقط.»

«وهو؟»

«إنه الطريق الذي أتيتَ منه إلى هنا.»

عندما سمعتُ ذلك وقف شعر جسمي لسبب مجهول.

«ولكنَّني للأسف أنا لا أستطيع العثور على ذلك الطريق.»

ظلَّ الكابَّا العجوز يُحملق في وجهي بعينَيه اللامعتَين بالرطوبة، ثم حرَّك جسمه أخيرًا، واقترب من ركن الغرفة وجذب حبلًا يتدلَّل من السقف هناك، وعندها فُتحَت نافذة في السقف لم أكن أنتبه إلى وجودها حتى الآن. خارج نافذة السقف الدائرية تلك، تمتدُّ السماء الزرقاء الصافية خلف أغصان الصنوبر والسرو. كلا، بل أيضًا ترتفع عاليًا قمة جبال ياريغاتاكه المدبَّبة التي تُشبه نصل سهام عملاقة، وفي الواقع لقد قفزتُ فرحًا كطفل رأى طائرة.

قال الكابَّا العجوز وهو يشير بإصبعه إلى تلك النافذة: «هيَّا، يمكنك أن تخرج من هذا المكان.»

ما كنتُ أعتقد أنها شِباك حتى ذلك الوقت كانت في الحقيقة سلالم من الأحبال.

«إذن اسمح لي أن أغادر من تلك النافذة.»

«ولكنني سأقول لك محذرًا. فكر حتى لا تندم بعد أن تَرحل.»

«لا تقلق. إنني لن أندم مطلقًا.»

بعدما أجبت بذلك بدأت أتسلَّق الأحبال سريعًا، وأنا أتأمَّل الصحن الذي فوق رأس الكابَّا العجوز يبتعد بعيدًا عني.

١٧

بعد أن عدتُ من بلاد الكابَّا، ظللتُ لفترة منزعجًا من رائحة جلودنا نحن البشر. إن حيوانات الكابَّا في الواقع أكثر نظافة من البشر. ليس هذا فقط بل بدت لي أنا الذي كنتُ لا أرى إلا رءوس الكابَّا، بدت رءوسنا نحن البشر منفِّرة ومقززة جدًّا. ربما كان ذلك أمرًا لا تفهمه أنت بنفسك، ولكن بغض النظر عن العيون والفم، ولكن ذلك الأنف يوقظ في حالة مزاجية عجيبة. بالطبع كنتُ أحرص على تدبير الأمر بعدم مقابلة أي إنسان مهما كان، ولكن يبدو أنني بدأت أعتاد تدريجيًّا على البشر مع مرور الوقت وفي خلال ستة أشهر فقط أصبحتُ أخرج إلى كل مكان، ولكن ما كنتُ أعاني منه أنني عندما أتحدث في أمر ما أجدني أنطق لغة الكابَّا بلساني دون وعي مني.

«هل أنت موجود في بيتك؟»

Qua.

«ماذا قلت؟»

«كلَّا، أقول إنني موجود.»

كان الأمر على هذا الحال تقريبًا.

ولكن بعد العودة من بلاد الكابَّا، عندما مرَّ عام بالضبط، وبسبب أنني فشلت في أحد المشاريع … (عندما قال ذلك نبَّهه الدكتور «س» بالقول: «كف عن الكلام عن هذا الموضوع»، وطبقًا لما قال الدكتور لي، إنه عندما يحكي ذلك الموضوع يُصبح هائجًا لدرجة عدم قدرة الممرضين على السيطرة عليه.)

حسنًا سأكف عن هذا الموضوع، ولكنني عندما فشلتُ في أحد المشاريع تذكرتُ أنني أريد العودة إلى بلاد الكابَّا مرة أخرى. أجل. ليس أريد «الذهاب» بل أريد «العودة» لأنني شعرت وقتها أن بلاد الكابَّا هي موطني الأصلي.

هربتُ سرًّا من بيتي، وحاولت أن أركب قطار خط تشويو، ولكنني للأسف قُبض عليَّ من شرطي الدورية هناك ووُضعتُ أخيرًا في المستشفى، ولكنَّني ظللتُ أتذكر أحداث بلاد الكابَّا منذ دخلت المُستشفى وحتى الآن. تُرى كيف حال الطبيب تشاك؟ ربما يفكر الفيلسوف ماغ كما هي عادته في شيء ما تحت القنديل الزجاجي ذي السبعة ألوان، وبصفة خاصة صديقي الحميم الطالب راب صاحب المنقار المُتعفِّن — في ظهيرة يوم غائم مثل اليوم. كنتُ على وشك رفع صوتي بالكلام دون وعي منِّي أثناء انغماسي في ملاحقة الذكريات هكذا. كان يقف أمامي أحد حيوانات الكابَّا الصياد الذي يُدعى باغ دخل عليَّ في غفلة مني، وظلَّ يحني رأسه عدة مرات أمامي، وبعد أن فاق ذهني — لا أدري هل ضحكتُ أم بكيت، ولكن على أيِّ حال، من المؤكَّد أنني فرحت جدًّا باستخدام لغة بلاد الكابَّا بعد غياب طويل.

«أهلًا باغ! لماذا أتيت؟»

«أهلًا، لقد أتيتُ لزيارتك في مرضك؛ لأنني سمعتُ أنك أصيبت بمرض ما.»

«وكيف عرفت ذلك؟»

«عرفت من نشرة أخبار الراديو.»

ثم ضحك باغ بزهو.

«ولكن مع ذلك، كيف أفلحت في القدوم إلى هنا؟»

«ماذا؟ هذا أمر هيِّن؛ لأنه كما تعلم الكابَّا تجيء وتذهب خلال أنهار طوكيو وقنواتها المائية.»

لقد انتبهت لتوي أن الكابَّا حيوانات برمائية مثلها مثل الضفادع.

«ولكن ما من أنهار في هذه المنطقة.»

«كلا، فلقد صعدتُ إلى هنا بعد أن تخطيت الأنابيب الحديدية لشبكة المياه، ثم بعد ذلك فتحتُ محبس إطفاء الحرائق …»

«فتحتَ محبس إطفاء الحرائق؟»

«هل نسيتَ يا سيدي؟ أن حيوانات الكابَّا أيضًا منهم عمَّال ميكانيكية؟»

ثم بعد ذلك استقبلتُ زيارات من حيوانات كابَّا متنوعة مرة كل يومين أو ثلاثة أيام. طبقًا للدكتور «س» فإن مرضي هو خرف عقلي مبكر، ولكن لقد قال لي ذلك الطبيب تشاك (ربما يكون ذلك قولًا في منتهى قلة الأدب بالنسبة لك أنت أيضًا) إنني مريض بخرفٍ عقلي مبكر، بل أنتم المصابون بمرض الخرف العقلي بداية من الدكتور «س» نفسه. إن وصل الأمر لأن يأتي الطبيب تشاك، فبالطبع أتى لزيارتي الطالب راب والفيلسوف ماغ، ولكن لم يأت أحد في النهار إلا ذلك الصياد باغ فقط، وخاصة عندما يأتي اثنان أو ثلاثة معًا يكون ذلك ليلًا … بل وفي الليالي المُقمِرة فقط. لقد تحدثتُ في الليلة الماضية تحت ضوء القمر مع غيل مالك مصنع الزجاج والفيلسوف ماغ. ليس هذا فقط بل لقد عزَف لي الموسيقار كراباك مقطوعة موسيقية على الكمان. انظر، هناك باقة زهور الزنبقة السوداء موضوعة فوق المكتب، أليس كذلك؟ لقد أحضرها أيضًا كراباك أمس هدية معه …

(التفتُّ للخلف ونظرتُ. بالطبع لم يكن فوق المكتب باقة زهور ولا غيرها.)

وبعد ذلك هذا الكتاب في الفلسفة أيضًا أحضره لي خصوصًا الفيلسوف ماغ. جرِّب أن تقرأ قليلًا الأشعار التي في البداية. كلا، فلا يُفترض أن تكون على معرفة بلغة بلاد الكابَّا. سأقرؤها أنا بدلًا عنك. إنه كتاب صدر مؤخَّرًا يضم الأعمال الكاملة للمؤلف توك …

(فتح دليل أرقام الهواتف القديم، وبدأ يقرأ بصوتٍ عالٍ الشعر التالي):

… إن بوذا نائم،
منذ زمن بعيد!
داخل سعف النخيل،
وأوراق الخيزران.

•••

يبدو أن المسيح،
مات بالفعل،
مع التين الذابل،
على قارعة الطريق.

•••

ولكننا يجب أن نستريح،
حتى ولو أمام خلفية النجيلة.

(ثم عند النظر إلى تلك الخلفية، نجدها لوح قماش ممتلئًا بالرتوق؟) …

ولكنَّني لست كارهًا للعالم مثل ذلك الشاعر. ما دام يأتي لزيارتي الكابَّا من حين لآخر … آه، لقد نسيتُ ذلك الأمر. أنت تتذكَّر القاضي بيب صديقي، أليس كذلك؟ لقد جُنَّ ذلك القاضي حقًّا بعد أن فقَد وظيفته، ولقد سمعتُ أنه الآن يَرقد في مستشفى للأمراض النفسية في بلاد الكابَّا، وأنا أريد أن أذهب لزيارته في مرضه لو فقط وافق الدكتور «س» على ذلك …

•••

(اليوم الحادي عشر من الشهر الثاني من العام الثاني لعصر شوا [١١ فبراير ١٩٢٧].)
١  حيوان الكابَّا هو أحد الحيوانات الخرافية العديدة في المخيلة الشعبية اليابانية منذ القدم وحتى الوقت الحالي، ويَرتبط بالعديد من الأساطير اليابانية الشعبية، وهناك رأي يقول إنه ربما يكون أحد الحيوانات الحقيقية التي لم يتمَّ التأكُّد من وجودها تأكدًا علميًّا، وثمة العديد من أقوال شهود عيان يؤكدون رؤيتهم لذلك الحيوان في أماكن متعدِّدة ومختلفة في جميع أنحاء اليابان. وصفة ذلك الحيوان كما يرويها الشهود وكما تركها الرسامون القدماء في لوحاتهم الفنية أنه حيوان في حجم طفل بشري، لون بشرته خضراء ويضع على رأسه ما يُشبه الصحن، أو أن رأسه صلعاء من المنتصَف في شكل دائرة بما يشبه الصحن، ووجهه يُشبه الضفدع أو القرد، وله منقار مثل الطيور، يداه وقدماه يشبهان يدَي الضفدع وقدميه، وجسمه يشبه جسم القرد، إلا أن ظهره به درقة قرنية مثل السلحفاة وجسده مبتلٌّ على الدوام ويُقال إن الجفاف يعني له الموت، وهو حيوان برمائي يعيش فوق الأرض وتحت الماء. (المترجم)
٢  كتاب صدر في اليابان عام ١٨٢٠م من تأليف توان كوغا يتحدث عن حيوانات الكابَّا من خلال الوثائق التاريخية القديمة وشهادات شهود العيان الذين يؤكدون أنهم شاهدوها وبه رسوم عديدة لتلك الحيوانات، ونمور الماء هو أحد أسماء الكابَّا. (المترجم)
٣  الأقواس وما داخلها في النص الياباني الأصلي من المؤلف. (المترجم)
٤  السِّنِّ sen هو الوحدة الأصغر من الين عملة اليابان، مثل علاقة السنت والدولار ويساوي الين مائة سِن. (المترجم)
٥  تجاه وصف البرجوازية بالطبقة الثالثة يُشار إلى الفقراء والعمَّال المعدمين بالطبقة الرابعة. (المترجم)
٦  في النص الأصلي المحمَّدية وفضَّلتُ ترجمتها إلى الإسلام. (المترجم)
٧  في النص الأصلي دين عبادة النار، وهو الاسم القديم للزرادشتية في اللغة اليابانية، فضَّلتُ تعديله كذلك للاسم الشائع حاليًّا في اللغتين. (المترجم)
٨  من أشهر قصائد شاعر الهايكو العظيم ماتسو باشو (١٦٤٤–١٦٩٤م). (المترجم)
٩  يستخدم المؤلف هنا كلمة يابانية غير موجودة في المعاجم وهي jikatsu عكس كلمة انتحار jisatsu التي تَعني حرفيًّا قتْل النفس، ففكر أن العودة من عالم الأرواح هو إحياء للنفس على عكس قتل النفس، خاصة وأن اليابانيين يعتقدون في التناسخ وعودة روح الميت في جسد جديد. (المترجم)
١٠  انظر الهامش السابق. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤