النقد في العصر العباسي

إذا وصلنا إلى النقد في العصر العباسي رأينا إمعانًا في الحضارة وإمعانًا في الترف ورأينا الشعر والأدب يتحولان إلى فن وصناعة بعد أن كانا يصدران عن طبع وسليقة، حتى لنرى كثيرًا من الكتاب والشعراء من الموالي الذين عدوا عربًا بالمربى، ورأينا الثقافة تعظم وتتسع وتشمل فروع المعرفة كلها لا تقتصر على الثقافة الدينية والأدبية، ورأينا الثقافات الأجنبية تتدفق على المملكة الإسلامية من فارسية وهندية ويونانية ورأينا كل مجموعة من المعارف تتحول إلى علم حتى اللغة والأدب والنحو والصرف.

فكان طبيعيًّا أن يتحول الذوق الفطري إلى ذوق مثقف ثقافة علمية واسعة، وأن يتأثر النقد الأدبي بهذه الثروة العلمية والأدبية الواسعة.

لقد كان مما عمله العلماء أن جمعوا ما استطاعوا من أشعار الجاهليين والإسلاميين، فكانت المادة الأدبية التي ينقدونها أغزر وأوفر، وجمعوا مادة اللغة، واطلعوا على أقوال النقاد السابقين كما نقلت إليهم أقوال الفرس والهند واليونان في معنى البلاغة وشروطها.

كل هذا أفسح لهم مجال النقد ومكن لهم من رقي الذوق كما مكن لهم من أن يحوروا النقد القديم غير المعلل الذي لا يعدو أستحسن أو استهجن إلى نقد معلل يبين فيه سبب الاستحسان والاستهجان.

ولو تتبعنا ما روي لنا من النقد في هذا العصر لرأيناه متجهًا اتجاهين أو سائرًا على نمطين: نمط منه هو امتداد النقد الجاهلي والإسلامي مع ما اقتضته البيئة من تحول؛ من ذلك أن العلماء باللغة والأدب من العباسيين أمثال الخليل والكسائي والأصمعي وأبي عمرو بن العلاء، والنضر بن شميل، وابن الأعرابي، كانوا يستعرضون الشعراء السابقين من جاهليين وإسلاميين ويتذوقون شعرهم ويبدون فيه رأيهم، فيقولون: إن شعر النابغة قوي الصياغة شديد الأسر، وشعر امرئ القيس غزير بالمعاني التي لم يسبق إليها، وشعر جرير أسهل وأرق، وشعر الفرزدق أقسى وأصلب إلى غير ذلك.

ويقول أبو عمرو بن العلاء في ذي الرمة: إن شعره نقط عروس تضمحل عما قليل، أو أبعار ظباء لها شم في أول شمها، ثم تعود إلى أرواح الأبعار، يريد أن يقول: إن لشعره حلاوة ولكن لا تبقى.

وكان هؤلاء العلماء يتنازعون في أفضلية الشعراء، فكان المفضل الضبي يقدم الفرزدق على جرير، وأبو عمرو بن العلاء يقدم الأخطل ثم جريرًا ثم الفرزدق.

وكان علماء الكوفة مثلًا يقدمون الأعشى على من في طبقته، وعلماء البصرة يقدمون امرأ القيس وأهل الحجاز يقدمون النابغة وزهيرًا.

وكان لهذا الاختلاف في التفضيل أسباب؛ من ذلك أن بعض العلماء كان يحب الغريب من الألفاظ فيقدم من الشعراء من يستعمل الغريب، ومنهم من يحب الغزل فيقدم أكثرهم غزلًا، ومنهم من يحب النحو فيقدم الفرزدق لإكثاره من تقديم وتأخير ونحو ذلك.

ووازنوا بين الشعراء، فقال أبو عمرو بن العلاء في أوس بن حجر: إنه كان فحل مضر حتى نشأ النابغة وزهير فأخملاه. وقال: إن عدي بن زيد في الشعراء بمنزلة سهيل في النجوم، يعارضها ولا يجري معها.

واستعرضوا الشعراء وأبانوا موضع نبوغهم وموضع ضعفهم، فقالوا: طفيل الغنوي أعلم العرب بالخيل وأوصفهم لها، وامرؤ القيس يحسن وصف المطر، وعنترة يحسن ذكر الحروب، وأمية بن أبي الصلت يحسن ذكر الآخرة، وعمر بن أبي ربيعة يحسن ذكر الشباب، وشبهوا جريرًا بالأعشى والفرزدق بزهير، والأخطل بالنابغة.

واستعرضوا الشعراء الذين تواردوا في شعرهم على معنى واحد ففضلوا قولًا على قول، ففضلوا في الصبر على النوائب قول دريد بن الصمة:

يغار علينا واترين فيشتفى
بنا إن أصبنا أو نغير على وتر
بذاك قسمنا الدهر شطرين قسمة
فما ينقضي إلا ونحن على شطر

وقالوا: أجود بيت قول جرير:

ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح

إلى غير ذلك.

وهذا نمط يشبه النمط الذي رأيناه في العصر الأموي، ولكنه أوسع وأعمق لما ذكرت من أن المادة عندهم أصبحت أغزر وعلمهم بالشعر أوفر، وهم قد تفرغوا لهذا الضرب من العلم وأصبح صناعتهم، وفي صميم حياتهم لا على هامش حياتهم كما كان الشأن من قبل، وهم إذا نقدوا عللوا ولم يكن قولهم مجرد حكم كما كان من قبل، فيونس يفضل الفرزدق ويعلل ذلك بأنه أكثرهم عدد قصائد طوال جياد، ولم نجد للأخطل عشرًا بهذه الصفة، ووجدنا لجرير ثلاثًا بهذه الصفة، وخلف الأحمر يفضل قصيدة مروان بن حفصة التي مطلعها:

طرقتك زائرة فحي جمالها
بيضاء تخلط بالجمال دلالها

على قصيدة الأعشى التي مطلعها:

رحلت سمية غدوة أجمالها

لأن الأعشى قال في قصيدته هذه:

فأصاب حبة قلبه وطحالها

قال خلف: والطحال ما دخل في شيء قط إلا أفسده، وأما قصيدة مروان سليمة كلها، وهكذا من الأحكام المبنية على التعليل.

أما النمط الآخر الذي كان جديدًا لم يسبق إليه فهو النمط العلمي في النقد، نمط التأليف ووضع الكتب لا تتعرض إلا للنقد وما يتصل به.

ولعل أسبق البلدان في ذلك هو البصرة، فقد كانت الحركة العلمية فيها على أتم ما يكون من نشاط، وكان فيها أول حركة للاعتزال، والمعتزلة هم واضعو أصول البلاغة إذا كانوا هم المحتاجين إليها في الدعوة وإقامة الحجج، فوضع منهم بشر بن المعتمر الصحيفة الخالدة في البلاغة، وجاء بعده الجاحظ، وهو ما هو في البلاغة وفنونها.

•••

لقد كان في البصرة علماء من النمط الأول كأبي عمرو، ويونس، وخلف الأحمر، والأصمعي، وأبي عبيدة، فجاءت الطبقة التي بعدهم وفلسفت النقد وفلسفت الكلام من قبل وجعلته علمًا وألفت فيه كتبًا.

ولعل أقدم ما وصل إلينا من كتب النقد كتاب طبقات الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي المتوفى سنة ٢٣١هـ. وهو أيضًا بصري، كانت له معارف واسعة في اللغة، والأدب، والنحو، والأخبار، حصلها من علماء عصره: حماد، وخلف، وأبي عبيدة، والأصمعي، وغيرهم، وأخذ أفكارهم وآراءهم المبعثرة ونظمها تنظيمًا علميًّا، ونقل النقد خطوة جديدة كالخطوة التي خطتها اللغة من كلمات مبعثرة إلى معجم منظم، أو كنقل الأبحاث النحوية المفرقة إلى كتاب ككتاب سيبويه ونحو ذلك.

لقد تعرض ابن سلام في كتابه لنقد المتن، أعني أنه رفع صوته بأن الشعر الذي يروى لنا عن الجاهليين والإسلاميين ليس كله صحيحًا بل كثير منه موضوع، وأن هناك أسبابًا حملت الرواة، أن يتزيدوا من الشعر، ويتقولوه على القبائل، وينسبوه إلى غير قائله، فيعرض ابن سلام لكثير من الشعر ينقده، ويقيم البراهين على فساده، فيعيب على ابن إسحاق أنه أورد في سيرته شعرًا كثيرًا مصنوعًا، بل ذكر شعرًا لعاد وثمود، ويبرهن على فساده بأن اللغة العربية بهذا الشكل لم تكن موجودة في عهد عاد، وأن عادًا من اليمن ولليمنيين لغة حميرية غير اللغة المضرية، وأن ما روى ابن إسحاق لعاد قصائد، والقصائد متأخرة التاريخ لم تعرف إلا في عهد عبد المطلب بن هاشم، إنما كان الشعر قبل ذلك أبياتًا تقال في حادثة خاصة، وهكذا يمضي في تدليله ويبين الأسباب التي حملت على الوضع. ثم يذكر المشهورين من الشعراء شاعرًا شاعرًا، ويذكر ما يصح أن يكون له بحق وما لا يصح.

ثم يعرض لشيء آخر هام وهو تقسيم الشعراء إلى طبقات، وكثيرًا ما يذكر رأيه ورأي العلماء في كل شاعر فيما أجاد وفيما لم يجد، ويوازن بين الشعراء، فيقول مثلًا: «كان لكثير في التشبيب نصيب وافر، وجميل مقدم عليه في النسيب، والشماخ بن ضرار كان شديد متون الشعر، أشد أسرًا في الكلام من لبيد، وفيه كزازة ولبيد أسهل منه منطقًا».

وقد تعرض للشعراء الجاهليين فجعلهم طبقات حسب تفوقهم، وعدد كل طبقة، وعلل ما فعل، ثم تعرض للشعراء الإسلاميين وفعل بهم ما فعل في الجاهليين، وهو في كل ذلك ينقل عمن سبقه ويرتب أقوالهم، ويزيد عليها من آرائه الشخصية وفي ثنايا كل منه نظرات صائبة تدل على صدق النظر، كتعليله سهولة شعر عدي بأن كان يسكن الحيرة ومراكز الريف، فكان لذلك لين اللسان سهل المنطق، وكتعليله قلة الشعراء بالطائف بأن الشعر إنما يكثر بالحروب التي بين الأحياء نحو حرب الأوس والخزرج، أو بين قوم يغيرون ويغار عليهم، ولم يكن من ذلك شيء في ثقيف.

ولكن كتابه على فضله ككل كتاب يعد طليعة في فن ينقصه الترتيب المحكم، والنظام الدقيق، فيأتي من بعده من يكملون نقصه، ويحكمون نظامه؛ وكذلك كان. فقد أتى مؤلفو النقد بعده يوسعون نظرياته ويزيدون كلًّا منه شرحًا وتعليلًا، ودقة وتفصيلًا.

ولا بأس أن نذكر هنا ظاهرة حدثت في أوائل العصر العباسي خاصة بالنقد وهي انقسام الناس إلى معسكرين يصح أن نسميهما: حزب الأحرار، وحزب المحافظين.

لقد جاءت الدولة العباسية بشعراء مجددين كبشار، ومسلم بن الوليد ونحوهما، وكان لهم تجديد في المعاني، وتجديد في الأسلوب، فجاء النقاد يختلفون فيهم، فمنهم من تعصب للقديم لا يرى شعرًا سائغًا سواه، ولا شعرًا يصح أن يروى ما عداه كابن الأعرابي، ومنهم من كان يرى أن الشعر فن وصناعة فيجب أن يقاس بمقياس الفن والصناعة، فما أظهر المقياس ضعفه ضعف ولو كان قديمًا، وما أظهر جودته حكم بجودته ولو كان حديثًا.

وكان لابن قتيبة في أول كتابه «الشعر والشعراء» الفضل الأول في عرض الرأيين، وتسخيف من يفضل القديم لقدمه، وتأييد نظرية الأحرار.

وكان لكل من المحافظين والأحرار أثر بين في الأدب، فأثر الأحرار ميل بعض الشعراء إلى التحرر من القديم والحملة عليه كما يظهر في بعض قصائد أبي نواس، وأثر المحافظين تخوف كثير من الشعراء أن يخرجوا على التقاليد القديمة فيثيروا سخطهم ونقدهم، وهكذا في كل شأن وعصر، محافظ وحر، والتقدم المتئد وليد الحركتين، ونتاج الحزبين.

على كل حال كان النقد مستندًا على الذوق وحده في العصر الجاهلي والأموي فلما جاء العصر العباسي تحول النقد من اعتماد على الذوق إلى علم بقواعد وأصول. وكان من أوائل النقاد في العصر العباسي الأول ابن سلام الجمحي، في كتابه طبقات الشعراء، فله فيه نظرات لامعة، واتجاهات دقيقة. قال فيما يجب على الناقد من ثقافة: «قال قائل لخلف: إذا سمعت أنا الشعر واستحسنته، فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك. قال له خلف: إذا أخذت أنت درهمًا فاستحسنته، فقال لك الصراف، إنه رديء. هل ينفعك استحسانك له؟» ويقول أيضًا: «للشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم، كسائر أصناف العلم والصناعات، منها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان. ومن ذلك اللؤلؤ والياقوت: لا يعرفان بصفة أو وزن، دون المعاينة ممن يبصره. ومن ذلك الجهبذة بالدينار والدرهم، لا تعرف جودتهما بلون، ولا مس، ولا طراز ولا حس ولا صفة، ويعرفه الناقد عند المعاينة، فيعرف بهرجها وزائفها وستوقها ومقررها، ومنه البصر بغريب النخل، والبصر بأنواع المتاع وضروبه، واختلاف بلاده وتشابه لونه ومسه وزرعه، حتى يضاف كل صنف منها إلى بلده الذي أخرجه. وكذلك الرقيق، فتوصف الجارية فيقال: ناصعة اللون، جيدة الشطب، نقية الثغر، حسنة العين والأنف، جيدة النهود، ظريفة المثال، واردة الشعر، فتكون بهذه الصفة بمئة دينار ومئتي دينار، وتكون أخرى بألف دينار أو أكثر، لا يجد واصفها مزيدًا على هذه الصفة. وابن سلام في هذا لا يخرج عن الاعتماد على الذوق، ولكنه يريد ذوق الخبراء الممارسين الدارسين ذوي البصر بالشعر، فيكون حكمهم على الجيد والرديء أتم وأصح من حكم من عداهم، وشأنهم في ذلك شأن أهل الصناعات الأخرى، فمنهم عاديون لا يؤبه كثيرًا بقولهم، ومنهم حذاق مهرة ينظرون إلى الشيء فيحكمون عليه حكمًا دقيقًا صحيحًا، وذلك كخبراء الصوف، والجواهر وغيرهم، فلم لا يكون للشعر والأدب نقاد من هذا القبيل يرجع إليهم عند الاختلاف في قطعة أدبية أهي جيدة أم رديئة؟ وقد كان ابن سلام نفسه من هذا الصنف الخبير الماهر، فقد استطاع بدقة شعوره ورقة ذوقه، وطول دربته أن يميز بين صحيح الشعر الجاهلي ومنحوله، بل يميز ما كان منه لقبيلة دون أخرى، وفهم أن تسابق القبائل إلى التفاضل بينهم جعل كل قبيلة تنتحل أشعارًا ليست لها، وكان دقيقًا في تعليله أن الشعر ليس كثيرًا في مكة، لأنه على حد تعبيره لم يكن هناك ما يستثير شعراءها من دواعي الحرب وأمثالها، وهو على حد تعبيرنا اليوم «إنه لم يكن لديها بواعث تهيج العاطفة؛ وهو تعليل كما ترى دقيق، وكان من مميزاته محاولة ترتيب الشعراء وجعلهم طبقات».

•••

وجاء بعده ابن قتيبة وكان له ميزتان كبيرتان، الأولى أنه دعا إلى عدم التفريق في الوزن بين قديم ومحدث، فالشعر القديم قد يكون جيدًا وقد يكون رديئًا، والمحدث قد يكون جيدًا وقد يكون رديئًا، وعلى رأيه كل قديم كان حديثًا في زمنه.

قال: «ولم أسلك فيما ذكرت من شعر كل شاعر مختار له سبيل من قلد أو استحسن باستحسان غيره، ولا نظرت إلى المتقدم منهم، بعين الجلالة لتقدمه. وأعطيت كلًّا حظه، ووفرت عليه حقه، فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخف لتقدم قائله.١ ويضعه في متخيره، ويرذل الشعر الرصين ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه أو أنه رأى قائله، ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص به قومًا دون قوم، بل جعل ذلك مشتركًا مقسومًا بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثًا في عصره، وكل شريف خارجيًا في أوله، فقد كان جرير والفرزدق والأخطل، وأمثالهم يعدون محدثين، وكان أبو عمرو بن العلاء يقول:

لقد كثر هذا المحدَثُ وحسُن، حتى لقد هممت بروايته، ثم صار هؤلاء قدماء عندما بعُد العهد منهم، وكذلك يكون من بعدهم لمن بعدنا، كالخُرَيمي والعتَّابي، والحسن بن هانئ وأشباههم، فكل من أتى بحسن من قول أو فعل ذكرناه له، وأثنينا به عليه، ولم يضعه عندنا تأخر قائله أو فاعله، ولا حداثة سنه. كما أن الرديء إذا ورد علينا للمتقدم أو الشريف؛ لم يرفعه عندنا شرف صاحبه ولا تقدمه» ا.هـ.

وهذه نظرة صادقة ربما سبقت زمانها، ولكن مع الأسف يقول في موضع آخر: «وليس لمتأخر الشعراء أن يخرج عن مذهب المتقدمين فيقف على منزل عامر، أو يبكي عند مشيد البنيان، لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الدائر، والرسم العائر، أو يرحل على حمار أو بغل، لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد المياه العذاب الجواري، لأن المتقدمين وردوا على الأواجن والطوامي، أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد، لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والعرار». فهذه نظرة رجعية تناقض نظرته السابقة. فلماذا لا يكون جميلًا قول علي بن الجهم:

عيون المها أبين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث ندري ولا ندري

بل هو أجمل من قول امرئ القيس:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل

بل نرى على العكس من ذلك أبا نواس دعا إلى أنه ليس من الصدق أن تبكي على الأطلال ولا أطلال، أو نبكي على قيس وتميم ولا قيس وتميم. فيقول:

صفة الطلول بلاغة الفَدْم
فاجعل صفاتك لابنة الكرم
وإذا وصفت الشيء متبعًا
لم تخل من غلط ومن وهم

ويقول:

فمن تميم ومن قيس وغيرهما
ليس الأعاريب عند الله من أحد

ولكنه مع الأسف لم يثبت على نظريته، ولم يستمر على دعوته، بل رجع عنها، فبكى الطلول، واستعمل الغريب، وقلد الجاهليين في شعرهم عند مدحه للأمين.

والثانية أنه فرق بين الروح العلمية، والذوق الأدبي، وأن اشتغال الأديب بالمصطلحات الفلسفية، لا يفيده في الأدب، بل هو يضعف ذوقه وإنما الذي يربي ذوقه حفظ النماذج الأدبية وتقليدها. قال في كتابه «أدب الكاتب»:

«إن هناك من يعجب بنفسه فيزري على الإسلام برأيه، ولا ينظر في كتاب الله وأخبار رسوله، وينحرف عنه إلى علم له منظر يروق بلا معنى، واسم يهول بلا جسم، فإذا سمع الكون والفساد، وسمع الكيان والكيفية والكمية، راعه ما سمع وظن أن تحته كل فائدة وكل لطيفة، فإذا طالعه لم يحز منه بطائل. وهذه كلها تكون وبالًا عليه، وقيدًا للسانه، وعيًّا في المحافل، وغفلة عند المنتظرين»، وهذه أيضًا نظرة صادقة في التفرقة بين العلم والأدب، وجناية الأساليب العلمية على الذوق الأدبي.

وكان من رأيه في موضع آخر أن اللفظ في خدمة المعنى، وأن المعنى الواحد يمكن أن يعبر عنه بألفاظ مختلفة بعضها جيد، وبعضها رديء.

•••

وجاء بعد ذلك ابن المعتز! وألف في ذلك كتابه «البديع» فلفت الناس إلى أن البديع كان موجودًا في أشعار الجاهلية وصدر الإسلام، ولكنه كان مفرقًا يأتي عفوًا، فجاء بشار وأبو تمام ومن بعدهما، فأكثروا منه وقصدوا إليه.

وكان مما صنعه هو وضع مصطلحات لأنواع البديع المعروفة في زمنه، ونقد ما أتى معيبًا من كل نوع، ولكن على كل حال لم يكن ابن المعتز من حيث تاريخ النقد بذي خطر، إنما خطره من حيث جودة شعره وحسن تشبيهه.

وجاء بعده قدامة بن جعفر، وألف كتابيه المشهورين في نقد النظم ونقد النثر وهما إلى البلاغة أقرب، وهو المسئول الأول عن جمود المصطلحات البلاغية وتحجرها، وفقد روحها، كما أنه المسئول الأول أيضًا عن تسرب بعض آراء أرسطو وأمثاله من اليونانيين في البلاغة اليونانية إلى البلاغة العربية وأدبها، فقد عرف الشعر وذكر محسناته، ثم ذكر عيوبه.

وهو لم يزد في النقد شيئًا ولا في وضع قواعده؛ إلا أشياء شكلية ومصطلحات رسمية، وقد تأثر به علماء البلاغة الذين جاءوا بعده أمثال السكاكي صاحب مفتاح العلوم، وسعد الدين التفتازاني.

ووجد أثرًا لخصومة الأدباء على أيهما أفضل: أبو تمام، أو البحتري مدرستان عنيفتان: إحداهما تفضل أبا تمام لغزارة معانيه، وطائفة تفضل البحتري لاتصاله كما يقولون بعمود الشعر، فجاء على أثر ذلك مؤلفان جليلان هما: الصولي، والآمدي، وكان ضلع الصولي مع أبي تمام وضلع الآمدي على ما يظهر مع البحتري، فألف في ذلك الصولي أخبار «أبي تمام» وألف الأمدي كتابه «الموارنة».

وقد سارا في نقدهما على الموازنة بين الشاعرين في ذكر كل مزايا صاحبه، وعيوبه، وسلك الآمدي مسلكًا في الموازنة باختياره قصيدتين في موضوع واحد وروي واحد ثم النص على أيهما أجود وأيهما أرذل، وهي موازنة بدائية، والموازنة الصحيحة هي أن يعرف الناقد عناصر الأدب من عاطفة وخيال ومعنى وأسلوب، ثم يعرض عليها شعر كل منهما، فمن كان حظه منها أكثر كان أشعر، وإذا زاد أحدهما على صاحبه في عنصر منها، كأن يزيد أبو تمام في المعنى، ويزيد البحتري في الأسلوب، أمكنه أن يعرف هل زاد الآخر في العناصر الأخرى زيادة تفوقها أو لا. وهكذا …

هذه هي الموازنة الصحيحة التي لم يصل إليها كل منهما، وإنما كانا إذا اتفقا في معنى واحد، أو مطلع واحد، نظر بذوقه إلى أيهما أشعر. والنظر الكلي الصحيح هو أن يضع كل شعر أبي تمام في كفة، وشعر البحتري كله في كفة، ثم ينظر أيهما أرجح … ولكن الحق أن الآمدي هذا كان إذا عرض لنقد أبي تمام أو البحتري في عيب من عيوبهما، أو ميزة من ميزاتهما، كان عادلًا، وكان الصولي يتعصب لأبي تمام تعصبًا سافرًا، فيقول: إن خصوم أبي تمام أحد رجلين: رجل جاهل عجز عن فهمه فعابه، ورجل معاند ساقط يريد أن يتخذ من تجربته لأبي تمام سبيلًا إلى المجد، وإذا سمع أن أحدًا عاب على أبي تمام شيئًا رد عليه بأن هذا الخطأ وقع فيه الشعراء الأقدمون، وهذا ليس دفاعًا صحيحًا، فإن الخطأ لا يبرر الخطأ.

أما الآمدي فمفضل للبحتري متحجب، يفضله في خفاء، وقد قال في صدر كتابه: «إنه يبدأ الموازنة بين البحتري وأبي تمام بأن يورد حجج أنصار كل شاعر وأسباب تفضيلهم له، ثم يأخذ في دراسة سرقات أبي تمام وأخطائه وعيوبه البلاغية، وبفعل مثل ذلك مع البحتري، موردًا سرقاته وخصوصًا سرقاته من أبي تمام، ثم أخطاءه وعيوبه، وأخيرًا ينتهي إلى الموازنة التفصيلية فيما قاله كل منهما في كل معنى من معاني الشعر». وهي من غير شك دراسة عميقة. وقد طبق مبدأه في دقة تقريبًا. وكان من محاسنه أنه أرجع تفضيل بعض الناس لأبي تمام وبعضهم للبحتري إلى المزاج.

فمن يفضل سهل الكلام وقريبه، ويؤثر صحة السبك، وحسن العبارة، وحلو اللفظ، وكثرة الماء والرونق، فالبحتري عنده أشعر، ومن كان يميل إلى الصنعة والمعاني الغامضة التي تستخرج بالغوص والفكرة، فأبو تمام عنده أشعر، وهكذا خرج من مأزق المفاضلة بينهما، وجعلها في عنق القارئ ومزاجه.

نعم: إن الآمدي لم يصرح بتفضيله البحتري على أبي تمام كما صرح الصولي بتفضيل أبي تمام على البحتري، ولكن ذا الحاسة الشمية يشم منه ميله إلى تمجيد البحتري وتفضيله على أبي تمام.

ومن محاسنه تعرضه لسرقات الشاعرين وموقفه منها، وعدله في رأيه، فمن رأيه أن سرقات المعاني ليست من كبير مساوئ الشعراء، وخاصة المتأخرين منهم، وأن هذا باب قل أن يسلم منه أحد، وليس يعاب على الشاعر أن يأخذ من هذا معنى، وهذا معنى، وإنما الذي يعاب عليه هو أن يعمد إلى شاعر مخصوص، فيسرق منه كثيرًا من معانيه. وعلى هذا المبدأ درس سرقات كل منهما دراسة دقيقة.

والقارئ لموازنة الآمدي يرى أن له نظرًا أدبيًّا رقيقًا، وذوقًا أدبيًّا رفيعًا. وقد خطا بالنقد الأدبي خطوة واسعة.

هذا إلى حسن تعبير، ومعرفة بالنفس البشرية، واطلاع واسع على كلام من سبقه، وذوق حساس يذوق به الجيد من الرديء، وعفة في النقد حتى لا يكاد يخرج أحدًا منهما، بل لو استطاع أن يمجدهما جميعًا لفعل، كما يظهر عليه أنه رجل متدين. يرى الحكم على أحدهما كحكم القاضي في نزاع على مسألة هامة، بقدر مسئولية الحكم، ويخشى الله ويرجوه.

وخبت نار الخصومة بين أبي تمام والبحتري، ثم ما لبثت أن اشتعلت بمجيء أبي الطيب المتنبي؛ فقد كان في شعره نوع من التجديد، وكان متكبرًا، وكان محسدًا، فاختلف الناس فيه فرقتين: فرقة تستسمجه وتحط من شأنه، ويغيظها تقريب سيف الدولة له، وإغداقه عليه، كأبي فراس، وفرقة ترى أنه جدير بذلك، وفي شعره في المقام الأول. وما زالت هذه الخصومة تتناحر حتى ظهر عبد العزيز الجرجاني، وكان قاضيًا عادلًا، فألف كتابه المشهور: «الوساطة بين المتنبي وخصومه»، ووقف في كتابه كما قلنا موقفًا عادلًا، فيقول ما له وما عليه.

وكان من مزايا كتاب الوساطة التفاته إلى تأثير البيئة في الأدب، وهي نظرية أوضحها وقال بها قبل «تين» بمئات الأعوام.

نعم: إن الآمدي في الموازنة قال بها والتفت إليها، ولكن الجرجاني أوضحها وأبانها، وكان يقيس شعر المتنبي بشعر غيره في الموضوع الواحد، ويفضل أحدهما وهو في ذلك ذو ذوق لطيف في التفضيل، إذا استحسن فإنما يختار الحسن، وسار في الحكم له وعليه سير القاضي في القضية، ومن أجل ذلك يستعمل في بيان مزايا المتنبي وعيوبه عبارات فقهية، ويتعرض في قوة ودقة، للسرقات الشعرية، كما تعرض لها الآمدي من قبل، فيرى أن هناك معاني عامة مطروحة أمام الشعراء، لا عار على شاعر إذا أخذها واستعملها، فمن السخف أن تتهم شاعرًا بسرقة شيء من المعاني العامة المشتركة، وذلك مثل وصف الغيث بالعموم ووصف البرق بخطف الأبصار، ونحو ذلك: متى ألبسها الشاعر لفظًا جديدًا.

وكذلك هناك ألفاظ ومصطلحات مشتركة عامة، يباح للشاعر أن يستعملها كقولهم: «طوى الموت ما بيني وبين فلان» ويختم الجرجاني دفاعه عن المتنبي بقوله: وقد أتينا على ما حضرنا عنه في هذا الكتاب، ونُبْنا عنك في جمعه واستحضار لفظه، وتصفح الدواوين، ولقاء العلماء فيه، وبيضنا أوراقًا لما لعله شذ عنا من غريبه، وما عسانا نظفر على مرور الأوقات به، وما نأبى أن يكون عندك أو عند أحد من أصحابك فيه زيادات لم نعثر بها، أو لطائف لم نفطن إليها. وإذا كنت على ثقة من علمك، وبصيرة بما عندك، وعرفت من طرق السرق، ووجوه النقل، فلا بأس أن تلحق به ما أصبته، وأن تضيف إليه ما وجدته، بعد أن تتجنب الحيف، وتتجنب الجور، وتعلم أن وراءك من النقاد من يعتبر عليك نقدك، ومن لا يستسلم للعصبية استسلامك، ويناقش رمي المتنبي بالتعقيد والغموض، فيرى أن أبا تمام قد غمض في شعره أكثر مما غمض المتنبي في شعره، ومع ذلك فلم يسقط شعره، وعد من فحول الشعراء وهكذا سار في الكتاب سيرًا معتدلًا.

•••

وأتى بعد ذلك الثعالبي صاحب اليتيمة وهو وإن كان كتاب تراجم بعبارة مسجوعة ثقيلة؛ فإنه لا يخلو من نظرات نقدية لطيفة. فيقول مثلًا: «وأنا مورد في هذا الباب، أي باب المتنبي ذكر محاسنه ومقابحه وما يرتضى وما يستهجن من مذاهبه في الشعر وطرائقه، وتفصيل الكلام في نقد شعره والتنبيه على عيوبه وعيونه، والإشارة إلى غُرره وعُرره إلخ.

ويلاحظ أحيانًا ملاحظات لطيفة، كتكرير المتنبي لبعض المعاني مما يدل على أنها ملأت نفسه، وعمقت في صدره، كقوله:

عش عزيزًا أو مت وأنت كريم
بين طعن القنا وخفق البنود

فقد كرره كثيرًا في شعره، وكملاحظته أن المتنبي يخاطب ممدوحه بمثل مخاطبة المحبوب، فيقول لسيف الدولة مثلًا:

ما لي أكتم حبًّا قد برى جسدي
وتدعي حب سيف الدولة الأمم

وقوله في عضد الدولة:

أروح وقد ختم على فؤادي
بحبك أن يحل به سواكا

إلخ …

•••

وجاء بعد ذلك أبو الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني، وله نتف قليلة في بعض الأحيان، ينقد بها الشاعر، أو يبين مزاياه، تدل على نظم بصير، وذوق دقيق.

•••

ثم جاء بعد ذلك أبو هلال العسكري مؤلف كتاب «الصناعتين» وكان كتابه هذا مؤسسًا على كتاب قدامة الذي ذكرناه، وما اقتبسه من البلاغة اليونانية، وزاد عليه تطبيقات عربية كثيرة، صبغته صبغة جديدة، وخففت هذه الأمثلة ونحوها من جفاف كتاب قدامة، وانتفع برأي السابقين ونقدهم.

وإذ كان كتاب قدامة أقرب للبلاغة منه للنقد، فكذلك كان العسكري في سر الصناعتين. وقد تعرض في كتابه للسرقات إذ يظهر أنها كانت مشكلة العصر، فيكتب فيها الآمدي والجرجاني. وها هو أبو هلال العسكري يكتب فيها مما يدل على أهميتها، وله في هذه السرقات رأي لا بأس به. إذ يقول: «إن المعاني مشتركة بين العقلاء، فربما وقع المعنى الجيد للسوقي والنبطي والزنجي وإنما تتفاضل الناس في الألفاظ ووصفها، وتأليفها ونظمها، وقد يقع متأخر على معنى لمتقدم فيخرجه إخراجًا جديدًا. وروى في ذلك قصة أنه قيل للشعبي: إنا إذا سمعنا الحديث منك نسمعه بخلاف ما نسمعه من غيرك، فقال: إني أجده عاريًا فأكسوه من غير أن أزيد فيه حرفًا. فإذا قلنا إن العسكري حول النقد إلى بلاغة وكان هو نفسه نقطة التحول، وجرى الناس بعد على أثره لم نبعد عن الصواب، ولذلك نرى من بعده كعبد القاهر الجرجاني يبحثون في البلاغة أكثر مما يبحثون في النقد.

وقد ألف الجرجاني كتابيه اللطيفين «دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة» وهما كتابان لطيفان دقيقان يمتازان بحسن التعبير، واكتشاف أبواب البلاغة، وما له من فلسفة لغوية عميقة، وسلامة في الذوق، فقد استنكر إغراق المعاني والألفاظ بالمحسنات البديعية، وذكر أن المثل الأعلى ليس أصحاب السجع، بل المثل الأعلى ما كتبه الجاحظ في صدور كتبه، فلا إمعان في التجنيس ولا إمعان في السجع.

وكان من أنصار المعاني، فعنده أن الألفاظ خدم للمعاني، واستطاع أن يدرك أن هناك ألفاظًا تحسن في النثر ولا تحسن في الشعر كلفظ أيضًا.

ومن مميزاته أنه ربط النحو بالمعاني فنفث في النحو روحًا لم تكن معروفة من قبل، ولا جرى الناس عليه فيما بعد، وعنده أن لتركيب الكلام أو كما نسميه نحن اليوم «الأسلوب» شأنًا كبيرًا في تقريب المعنى أو إبعاده، وحسن الوقع أو استهجانه.

•••

وجرى على أثر عبد القاهر جماعة سلكوا مسلكه في البلاغة، وحرروا مطالبه، كالسكاكي، وزادوا في الأمثلة، وفرعوا التفريعات، ولكن مع الأسفل أفقدوا البلاغة روحها، كما أتلفوا النقد، ومن الأسف أن البلاغة وقعت في أيدي الأعاجم ممن لم يثقفوا ثقافة عربية جيدة، فنكبوا البلاغة بتعبيراتهم اللابلاغية، وهم يتكلمون في البلاغة أمثال سعد الدين التفتازاني في شرح التخليص، وعبد الحكيم السيلكوتي في المطول، ونحو ذلك، حتى وصلنا في تلخيص المفتاح إلى ضرب من الكلام أبعد ما يكون عن البلاغة. وصارت هذه الكتب هي التي تدرس إلى اليوم، بشروحها وحواشيها، وجهل ما قبلها من كتب الجرجاني وما قبلها من كتب النقد.

هذا أحد التيارين، وهو التيار الذي نقل النقد إلى بلاغة.

وهناك تيار آخر، وهو يعد امتدادًا لحركة النقد.

من هؤلاء أبو العلاء المعري؛ فقد كان في رسالة الغفران ناقدًا، وإن كان نقده خياليًّا، وله كذلك رسائل نقدية كرسالة نقد امرئ القيس، ونقده لأبي تمام في رسالته «ذكرى حبيب» والبحتري في رسالته «عبث الوليد» وللمتنبي في «معجز أحمد» ونحو ذلك، فهو فيها كلها ناقد فلسفي ديني أدبي.

وجرى هذا المجرى نفسه ابن شهيد الأندلسي، في رسالته «التوابع والزوابع» وفيها يُنْطِق الجن بنقد الشعراء والأدباء، بملاقاة شيطان ابن شهيد بشياطين الشعراء والكتاب.

وربما عد من كتب النقد أيضًا في مثل هذا التيار كتاب العمدة لابن رشيق، وكتابه أيضًا «قراضة الذهب».

فكتاب العمدة عنوانه «العمدة في صناعة الشعر ونقده».

وقد تعرض فيه لعناصر الشعر وفضله ودواعيه، وإن لم يتكلم عن العواطف التي تبعث الشعر، وإن لم يسمها عواطف، وذكر المشاهير من الشعراء والمقلين منهم والمولدين، والأوزان والقوافي، وآداب الشاعر، وأراجيف الشعراء والرواة، وذكر كل نوع من الشعر كالنسب والهجاء والوصف، وذكر شروط جودته، إلخ.

وجاء بعده ابن سنان الخفاجي، فألف كتابه «أسرار الفصاحة» فتكلم عن السجع، ونفى أن السجع عيب كما يقول الرومان، وأن من لم يسجع من كتاب القرن الثاني والثالث كانوا يحرصون على ألوان من الفن في كتاباتهم، وذكر نماذج من النماذج الأدبية، ووازن بينها.

ومن أهم الكتب النقدية كتاب «المثل السائر» لابن الأثير وهو كتاب قيم مملوء بالالتفاتات الأدبية الرائعة التي تدل على ذوق بارع، لولا أن صاحبه كثير الفخر بنفسه، والاعتداد بها.

وقد يقع على آراء قيمة ينسبها إلى نفسه، وهو مسبوق إليها، وذكر القصص في القرآن وأبان بلاغتها، وكان خيرًا من ذلك أن يتعرض لغير بلاغة القرآن، حتى يكون حرًّا في النقد.

وهناك كتب ليست كلها نقدًا، ولكن نُتَف نقدية أدبية، ككتاب زهر الآداب، وكتاب «المستطرف في كل فن مستظرف» للأبشهي وغير ذلك.

وجرى الأدباء على هذا المنحى من غير تجديد كبير، والذي يلاحظ أن مؤلفي الأدب في العصور المختلفة لم يبتكروا كثيرًا، وأصيبوا بخمول التقليد، شأن الأدباء في ذلك، وشأن غيرهم من العلماء والفقهاء، فمنذ قضي على المعتزلة قضي على الابتكار، لسيادة منهج المحدثين من الاعتماد على النقل أكثر من الاعتماد على العقل، مع أن علماء الشرق وأدباءه، لا يقلون ذكاء عن علماء الغرب وأدبائه، وكل ما في الأمر أن الغربيين رزقوا بأدباء وعلماء مبتكرين، فتحوا الطريق أمام غيرهم، فجاراهم من بعدهم، ولم نرزق نحن هذه الفئة، فإذا عددنا ابن خلدون مبتكرًا لعلم الاجتماع، فقلما نجد له زميلًا، وربما كان من أسباب ضغط الكنيسة على المسيحيين في العصور الوسطى، أكثر من ضغط علماء المسلمين، فهذا الضغط الشديد ولد الانفجار، وربما كانت بيئة الأوربيين لها دخل أيضًا في نشاطهم وجدهم في مكافحة الحياة، وعدم احتمالهم للظلم الكثير، والقسوة الزائدة، وقد علل المهندس ولكوكس الإنجليزي عدم الابتكار عند الشرقيين بأن لهم لغتين منفصلتين عن بعضهما تمام الانفصال، اللغة الفصحى في الكتب والصحف والمجلات، واللغة العامية في البيوت والشوارع، وقال: «إن استعمال اللغة في الحياة اليومية يكسبها حياة، ويجعل للكلمات والتراكيب هالة غير المعاني التي في الأعاجم، بخلاف ما إذا قصرت اللغة على الكتب والمجلات، فلما فقدت اللغة الفصحى حياتها بعدم استخدامها في البيوت والشوارع خمد الفكر معها.» وهو تعليل يصح أن ينطبق على الحياة الأدبية وحدها دون الحياة العملية والفكرية.

على كل حال ظلت حياة النقد خامدة في العصور الأخيرة، حتى حدث الاحتكاك في العصور الحديثة بين الشرق والغرب فحيي النقد من جديد، وكان لنا نقدان: نقد مؤسس على ما لنا من تراث قديم، كالأغاني والعقد الفريد، وزهر الآداب، ونقد مؤسس على نقد الإفرنج. وكلا النقدين تقليد لا ابتكار، واختلاف النقد تابع لاختلاف منهج الأدب، فهناك أدب يحتذي القديم في أسلوبه وموضوعاته، وله مدرسة قائمة بذاتها تستنكر الأدب الغربي، ولا تتذوقه؛ وهناك أدب يستوحي الأدب الغربي ويقلده، ولا يؤمن بالأدب العربي وله مدرسته الأخرى. وقد يكون هناك قوم من أهل الأعراف أخذوا من الغرب معانيه وموضوعاته، ومن الشرق جزالة أسلوبه وجميل تعبيراته … ولكل وجهة هو موليها.

فلما جاء العصر الحديث كان أول ما رأينا رسالة مخطوطة في دار الكتب المصرية لشابين عمدا إلى أدباء عصرهما، فسميا كل أديب باسم خاص يرمز إلى أسلوبه وخاصيته، فسميا أديبًا كان رفيع الرقبة بديك الجن، وأديبًا آخر كان يصفر بالصاد، فقالا عليه: إنه خير من نطق بالصاد، وسميا أديبًا كان طويل اللحية بابن مكانس، وسمى أحدهما صاحبه بالشاب الظريف، وهكذا، وهو نوع من النقد خفيف لطيف.

وجاء بعدهما الشيخ حسين المرصفي في كتابه «الوسيلة الأدبية» وكان يتعصب للبارودي، فكان البارودي قد عارض بعض الشعراء كالشريف الرضي وأبي نواس، فوازن بين قصائدهم التي هي من باب واحد، ووزن واحد، وأشار إلى محاسن كل، فكان هذا أيضًا نوعًا من النقد. وجاء بعد ذلك المازني والعقاد وألَّفا كتابهما الديوان في نقد شعر شوقي فوضعا شوقيًّا في الميزان ونقداه من ناحية أنه يخاف من النقد ويرشو الصحف لمدحه وهاجماه مهاجمة عنيفة، فنقداه مثلًا في قصيدته في رثاء محمد بك فريد من مثل قوله:

كل حي على المنية غاد
تتوالى الركاب والموت حاد
ذهب الأولون قرنا فقرنا
لم يدُم حاضرٌ ولم يبق باد
هل ترى منهم وتسمع عنهم
غير باقي مآثر وأياد

فيقولان: إن هذه من الأقوال العديدة المألوفة، حتى لنسمعها من المكدين والشحاذين كقولهم: دنيا غرور، والذي عند الله باق، وما أكثر ما داست الدنيا على الجبابرة ووضعتهم تحت التراب.

ويقول:

تطلع الشمس حيث تطلع صبحا
وتُنحَّى لمنجل حصاد
تلك حمراء في السماء وهذا
أعوج النصل من مراس الجلاد

فينقدانه من حيث إنه حدد زمن الوفاة بطلوع الشمس صبحًا وفي يوم أن يكون القمر منجلًا حصادًا فلا موت ظهرًا ولا عصرًا … إلخ.

وفي قوله:

وعلى نائم وسهران منه
قدر لا ينام بالمرصاد

وقد سرق هذا المعنى من قصيدة أبي العلاء التي عارضها بهذه القصيدة وهي:

غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شاد

واستمرا على هذا المنوال في نقد شوقي والمنفلوطي وقد نظرا في نقدهما بعين الغرب ومقاييس نقده، وإن كان يؤخذ عليهما شيء فشدة النقد وقسوته والمبالغة فيه.

وجاء بعدهما الأستاذ مصطفى السحرتي فألف كتابا سماه «الشعر المعاصر».

على ضوء النقد الحديث) فتتبع بعض الشعراء بالنقد على النمط الأوربي الحديث وأوضح المذاهب المختلفة في النقد من مذهب فني ومذهب واقعي وتكلم في مقاييس النقد الأدبي والانفعالات الشعرية والفكر في الشعر والموسيقى الشعرية والشعر الرمزي، ثم نقد الشعر في مصر واستعراض من نقدوا كالعقاد والمازني في (الديوان) وكتاب (على السفود) للرافعي، وحديث (الأربعاء) للدكتور طه، وكتاب (في الميزان) للدكتور مندور، وهكذا … فكان حلقة جديدة في النقد المعاصر.

والاتجاه السائد للآن في الأدب والنقد هو الاتجاه الغربي فيهما. ومحاولة تطبيق النظريات الغربية ومقاييس النقد الغربي على الأدب العربي، مع الفوارق الكبيرة بين الأدبين لاختلاف البيئتين ونتاجهما.

والذي نلاحظه أن الأدب في السنين الأخيرة ارتقى أكثر مما ارتقى النقد، فلا يزال النقد يتعثر من حكم بالهوى، ومدح من غير حساب، وذم من غير حساب، ونقد من غير دراسة عميقة للنتاج الذي ينقده، وعدم رجوع إلى مقاييس ثابتة، وعدم حرية في النقد، دعا إليه عدم سماحة المنقودين وضيق صدورهم بالنقد؛ وعدم احتمالهم أي تجريح ولو كان بسيطًا. فنحن أحوج ما نكون الآن إلى نقد يؤسس على قواعد ثابتة، وحكم عادل من الناقد، وسماحة صدر من المنقود، والله بالمستقبل عليم.

١  كالذي روي عن ابن الأعرابي، فإنه يروى عنه أن كان يحس البيت أو الأبيات فإذا قيل له أنه لمحدث رجع عن رأيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤