كان جمال عبد الناصر كتومًا فحكم بالأجهزة السرية

بقلم  حسين ذو الفقار صبري

عندما أُلقي القبض على علي صبري في ١٥ مايو ١٩٧١م، وضع شقيقُه حسين ذو الفقار صبري استقالته فورًا تحت تصرُّف الرئيس السادات.

ولكن الرئيس، بدلًا من أن يقبل الاستقالة، مد فترة خدمته عامين بعد سن المعاش!

فقد كان حسين ذو الفقار صبري منذ شبابِه بطلًا من أبطال المقاومة ضد الاحتلال البريطاني. وكان زميل الطيار حسن عزت في محاولة هرب الفريق عزيز المصري جوًّا أيام الحرب العالمية الثانية.

وفي جميع المناصب التي تولاها حسين ذو الفقار صبري بعد الثورة (مستشارًا لرئيس الجمهورية، ووكيلًا لوزارة الخارجية، وسفيرًا في سويسرا) كانت سمعته دائمًا نقية، ونزاهته فوق كل شك.

ومن هنا خطورة هذا المقال، الذي كتبه خصِّيصى لروز اليوسف.

•••

يثير الدهشة حقًّا أن أطراف النزاع حول «التجربة الناصرية» قد تجاهلوا جميعًا، وما زالوا يتجاهلون، دور التكوين الشخصي والنفسي لجمال عبد الناصر فيها!

ذلك أن أية «تجربة» في عهد الثورة، سواء تعلَّقت بشكل المجتمع وأهدافه، أو ضربت باتجاهها إلى مجالات أخرى، قد خضعت خضوعًا تامًّا لمزاج تكوينه الشخصي … وطبع عليها بصمات واضحة عميقة الأثر.

وما من ميدان جد إليه جمال عبد الناصر باهتماماته — وإني لَأحار حين أبحث على ساحة أو خباء لم يجد إليها باهتماماته — إلا ونجده كان قد سُوي من جديد؛ فاليسار المصري بعد التجربة الناصرية جد مختلف عن اليسار قبلها، وليس اليمين هو اليمين، وما من شيء على أرض مصر إلا وبه شاهد أن قد كابد تجربة ناصرية، تركته على غير ما كان.

وإن أية دراسة للعلاقات بين تيار ما من تيارات الحياة في مصر وبين تجربته الناصرية؛ لقاصرةٌ عن الارتقاء إلى الموضوعية ما لم يصاحبْها تحليل دقيق لشخصية جمال عبد الناصر، فذة متفردة، لا تتفاعل وإنما تنفعل، لا تأخذ فتعطي، وإنما تعتسر!

من زعيم إلى نبي

هو زعيم ما في ذلك من شك رجل تجمَّعت في كيانه مقومات الزعامة جميعًا، شخصية مهيبة، شديدة الاعتزاز، تتميز بجرأةٍ وتصميم، منبثقة عن سعة صبر واستيثاق.

جهز لثورة هدفها الإطاحة بالقديم، خطَّط لها مع زملائه في سريةٍ بالغة، في بلد يهيم أبناؤه بالتشدُّق بما يعرفون وما لا يعرفون، تباهيًا بأنهم وحدهم العالمون ببواطن الأمور، وتظل رغم ذلك شخصيته خافيةً على أقرب المقربين، دليلًا صادقًا على رصانة وفراسة في التقدير، صفات سوف تلازمه فلا يأمن إلا لكل كتوم، هم وحدهم «أهل الثقة» لا يعنيه أن يكونوا أهل خبرة أو علم.

ثورة تحرك بها قبل الميعاد الذي كان قيد لها بأعوام؛ إذ تشعر السلطة القائمة أن شيئًا ما يجري تدبيره في الخفاء، فيزمع ويقدم مقامرًا، عسى أن تتحقَّق المفاجأة، صفات أخرى سوف تلازمه فإنها من صميم تكوينه، أن يقامر فيأخذ الغير على غرَّة، قبل أن تتهيَّأ له فرصة الاستعداد.

ثم ضربة المعلم، حيث يفاجئ العالم بتأميم القناة، أمام تحديات الدول الكبرى، رد الفعل الذي يشل حركة الغير، فيتخبطون وقد بوغتوا … لازمة سوف تصبح من لوازمه، أو أنها كانت، ولكن الأحداث تبرزها في صورة ساطعةٍ جلية، فهو رجل إذا ما تربصت به قوى لها وزنها، يحجم عن كشف أوراقه بمبادرة، وإنما يتريث عسى أن تنكشف اتجاهات الغير عن منافذ أو مكامن إيجاع وإثخان.

ثم تبرز صلابته، فيلتهب حماس دول العالم الثالث إعجابًا، حين يصمد للعدوان الثلاثي عام ١٩٥٦م، فإذا ما انحسرت جيوش بريطانيا وفرنسا، وثالثتهم إسرائيل، عن أرض مصر رفعت الأعلام في كل مكان، تهلِّل لانتصارنا المذهل على اثنتين من كبريات الدول الاستعمارية، ردت مدحورة، هضيمة النفس، مستخزية.

وإني لأشعر أني أُخذت به في تلك الأيام، كأخذ غيري، فكأنه نبي اصطفته لنا العناية الإلهية، وتتلبَّس حواسي غشاوات، لا أقبل بأية حال أن يمس شخصه بنقد أو تشكك في التصرفات، بل أكذب نفسي، أكذب عيني إذا ما بدت لي منه، هنا أو هناك، بضع هنات. أضحيت (كما قد يقول توفيق الحكيم) فاقد الوعى أمام المعبود. هو الكل في واحد، تجسَّدت فيه متركزة أشد التركيز إنجازات مصر جميعًا منذ أن كان لمصر تاريخ.

وربما إن كانت هذه نقطة التحول الخطيرة، وإن لم تبن آثارها إلا بعد سنوات من اختمار … أو قل إنها فترة بذرت فيها بذور، أخذت تنمو وتترعرع وتتفرع، وتمد بأطرافها — جذورًا وأغصانًا — في تؤدةٍ وإصرارٍ حتى لم يبقَ في مصر لغيرها مكان.

فإن الشعار الذي رفع حينذاك، فنتسابق إلى الالتفاف من حوله، إيمانًا بأن «مصر الثورة» قد ردت قوى الاستعمار العتيد على أعقابها مدحورة، إنما تحول تدريجيًّا إلى شعور وجداني عميق، بأنه لولا جمال عبد الناصر لما حصل ما حصل، فالانتصار هو انتصاره، وإن مصر ما كانت لتكسب المعركة لولاه، ولولا تلك العناية الإلهية — أو القوى الغيبية — التي اصطفته لنا زعيمًا … وإن هذا لصحيح إلى حد كبير، بفضل تلك الصفات، وقلَّ إن يكون لها نظير.

ولكننا تغافلنا جميعًا عن أن مصر في حقيقة الأمر لم تكن قد انتصرت، وما كان بوسعها أن تنتصر، إنما عرفت فقط كيف تصمد حتى تتحقق الفرصة للولايات المتحدة، أو فوستر دلاس على الأصح، في أن يفرض على تلك الجيوش الانسحاب من أراضينا، أراد أن يلقِّن حلفاءَه في بريطانيا وفرنسا درس العمر، فلا حركة ولا مبادرة إلا أن ترضى أمريكا فتأذن وإلا فإلى مذلة وخسران.

محاولة اعتراض

وإني لَأذكر أن جمعتني ندوة إلى عدد من المهتمين بشئون السياسة الدولية، بعد تلك المعركة بسنوات عشر، فأرى تمسكًا عجيبًا بتلك النظرية. اختلقناها وكأنها مسلَّمة مطلقة منزهة من كل نقد، بأن حرب السويس قد وضعت حدًّا فاصلًا، إلى غير رجعة، بين أساليب الاستعمار القديم بتدخلاته العسكرية السافرة وبين الاستعمار الجديد بأساليبه غير المباشرة في إقرار السيطرة.

وكنت أشعر أن التشبُّث بتلك النظرية إنما نابع من شعور الجميع بأننا إذا قلنا حرب السويس، فإنما نعني جمال عبد الناصر شخصيًّا، وأن أي تهجُّم على تلك النظرية إنما هو تهجم على شخص الزعيم!

وحاولت جهدي أن أدفع إلى المناقشة بأمثلةٍ تدحض تلك النظرية من أساس، كالتدخل الأمريكي في لبنان عام ١٩٥٨م، ثم في سان دومنجو عام ١٩٦٥م، ربما إن كانت لهما ظروف خاصة، أولها التدخل الثلاثي ضد الثورة الكونغولية في يناير ١٩٦٥م — قوات مظلية بلجيكية تحملها طائرات أمريكية، أقلعت من قواعد بريطانية — ثم بعد ذلك بشهر واحد، الهجوم الأمريكي على فيتنام الشمالية؛ إذ تضرب بالقاذفات الضخمة في موجات إثر موجات، ومتى هذا! بينما كوسيجن، رئيس الوزراء السوفيتي، في زيارة رسمية لهانوي.

وقوبلت كلماتي بستار من صمت أول الأمر، ثم بمراوغات أو محاولات تملص، فما كان أحد ليجرؤ حينذاك أن يناقشَ تلك النظرية موضوعيًّا وإلا اتهم بأنه ينتقد الزعيم بالذات — وأن الجدران، كل الجدران، كان لها في ذلك الوقت آذان! — فلما رأيتُ المناقشة تتعثَّر وأن لا فائدة تُرجى من متابعتها، تحججتُ بأني على ميعاد، وانسحبت.

حكم «الأجهزة السرية»

ولكن التطورَ الحاسم كان ذلك الذي طرأ على شخصية عبد الناصر نفسه، إيمان مطلق بأن لا خلاص لمصر من الأخطاء المحدثة بها إلا على يديه، بأن لا تقدم للبلاد إلى رخاء أو حتى كفاية إلا أن يخطط لذلك بنفسه، بأن لا مكانة دولية للمنطقة إلا أن تقفوَ البلاد العربية جميعًا نهجه، فينغلق على أجهزة هي أدواته إلى تنفيذ مخططاته، لا يركن إلى غيرها، ولا يطمئن إلا لها.

صفاته الفطرية، بل أكاد أقول الغريزية، والتي مهدت لثورة ١٩٥٢م، تأيدت. فتصاغ تلك الأجهزة وكلها امتداد عضوي لشخصيته، أعضاؤها هم صفوة «أهل الثقة»، ولكنه لا يأمن لأي منهم تمامًا، فإن فراسته في تقدير قيم الرجال من حوله، كانت مجبولة على التشكك الدائم؛ خشية تحول مفاجئ، فهم دائمًا موضع اختبار تلو اختبار، بل وتصنت على بعضهم البعض، ثم إن نجاحه المذهل في تأميم القناة دفع به إلى التوسع في استخدام تلك الأجهزة فتتقصى مواطن الضعف عند الغير، حيثما تكون، ثم حصرها وتبويبها فهي السلاح الماضي يُشهر في وجه من تحدثه نفسه بمعارضة أو مناورة.

كلا! بل لا يشهر هذا السلاح بنفسه — وهذا هو السر في تزايد اعتماده على «أهل الثقة» — بل يحرِّك تلك الأجهزة فتنال ممن يتوسم ضرورة النيل منه، وكأنه لا علم له بما يجري.

وكان الانفصال السوري قد أدى إلى تعاظم عقدة التشكُّك التي جبل عليها، فالخطر كل الخطر إنما في تلك الفئات من شعب مصر التي ربما ألبت عليه الموقف من داخل، فإذا بأجهزة الدولة المنوط بها أساسًا تعقب نشاطات العدو الخارجي (وأعني به إسرائيل في المقام الأول) توجه بجلة جهودها فتتسقط أي كلمة يمكن أن يتفوه بها مواطن، لعلها أن تكون الدليل على أنه يُضمر بنظام الحكم شرًّا.

جميع مراكز القوى التي خلفها لنا كانت تأتمر بأوامره، خاضعة لتوجيهاته، والويل كل الويل لأي من أعضائها لو ألمح إلى الشخصية التي تحرك كل هذا من وراء ستار.

حكم البلاد متوخيًا أساليب قريبة كل القرب من تلك التي حقَّقت له نجاحاته السابقة، أساليب الرجل الذي لا يأمن إلا أن يتحرَّك من خلال أجهزة سرية، بل أجهزة قوامها خلايا سرية، يمسك هو بخيوطها جميعًا دون أن تدريَ عن بعضها البعض إلا أقل القليل.

فلما أن حاولت مراكز القوى تلك أن تعمل لحسابها الخاص بعد وفاته، تهاوت؛ إذ فقدت خيوط التوجيه التي كانت تنسق بينها بإحكام مركزي، كأنها افتقدت السند الذي يكفل لها حماية ومداراة إذا ما جاوزت حدودها.

وإني أسوق هذا الكلام استنادًا إلى تجارب شخصية كابدتُها بنفسي، ليس هذا مكان الدخول في تفاصيلها، وإنما يكفيني استدلالًا أن أشيرَ إلى موضوع اعتقدت أنه مرتبط بصميم عملي كنائب لوزير الخارجية، فقد كان يقال إن صلاح سالم كان المسئول في أيام الثورة الأولى عن إذاعة صوت العرب، ولكن صلاح سالم كان قد ذهب، ومع ذلك فقد كانت تتواتر بين الحين والحين من تلك الإذاعة موجاتٌ من سباب مقذع تكال يمينًا وشمالًا بأسلوب حري أن يخلق لنا مشاكل دبلوماسية نحن في غنى عنها بيننا وبين بعض من دول عربية، وحاولت جهدي أن أتقصى شخصية الذي يقف وراء تلك الإذاعة بتوجيهاته، علَّني أن أقنع أو أقتنع اتصلت بجميع الجهات، بوزارة الإرشاد بمكاتب رئاسة الجمهورية المختلفة، ولكني لم أحظَ منهم جميعًا إلا بالتنصُّل المطلق من مسئولية توجيهها، أو بمراوغاتٍ في الإجابات، بل بصمت مطبق في أغلب الأحيان؛ طريق مسدود!

فمن ذا الذي كان يوجهها إذن؟

الميثاق سبب الصدام بين اليسار

ويمضي جمال عبد الناصر في طريقه، فارضًا رأيه، إيمانًا منه أن الحق لا يأتيه الباطل من أي جهة كان، مخلصًا في دعوته إلى عدالة اجتماعية حُرم منها الشعب على مر التاريخ، قرأ ما قرأ عن الاشتراكيات جميعًا، بينما هو غارقٌ في خضم أحداث ومؤامراتٍ تُحاك من حوله، لا يكاد يطمئنُّ إلى أي من تنظيمات، تقدمية كانت أم غير تقدمية، زخرت بها البلاد، ساعيًا أبدًا إلى خلق قاعدة شعبية تكون له سندًا وقاعدة، ولن تكون إلا أن تدين له بولاءٍ مطلق لا مساءلة فيه ولا حتى مجالًا لاستفسار.

لم يكن إيمانه بالاشتراكية مناورةً تكتيكية، وإنما إيمان راسخ عميق، ولكن أي اشتراكية؟ قراءاته تنبئه بأن التطبيقات متعددةٌ تعدد نظم البلاد التي رفعت شعاراتها، لم يتردَّد لحظة في أن يسارعَ ويرفعَ شعارَها هو الآخر، ولكنه يريدها اشتراكيةً خالصةً لمصر، منبثقة من أرضها، متوائمة مع طبيعة شعبها، فيقرأ ما يقرأ، متحسسًا الطريق، ويعلق بذهنه ما يعلق ويرفض بشعور ما كان يعتقد بإخلاص أنه ينافي الأحوال والظروف.

يستحثه انفصال سوريا، فلا مفر من القضاء على الموانع والمعوقات، ويخرج علينا الميثاق، هو الجامع لمواقف معينة وردود فعل محددة، استخلصها من قراءاته المتعجلة — فإنه في سباق مع الزمن — ومن تجارب صراعات خاضها ضد توغلات الإقطاع والرأسمالية المستغلة، ومن مرارة الهزيمة أمام الفئات التي تضافرت على تجربته السورية.

رفع الميثاق في صورة من نظرية مستوثقة الأركان، في نظر اليسار المصري، في نظر أي يسار، إنها مجموعة من مواقف لا يمكنها أن ترقى بحال إلى مكانة النظريات.

فالنظرية، أي نظرية، في عرفهم إنما نتاج تحاليل دقيقة لمسارات تاريخ المجتمعات البشرية، الاشتراكيات أنواع ولكنها جميعًا مهما اختلفت بينها الملامح التطبيقية، إنما منبثقة من أصول النظرية الماركسية، نظرية عكف عليها صاحبها وزملاء له بعد دراسات متأنية للتاريخ، أفنوا فيها عمرهم، يضيف إليها لينين من واقع تجارب حية في مجتمع انعزل به أو يكاد عن العالم الخارجي.

أما هنا في مصر، فأي تجارب تلك قمنا بها؟ نشاطات الأجهزة الشعبية إنها سلسلة من اجتماعات يتبارى فيها الخطباء تمجيدًا للثورة ومآثر الثورة … حاول مرة أحد أعضاء لجان الاتحاد الاشتراكي بالصعيد أن يشيدَ بجهودٍ قام بها الطلبة في رفع معنويات الفلاحين؛ أتت السيول على منازلهم فجرفتها من أساس، ويقوم أبناء المنطقة من طلبة، توافق أن عادوا خلال إجازات دراسية، فيخوضون المناطق المنكوبة، جنبًا إلى جنب مع الأهالي، ليعينوهم على إعادة البناء فيدب فيهم الحماس بعد أن كان هدَّهم اليأس، ويحاول عضو لجنة الاتحاد الاشتراكي أن يسترسلَ فيحلِّل النتائج التي يمكن الوصول إليها بالاستمرار في خلق مجالات من تعاون مثمر بين الفئات الشعبية، كتلك إذ تضافروا على مواجهة الكارثة، ارتقاء إلى حياة أفضل، وإذا بصوت يزجره من فوق المنبر، صوت طالما سمعته رزين النبرات، نافذًا إلى الأعماق، ولكنه يختلج الآن بضيق وانفعال:

«أنا باسألك عن العمل السياسي، مش عن شيل الطوب وشغل الفعلة! إيه هو العمل السياسي اللي عملتوه؟»

ونزلت الكلمات كأنها المطرقة، فيتعثر المتحدث، ويلجم عن متابعة الحديث، فقد كان المطلوب هو تقرير عن عدد الندوات التي عقدت، وأساليب التوعية من خطب وشعارات، ومن كان الخطباء المفوهون الذين يُرجي من ورائهم التأثير على المشاعر وإلهاب العواطف.

ومثل آخر، ربما بدا تافهًا ولكنه عميق الدلالة؛ إذ جزعت من هبوط المستوى في المدرسة التي التحق بها ابني الأصغر، رغم ما كنت أعرف عن مديرها من سَعة اطلاع وراسخ خبرة، فيعتذر بأن لم يعد في وسعه بذل ما كان يبذل من وقت فيشرف على سير الدراسة: «وماذا أفعل؟ فإن اجتماعات لجنة الاتحاد الاشتراكي لا تترك لي لحظةً فأتفقد سير العمل، إنها تنعقد وقت الدراسة.»

بل إن مجلة روز اليوسف نفسها ولا شك تعلم ماذا كان مصير محاولة كانت قامت بها، نقدًا لأوضاع، فتصبح مدخلًا لتقييم تجربة من التجارب، فإني لَأذكر اجتماعًا لمجلس الوزراء فتتملك الرئيس عبد الناصر سورة من غضب، إزاء الحملة التي قادتها المجلة ضد إدارات المستشفيات الكبرى بعد تأميمها، فتوالى ظهور الرسوم الكاريكاتورية عن «التومرجية» يأكلون طعام المرضى، وغير ذلك من مآسٍ كانت تُرتكب في تلك المستشفيات، فيعتبره هجومًا سافرًا على الاشتراكية، وأنها أمور يجب أن يوضع لها حد فورًا، في حين الأمر لم يتعد في نظري، سواء صدر عن سوء نية كما كان يعتقد أم غير ذلك، أن كان هجومًا على حالات من استغلال بشع، الحل هو في علاج أسبابها وإلا أدى سوء التطبيق إلى أن يكفر الناس بالاشتراكية، بينما الاشتراكية من تلك الوسائل براء.

فالموضوع إذن تحول إلى رفض بات لأي محاولات تقييم من جانب وسائل الإعلام؛ خوفًا من أن يكون هدفها الخفي هو التشهير، فكيف بالله كان يمكننا الانتفاع من تجاربنا والاستدلال على مكامن الأخطاء في التطبيق؟

بالرطل … ذي بتاع ماركس

ومع ذلك ورغم كل، فقد كانت فرص التقاء جمال عبد الناصر باليسار المصري مهيأةً في أعقاب الانفصال السوري؛ إذ يوغر صدره ضد الفئات التي كان يمكن لليمين المستتر اجتذابها، ولكن تشككه المتأصل وقف مانعًا ضد أي تعاون مثمر، وخاصة أن اليسار المصري كان لا يتمثَّل في تيار واحد وإنما تيارات عدة، جميعها، حتى تلك التي كانت مخلصة في وطنيتها (وإنها للغالبية العظمى) لا تدين بتبعية لتنظيمات أجنبية.

لكن العقبة الكأداء كانت لا تزال كامنة في أن اليسار المصري بفئاته جميعًا، كان يعنيه الفعل وليس القول، التجربة الحية وليس الكلام المفروض من أعلى، وما كان بوسعه أن يعترف بالميثاق نظرية متكاملة.

وإني لَأذكر كيف ثارت ثائرته مرة، في جلسة مع أحد معاونيه الأقربين، تصادف أن كنت حضرت طرفًا منها:

«بيقولوا إنها مِش نظرية! أُمال النظرية تبقى إيه! هُم عايزين كتاب يتباع بالرطل ذَي بتاع ماركس.»

خلاصة القول أن اليسار لم يكن يعترف بالميثاق نظرية متكاملة، وإنما يراه تعبيرًا عن مجموعة من مواقف هي ردود فعل، اعتملت في وجدان جمال عبد الناصر تجاه ظروف استغلالية معينة، لصمت إلى بعضها البعض فتتلاحم دون ترابط وثيق.

بينما يراه جمال عبد الناصر وثيقة حرية بكل اعتزاز كإنجاز من إنجازات الفكر قل أن يكون لها نظير.

أما أن يتطور العمل عن طريق تجارب فعلية، فما كانت هناك تجارب يمكن أن يقال إنها خضعت لتقييم، فنتحسس طريقنا إلى أساليب من تطبيق من خلال الموازنة بين خطأ وصواب، وإنما كلها اتجاهات تفرض من أعلى.

تُدعى أجهزة الاتحاد الاشتراكي إلى اجتماعات دورية متباعدة لمناقشة سير العمل في الأقاليم جميعًا، وتطلع الصحف في اليوم التالي بعناوين ضخمة إن استمرت المناقشات ست أو سبع أو عشر ساعات، فيقرر كذا وكيت وهات يا قرارات!

وإنما حقيقة الأمر أن المناقشات كانت تدور دون التزامٍ جدي بالموضوعات التي في جدول الأعمال، يفتح الكلام في موضوع معين، ويطلب الكلمة واحد تلو آخر، فيقول ما يعنُّ له أن يقول، لا يعنيه إن كان في صلب ما هو مطلوب مناقشته، ويُترك له الحبل على الغارب، والرئيس يتمتع بصبر لا ينفد يتابع ما يقال الساعة تلو الأخرى ولا يمل، فإذا ما بلغ بالمجتمعين الإعياء، تكل العيون، وتهن الأوصال، وتتبلَّد أسباب التفكير فتخور العزائم، يتدخل آخر الأمر الرئيس فيعلن، دون محاولة إجراء تصويت، أن المناقشات توصلت بنا إلى القرارات التالية يتلوها في أوراق أمامه، هي معدة من قبل إلا من بعض تعديلات طفيفة هنا أو هناك.

وكان هذا يذكرني بما كان يتباهى به من أسلوب اتبعه في مؤتمر باندونج، حين عرضوا لنزاعات شكلية حول صياغة القرارات، فيقول: «كنت انتخبت رئيسًا للجلسة، فلما احتدمت المناقشات ورأيت أن لا تلاقي، قلت لهم نحن في رمضان وأنا صائم، فلا يعنيني رفع الجلسة لتناول الغداء، لن أتحرك من مكاني حتى تصلوا إلى اتفاق …»

ثم يُضيف ضاحكًا: «تعبوا، جاعوا، لقوا مفيش مفر، الاعتراضات انهارت، اتفقوا آخر الأمر.»

نفس الأسلوب أو يكاد، نجح في أن يصلَ إلى هدفه وهو جديد على المجتمع الدولي بين فطاحل مثل نهرو وشوان لاي وأونو … فكيف به وهو الحاكم غير منازع، يطل من فوق المنصة على الرقاب.

فإذا جاء الدكتور فؤاد زكريا وقال إنه لم ينجح اليسار في اجتذاب عبد الناصر، وإنما نجح هو في اجتذاب عناصر من اليسار إلى صفه، فهو ما يتمشَّى تمامًا مع ما أعرفه عن شخصية عبد الناصر، أما غير ذلك فإن طبيعة شخصيته لا تهضمه ولا تقبل به تحت أي ظرف كان.

ولكن بقي الاستغلال

إني أعتقد أن أي دراسة لمواقف عبد الناصر، لا يمكن أن ترقى إلى الموضوعية إلا إذا اعتمدت على تحليل دقيق لجوانب شخصيته الفذة، جوانب غنية بمميزات قلَّ أن يكون لها نظير، وأخرى لا تقلُّ أثرًا عن تلك أو ضخامةً هي النواحي السلبية في تلك الشخصية، لو أننا تجاهلناها فكأننا نتكلم عن معبود «كل في واحد» جلَّ أن يخطئ.

وربما إن كانت دراسة الدكتور فؤاد زكريا، لو أُتبعت بغيرها فيتناول عدد من الكتَّاب مجالات أخرى من جمال عبد الناصر هي الخطوة على الطريق الصحيح، فإنه لن يتأتَّى لنا تقييم شخصيته أو أي شخصية تاريخية أخرى إلا من خلال دراسات متعددة، جامعة لمختلف نواحي نشاطه والمجالات التي أثر فيها وتأثر بها.

أما أن يقول الأستاذ نجيب محفوظ إننا ننقد جمال عبد الناصر؛ لأنه خطا بنا خطوة إلى الأمام وكنا نتوقَّع أن يخطوَ ثلاثًا؛ فإنما تهرب من مواجهة الواقع، أو ربما تحرز عفيف، فإن نجيب محفوظ رجل سمح رقيق، إن جمال عبد الناصر قفز بنا قفزة جبارة إلى الأمام، إلا أنه سرد ذلك منجذبًا إلى مسارب سنحت له بأعلام هي من صنع خياله، منقادًا إلى حافة ذلك الجرف الذي هوى بنا إلى حضيض يوم ٥ يونيو ١٩٦٧م، فتتمزَّق نفوسنا من داخل وتكاد أن تغيب معالم أو مكاسب تلك القفزة الأولى. أين هي؟ وأين أقدامنا منها؟ فكأنها مجرد ذكرى!

ثم ما هي مكاسب تلك الخطوة الأولى؟ القضاء على الملكية؟ أي نعم! طرد قوات الاحتلال؟ لا شك في هذا، ولكن أين مكاسبنا الاجتماعية؟ هل قضينا على الاستغلال؟ كلَّا إنما استبدلنا بالإقطاع والرأسمالية طبقات أخرى طفيلية، هي أشد استغلالًا في بعض الأحيان!

«ارفع رأسك يا أخي …» من ذا الذي كان يمكنه أن يرفع رأسه فيقول ما يريد أن يقول؟

أكتوبر ليس انتصارنا

ثم تعليق أخير، فقد جاء في سلسلة المقالات التي أثارتْها دراسة الدكتور فؤاد زكريا … القول بأن جمال عبد الناصر ترك لنا إرادة الصمود والإصرار على الانتصار.

ويتحتَّم علي أن أقرِّر في ضوء ما رأيت أن الذي تركه لنا عبد الناصر، ليس إرادة الصمود، وإنما الامتثال المطلق لإرادته، أراد لنا أن نصمد ففرض علينا إرادة الصمود من أعلى، وويل لمن كانت تحدثه نفسه ألا يمتثل!

وإنه لَموقف يستحق منا كل تقدير لذاكره … فلولا أن فرض علينا إرادة الصمود تلك لما تهيأت الفرصة لقواتنا المسلحة أن تتحوَّل آخر الأمر إلى الهجوم على العدو فتنتصر.

نعم! فإن الانتصار ليس انتصارنا، وإنما انتصار أحرزتْه قيادتُنا السياسية، وقواتنا المسلحة، قواتنا هي التي عانت ما عانت من صمود على الجبهة، من انخراط جدي في تدريبات شاقة مستمرة، فتبث فيها قيادتنا السياسية روح الإصرار على الانتصار.

قواتنا المسلحة وليس نحن!

وإلا فبالله حدثوني ما كان يمكن أن يحدث لو أن خراطيم المياه التي أزالت السدود الترابية، كانت كلها ثقوبًا كتلك التي حاولت إطفاء حريق مسرح البالون؟

ما كان يمكن أن يحدثَ لو أن كميات المؤن والذخائر التي أُرسلت إلى الجبهة، تكدَّست بلا نظام، عرضة للنهب والتلف والحريق، كما يحدث في موانينا البحرية والجوية؟

هل كان يمكن لقواتنا أن تعبر فتقتحم بارليف في تنسيق بارع، لو أن فيهم من لا يعرف واجباته، لو كانوا كالموظفين في مكاتبنا الحكومية، حيث يتفشَّى التسيب والإهمال بل الاستهتار بمصالح الناس؟

هل كان بوسع قواتنا المسلحة أن تنتهز فرص النجاح، لو أن تحركاتها كانت خاضعة للوائح من روتين، منها ما مضى عليه عشرات السنين؟

أقول هذا الكلام إذ أرى الأقلام في كل مكان «نازلة غزل» عبارات عن العبور إلى الانفتاح والعبور إلى وفرة الإنتاج والعبور إلى العبور، بينما لا انضباط ولا شعور بمسئولية، بل أهم من هذا كله، لا محاسبة على أخطاء!

فهل لنا أن نستفيد من تجارب قواتنا المسلحة؟

إنها بنود قليلة، ولكنها أساسيةٌ وفي غاية الأهمية: تحديد المسئوليات بدقة، توفير السلطات القادرة على تحمل مسئوليات التنفيذ، فتحاسب وتحاسب فورًا، فإما الردع وإما المكافأة بسخاء!

هل آن لنا أن نفيق إلى حقائق الأمور، فنلحق كشعب بالمستوى الرائع الذي وصلت إليه قواتنا المسلحة؟ فإن أفرادها إنما «منا وعلينا» ولكن الفوارق كامنة بين أسلوب العمل هنا وهناك تلك هي المعركة التي تتحدانا إلى عبور!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤