الْفَصْلُ الثَّانِي

(١) فِي أَجْوَازِ الْفَضَاءِ

وَكَانَا يَطِيرَانِ فِي خِفَّةٍ وَهُدُوءٍ؛ فَيُخَيَّلُ إِلَى مَنْ يَرَاهُمَا أَنَّهُمَا مُسْتَقِرَّانِ حَيْثُ هُمَا (ثَابِتَانِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي كَانَا فِيهِ)، وَأَنَّ الْهَوَاءَ وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَحْمِلُهُمَا إِلَى حَيْثُ يَشَاءُ. وَكَانَا يَطِيرَانِ فِي خُطُوطٍ مُنْحَنِيَةٍ بَدِيعَةٍ — عَلَى عَادَةِ الْخُطَّافِ فِي طَيَرَانِهِ — وَيَتَنَاغَيَانِ (يَتَحَدَّثُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَا يُعْجِبُ الْآخَرَ وَيَسُرُّهُ) فِي لُطْفٍ، وَيَقْبِضَانِ عَلَى مَا يُصَادِفَانِهِ فِي الْجَوِّ مِنَ الْحَشَرَاتِ الرَّاقِصَةِ فِي أَشِعَّةِ الشَّمْسِ. حَتَّى إِذَا شَبِعَا، قَالَ «عُصْفُورُ الْأَمَانَةِ» لِزَوْجِهِ «أُمِّ سِنْدٍ»: «لَيْسَ فِي قُدْرَتِكِ — يَا عَزِيزَتِي — أَنْ تَتَمَثَّلِي (تَتَصَوَّرِي) مِقْدَارَ مَا أَشْعُرُ بِهِ مِنَ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ، حِينَ أَهْتَدِي إِلَى وَكْرٍ (عُشٍّ) هَادِئٍ جَمِيلٍ. انْظُرِي صَوْبَ الْمَغْرِبِ، أَلَا تَرَيْنَ ذَلِكِ الْبَيْتَ الْخَرِبَ؟ أَلَيْسَ هَذَا أَصْلَحَ مَكَانٍ نَبْنِي فِيهِ عُشَّنَا، وَفْقَ مَا نُرِيدُ؟»

(٢) الْعُشُّ الْجَدِيدُ

وَأَسْرَعَ الْخُطَّافَانِ فِي طَيَرَانِهِمَا، حَتَّى بَلَغَا تِلْكَ الْخَرِبَةَ؛ فَحَطَّا عَلَى نَافِذَةٍ مَهْجُورَةٍ قَدِيمَةٍ لَا زُجَاجَ بِهَا. وَجَثَمَ الْخُطَّافَانِ عَلَى حَافَتِهَا (تَلَبَّدَا بِجَانِبِهَا) فَرْحَانَيْنِ، وَقَالَ «عُصْفُورُ الْأَمَانَةِ»: «لَا جَرَمَ (حَقًّا) أَنَّ هَذَا أَصْلَحُ مَكَانٍ نَخْتَارُهُ، وَلَنْ يُكَدِّرَ صَفْوَنَا فِيهِ مُكَدِّرٌ. فَإِنَّ هَذِهِ الْغُرْفَةَ الْجَمِيلَةَ، هِيَ — كَمَا تَرَيْنَهَا — مَهْجُورَةٌ، وَأَرْضَهَا كَثِيرَةُ الثُّقُوبِ. وَإِنَّنَا بِهَا لَسَعِيدَانِ، مُسْتَرِيحَا الْقَلْبِ هَانِئَانِ (فَرْحَانَانِ).

وَسَيَكُونُ عُشُّنَا الْجَدِيدُ أَجْمَلَ مِنْ عُشِّ «أُمِّ هِنْدٍ»، وَأَرْوَحَ (أَطْيَبَ)!»

(٣) فَرَحُ «أُمِّ سِنْدٍ»

فَهَشَّتْ «أُمُّ سِنْدٍ» لِزَوْجِهَا وَبَشَّتْ (ارْتَاحَتْ وَنَشِطَتْ)، وَصَفَّقَتْ بِجَنَاحَيْهَا مُبْتَهِجَةً بِهَذَا الْمَكَانِ الْخَرِبِ. وَنَسِيَتْ كُلَّ مَا حَزَنَهَا مِنْ «أُمِّ هِنْدٍ»، وَتَحَوَّلَ أَلَمُهَا أُنْسًا وَسُرُورًا، وَانْقَلَبَ تَرَحُهَا فَرَحًا وَحُبُورًا. ثُمَّ قَالَتْ لِزَوْجِهَا رَاضِيَةً، قَرِيرَةَ الْعَيْنِ: «مَا أَبْعَدَ نَظَرَكَ، وَمَا أَعْظَمَ تَوَفُّقَكَ! فَإِنَّ أَوْلَادَنَا الصِّغَارَ لَنْ يَتَعَرَّضُوا لِلرِّيحِ، فِي هَذِهِ الْغُرْفَةِ الْهَادِئَةِ الْجَمِيلَةِ.»

(٤) غِنَاءُ الْخُطَّافَيْنِ

فَغَرَّدَ الْخُطَّافَانِ تَغْرِيدَةً عَذْبَةً مُسْتَمْلَحَةً (أُغْنِيَّةً بَهِيجَةً)، بِصَوْتِهِمَا الرَّقِيقِ. وَغَنَّى «عُصْفُورُ الْأَمَانَةِ» فَرَحًا بِهَذَا الْفَوْزِ النَّادِرِ: «وِيتْ وِيتْ، وِيتْ وِيتْ هَذَا عُشِّي، فِيهِ أَبِيتْ وِيتْ وِيتْ، غَنِّي غَنِّي لَنْ يَكْذِبَنِي — أَبَدًا — ظَنِّي.»

(٥) بِنَاءُ الْعُشِّ

ثُمَّ كَفَّ «عُصْفُورُ الْأَمَانَةِ» عَنْ غِنَائِهِ فَجْأَةً، وَوَقَفَ عَنِ التَّغْرِيدِ بَغْتَةً. وَعَنَّتْ (خَطَرَتْ) لَهُ فِكْرَةٌ طَارِئَةٌ، فَقَالَ «لِأُمِّ سِنْدٍ» زَوْجِهِ: «أَتَعْرِفِينَ فِي أَيِّ شَيْءٍ أُفَكِّرُ، يَا عَزِيزَتِي؟

إِنِّي لَأُفَكِّرُ فِي انْتِهَازِ الْفُرْصَةِ السَّانِحَةِ (الَّتِي تَعْرِضُ لِي) فَهَلْ أَنْتِ بَادِئَةٌ بِبِنَاءِ الْعُشِّ الْآنَ؟ إِنَّ الْوَقْتَ صَحْوٌ (خَالِيَةٌ سَمَاؤُهُ مِنَ السُّحُبِ)، وَالشَّمْسُ مُشْرِقَةٌ، وَالْأَرْضُ جَافَّةٌ، وَفِي قُدْرَتِنَا أَنْ نَبْدَأَ الْعَمَلَ الْآنَ. فَمَاذَا أَنْتِ قَائِلَةٌ؟»

فَقَالَتْ «أُمُّ سِنْدٍ»: «صَدَقْتَ يَا عَزِيزِي، فَهَلُمَّ (تَعَالَ) إِلَى الْعَمَلِ!»

(٦) مَوَادُّ الْبِنَاءِ

ثُمَّ هَبَطَ الْخُطَّافَانِ إِلَى الْأَرْضِ، وَمَلَأَ كِلَاهُمَا مِنْقَارَهُ تُرَابًا وَحَشَائِشَ، لِيَبْنِيَا الْعُشَّ.

ثُمَّ قَالَ «عُصْفُورُ الْأَمَانَةِ» لِزَوْجِهِ: «لَا يَفَوتَنَّكِ — يَا عَزِيزَتِي «أُمَّ سِنْدٍ» — أَنْ تُبَلِّلِي هَذَا التُّرَابَ بِلُعَابِكِ (بِمَا يَسِيلُ مِنْ فَمِكِ) — كَمَا كَانَ يَصْنَعُ أَبَوَانَا حِينَ يَشْرَعَانِ فِي بِنَاءِ وَكْرَيْهِمَا (عُشَّيْهِمَا) — فَلَنْ يَسْتَمْسِكَ الْبِنَاءُ بِغَيْرِ هَذَا.»

فَقَالَتْ «أُمُّ سِنْدٍ»: «صَدَقْتَ، يَا عَزِيزِي!»

ثُمَّ أَلْقَيَا مَا حَمَلَاهُ عَلَى قِطْعَةٍ مِنَ الْخَشَبِ، بَعْدَ أَنْ بَلَّلَاهُ بِرِيقِهِمَا.

وَلَقَدْ كَانَ عَمَلُهُمَا شَاقًّا مُضْنِيًا، وَلَكِنْ مَا أُوتِيهِ الْخُطَّافُ — مِنَ الصَّبْرِ وَالْمُثَابَرَةِ — هُوَ سِرُّ نَجَاحِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الْمُرْهِقَةِ (الْمُتْعِبَةِ).

(٧) مُثُابَرَةً الْخُطَّافَيْنِ

وَلَمَّا أَمْسَيَا، جَلَسَا يَسْمُرَانِ (يَتَحَدَّثَانِ لَيْلًا)، عَلَى الشُّرْفَةِ الْعُلْيَا مِنَ النَّافِذَةِ الْمَهْجُورَةِ، وَيَتَمَنَّيَانِ الْأَمَانِيَّ الْجَمِيلَةَ، وَيُغَرِّدَانِ (يُغَنِّيَانِ) مَسْرُورَيْنِ، وَقَدْ شَعَرَا بِالسَّعَادَةِ تَمْلَأُ قَلْبَيْهِمَا، لِأَنَّهُمَا قَضَيَا نَهَارَهُمَا كُلَّهُ فِي الْعَمَلِ النَّافِعِ، وَلَمْ يَتْرُكَا لَحْظَةً بِلَا جَدْوَى (بِغَيْرِ فَائِدَةٍ). وَدَارَتْ بَيْنَهُمَا أَسْمَارٌ مُعْجِبَةٌ؛ فَتَحَدَّثَا عَنْ أَفَرَاخِهِمَا الْمَرْجُوَّةِ (أَبْنَائِهِمَا الَّتِي يُؤَمِّلَانِ فِيهَا)، وَكَيْفَ يَتَعَهَّدَانِهَا بِالتَّنْشِئَةِ وَالتَّرْبِيَةِ، وَأَيَّ الْأَسْمَاءِ الْجَمِيلَةِ يَخْتَارَانِ لَهَا؟

ثُمَّ أَسْلَمَا أَجْفَانَهُمَا الصَّغِيرَةَ لِلرُّقَادِ، وَرَاحَا فِي نَوْمٍ عَمِيقٍ.

(٨) يَوْمٌ مَاطِرٌ

وَلَمَّا بَدَا أَوَّلُ شُعَاعٍ مِنْ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ، أَخْرَجَتْ «أُمُّ سِنْدٍ» رَأْسَهَا مِنْ تَحْتِ جَنَاحِهَا، وَعَيْنَاهَا لَا تَزَالَانِ فَاتِرَتَيْنِ (سَاكِنَتَيْنِ) — مِنْ أَثَرِ النَّوْمِ — ثُمَّ أَيْقَظَتْ زَوْجَهَا «عُصْفُورَ الْأَمَانَةِ»، وَهِيَ تَقُولُ: «مَا أَشَدَّ تَعَاسَتَنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ، أَيُّهَا الزَّوْجُ الْعَزِيزُ! لَقَدْ هَطَلَتِ الْأَمْطَارُ طُولَ اللَّيْلِ، وَامْتَلَأَتِ الْأَرْضُ كُلُّهَا بِالْوَحَلِ. وَلَيْسَ فِي قُدْرَتِنَا أَنْ نَعْمَلَ شَيْئًا طُولَ يَوْمِنَا هَذَا.

(٩) فِرَاسَةُ الْخُطَّافِ

وَلَقَدْ صَدَقَتْ فِرَاسَتِي أَمْسِ، حِينَ نَبَّهْتُكَ إِلَى الطُّيُورِ، وَهِيَ تَطِيرُ عَلَى مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ مِنَ الْأَرْضِ.»

(١٠) أَمْطَارُ الرَّبِيعِ

فَقَالَ لَهَا «عُصْفُورُ الْأَمَانَةِ»، وَكَانَ — كَمَا قُلْنَا — آيَةً فِي الدَّمَاثَةِ (غَايَةً فِي اللِّينِ وَالرِّفْقِ) وَحُسْنِ الْخُلُقِ: «لَا عَلَيْكِ (لَنْ يُصِيبَكِ أَذًى)، يَا عَزِيزَتِي. فَلْنَسْتَرِحِ الْيَوْمَ إِذَا لَمْ يَكُفَّ الْمَطَرُ عَنِ الْهُطُولِ. عَلَى أَنَّ السُّحُبَ سَتَنْقَشِعُ بَعْدَ قَلِيلٍ؛ فَإِنَّ أَمْطَارَ الرَّبِيعِ — فِيمَا حَدَّثَتْنِي أُمِّي — لَا تَلْبَثُ إِلَّا وَقْتًا يَسِيرًا.»

(١١) أَيَّامُ الْغَيْمِ

وَصَمَتَ «عُصْفُورُ الْأَمَانَةِ» لَحْظَةً، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ قَائِلًا: «انْظُرِي يَا عَزِيزَتِي. لَقَدْ خَفَّ الْمَطَرُ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا رَذَاذٌ (مَطَرٌ ضَعِيفٌ) يَتَحَدَّرُ نُقَطًا رَفِيعَةً مُتَلَأْلِئَةً فِي الْفَضَاءِ. وَلَقَدْ طَالَ شَوْقُنَا إِلَى ذَلِكِ الْمَنْظَرِ الْأَخَّاذِ؛ فَإِنَّنَا — كَمَا تَعْلَمِينَ — قَدْ لَبِثْنَا فِي رِحْلَتِنَا زَمَنًا طَوِيلًا، دُونَ أَنْ نَنْعَمَ بِرُؤْيَةِ الْمَطَرِ، وَالسَّمَاءِ الْغَائِمَةِ، وَالسُّحُبِ الْكَثِيفَةِ (الْغَلِيظَةِ) الْمُلَبَّدَةِ (الْمُلْتَصِقِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ).»

(١٢) انْقِطَاعُ الْمَطَرِ

وَبَعْدَ قَلِيلٍ انْقَطَعَ الْمَطَرُ، وَصَحَّتْ فِرَاسَةُ «عُصْفُورِ الْأَمَانَةِ». فَاسْتَأْنَفَ — هُوَ وَزَوْجُهُ — عَمَلَهُمَا بِهِمَّةٍ وَنَشَاطٍ، وَأَقْبَلَا عَلَى عُشِّهِمَا يَبْنِيَانِهِ جَادَّيْنِ. وَمَا زَالَا يُثَابِرَانِ عَلَى الْعَمَلِ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ كَامِلَةً — مِنَ الصَّبَاحِ الْبَاكِرِ إِلَى الْمَسَاءِ — حَتَّى أَتَمَّا بِنَاءَ الْعُشِّ، وَفْقَ مَا يُرِيدَانِ، وَأَثَّثَاهُ بِكَثِيرٍ مِنَ الْحَشَائِشِ وَرِيشِ الطُّيُورِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤