في الخطابة النصرانية بين عرب الجاهلية
بعد كلامنا عن المفرَدات النصرانية في لغة عرب الجاهلية وأعلامها وأمثالها وحِكَمها يقتضي أن نبين نفوذ هذا الدين بينهم بما هو أدل على آدابهم، وليس أكثر دلالة على ذلك من فن الخطابة.
قد افتخر العرب في كل أجيالهم بمقدرتهم على البلاغة والتبسط في الكلام وقوة العارضة حتى إنهم لجهلهم آداب ما سواهم من الشعوب كاليونان والرومان نسبوا إلى قومهم الامتياز بفن الخطابة دون سواهم، ومهما كان من الصحة في هذا الادعاء لا مراء في أنهم عُرِفوا في كل آنٍ بذلاقة اللسان وطلاقة الكلام.
فيا ترى ماذا كان مبلغ نصارى العرب في هذا الفن؟ وهل بقي شيء من آثارهم المنبئ ببلاغتهم الخطابية بين أهل جلدتهم؟
فقبل الجواب على هذا السؤال لا بد من تقديم ملحوظين: الأول أن ما بلغنا من خطب عرب الجاهلية لم يجمع إلا بعد الهجرة بمدة مديدة فدونه الرواة في القرن الثاني للإسلام، فمن البديهي أن كثيرًا من تلك الآثار الخطابية قد ضاع بطول الزمان وآفة النسيان أو لم يبلغنا منه إلا نتف قليلة لا تكفي لأن نبني عليها الحكم الصواب في مقدرة نصارى العرب على إلقاء الخطب.
الملحوظ الآخر أن الرواة الذين رووا تلك المقاطيع كانوا من أهل الإسلام لا يهمهم كثيرًا الإشارة إلى دين خطباء العرب في الجاهلية وكلهم في مظنتهم من أهل الشرك لا يختلف في عرفهم النصراني عن اليهودي أو الوثني.
فلم يبقَ لكشف القناع عن الحقيقة إلا أن نجري على الاستقراء والدلائل التي سبق لنا جَمْعُها في الفصول السابقة للتمييز بين النصارى والمشركين وإثبات ما يمكن استخلاصه لبيان علمهم بالخطابة فنقول:
معلوم أن الخطابة على اختلاف أغراضها من تَثبيت ومَشورة ومُشاجَرة على قسمين كبيرين: دينية ومدنية، وفي كليهما آثار باقية تدل على امتياز النصارى فيهما على عهد الجاهلية وأول ظهور الإسلام.
(١) الخطابة الدينية بين نصارى عرب الجاهلية
بَيَّنَّا في فصول مُطوَّلة سبَقتْ لنا في القسم الأول من هذا الكتاب كم كانت النصرانية منتشرة في أنحاء العرب فتَتبَّعْنا كل جهات جزيرتهم وأثبتنا قولنا استنادًا إلى المُؤرِّخِين القدماء من يونان، ورومان، وسريان معاصرين ثم عرب كَتَبوا بعد الإسلام بقليل، هذا فضلًا عن الآثار الحَجَرية في الحميرية والآثار الفَنِّيَّة المختلفة، فإن كان الأمر كذلك يلزم القول بأن الخطابة الدينية كانت شائعة بين تَبَعَتِها؛ لأن الديانة النصرانية تنتشر عادة بالتعليم الشفاهي؛ إذ قال السيد المسيح لرسله (متَّى، ٢٨: ١٩-٢٠): «اذهبوا وتَلْمِذُوا كلَّ الأمم … وعَلِّمُوهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتُكم به.» فلا يجوز استثناء المُبشرين بالنصرانية بين العرب من هذا الحكم، ولا سيما أنهم كانوا شَيَّدوا بينهم كنائس عديدة وأقاموا لهم أساقفة وكَهَنة وشمامسة كما قررنا ذلك بالشواهد، وهؤلاء كلهم في مقدمة واجباتهم الإرشاد والخطابة في عقائد الدين ليرسخوها في عقول رعاياهم ويثبتوها للخوارج وللطالبين التدين بالنصرانية، فليت شعري ماذا بقي من تلك الآثار الطيبة والخطب أو الميامر، ولا نُنكِر أن اللغة الكنسية كانت في بعض جهات العرب الكلدانية أو اليونانية إلا أنه كان للغة العربية حصتها أيضًا في النواحي التي كان أهلها من أصل عربي محض كاليمن والحجاز، وبين عرب المَدَر الساكنين في الخِيَم حيث كان يسكن بينهم أساقفة يتنقلون معهم في مناجعهم كما صرَّحَت الآثار الكنيسة والمجامع الدينية بذلك ودوَّنَّا أقوالهم.
ومما عُرَّض إلى الفقدان تلك البقايا الجليلة أن الخط العربي الذي عَلَّمه النصارى لإخوانهم العرب كما أَيَّدْنا ذلك بالشواهد لم يكن بعدُ انتشر انتشارًا كافيًا ليحفظ ذلك القلم الحديث كنوزهم الأدبية، ولما جاء الإسلام اتَّجهَت الأفكار إلى الدين الجديد وجعلوا القرآن الكل في الكل لفوز ذويه بقبائل العرب.
«أيها الناس! الحِلم شرف، والصبر ظَفَر، والجود سرور، والمعرفة كنز، والجهل سَفَهٌ، والعجز ذِلَّة، والحرب خدعة، والظَّفَر دُوَل، والأيام عِبَر، والمرء منسوب إلى فعله مأخوذ بعمله فاصطنِعُوا المعروف تَكسبُوا الحمد، واستشعِرُوا الجد تَفوزوا به، ودَعوا الفضول يجاريكم السفهاء، وأكرِمُوا الجلوس يَعْمُر ناديكم، وحامُوا عن الحقيقة يُرْغَب في جواركم، وأنْصِفوا مَن آنَفَكم يَرْفُق بكم، وعليكم بمحاسن الأخلاق فإنها رفعة، وإياكم والأخلاق الدَّنِيَّة فإنها تضع الشَّرف، وتهدمُ المجد.
«خطبة» أيها الناس! شارِفُوا بأبصاركم في كَرِّ الجديدين ثم أَرْجِعُوها كَلِيلةً عن بلوغ الأمل، فإن الماضي عِظَة للباقي، ولا تَجْعَلوا الغرور سبيل العَجْز فتنقطع حُجَّتكم في مَوقفٍ اللهُ سائلُكم فيه ومُحاسبُكم على ما أسلفتم، أيها الناس أمس شَاهدٌ فاحْذَروه، واليوم مُؤدِّبٌ فاعرفوه، وغدًا رسول فأكْرِموه، وكُونوا على حذر من هجوم القَدَر؛ فإن أعمالكم تُطلِق أبدانكم والصراط ميدان يكثر فيه العثار؛ فالسالم ناجٍ والغابرُ في النار.
«خطبة» اتقوا عِبادَ الله وأنتم في مَهَل، بادِرُوا الأجَل، ولا يَغرَّنَّكم الأمل فكأن بالموت وقد نَزَل فشَغَلَتِ المرءَ شواغِلُه، وتركَتْ عنه بَواطِلَه، وهيَّأَتْ أكفانَه وبَكاه جيرانُه، وصار إلى المنزل الخالي بجسده البالي قد فارق الرفاهية وعايَنَ الداهية، فوجْهُه في التراب عَفير، وهو إلى ما قدَّم فقير.»
هذه كما ترى حِكَم أكثر منها خطب، والعجب أن الكتبة السريان المعاصِرين الذين استفدنا من تواريخهم عدة أخبار عن العرب لم يأتوا بذكر قس بن ساعدة.
على أنهم ذَكَروا خطيبًا آخر وكاتبًا بليغًا اشتهر بالكوفة في القرن الأول من الإسلام، وكان أسقفًا على نصارى الكوفة وعاقولاء يُدْعى جرجس أسقف العرب، فهذا كان متعمقًا في درس كتب اليونان ونقل قسمًا منها كأورغنون أرسطوطاليس، وكتب شروحًا على الأسفار المُقدَّسة وله عدة خطب وميامر لم تَزَل بين مخطوطات عواصم أوروبة كلندن، وباريس، ورومية يَتَّضِح منها ما اتَّصَف به جرجس أسقف العرب من العلم والبلاغة في الخُطَب الدينية، بَيْدَ أن هذه الآثار كلها لم تَبلغ إلينا إلا بالسريانية، ومن المحتمل أن عربيتها ضاعت فبقيت ترجمتها السريانية، كانت وفاة جرجس المذكور في أواخر القرن الأول للهجرة.
وممن يجب نظمهم في سلك خطباء النصرانية أولئك السُّيَّاح والرهبان الذين تكرر ذِكْرُهم في الشعر العربي المروي سابقًا، فإنهم لم ينقطعوا فقط إلى الصلاة والزُّهد بل كثيرًا ما كانوا يختلطون بالعرب ويدعونهم إلى نبذ أديانهم الباطلة ويرشدونهم إلى الصلاح بالخطب والمواعظ، كما ورد في تراجم البعض منهم؛ كالقديس هيلاريون، والقديس أفتيموس بين عرب الشام، والقديس جرجنسيوس رسول عرب اليمن، وموسى رسول الغَسَّانيين، وغيرهم كثيرون سبق ذِكْرُهم، فينبغي إذن القول بأن الخطابة النصرانية الدينية قد أزهرت بين العرب كما أزهرت بين غيرهم من الأمم وإن لم تبلغ إلينا صورتها بسبب آفات الزمان وكوارث الحدثان.
(٢) الخطابة المدنية بين نصارى الجاهلية
إن كانت الآثار الدينية من خطب نصارى الجاهلية الباقية إلى عهدنا نزرة قليلة فكان أملنا في جمع مآثرهم المدنية أعظم لِكَلَف الرواة بما هو أقرب إلى أخلاقهم وأفكارهم، إلا أنهم ما رووه منها لا يكاد يستحق الذكر أو هو فصول حكمية ليست خطبًا وُضِعَت للإقناع، والإقناع كما لا يخفى هو غاية الخطيب ومِحْوَر الخطابة.
ولكن إذا كانت الخُطَب المروية لا يكاد يعبأ بها إنما نجد في مآثر العرب ما يُثبِت شيوع الخطابة بين القبائل النصرانية، وأول هذه القبائل وأقدمُها قبيلة إيادٍ التي روينا أخبارها وأثبتنا تَنصُّرَها (ص٧٥-٧٦ و١٢٤) عن عدة كتبة. ومنها كان قس بن ساعدة الإياديُّ المارُّ ذِكْرُه، فإياد هذه نَسَب إليها قدماءُ العرب البراعةَ في الخطابة لنا على ذلك شاهدٌ حسن في مديح الشعراء لإياد وذِكْرِهم لخطبائها منها قول الشاعر في وصف خُطَبهم:
وصفهم بتطبيق خطبهم على مقتضى الحال تارة بالطول والتصريح وتارة بالوجازة والكناية والإشارة، وقال أحدهم يرثي أبا دُؤاد بن جرير الإيادي:
فأثنى الشاعر على أبي دُؤاد الإيادي وأطرأ بلاغته في الخَطابة، ثم ذكر أربعة غيره كلهم خطباء وكلهم من إياد، ذَكَر لقيط بن يعمر الإيادي الذي أنذر قومه غزو كسرى لهم وأرسل إليهم قصيدته العينية التي هي خُطبة بليغة حاكت في صدورهم فنجوا من عدوهم، ومنها قوله:
وهي طويلة بليغة، وفيها كما ترى كل صفات الخطابة الحماسية، وقد ذكر في مطلعها بِيَع قومه النصارى.
أما الخطيبُ الثاني المذكور فهو عُذرة بنُ حجرة الخطيب الإيادي الذي وصفه الشاعر وشَبَّهه بقس بن ساعدة بقوله:
لكن آثاره الخطابية مجهولة، ومثله زيدُ بن جُنْدب المنعوت بالمِنْطِيق؛ أي الخطيب المفوه البليغ، فإن خطبه لم تبلغ إلى يدنا، ويروى عنه أنه كان خطيبًا وشاعرًا معًا.
وكما اشتهرَت إياد في الخطابة بين قبائل العرب كذلك قرنوا بها قبيلة تميم، وهي أيضًا من القبائل التي غلبت عليها النصرانية كما دلت إليه كتبة العرب (راجع [القسم الأول، الفصل الثاني من كتابنا])، فمن خطبائهم أكْثَم بن صَيْفي بن رباحٍ التميمي، قال ابن نباتة في كتابه «سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون» (ص١٢): إنه «أشهر حُكَّام العرب في الجاهلية وحكمائهم وخطبائهم.» وقد جمعوا من كلامه حكمًا وأمثالًا ووصايا لقومه منها قوله:
«يا بني تَميم لا يَفوتَنَّكم وعظي إن فاتكم الدهر بي، يا بني تميم إنَّ مَصارع الألباب تحت ظلال الطَّمَع، ومن سلك الجد أمن العثار، ولن يعدم الحسودُ أن يتعب فكره ولا يجاوز ضره نفسه والسكوت عن الأحمق جوابه.»
ومما رُوِي لأكثم خطابه لكسرى لما أوفده إليه النعمان بن المنذر (اطلب: العقد الفريد، لابن عبد ربه، ١: ١٢٧) قال:
«إن أفضلَ الأشياء أعاليها، وأفضل الخطباء أصدقها، الصدقُ مَنْجاةٌ والكذب مَهْواة، والشر لَجاجة، والحَزْم مَركبٌ صعب، والعَجْز مركبٌ وطيء، آفة الرأي الهوى، والعجز مفتاحُ الفقر، وخير الأمور الصبر، حُسنُ الظن ورطةٌ وسوءُ الظن عِصمةٌ، إصلاح فساد الرعية خير من إصلاح فساد الراعي، مَن فسدت بطانته كان كالغاصِّ بالماء، شر البلاد بلاد لا أميرَ بها، شرُّ الملوك مَن خافه البريء … خير الأعوان من لم يُراءِ بالنصيحة، أحقُّ الجنود بالنصر مَن حَسُنتْ سريرته، حَسْبُك من شرٍّ سماعُه.»
ومن أقواله ما أوصى به أولاده ليبقوا مُتَّحِدِين وضرَب لهم مثل السهام المجتمعة:
ومن خطباء تميم النصارى حاجبُ بن زُرارة، أثنى العرب على بلاغته وأوفده النعمان أيضًا إلى كسرى فخطب أمامه مدافعًا عن العرب مستعطفًا لرضاه عليهم (العقد الفريد، ١١: ١٢٧):
«رَوى زَندُكَ وعَلَتْ يدُك وهِيبَ سلطانُك، إن العرب أمةٌ قد غُلُظَت أكبادها واستحصدَتْ مرَّتُها ومُنِعَت دَرَّتُها، وهي لكَ وامِقة ما تَألَّفَتْها مُسترسِلَةٌ ما لايَنَتْها سامعةٌ ما سامَحَتها، وهي العَلقمُ مَرارةً وهي الصابُ غَضاضةً، والعسلُ حلاوةً والماءُ الزُّلالُ سلامةً، نحن وفودها إليك، وألسنُتها لديك، ذِمَّتُنا محفوظة وأحسابنا مَمنوعة وعشائرنا فينا سامعة مُطيعة، أن نَئُوب لك حامدِين خيرًا فَلَك بذلك عمومُ مَحْمَدَتِنا، وأن نُذَمَّ لم نُخَصَّ بالذَّمِ دونها.»
ومن خطباء تميم الذين ذَكَرهم أيضًا العرب في أواخر الجاهلية وأوائل الإسلام الزِّبْرقان بن بَدر، وعمرو بن الأهتم، وعدَوُّهما مع عطارد بن حاجب من أكابر السادات وبلغاء الخطباء، وذكروا دخولهم على نبي الإسلام وكلامهم بحضرته (اطلب: الأغاني، ٤: ١٠–١٢)، وهو لا يدلُّ على كبير أمر لا لفظًا ولا معنى؛ إذ لم يُدوِّنْه كاتِب وقتَ إلقائه وإنما روي بعد نيف ومائة سنة، ويصح هذا في أساقفة نجران الوافدين على محمد كما ذكرهم ابن سعد وصاحب الأغاني وغيرهما، فلا يُمكِنَّا أن نُبدي حُكمًا في عارضتهم؛ نظرًا للقليل المصنوع المروي عنهم، وكذا قُل أيضًا عن بقية خطباء العرب الذين اشتهروا بالخطابة فبَقِيَت أسماؤهم وضَاع كلامهم، وإنما ثَبتَ قولنا: إن الخطابة النصرانية دينية كانت أو مدنية بَلغَتْ في الجاهلية مقامًا رفيعًا شهدَ له التاريخ وإن فُقِد معظم آثارها.