المطاردة

كان جسم «عاطف» كله يرتجف، وهو يقف منحنيًا تحت الكوبري الصغير قرب محطة المعادي. وكانت السماء تُمطر بشدة، والبرد قارس، والظلام دامس …

ولم يكن هذا الكوبري إلَّا معبرًا صغيرًا فوق قناةٍ جافة، لهذا لم يكن في إمكان «عاطف» أن يقف معتدلًا؛ حتى لا يصطدم رأسه بخشب الكوبري … وفوق هذا الخشب كان «عاطف» يسمع بوضوح صوت أقدام الرجلَين اللذين كانا يُطاردانه منذ قليل … بل كان في إمكانه أن يسمع بعض كلماتٍ ممَّا كانا يتبادلانه من حديث … كانت كلمة «الحقيبة» تتردَّد باستمرار؛ فقد كانا يُطاردانه من أجلها … وكانت الحقيبة في يده … ولو فكر أحدهما أن ينحني وينظر تحت الكوبري لوجد الحقيبة وقد أمسكها «عاطف» بين يديه، وضمَّها إلى صدره …

وأخذ «عاطف» يُفكِّر فيما حدث في الدقائق العشر الماضية، وهو في غاية الدهشة والفزع معًا … ولا يجد تعليلًا واضحًا لهذه المطاردة المخيفة التي جرت منذ دقائقَ قليلة.

منذ ربع ساعة تقريبًا خرج والده على موعدٍ في «القاهرة»، وكانت الساعة حوالي الثامنة، والريح عاصف، ولكن المطر لم يكن قد بدأ … وجلس «عاطف» و«لوزة» ووالدتهما يتفرَّجون على التليفزيون … ثم دقَّ جرس التليفون، وعندما قام «عاطف» بالرد عليه وجد والده يُحدِّثه من المحطة … وطلب منه أن يأتي له بحقيبته السوداء من نوع «السامسونایت»، وهو نوعٌ ثمينٌ من حقائب اليد، كان والده قد أحضرها معه أثناء زيارة لأوروبا …

وارتدى «عاطف» ثيابه مسرعًا، ولبس البالطو اتقاءً للبرد، ثم حمل الحقيبة وأسرع إلى المحطة، ولم يكد يُغادر المنزل حتى بدأ المطر يهطل بشدة، وأسرع المارَّة في سيرهم حتى بدأت الشوارع تخلو منهم. وعندما وصل «عاطف» إلى قرب المقهى وهو يجري، فُتح بابه، وظهر رجلان مسرعان، وكان ضوء المقهى القوي قد وقع على «عاطف» وهو يحمل حقيبة والده، فصاح أحد الرجلَين مشيرًا إليه: «هذه هي الحقيبة»، ثم اندفعا إليه … وقد كانت قدما «عاطف» أسرع من تفكيره؛ فجرى أمامهما كالسهم عائدًا من الطريق الذي أتى منه، وسمع خطواتهما خلفه، فزاد من سرعته، وهو لا يدري لماذا يُطاردانه … وماذا يريدان من الحقيبة؟! …

ودار «عاطف» حول إحدى الأشجار الضخمة، ثم أسرع ينزل تحت الكوبري حتى لا يلحق به الرجلان … اللذان سمعهما يتحدَّثان في غضبٍ واضح … خاصةً وأن أحدهما زلَّت قدمه ووقع في الوحل.

مضت مدة و«عاطف» في مكانه، وكان الرجلان قد انصرفا منذ قليل بعد أن يئسا من العثور عليه … فتسلَّل بهدوءٍ من تحت الكوبري، ثم أسرع إلى منزله، وكان والده قد استغیبه، فاتصل بالمنزل مرةً أخرى، ودخل «عاطف» في الوقت الذي كان والده يتحدَّث في التليفون، فأسرع يرد عليه وشرح له ما حدث …

قال والد «عاطف»: شيء مدهش للغاية؛ فليس في الحقيبة نقود أو أوراق تُهم أحدًا غيري! … على كل حال سأحضر أنا لأخذ الحقيبة، فلا تخرج …

جلس «عاطف» بعد أن خلع ثيابه المبلَّلة يروي لوالدته و«لوزة» ما حدث في الدقائق الماضية، فقالت «لوزة»: لا بد أن هذَين الرجلَين ظنَّا أن في الحقيبة نقودًا، فأرادا سرقتها.

عاطف: لا أعتقد، إنما الأقرب إلى الحقيقة أنهما فقدا حقيبةً مثلها وكانا يبحثان عنها، وهذا النوع من الحقائب ماركة «سامسونایت» متشابهة، وقد ظنَّا أن هذه الحقيبة حقيبتهما، فطارداني لاستعادتها.

لوزة: وأين ذهبت حقيبتهما الأصلية؟

عاطف: لا أدري … ولا أظننا سنعرف مطلقًا؛ فقد انتهت الحكاية كلها.

حضر والد «عاطف» وأخذ الحقيبة، فقال له «عاطف» وهو يُوصله إلى الباب: حذارِ يا أبي، فقد يُحاول الرجلان خطف الحقيبة في الطريق.

ابتسم الوالد وهو يقول: لا أظن أنهما يجرؤان على هذا … وخرج والد «عاطف» وقضت الأسرة فترةً طويلةً من الليل تتحدَّث عن هذه المطاردة الغريبة، واتصل «عاطف» ببقية المغامرين الخمسة؛ «تختخ» و«محب» و«نوسة»، وأخبرهم بما حدث. ولمَّا كان اليوم التالي يوم الجمعة، هو أول أيام إجازة نصف السنة؛ فقد اتفقوا جميعًا على اللقاء في منزل «عاطف» في الصباح. فإذا أشرقت الشمس فسوف يلتقون في الحديقة …

ولحسن الحظ كان صباح اليوم التالي صباحًا شتويًّا جميلًا؛ فقد انقشعت السحب السوداء … وأشرقت الشمس، فبعثت في أوصال الدنيا دفئًا جميلًا، واجتمع الأصدقاء حول فنجانٍ من الشاي الساخن، وبدأ «عاطف» يروي لهم مغامرة الأمس مرةً أخرى … وقرب نهايتها وصل والد «عاطف»، وجلس مع الأصدقاء يستمع … وعندما انتهى «عاطف» من حكايته قال والده: إن عندي بقيةً لهذه القصة … لقد حذَّرني «عاطف» أمس من أن الرجلَين قد يُحاولان الحصول على الحقيبة مرةً أخرى مني، وقد استبعدت هذا، ولكني شعرت أمس وأنا أركب القطار إلى القاهرة أنني مراقب من شخصٍ ما … وعندما نزلت في محطة باب اللوق، وفي الزحام امتدَّت يد إلى الحقيبة تُحاول انتزاعها مني، وعندما التفتُّ لأبحث عن الشخص الذي كان يقوم بالمحاولة، اختفى وسط الزحام … وأسرعت أركب تاكسيًا … لأتجه به إلى مكتب المحامي الذي كنت على موعدٍ معه … ومرةً أخرى شعرتُ أن سيارةً تتبع التاكسي الذي أركبه … ثم تقف على مبعدةٍ من مكتب المحامي … وهكذا قرَّرت أن أترك الحقيبة عنده حتى لا أتعرَّض لمحاولةٍ أخرى عندما أعود ليلًا.

وسكت والد «عاطف»، وأخذ المغامرون الخمسة يُفكِّرون فيما سمعوا، وأخيرًا قال «تختخ»: هل أستطيع أن أعرف قيمة الأوراق التي كانت في الحقيبة …؟

الوالد: إنها أوراق خاصة بقضية ميراث قطعة أرضٍ ورثتها والدة «عاطف» في القرية، وهناك نزاعٌ بيننا وبين بعض أقاربها على هذه الأرض.

تختخ: أليس من الممكن أن يكون هؤلاء الأقارب يُريدون الاستيلاء على هذه الأوراق ليكسبوا القضية؟

الوالد: لا أعتقد أنهم يمكن أن يقوموا بهذه المحاولة، خاصةً وأنهم من الفلَّاحين البسطاء … ولا يمكن أن يُفكِّروا في هذه الطرق العنيفة للاستيلاء على الأوراق، خاصةً وأنها لا تُؤثِّر كثيرًا في سير القضية.

عاطف: لعلهم اتفقوا مع عصابةٍ من اللصوص لسرقة الأوراق …

الوالد: وكيف عرفوا أنك ستخرج في الليل تحمل هذه الأوراق لي؟ إن هذا يستدعي معرفتهم بالموعد الذي كان بيني وبين المحامي … ومعرفتهم بأنني سأنسى هذه الأوراق في البيت … وأنني سأتحدث تليفونيًّا … وبأنك ستحمل الأوراق في الحقيبة … إنها أشياء شبه مستحيلة!

محب: إذن لماذا حاول هذان الشخصان الاستيلاء على الحقيبة من «عاطف»؟ لقد كان من الممكن أن تقبض الشرطة عليهما.

تختخ: إنني أُرجِّح أن هذَين الشخصَين فقدا حقيبةً مماثلةً لهذه الحقيبة، وكانا يبحثان عنها في هذه اللحظة، فلمَّا شاهدا «عاطف» اعتقدا أن الحقيبة التي يحملها هي الحقيبة التي ضاعت أو سُرقت منهما، فحاولا الاستيلاء عليها …

قال والد «عاطف» وهو يُغادر مكانه: هذا هو الاحتمال الأقرب إلى المعقول …

وبعد أن انصرف والد «عاطف»، أخذ المغامرون الخمسة يتجادلون بحماسٍ حول محاولة خطف الحقيبة، قال «تختخ»: هناك شيءٌ هام نسيناه؛ إن أي شخصٍ عندما يفقد شيئًا فإن أول إجراءٍ يتخذه هو أن يذهب إلى قسم الشرطة للإبلاغ عنه … ولعل الشاویش «فرقع» يقوم الآن ببحث بلاغ ضياع حقيبة سوداء من طراز «سامسونایت» شبيهة بحقيبة والد «عاطف» … وعلينا أن نتصل بالشاویش لنعرف منه من الذي قدَّم البلاغ …

وافق الجميع على هذا الاقتراح، وأسرعوا إلى درَّاجاتهم للذهاب إلى قسم الشرطة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤