مغامرة في الليل

قرب المساء كان «عودة» قد عرف موعد خروج «الكنجة»، وأسرع يُبلغ «تختخ»: سيخرج «الكنجة» … الليلة مرةً أخرى، ومعه «كفتة». كن على حذر …

وجاءت ساعة النوم و«تختخ» يُفكِّر كيف سيخرج. إنه لا يستطيع طبعًا أن يخرج من الباب؛ فالبواب سوف يمنعه، والحل الوحيد أن يقفز من على السور وقد يراه أحد … ولكن لا بد من المغامرة، فهذه هي فرصته لمعرفة مقر العصابة …

وهكذا أسرع «تختخ» إلى فراشه مبكِّرًا عن موعده وتظاهر بالنوم، ولكن من خلف طرف البطانية كان يرقب ما يدور في العنبر. وبعد أن هدأ كل شيءٍ رأى «الكنجة» يُغادر فراشه في هدوءٍ ويتبعه «كفتة»، ولاحظ أنهما يُغيِّران ملابسهما بملابس غير ملابس الملجأ موضوعة في كيسٍ تحت سرير «الكنجة». وكان مع «تختخ» ملابسه التي دخل بها، فهل يمكنه أن يُغيِّر ملابسه أيضًا؟ ولكن الوقت ضيِّق، ويجب أن يتبعهما … وقرَّر أن يبقى بملابس الملجأ مع ما في ذلك من مخاطرة. ولم يكد الولدان يُغادران العنبر حتى قفز «تختخ» مسرعًا، ثم أسرع يُغادر العنبر خلفهما على أطراف أصابعه …

اتجه الولدان إلى باب الفناء مباشرة، فأسرع «تختخ» إلى السور، وبمهارةٍ استطاع تسلُّقه، ثم نام على السور، وعيناه تُراقب الولدَين في الظلام. تحرَّك «الكنجة» و«كفتة» كأنهما شبحان، وكان «تختخ» خلفهما كشبحٍ ثالث، وكان طريق الملجأ مظلمًا، إلَّا من مصباحٍ صغير، فاستطاع «تختخ» أن يتبعهما عن قربٍ دون أن يُحسا بالمطاردة. وبعد فترةٍ أصبحا في ميدان «السيدة»، وكان عليه أن يُرقبهما من بعيد، حتى لا يرياه في الضوء القوي الذي يغمر الميدان …

كانت الحركة في الميدان قوية … السيارات … والترام … والناس … ورائحة البخور والطعمية … أشياء كثيرة افتقدها «تختخ» أثناء وجوده في الملجأ، وأحسَّ براحةٍ عميقةٍ وهو يرقب الحركة النشيطة في الميدان الكبير … وكأنه كان في سجن وخرج إلى الحرية …

اقترب «تختخ» منهما بقدر الإمكان، حتى يتمكَّن من الركوب خلفهما إذا اقتضى الأمر …

مضت فترة والولدان واقفان، ومر ترام «٧» و«٤» و«١٦»، ثم جاء ترام «٣٠»، فأسرعا يقفزان إليه، ولحسن الحظ كان هذا الترام بعربتَين، فقفز «تختخ» إلى العربة الثانية، ووقف على السلم يُراقب العربة الأولى، التي ركب فيها «الكنجة» و«كفتة».

سار الترام في شارع «خيرت»، ثم انثنى إلى شارع «رشدي»، ثم شارع «عبد العزيز» دون أن ينزل الولدان … ووقف الترام في «العتبة» فترةً طويلة، ثم مضى في طريقه إلى شارع «كلوت بك»، وقرب منتصف الشارع وقبل الوقوف في المحطة قفز الولدان، وأسرع «تختخ» يقفز خلفهما … ثم يختفي وراء أحد أعمدة النور، حتى اجتاز الولدان الشارع، ووقفا قليلًا ينظران حولهما، ثم دخلا عمارةً قديمة، واختفيا داخلها. جرى «تختخ» عبر الشارع، ثم دخل إلى العمارة، ونظر في مدخلها، ولكن لم يكن هناك أثر للولدَين …

وقف «تختخ» يُفكِّر لحظات فيما يفعل، ثم قرَّر أن يعرف أولًا رقم العمارة ليتذكَّرها فيما بعد … إنها رقم «٣٢». ولم يكد يخرج حتى سمع صوت أقدام تنزل على سلم العمارة مسرعة. وقبل أن يختفي تمامًا رأى «الكنجة» و«كفتة» ينزلان، ويحمل كلٌّ منهما لفة. كان «تختخ» أمامهما تمامًا، فأسرع يُدير ظهره ويسير مسرعًا حتى لا يصطدم بهما … ولكن كان يظن أنهما رأياه، خاصةً «كفتة» الذي كان ينظر أمامه مباشرة، حيث كان يقف «تختخ» …

قال «تختخ» لنفسه: إذا كانا رأياني فسينهار كل شيء. يجب أن أختفي في أقرب مكان، ثم أنظر لعلني أرى أين يذهبان …

كانت أول حارة قابلت «تختخ» إحدى الحارات العلوية التي تُشتهر بها الشوارع القديمة، فقفز السلالم مسرعًا … ولكنه سمع صوت أقدامٍ خلفه … هل كانا هما؟ لم يستطِع أن ينظر إلى الخلف؛ فقد يُواجهانه في هذا المكان المظلم المشهور بأوكار اللصوص والمتشرِّدين، لم يكن أمامه إلَّا أن يستمر بأقصى سرعة … ووجد نفسه يدخل من زقاق ومن ظلامٍ إلى ظلام … وشعر في النهاية أنه ضلَّل مطارديه، فوقف يسترد أنفاسه، ولم يكن هناك أي صوت … ومع ذلك قرَّر ألَّا يعود من نفس الطريق، وتقدَّم سائرًا عبر الأزقة المظلمة دون أن يدري إلى أين تقوده قدماه، وفجأةً سطعت أنوار بطارية في وجهه، وسمع رجلًا يقول: من أنت؟ …

سؤال لم يكن «تختخ» يستطيع الإجابة عنه فورًا … هل هو «تختخ» أم هو «دنجل»؟ وإذ كان هذا أو ذاك … ماذا يفعل في هذه الأزقة المظلمة وحيدًا؟! ودون أن يرد وجد نفسه يجري متجاوزًا السائل في سرعة. ويظل يجري وصوت الرجل يرتفع خلفه: «امسك حرامي.» وبدأ يسمع النوافذ والأبواب تُفتح … ولكنه لم يلتفت إلى شيء؛ فقد ظل يجري بكل قوته، وسمع في النهاية صوت سيارات وضجيج في شارعٍ قريب، فأخذ يتجه إليه … حتى وجد نفسه في شارع «نجيب الريحاني» … فهدَّأ من سرعته … وقفز في أول أوتوبيس قابله في ميدان «قنطرة الدكة» … ووجد نفسه بعد محطةٍ واحدةٍ في ميدان «رمسيس» …

قفز من الأوتوبيس، فوجد نفسه أمام محطة أوتوبيس «٤١٢»، وعلى الأوتوبيس لافتة «المعادي … رمسيس»، وأحسَّ برغبةٍ قويةٍ في أن يركب هذا الأوتوبيس، ويذهب إلى المعادي وينفض يده من هذه المغامرة كلها … وأخذ يقترب من الأوتوبيس كالمسحور … ولكن شيئًا فشيئًا تذكَّر المغامرة، واللغز الذي يجب حله … فاتجه إلى الترام، وقفز في رقم «٣٠» المتجه إلى «السيدة زينب» …

عاد مرةً أخرى إلى شارع الملجأ … ومن نفس المكان المظلم الذي قفز منه تسلَّق الحائط، ثم تدلَّى بهدوء ونزل في الفناء … وبخطواتٍ سريعة ولكن حذرة، اتجه إلى عنبر النوم وفتحه في حذر … ثم انسلَّ على أطراف أصابعه، واندسَّ في الفراش. لم يكد «تختخ» يلتقط أنفاسه ويهدأ، حتى سمع خطوات في الدهليز … والباب يُفتح … هل هو المشرف؟ لا … إنهما «الكنجة» و«كفتة»؛ فقد كانا يتحدَّثان في صوتٍ هامس … وأغلقا الباب خلفهما، ثم سمعهما يسيران … ولكن ليس إلى فراشَيهما؛ فقد تجاوزا كل الأسِرَّة … واقتربا من سريره … وسمع «الكنجة» يسأل «كفتة» بصوتٍ خافت: هل أنت متأكِّد أنكَ رأيتَه؟ …

وردَّ «كفتة» هامسًا: أعتقد أنه كان هو … لقد كان أمامنا عندما خرجنا من العمارة.

الكنجة: ولكنه في فراشه أمامنا! …

كفتة: لعله عاد قبلنا.

واقترب الولدان منه، وانحنى «الكنجة» عليه، ثم رفع البطانية من على وجهه، وتظاهر «تختخ» أنه يغط في نومٍ عميق، وأخذ يُصدر أصواتًا مختلطةً ممَّا تصدر عن النائم المستغرق في النوم، فقال «الكنجة» ﻟ «كفتة»: إنه نائم تمامًا … وليس من المعقول أن يكون قد خرج وذهب إلى شارع «كلوت بك» خلفنا … ورأيته أنت، ثم عاد بهذه السرعة.

قال «كفتة»: غدًا صباحًا نتأكَّد … إنني أشعر أن هذا الولد ليس من رُوَّاد الملاجئ، وإذا كان قد كشف حقيقتنا؛ فإننا سنُواجه موقفًا صعبًا من الزعيم …

عندما استيقظ «تختخ» في اليوم التالي تذكَّر كل ما حدث أمس، وأخذ يتصوَّر ما يمكن أن يحدث اليوم … كيف سيتحرَّش به «كفتة» أو «الكنجة»؟ وهل سيدخل «الكنجة» معه معركةً أخرى بمفرده أو سيستعين بأعوانه؟ … وماذا سيفعل إذا حدث كل هذا؟ إنه لا يستطيع أن يُصارع ستةً أو سبعة أولاد وحده مهما كانت قوته، فهل ينضم إليه في هذا الصراع الأولاد الذين تعرَّف عليهم خلال إقامته القصيرة في الملجأ؟ … ظلَّت هذه الأسئلة وغيرها تدور في رأس «تختخ» حتى انتهى الغداء، وجاء لقاؤه اليومي مع «عودة»، فوقف «تختخ» ينتظر في الفناء … بينما وقف «الكنجة» وحوله أعوانه وبينهم «كفتة» ينظرون إليه … وبعد لحظاتٍ جاء «عودة» … وبدلًا من أن يُخبره أن الأولاد يتآمرون عليه، فوجئ به يقول: إن «الكنجة» يُريد أن يصطلح معك؛ فهو يعتقد أنك ولد شجاع … ويهمه أن تنضمَّ إلى مجموعته … ما رأيك؟

ظن «تختخ» لأول وهلة أن «عودة» يضحك عليه … فنظر إليه مبتسمًا، ثم قال: هل تقصد أنك سمعتهم يستعدُّون لضربي؟ … إنني على استعداد …

قال «عودة»: أُكلِّمك بمنتهى الجد. هذه رسالة من «الكنجة» إليك، فماذا ترى؟

فكَّر «تختخ» بسرعة … إن «الكنجة» يشك في وجوده في شارع «كلوت بك» أمس، وهو يُحاول الآن مصادقته ليعرف الحقيقة … وهو أيضًا يُريد أن يعرف عن «الكنجة» أكثر؛ فلا بأس من صداقة مؤقتة … وهكذا قال ﻟ «عودة»: لا بأس، فإنني على كل حال لا أحب الشجار …

وأسرع «عودة» يُبلغ «الكنجة» بموافقة «تختخ»، ورفع كلٌّ منهما يده من بعيد محييًا الآخر … ثم اتجها للمصافحة بين دهشة أولاد الملجأ الذين وقفوا يرقبون ما يحدث، وقد ارتفعت أحاديثهم … والتقى الغريمان في وسط الفناء، ووقفا يتحدَّثان معًا … وكلٌّ منهما يُحاول أن يعرف ماذا يُخفي صاحبه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤