في قلب الخطر

وضع «تختخ» خطته … كانت خطةً جريئةً قد يكسب بها كل شيء … وقد يخسر كل شيء؛ لقد قرَّر أن يعترف ﻟ «الكنجة» بأنه تبعه في شارع «كلوت بك» … لأنه يُريد أن ينضم إلى عصابة التزييف، فلم يعد هناك وقت للمناورات، والإجازة قاربت الانتهاء، وأهم من هذا كله أنه أصبح متأكِّدًا أن «الكنجة» و«كفتة» شاهداه أمس ليلًا، وأي إنكار لن يُجدي، ولكنه لن يقول له هذا الكلام مرةً واحدةً حتى لا يشك فيه «الكنجة». وهكذا عندما التقيا في المساء في صالة الألعاب … جلسا يتحدَّثان وحدهما، فقال «الكنجة»: إنني أُريد أن أسألك سؤالًا صريحًا …: هل كنت تتبعني أنا «وكفتة» أمس حتى شارع «كلوت بك»؟ …

قال «تختخ» بهدوءٍ وهو يبتسم: نعم … لقد تبعتكما أمس ليلًا.

فتح «الكنجة» فمه مندهشًا، وظل لحظاتٍ هكذا … ثم قال: وكيف عرفتَ أننا سنخرج؟ وكيف خرجتَ؟ ولماذا تبعتنا؟

عاود «تختخ» الابتسام قائلًا: هذه أسئلة كثيرة جدًّا، فلْنجب عليها واحدًا واحدا؛ أولًا: لم أكن أعرف أنكما ستخرجان … لقد كنتُ مستيقظًا عندما بدأتما تستعدَّان للخروج، فخرجت خلفكما … ثانيًا: عندما اقتربتما من الباب الخارجي، ورأيتُ البواب يستعد ليفتح لكما الباب، أسرعت إلى السور وقفزت منه، ثم ركبت خلفكما الترام …

الكنجة: إنك شديد البراعة … ولا بد أنك اشتركت في عصاباتٍ قوية …

أحسَّ «الكنجة» أنه تسرَّع في الحديث عن العصابات، فعاد يقول متعثِّرًا: لا أقصد عصابات سرقة … ولكن عصابات أولاد … أشياء بسيطة.

ردَّ «تختخ» دون أن يكذب في كلمةٍ واحدة: لقد اشتركتُ في مغامراتٍ كثيرة، وتتبُّع شخص في الشارع ليس مشكلةً بالنسبة لي، ومع ذلك أعتقد أنني فشلت؛ لأنكما استطعتما رؤيتي …

سكت «الكنجة» لحظات، ثم عاد يقول: ولكن لماذا تبعتنا؟

كان هذا هو السؤال الهام حقًّا، الذي يتوقَّف عليه مصير اللعبة كلها … وهكذا اختار «تختخ» ألفاظه قبل أن يقول: لقد سمعتَ أنك مغامرٌ كبير … وأن لك علاقات مع بعض الأشخاص الأقوياء … الذين يكسبون كثيرًا … وبصراحة فإنني أيضًا أُريد أن أكسب نقودًا ذات قيمة … حتى أستطيع أن أخرج من هذا الملجأ، وأعيش حياةً طيبة …

أعجبت عبارة مغامر كبير «الكنجة»، فهرش رأسه في تواضعٍ وهو يقول: لستُ مغامرًا كبيرًا جدًّا …

تختخ: إن خروجك ليلًا وقيام البواب يفتح الباب لك، دليل على قوتك وذكائك، وأنا أُحب أن أنضم لك في مغامراتك … وسترى أنني سأكون أحسن من «كفتة» وغيره من أصدقائك …

ابتسم «الكنجة» في سعادة، فأدرك «تختخ» أن خطته تسير على ما يُرام، وانتظر أن يسمع إجابةً عاجلةً على طلبه بالانضمام إلى «الكنجة» في مغامراته، ولكن الولد عاد فجأةً إلى التجهُّم وقال: لا تعتبر أنني وافقت على كل ما قلت، ولكن سنتحدَّث مرةً أخرى صباحًا، ثم تركه وانصرف.

في تلك الليلة أحسَّ «تختخ» بأن «الكنجة» و«كفتة» يستعدَّان للخروج مرةً أخرى، وفعلًا لم تكد الساعة تتجاوز العاشرة ليلًا حتى انسل الولدان من العنبر وخرجا، وفي هذه المرة لم يقفز للَّحاق بهما … لقد كانت خطته أن ينتظر تطوَّرات الحوادث. ولم تمضِ لحظات على خروجهما، حتى سمع الباب يفتح مرةً ثانية، وعلى الضوء الضعيف شاهد «الكنجة» يعود إلى العنبر ويقترب منه … لقد كان يُريد أن يتأكَّد أن «تختخ» لم يتبعه هذه الليلة كالليلة السابقة … وتظاهر «تختخ» بالنوم، ولكن «الكنجة» لم يصِل إلى الفراش … لقد اكتفى بنظرةٍ من بعيد، ثم غادر المكان مسرعًا …

نام «تختخ» نومًا عميقًا لأول مرة منذ دخل الملجأ، لقد وصل إلى معلوماتٍ مؤكَّدة، وعمَّا قريب يعرف كل شيءٍ عن العصابة، ويُبلغ المفتش «سامي» وينتهي الأمر … ولكن ماذا حدث بالضبط في تلك الليلة؟

•••

في الصباح التقى الصديقان الجديدان «الكنجة» … و«دنجل» كما أطلق «تختخ» على نفسه، وقال «الكنجة» بعد أن حيَّا «تختخ»: ستخرج معي الليلة … وسنقوم بمغامرةٍ تُعجبك، وستقبض مبلغًا محترمًا.

تظاهر «تختخ» بالسرور كطفلٍ نال جائزة، قال: أشكرك كثيرًا، وأرجو أن أكون عند حسن ظنك، ولكن ما هي المهمة بالضبط؟

الكنجة: ستعرف كل شيءٍ في الوقت المناسب … وعليك فقط أن تستعد في العاشرة للخروج، وسأُعطيك إشارةً في الوقت المناسب.

أخذ «تختخ» يُفكِّر في الساعات القادمة، وقد أدرك أنه دخل مرحلةً خطرةً من المغامرة، مرحلة يلتقي فيها بالعصابة ولا يُدرك نتائجها … وأخذ يُفكِّر فيما سيفعل هذه الليلة: أليس من الأفضل أن يُخطر المفتش «سامي»؟ … ولكن لعل المغامرة كلها تفشل إذا أحسَّت العصابة بتدخُّل رجال الشرطة … وخطرت في رأسه فكرة فنفَّذها على الفور … ذهب إلى صديقه الصغير «مستور»، وجلس يتحدَّث معه … قال له: اسمع يا «مستور»، سوف أُضطر الليلة إلى مغادرة الملجأ … وأُريد أن أُكلِّفك بشيءٍ هام … هل تقوم به؟

قال «مستور» في صدق: طبعًا … ألسنا صديقَين؟

تختخ: شكرًا لك. سأُعطيك رقم تليفون … فإذا لم تجدني غدًا صباحًا في العنبر … عليك بالاتصال بهذا الرقم … اطلب المفتش «سامي»، وقل له أن يذهب إلى العمارة رقم «٣٢» شارع «كلوت بك» …

أحسَّ «مستور» بالخوف ممَّا يسمع، فقال: أتصل بالمفتش «سامي» مفتش المباحث الجنائية! … لا أستطيع.

تختخ: لا تخَف إنه رجلٌ لطيف … وسوف يسرُّه أن تتعاون معي.

مستور: هل أنت صديقه أو قريبه؟ …

تختخ: لا داعي لهذه الأسئلة الآن … وسوف أشرح لك كل شيءٍ إذا قابلتني مرةً أخرى.

مستور: وهل أذكر اسمك إذا سألني؟ …

تختخ: طبعًا … قل له رسالة من «دنجل» في الملجأ، وسوف يفهم كل شيء …

عندما اقتربت الساعة من العاشرة، كان الأولاد جميعًا قد استغرقوا في نومٍ عميق، ولم يبقَ مستيقظًا سوى الثلاثة الذين كانوا سيخرجون في تلك الليلة؛ «الكنجة» و«كفتة» و«تختخ». ورأى «تختخ» الإشارة المتفق عليها، فغادر فراشه بهدوءٍ دون أن يُحدث أي صوت، ثم تبع «الكنجة» و«كفتة» عبر الممر المؤدي إلى الباب الخارجي. وكان «الكنجة» قد سبق «تختخ» و«كفتة»، حيث تحدَّث مع البواب قليلًا، ودسَّ في يده شيئًا؛ ففتح لهم الباب وهو يرمق «تختخ» بنظراتٍ حادة. ركب الثلاثة الترام من نفس المكان، وأخذ «الكنجة» يشرح ﻟ «تختخ» ما سيحدث، فقال: أولًا نحن لم نقل لأحد إنك تبعتنا في تلك الليلة … فلو علم الزعيم بهذا فسوف ينتقم منا … إنه يستخدم أولاد الملجأ حتى لا يشك فيهم أحد … فلن يتصوَّر رجال الشرطة أن الأولاد يخرجون ليلًا، ويعودون دون أن يُحس بهم أحد … ولكن الزعيم متفق مع البواب … ونحن ندفع له مبلغًا عن كل ليلة نخرج فيها … وسوف نُقابل الآن المسئول عن التوزيع … سيُعطيك شيئًا تُخفيه تحت ثيابك … ثم تذهب إلى العنوان الذي سيُعطيه لك … وبعد أن تُسلِّم ما تحمله تعود إلى الملجأ … وسوف يفتح لك البواب الباب …

وسكت «الكنجة» قليلًا، والترام يشق طريقه في الشوارع المضاءة، ثم قال: وعلى كل حال تظاهر بأنك لا تعرف طبيعة مهمتك، وسوف يشرح لك المسئول عن التوزيع كل شيء … حتى لا يقال إنني أفشيت معلوماتٍ عن العصابة؛ فإن هذا يُعرِّضني لغضب الزعيم …

قال «تختخ»: إنك تخاف هذا الزعيم جدًّا، هل هو قاسٍ إلى هذا الحد؟ …

الكنجة: أكثر ممَّا تتصوَّر.

تختخ: وما هو شكله؟

الكنجة: شكله … إن أحدًا لا يعرفه مطلقًا … إلَّا عدد قليل جدًّا من رجاله، ولكني أعرف أن أحدًا لا يتصل به قبل العاشرة ليلًا، لا أدري لماذا؟ …

سكت الاثنان، واستغرق «تختخ» في أفكاره … ماذا سيحدث الليلة؟ وهل يقوم حقًّا بترويج نقودٍ زائفة؟! إن أفضل ما يمكن عمله أن يأخذ النقود، ويذهب إلى المفتش «سامي»، ويضع أمامه الحقائق كاملة … هذا هو الحل الأفضل. وشعر بارتياح، وأخذ ينظر حوله في سعادة … فقد اقتربت المغامرة من نهايتها، وقد يعود الليلة إلى «المعادي»، ويُعاود النوم في غرفته … ثم يروي القصة كلها صباحًا للأصدقاء.

ووصل الترام إلى شارع «كلوت بك»، وقفز الثلاثة، ثم اتجهوا إلى نفس العمارة القديمة التي دخلها الولدان عندما تبعهما «تختخ»، ودخلوا وصعدوا إلى الدور الثاني … ثم وقفوا أمام بابٍ مغلق ومظلمٍ تمامًا، ولا يتصوَّر أحد أن خلفه أحدًا … ودقَّ «الكنجة» الجرس ثلاث دقَّات … وبعد لحظاتٍ سُمع صوت في الداخل، ثم فتح شراعة الباب، وأطل منها وجه رجلٍ ضخم، ثم فتح الباب … وكان الضوء في داخل الشقة شديدًا … ولكن كانت هناك ستائر سوداء على الباب من الداخل تمنع تسرُّب الضوء.

دخل الثلاثة، وتبعوا الرجل الذي سار أمامهم صامتًا إلى حجرةٍ دقَّ بابها، وسمع «تختخ» صوتًا من الداخل يقول: «ادخل.» ودخل الرجل، ودخل الأولاد الثلاثة، وأغلق الرجل الباب ووقف بجواره، ونظر «تختخ» حوله … كانت غرفةً فاخرة الأثاث … في طرفها مكتب كبير جلس إليه رجلٌ كان يفتح خزانةً بجانبه ويعد شيئًا … وعندما التفت الرجل إليهم أحسَّ «تختخ» أن صاعقةً وقعت على رأسه … فهذا الرجل يعرفه … يعرفه جيدًا … كلٌّ منهما يعرف الآخر برغم مرور فترةٍ طويلةٍ عندما التقيا أول مرة … لم يكن الرجل الجالس على المكتب سوى «كمال» زعيم عصابة «الأشباح السوداء»، التي أوقعها «تختخ» في لغز الشبح الأسود.

ولم يكد «كمال» يرفع عينَيه وتقعان على «تختخ»، حتى وقف صارخًا: أنت!

وسكت كل من في الغرفة … ولم يعد يُسمع إلَّا صوت الأنفاس المتسارعة خاصةً من «الكنجة»، الذي أحسَّ أنه ارتكب خطأً خطيرًا …

لم يكن أمام «تختخ» فرصة للإنكار، فقال بهدوء: نعم … إنه أنا.

قفز «كمال» من خلف المكتب قفزةً واحدة، وصاح: رجال الشرطة يُحاصرون المكان … إن هذا الولد من أعوانهم …

وانتفض الرجل الضخم الذي كان يقف خلف «تختخ» عليه، وأمسكه وشلَّ حركته، في حين فتح «كمال» الباب ونظر خارجه … ولكن لم يكن هناك أحد.

قال «كمال» موجِّهًا حديثه إلى «الكنجة»: من هذا الذي أحضرتَه؟! هل تُريد أن توقع بنا كلنا؟!

ردَّ «الكنجة» بصوتٍ مرتجف: إنني لا أعرف عنه إلَّا أنه ولد من الملجأ، وأنت طلبت مني تجنيد عدد آخر من الأولاد لمهمة التوزيع، وقد رشَّحتُ «دنجل» للقيام بهذه المهمة.

والتفت «كمال» إلى «تختخ» قائلًا: واسمك «دنجل» أيضًا! … هذا شيءٌ عظيم.

تختخ: هل يُعجبك الاسم؟

قال «كمال» في غيظ: هل تستظرف؟ … إنك أوقعت بي مرة، واستطعت الهرب من السجن … ولكنك لن توقع بي مرةً أخرى … بل أنت الذي وقعت، وهذه فرصتي لأنتقم منك لِما فعلت بي … إنك لن تخرج من هنا حيًّا. أدرك «تختخ» أنه وقع في مأزقٍ خطير، وأدار بصره في الغرفة لعله يجد منفذًا للهرب، ولكن النوافذ كانت مغلقةً بإحكام. ووقع بصره بجوار المكتب على ما كان سبب كل هذه المآزق، الحقيبة السوداء، وأدرك أنها لا بد أن تكون حقيبة والد «عاطف»، التي حاولت العصابة خطفها من «عاطف»، ثم سرقتها بعد ذلك من مكتب المحامي … لقد عثر عليها … ولكن في أي ظروف؟!

وأخرجه من خواطره «كمال» الذي أمسكه من كتفه وهزَّه قائلًا: هل يعلم رجال الشرطة بهذا المكان؟

تختخ: لا …

عاود «كمال» هزَّ كتفه قائلًا: قُل الحقيقة وإلَّا …

تختخ: هذه هي الحقيقة … وإلَّا كان رجال الشرطة قد اقتحموا المكان الآن.

عاد «كمال» إلى مكتبه وجلس يُفكِّر، ثم قال: لن أنسى أنك خدعتني قبل الآن … واستطعت أن تتغلَّب عليَّ … ولكن هذه المرة لن أتركك تخدعني … ثم وجَّه كلامه إلى «الكنجة» و«كفتة»: أمَّا أنتما فسوف أترككما للزعيم ليتصرَّف معكما … ونظر «تختخ» إلى الولدَين فوجد وجهَيهما يشحبان، وأيديهما ترتجف، فأدرك أن لهذا الزعيم سطوةً مخيفةً على أعدائه.

أمسك «كمال» بالتليفون، وأخذ يُدير رقمًا … وركَّز «تختخ» انتباهه على يده وهي تضرب الأرقام … فلا بد أن «كمال» سيتصل بشخصٍ هام في العصابة … لعله الزعيم … واستطاع أن يلتقط الأرقام واحدًا واحدًا … ٦ … ٢ … ٢ … ٥ … ٢ الرقم كله ٦٢٢٥٢. وأخذ يُركِّز ذهنه حتى لا ينساه … فهذا الرقم له أهميته إذا قُدِّر له أن يخرج من هذا المكان حيًّا.

وظلَّ «كمال» يضع السماعة على أذنه فترة طويلة … وأخيرًا بدأ يتحدَّث … وأخذ يروي ما حدث في كلماتٍ متقطِّعة … ويستمع … ثم يُعاود الحديث … ثم استمع فترةً طويلة، ووضع السماعة، ثم واجههم قائلًا: «الكنجة» و«كفتة» … عُودا فورًا إلى الملجأ، وخُذا بقية الأولاد، واهربوا جميعًا، وسنتصل بكم فيما بعد.

أسرع الولدان إلى الخارج كأنهما لا يُصدِّقان أنهما نجيَا … أمَّا «كمال» فأخذ يُصدِر تعليماته إلى الرجل الواقف الذي كان يُمسك بذراعَي «تختخ» بشدةٍ من الخلف، حتى كاد يكسرهما: عليك بشد وثاق هذا الولد حالًا … ثم اجمع بقيَّة الرجال؛ فسوف نترك هذا المكان فورًا … وهاتِ لي بعض الأوراق القديمة هنا في هذه الغرفة …

وأسرع الرجل يُحضر حبلًا، ثم قيَّد يدَي «تختخ» خلفه، وربط منديلًا على فمه، ثم ألقاه على الأرض، وقيَّد قدمَيه، وفي هذه الأثناء كان «كمال» يملأ حقيبتَين كبيرتَين بأوراق النقد المزيَّفة … وكانت هناك حركة لأقدامٍ كثيرةٍ في الصالة … وفي خلال الساعة التالية، كان «كمال» قد أعدَّ كل شيء … وقال ﻟ «تختخ» شامتًا: الآن أنتقم منك … سوف أُشعل النار في هذه الغرفة لأشويك حيًّا، وهذه العمارة كلها تتبعنا، وليس فيها سُكَّان سوانا، فلن يُنقذك أحد … حتى إذا استطاع أحدٌ أن يرى الدخان في هذه الساعة المتأخِّرة من الليل، فلن يصل أحد لإنقاذك إلَّا بعد أن تكون قد اختنقت من الدخان … أو احترقت بالنار.

أحسن «تختخ» بأن «كمال» لا بد أن يكون مجنونًا … فليس من المعقول أن يُشعل النار في العمارة كلها … ويُهدِّد حيًّا بأكمله بالاحتراق لمجرَّد أن يتخلَّص منه. وظل لحظاتٍ يظن أن «كمال» يضحك عليه ليبث في قلبه الرعب، ولكن الرجل الذي كان زعيمًا للأشباح السوداء، وأوقعه «تختخ» في يد الشرطة كانت رغبته في الانتقام، قد أعمته عن كل شيء … وهكذا أخرج ولَّاعته … وبلا أدنى تردُّد أشعل النار في كومة الأوراق التي أحضرها مساعده … وبعد لحظاتٍ كان يُغلق الباب بالمفتاح على «تختخ»، ويُغادر المكان بعد أن أطفأ النور.

شاهد «تختخ» النار تُسرع بالتهام الأوراق الجافة … والدخان يتزايد شيئًا فشيئًا في الغرفة … وأدرك أنه في مأزقٍ من أشد المآزق التي مرَّ بها في حياته خطورة … بل أدرك أن هذه هي النهاية … فأخذ يُحاول فكَّ يدَيه، ولكن الرباط كان محكمًا فلم يستطِع أن يُحرِّكه … وحول أن يفك قدمَيه، ولكن المحاولة الثانية لم تكن أنجح من الأولى … ولكن تمكَّن من الوقوف على ركبتَيه بصعوبةٍ مستندًا على الحائط … ثم استطاع أن يقف …

كانت النيران قد أضاءت الغرفة … وعلى ضوئها شاهد جهاز التليفون مكانه، وأحسَّ بالأمل يُعاوده … فلو استطاع الاقتراب من التليفون لاتصل بالمطافئ … أو بشرطة النجدة … وأُبلغها ما حدث … ولكن شيئًا هامًّا نسيه … نسي أنه مكمَّم الفم لا يستطيع أن ينطق بكلمةٍ واحدة … وبدأ الأمل يتلاشى، ويحل محلَّه يأسٌ قاتل … خاصةً وقد بدأ الدخان يملأ الغرفة، ويتسلَّل إلى رئتَيه فتضيق أنفاسه … وإلى عينَيه فتلسعانه، وتنهمر منهما الدموع حتى لا يكاد يرى ما حوله … ولكن بشجاعة اليائس أخذ يقترب من المكتب، وركع على ركبتَيه، ثم وضع فمه على طرف الزجاج المدبَّب محاوِلًا زحزحة المنديل قليلًا … وفي كل مرةٍ كان يحك صدغه في الزجاج؛ كان يُحس بأنه يقطع جلده … ولكنه لم يكن يشعر بالألم؛ فقد كانت حياته رهنًا بهذه المحاولة … وقد عاوده الأمل عندما أبطأت النار في الانتشار بعد أن تحوَّلت الأوراق إلى رماد، وانتقلت النار إلى أرض الغرفة.

شيئًا فشيئًا بدأ المنديل يتحرَّك إلى أسفل … وكلما تزحزح مسافةً كان الأمل في الحياة يُعاود «تختخ» … وأخيرًا استطاع أن يُبعده عن فمه مسافةً صغيرةً جدًّا، ولكنها كافية لأن يتحدَّث. وهكذا اقترب من التليفون، واستدار وأسقط السماعة، ثم أخذ يتحسَّس القرص بأصابعه … وقرَّر أن يُحاول طلب المفتش «سامي» فهذا أفضل؛ فقد بدأت قواه تخور … والدخان يملأ رئتَيه … والمجهود الذي يبذله يشل أعصابه … إن المفتش «سامي» هو وحده الذي سيفهم، ولو قال له كلمةً واحدةً أو كلمتَين …

استطاعت أصابعه أخيرًا أن تتحسَّس القرص، وأخذ يثني يدَيه بصعوبةٍ ليُدير الأرقام، وكان كل رقم يحتاج إلى حركاتٍ شاقة … وبعد مجهودٍ عنيفٍ أكمل الرقم المطلوب، ثم ألقى بنفسه على الأرض بجوار السمَّاعة، وأخذ يستمع وهو يقترب من الإغماء إلى صوت الجرس وهو يدق في الناحية الأخرى دقًّا طويلًا متواصلًا … إنه منزل المفتش «سامي» فهل هو هناك؟ إن هذا هو الأمل الأخير.

مرَّت الثواني كأنها سنوات طويلة … ثم سمع صوت المفتش الذي يُثقله النوم يقول: ألو … ألو … من هناك؟

وبصعوبةٍ بالغةٍ وكل شيءٍ يدور … ومن خلال الفتحة الصغيرة في المنديل، استطاع «تختخ» أن يقول بضع كلمات … أنا «تختخ» … أسرع … «٣٢» شارع «كلوت بك» … وسمع صوت المفتش يصيح على الطرف الآخر: ألو … ألو … «تختخ» … ماذا حدث؟!

ولكنه لم يكن يستطيع الرد … فقد أُغمي عليه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤