الفصل الرابع

أحوال الأقباط الحقيقية تحت حكم الولاة

(١) طابع الاحتلال العربي

(١-١) حسن معاملة الفاتحين

كيف عامل العرب المصريين لما احتلوا بلادهم؟ جهل مؤرخو العرب تفاصيل هذا الموضوع، ولكن حنا النقيوسي لم يتردد في إبراز صورة كئيبة لهذا الاحتلال لم يغفل فيها حوادث القتل والسلب والنهب والتخريب … إلخ.

لا بد أن تصحب الحملات الحربية أعمال العنف، خاصة إن كان أصحابها مدفوعين بحرارة الإيمان، ولكن بينما يؤكد أسقف نيقيا سوء استغلال العرب لانتصاراتهم، إذا العثور حديثًا على بعض أوراق البردي، التي يرجع عهدها إلى الفتح الإسلامي يثبت لنا مسلك العرب المشرف حيال أهل الذمة.

ولدينا وثيقتان تنطقان بهذا، اكتشفهما البروفسور «جروهمان»:١ يرجع تاريخهما إلى سنة ٢٢ هجرية «٦٤٢م»، وتقول الوثيقة الأولى: «باسم الله! أنا الأمير عبد الله أكتب إليكما أنتما، خريستوفوروس وتيودوراكس، باجارك Pagarques هيرا كليوبولس، قد أخذت منكما خمسًا وستين نعجة لأطعم الجند الذين معي، أعيد ما قلته: خمسًا وستين نعجة لا أكثر وليعلم الجميع ما فعلت، كتبت الإقرار هذا وحرره الشماس يوحنا، مسجل العقود، في اليوم الثلاثين من شهر برمودا من التوقيت الأول.».
وقد تحرر هذا النص باللغة اليونانية وألحق به نص آخر باللغة العربية يقول:

بسم الله الرحمن الرحيم؛ هذا ما أخذه عبد الله بن جابر وزملاؤه المحاربون من النعاج للذبح في هيراكليوبولس، لقد أخذنا من أحد وكلاء تيودوراكس، النجل الثاني لآباء قيرس، ومن نائب خريستوفورس، أكبر أنجال آبا قيرس، خمسين نعجة للذبح وخمس عشرة نعجة أخرى، وقد أعطاها لإطعام رجال مراكبه وفرسانه وقوات مشاته المصفحة، تحرر في شهر جمادى الأول سنة ٢٢ﻫ وكتبه ابن جديد.

وجاء في ظهر الورقة ما يلي:
شهادة بتسليم النعاج للمحاربين ولغيرهم ممن قدموا البلاد، وهذا خصم عن جزية التوقيت الأول.٢

وبينما نشاهد اليوم حروبًا يتسابق فيها الطرفان إلى اقتراف الأعمال الوحشية، ينبغي أن نذكر أن قبائل العرب كانت تحترم الملكية الفردية وذلك أثناء قيام الحرب، وفي زمن اشتهرت فيها الأمم بالعنف والقسوة.

وهذا نص الوثيقة الأخرى:
باسم الله! أنا الأمير عبد الله أكتب إليكم يا أمناء تجار مدينة «بسوفتس» وأرجو أن تبيعوا إلى عمر بن أصلع لفرقة القوطة علفًا بثلاثة دراهم ذهبية، كل واحد منها «بعرورين» وإلى كل جندي غذاء من ثلاثة أصناف.٣

واختتم جروهمان هذا كله بقوله: «إن هذه المعاملة إزاء شعب مغلوب قلما نراها من شعب منتصر.».

(١-٢) افتقار العرب إلى سياسة ثابتة

ومما يؤسف له حقًّا أن يؤدي الجشع الذي أوجدته ثروة مصر وريبة الخلفاء في سياساتهم نحو الولاة إلى عواقب وخيمة، فالإحصاءات تدل على أن الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين منذ سنة ٢٠ﻫ «٦٤١م» إلى سنة ٢٥٢ﻫ «٨٦٦م»؛ أي: من ولاية عمرو بن العاص إلى ولاية ابن طولون، نصَّبوا في بحر مئتين وخمس وعشرين سنة مئة وأحد عشر واليًا، ولو أن بعض الولاة قد عينوا مرتين أو ثلاث مرات، إلا أن المدة القصيرة التي كانوا يحكمون خلالها لم تسنح لهم الفرصة لاتباع سياسة إنشائية أو على الأقل للتفكير في وضع خطة معينة.

ويقدم لنا «الأستاذ جاستون فييت»،٤ إحصاء شيقًا يبدأ به بعد وفاة عمرو بن العاص؛ أي: من سنة ٤٣ﻫ «٦٦٤م»، وهذا الإحصاء يقول: «حكم مصر أثناء خلافة الأمويين واحد وعشرين واليًا، اثنان منهم وليا الحكم مرتين وواحد منهم ثلاث مرات، وقد حكم أحدهم البلاد باسم ابن الزبير، ولم يلبث أن عزله الخليفة مروان، وكان خمسة من هؤلاء من أسرة الخلفاء؛ وقد تُوفي ستة منهم وهم ولاة؛ ونقل الخليفة أو أقال أحد عشر منهم؛ واستقال أحدهم وطرد الجند آخر؛ لأنه خفض رواتبهم؛ أما الوالي الأخير، فالمرجح أن العباسيين قتلوه، ومكث أحدهم على كرسي الولاية ستة عشر يومًا٥ بينما تربع آخر عشرين سنة، وهي أطول مدة قضاها والي مصر،٦ وإذا انتقلنا إلى الخلافة العباسية، ألفيناهم عينوا أربعة وستين واليًا، تسعة منهم تولوا الحكم مرتين وواحد ثلاث مرات، وفي عهد المأمون ولت قوات الجيش التي ظلت مخلصة لذكرى الخليفة الأمين خمسة منهم، وكان اثنا عشر واليًا من أسرة الخليفة، وقد تُوفي عشرة وهم في الحكم ونقل أو أقيل خمسون منهم، وقتل اثنان، وطرد الجنود الثائرون واحدًا واستقال أحدهم لينضم إلى الثوار، ومما يلفت النظر أن عدد التنقلات قد ازداد في عصر العباسيين بالنسبة إلى ما كان عليه أيام حكم الأمويين، ويرجع السبب إلى أن السلطة المركزية كانت بعيدة جدًّا؛ أي: في بغداد، وكان الخليفة لا يريد أن يترك للولاة متسعًا من الوقت يستطيعون خلاله استمالة قلوب الشعب إليهم، وكان الخوف من نفوذ الولاة قد طبع في قلوب الخلفاء شيئًا من القلق المستديم، ويغلب على الظن أن هذا الخوف هو الذي أدى إلى قتل البرامكة، تلك المأساة التي ساءت إلى ذكرى الخليفة هارون الرشيد.».

ونضيف إلى ما تقدم أن أربعة وعشرين واليًا حكموا مصر أثناء خلافة هارون الرشيد وحده؛ أي: في ثلاث وعشرين سنة.

ويواصل الأستاذ جاستون فييت بحثه قائلًا: «إن عدم الاستقرار الذي لازم تعيين الولاة لم يكن في صالح البلاد على الإطلاق؛ إذ كيف يطلب من موظف جاء من الخارج ويثق من عدم بقائه في الولاية، أن يعير البلاد اهتمامه أو أن ينظم مواردها أو أن يسهر على دولاب إدارتها؟».

وهناك طابع آخر لازم الحكم العربي أثناء الفتوحات، في مصر وفي جميع البلدان التي احتلها العرب، ألا وهو افتقار الحكم إلى خطة مرسومة يسير عليها، فإن القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية كانت تصدر حسب الظروف وتبعًا لمقتضيات الحال، ويرجع السبب إلى أنه لم يكن في نية العرب أن يقيموا في تلك البلاد ولا أن يديروها، بل كانوا يهدفون إلى غرض واحد هو المحافظة على سلامة مؤخرة جيوشهم حتى يقوموا بفتوحات جديدة، ويحصلوا على المال الكافي لمتابعة أعمالهم العسكرية الجديدة.

وعلى كل حال، لم يحاول الجنود العرب الاختلاط بالشعوب المهزومة؛ لأن رؤساءهم كانوا يمنعونهم من هذا الاختلاط منعًا باتًّا، وينقل لنا ابن عبد الحكم ما قاله الخليفة عمر في جيش الاحتلال العربي بمصر: «إني لا أحب أن ينزل المسلمون منزلًا يحول الماء بيني وبينهم في شتاء ولا صيف.»،٧ ومعنى هذا أن الجنود يجب أن يحافظوا على صفاتهم الحربية، ولا يفكروا في أن يستقروا في البلاد.
وفعلًا، إذا استثنينا الأوامر الخاصة بضمان تحصيل الضرائب وإرسال المال والقمح إلى شبه جزيرة العرب، لم نعثر على أي تدبير لزيادة ثروة البلاد الاقتصادية، «وقد أعيد حفر قناة «تراجان» Trajan ليس لمصلحة التجارة بقدر ما أعيد حفرها حتى يستطيع الغازي أن يرسل قمح مصر إلى البلاد العربية القاحلة عن طريق سهل وفي مدة قصيرة، ولكن ما لبث أن أهملت هذه القناة فاجتاحتها الرمال مرة أخرى في أوائل القرن الثامن وردمها حكام مصر بين سنتي ١٤٤ و١٤٥ﻫ «٧٦١–٧٦٢م» كي يمنعوا إرسال الأقوات إلى المدينة عندما أصبحت مصدرًا للثورات.».٨
وقد أهملت الإصلاحات العامة إهمالًا تامًّا، ولكن لما كان من اللازم الاستفادة من مياه النيل الغنية بالطمي الخصب، لا سيما أثناء الفيضان، فقد كان الحكام يسخرون السكان لتطهير القنوات وإعادة بناء الطرق والجسور مقابل إعفائهم من قسط من الضرائب يتناسب مع المهمة التي قاموا بها.٩

ولا نجد أي أثر لنشر التعليم حتى بعد إنشاء المستعمرات العربية في الدلتا بوقت طويل، ومن جهة أخرى، أنشأ العرب نظامًا للضرائب، ولكنهم لم يفكروا في تنظيم إدارة للحسابات في المدينة المنورة.

ثم بينما كان بناء الكنائس محظورًا في المدن التي أنشأها العرب، سمح عبد العزيز بن مروان ببناء كنيسة في حلوان، ويعلل هذا التساهل بوجود بعض النصارى الملكيين في خدمة الوالي،١٠ ولم تختلف سياسة الخليفة المأمون عند إقامته بمصر، واستخدم النصارى الذين التمسوا منه تشييد كنيسة بالقرب من قبة الهواء، فسمح لهم بذلك.١١
ويروي الأسقف ساويرس بن المقفع أنه لما هبط مستوى النيل سنة ١٣٦ﻫ «٧٥٢م»، قام المسلمون يتضرعون في صلاتهم إلى الله أن يزيد في مياه النهر حتى تفيض، ثم تبعهم اليهود، ولكن بدون جدوى، ولم تحدث المعجزة إلا عندما بدأ النصارى في الصلاة، فقرر باعون، نائب الوالي، أن يكافئهم، فخفض الجزية وأمنهم على حياتهم وأملاكهم في القطر المصري كله.١٢
ويحمل بنا أن نقيم الدليل، بضرب مثل أخير، على سياسة الحكام العرب الإرتجالية وعلى اتخاذهم القرارات المتناقضة، ففي عام ١٦٩ﻫ «٧٨٥م» أمر الوالي علي بن سليمان بهدم الكنائس المحدثة بمصر وبذل له خمسين ألف دينار مقابل تركها قائمة فامتنع،١٣ بينما صرح موسى بن عيسى الذي خلفه سنة ١٧١ﻫ «٧٨٧م»، بإعادة تشييد الكنائس لاعتبارات مادية بحتة، ولم يقدم على هذا إلا بعد أن سأل الفقهاء رأيهم في هذه المشكلة، فأفتوا بأن الكنائس هي «من عمارة البلاد»،١٤ ويجب ألا يكون الوالي أكثر تطرفًا ممن سبقوه بدليل أن «عامة الكنائس التي بمصر لم تبن إلا في الإسلام في زمن الصحابة والتابعين،١٥ وينبغي أن نلاحظ أنه حدث قبل ذلك ببضع سنوات؛ أي: في عام ١١٧ﻫ «٧٣٥م»، أن قتل الغوغاء الوليد بن رفاعة؛ لأنه صرح للنصارى ببناء كنيسة مارمينا،١٦ وربما لم تكن حاجة العرب إلى المال شديدة في ذلك الوقت.١٧

ويتضح من ذلك كله، أن تقلب السلطة وعدم اهتمام العرب بالشعوب التي أخضعوها، وتخبط سياسة الولاة وتضاربها، خلقت جوًّا لا يساعد على حسن التفاهم.

(٢) طموح عمرو بن العاص ونتائجه

قالت المسز ديفو نشاير: «لا يوجد والٍ واحد من الثمانية والتسعين الذين عُينوا على مصر١٨ يستحق أن يخلد اسمه.»،١٩ إن هذا الحكم الشديد على ولاة مصر يُظهر لنا قوة شخصية عمرو بن العاص، ولما كان عمرو فاتح مصر وأول من حكمها، فقد أنشأها نظامًا خاصًّا نستطيع معرفته بسهولة من مختلف أعماله وتصرفاته، لقد عرف عمرو كيف يحل المشاكل الخطيرة دون أن يعتمد على نصوص واضحة لعدم وجودها وقتذاك، ولما كانت سياسته ترمي إلى كسب مودة النصارى، فقد صبغ نظم البلاد بصبغة التسامح التي خولت للأقباط التمتع ببعض الامتيازات الجوهرية.

(٢-١) كان عمرو يسعى إلى حكم مصر حكمًا مطلقًا

من الطبيعي أن تستقبل الشعوب المغلوبة قائد الجيش المنتصر بشعور يشوبه الخوف والاحترام، ويعترف حنا النقيوسي «أن مركز عمرو كان يزداد قوة يومًا بعد يوم.»،٢٠ وبالفعل، فقد ارتفعت سمعة عمرو إلى حد أنه عندما أعادت الجيوش البيزنطية الكرة على الإسكندرية، استنجد عثمان به على الرغم من كرهه له ورميه بالطمع والمغامرة.

لبى عمرو طلب الخليفة دون تردد، ألم يكن يعتبر مصر ملكًا له، سلبه الخليفة منه عندما أقاله من الولاية؟ ولا شك أن العودة إليها قد تمكنه من حكم البلاد لحسابه الخاص وإغفال سلطة الخليفة.

ولم يكن طموح عمرو جديدًا، فقد ظهر لأول مرة يوم استسلام حصن بابليون، وإلا كيف نفسر عطفه على الجيوش المغلوبة؟ لماذا رغب في أن يصالح أعداءه صلحًا شريفًا بالرغم من معارضة الزبير وعدد وفير من جيشه، وبالرغم من مقدرة الجيش العربي على اقتحام الحصن واستغلال انتصاراته الحربية استغلالًا تامًّا؟ ثم إذا انتقلنا إلى الإسكندرية، وجدنا أيضًا نفس هذا الاستعداد للتسامح على الرغم من صمود المدينة أربعة عشر شهرًا، مما اضطر الزبير ومن معه أن يرفعوا احتجاجهم مرة أخرى؛ إذ كانوا يريدون تطبيق مبادئ الشريعة الخاصة بالشعوب المهزومة.

وكان الزبير على حق٢١ فيما ذهب إليه وخاصة فيما يتعلق بالبلاد، التي قاومت المسلمين بالقوة، وكان يستطيع أن يستشهد بسابقة خطيرة ألا وهي مقاومة يهود خيبر، فلما هزمهم النبي، وزع أراضيهم على أفراد جيشه المنتصر واستعبد أفراد القبيلة.

إلا أن عمرًا أراد بدهائه أن يحتفظ بوحدة مصر، فكان يعرف أن البلاد غنية بمواردها، ويرى أن المصلحة تقضي بمنع توزيعها على المحاربين كغنيمة حربية، وبمعاملة سكانها ورؤسائهم الدينيين معاملة طيبة، وباحترام شعورهم الديني … وعدم استنزاف ثروة البلاد وجباية الضرائب حتى لا تسوء حالة مصر الاقتصادية، وقصارى القول، كان يريد كسب صداقة الشعب ومحبته لا إذلاله وامتهان كرامته.

إذًا، كان لعمرو سياستان: الأولى عامة، استلهمها من تعليمات الخليفة، والأخرى شخصية تستحق منا اهتمامًا خاصًّا؛ لأنها وفرت على الأقباط عدة التزامات.

(٢-٢) عمرو يطلب تحكيم عمر لمنع توزيع الأراضي

لم يتوانَ عمرو في طلب تحكيم عمر بخصوص توزيع الأراضي؛ لأن المشكلة نفسها طرأت بعد فتح سوريا والعراق، «سأل بلال وأصحابه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسمة ما أفاء الله عليهم من العراق والشام وقالوا: أقسم الأرض بين الذين افتتحوها كما تقسم غنيمة العساكر.» فأبى عمر ذلك عليهم وتلا عليهم هذه الأحكام وقال: «قد أشرك الله الذين يأتون من بعدكم في هذا الفيء، فلو قسمته لم يبقَ لمن بعدكم شيء ولئن بقيت ليبلغن الراعي بصنعاء نصيبه من هذا الفيء ودمه في وجهه.»٢٢

«إن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد حين افتتح العراق: «أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر فيه أن الناس سألوك أن تقسم بينهم مغانمهم وما أفاء الله عليهم، فإذا أتاك كتابي هذا فانظر ما أجلب الناس عليك به إلى العسكر من كراع ومال، فأقسمه بين من حضر من المسلمين، واترك الأرضين والأنهار بعمالها ليكون ذلك من أعطيات المسلمين، فإنك إن قسمتها بين من حضر، لم يكن لمن بعدهم شيء.».

وقال عمر في مناسبة أخرى: «كيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت عن الآباء وحيزت ما هذا برأي.»، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه: «فما الرأي ما الأرض والعلوج إلا مما أفاء الله عليهم.»، فقال عمر: «ما هو إلا كما تقول ولست أرى ذلك والله لا يفتح بعدي بلد فيكون فيه كبير نيل، بل عسى أن يكون كلًّا على المسلمين، فإذا أقسمت أرض العراق بعلوجها وأرض الشام بعلوجها، فما يسد به الثغور وما يكون للذرية والأرامل بهذا البلد وبغيره من أهل الشام والعراق؟»، فأكثروا على عمر، رضي الله تعالى عنه، وقالوا: «أتقف ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا ولأبناء القوم ولأبناء القوم ولأبناء أبنائهم ولم يحضروا؟».

ولكن عمر لم يقتنع بهذه الحجج وذهب به الأمر إلى أن يحكم عشرة من علية القوم في هذا الخلاف طبقًا للعوائد العربية التي يستنكرها القرآن، مصدر التشريع، وقد قال هؤلاء الحكام جميعًا: «إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال وتجري عليهم ما يتقوون به، رجع أهل الكفر إلى مدنهم.».

فلما سمع عمرو بن العاص إلى شكاوى الزبير ورجاله، لجأ إلى حكم الخليفة عمر فكتب إليه عمر: «أقرها حتى يغزو منها حبل الحبلة.»،٢٣ وصولح الزبير على شيء أرضي به وعمل على تنفيذ أوامر الخليفة.

ويمكن الجزم بأن المسألة كانت على جانب عظيم من الأهمية؛ لأن هذا «الشيء» الذي أعطاه عمرو للزبير يدل بوضوح على أن عمرو كان يشعر بضرورة التخلص من معارضة الزبير حتى لا يثير مرة أخرى مسألة المدن المحتلة بقوة السلاح.

(٢-٣) هل فُتحت مصر بصلح أم عنوة؟

أثارت هذه المسألة مناقشات حادة بعد فتح العرب لمصر؛ إذ أكد بعض الفقهاء أن البلاد فُتحت بصلح، والبعض الآخر أن البلاد فُتحت عنوة، بينما انضم فريق ثالث إلى الرأي الأول ولكن بشيء من التحفظ.

إلا أنه يجدر بنا أن نذكر الوقائع قبل أن نورد وجهات النظر المختلفة.

ويطلق الكُتَّاب اليوم على فتح مصر والبلاد المجاورة لها اسم «الجهاد»؛ أي: الحرب التي قام بها المسلمون ضد الكفار، الذين رفضوا الدعوة إلى الإسلام.

أضف إلى ذلك أن السواد الأكبر من المؤرخين المسلمين لم يشكُّوا في صحة الرسالة، التي بعث بها النبي إلى حاكم مصر، وإذا سلمنا بأن المصريين لم يلبوا هذه الدعوة ولم يرفضوها رفضًا باتًّا كما يدعي بعض الكُتَّاب، فإن بطء العمليات الحربية ووجود العنصر القبطي في الجيوش البيزنطية تدل على مقاومة الأهلين للفتح العربي.

وقد أراد البعض أن يبرر تسامح عمرو بأن حاميتي بابليون والإسكندرية طلبتا وقف القتال، ولكنهما في كلتا الحالتين لم يقوما بهذا العمل إلا بعد أن شعرنا بإفلات زمام الأمر من بين أيديهما، ثم إن نصوص القرآن صريحة في هذه الحالة: فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (سورة محمد، آية ٣٥).

ومع ذلك فقد حاول بعض الفقهاء فيما بعد أن يبرروا موقف القواد العرب المخالف لهذه النصوص، وقد كتب أحدهم في هذا الصدد، وهو حسين بن أحمد بن محمد القدوري، ويمكن اعتباره من علماء مذهب أبي حنيفة: «إن رأى الإمام أن يصالح أهل الحرب أو فريقًا منهم، وكان في ذلك مصلحة للمسلمين، فلا بأس، فإن صالحهم مدة ثم رأى أن نقض الصلح أنفع، نبذ إليهم وقاتلهم، وإن بدءوا بخيانة، قاتلهم ولم ينبذ إليهم إذا كان ذلك باتفاقهم، إذا فتح الإمام بلدًا عنوة، فهو بالخيار إن شاء قسمها بين المسلمين وإن شاء أقر أهلها ووضع الجزية عليهم وهو في الأسارى بالخيار، إن شاء قتلهم وإن شاء استرقهم، وإن شاء تركهم أحرارًا ذمة للمسلمين.».٢٤
أما الذين يؤكدون أن مصر فُتحت عنوة، فهم يستندون إلى تصريحات ووقائع دقيقة، وينقل لنا ابن عبد الحكم تصريحات بعض الشهود؛ إذ قالوا: «كان تابوت لعمر بن الخطاب فيه كل عهد كان بينه وبين أحد ممن عاهده، فلم يوجد فيه لأهل مصر عهد،٢٥ وينقل إلينا أيضًا ابن عبد الحكم الحادثين التاليين: «خرج أبو سلمة بن عبد الرحمن يريد الإسكندرية في سفينة، فاحتاج إلى رجل يقذف به، فسخر رجلًا من القبط، فكلم في ذلك فقال: إنما هم بمنزلة العبيد إن احتجنا إليهم.»، أما الحادث الآخر، فهو «أن رجلًا أسلم في عهد عمر بن الخطاب، فقال: «ضعوا الجزية عن أرضي»، فقال عمر: «لا إن أرضك فُتحت عنوة.»، ويستشهدون أيضًا بعمرو نفسه، فقد أتى يومًا إلى المسجد وقال علنًا: «لقد قعدت مقعدي هذا وما لأحد من قبط مصر عليَّ عهد ولا عقد إلا أهل أنطابلس، فإن لهم عهدًا يوفى لهم به، إن شئت قتلت، وإن شئت خمست وإن شئت بعت.».٢٦
وقد رأى نهائيًّا بعض الفقهاء أنه من الأوفق أن يصرحوا أن مصر فتحت صلحًا فيما عدا قرى «سلتيس» و«مازيل» و«بلهيت»، وأيضًا مدينة الإسكندرية التي قاومت الفتح.٢٧

ويتضح من ذلك أن المسألة لم تحل إلى الآن، والذين يدعون أن مصر فُتحت صلحًا رجحوا رأيهم لأسباب حربية وسياسية واقتصادية، ولجئوا إلى الفقهاء لإثبات صحة نظريتهم.

(٢-٤) تسامح عمرو في إدارته

لم نعد في حاجة إلى الإثبات بعد الآن أن العرب ساروا في سياستهم حسب مقتضيات الحال، ولدينا مَثل آخر: أراد العرب أن يُؤمنوا حدود مصر الجنوبية في أثناء حملتهم على ليبيا، فبادروا إلى إبرام معاهدة مع أهل النوبة المسيحيين، وأطلق المؤرخون العرب على هذه المعاهدة اسم «البقط» غير أن القواد لم يروا ما يمنعهم من نقض هذه المعاهدة بحجة أنه «ليس بين أهل مصر والأساود عهد إنما كانت هدنة أمان بعضنا مع بعض نعطيهم شيئًا من قمح وعدس ويعطوننا رقيقًا»، ولما غزا عقبة بن نافع أهل طرابلس وهزمهم،سألوه ان يصالحهم ويعاهدهم، فأبى عليهم وقال: «إنه ليس لمشرك عهد عندنا، إن الله عز وجل يقول في كتابه: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ.».٢٨

أما في مصر فقد نفذ عمرو بن العاص أوامر الخليفة عمر؛ لأنها كانت تتفق ومطامعه الشخصية، فكان تسامحه على مصر في أثناء ولايته مثار دهشة المصريين وإعجابهم.

كان متسامحًا من حيث الدين أولًا، ويقول حنا النقيوسي في هذا الصدد: «لم يستول عمرو على ممتلكات الكنيسة ولم يرتكب أعمال السرقة والنهب، ولكنه كان يؤمنها ولايته.».٢٩
وقد أدرك عمرو منزلة البطريرك اليعقوبي بنيامين في نفوس الشعب، فسارع باستقطار أخباره من أفواه الناس ليعرف المكان الذي لجأ إليه البطريرك هربًا من اضطهاد قيرس، وقال عمرو في هذا الصدد: «له العهد والأمان والسلامة من الله، فليحضر آمنًا مطمئنًا ويدبر حال بيعته وسياسة طائفته».٣٠ «ولما سمع القديس بنيامين هذا، عاد إلى الإسكندرية بفرح عظيم بعد غيبة ثلاث عشرة سنة، منها عشر سنين لهرقل الرومي الكافر، وثلاث سنين قبل أن يفتح المسلمون «كذا في النص» الإسكندرية لابسًا أكليل الصبر والجهاد الذي كان الشعب الأرثوذكسي من الاضطهاد من المخالفين، فلما ظهر فرح الشعب وكل المدينة وأعلن بمجيئه، أمر الأمير «عمرو» بإحضاره بكرامة وإعزاز ومحبة، فلما رآه أكرمه وقال لأصحابه وخواصه: «إن جميع الكور التي ملكناها إلى الآن ما رأيت رجل الله يشبه هذا.»، وكان بنيامين هذا حسن المنظر جدًّا، جيد الكلام بسكون ورقاد، ثم التفت عمرو إليه وقال له: «جميع بيعتك ورجالك اضبطهم ودبر أحوالهم، وإذا أنت صليت عليَّ حتى أمضي إلى المغرب والخمس مدن٣١ وأملكها مثل مصر وأعود إليك سالمًا بسرعة، فعلت لك كل ما تطلبه مني.»، فدعا له القديس بنيامين وأورد له كلامًا حسنًا أعجبه هو والحاضرين عنده، فيه وعظ وربح كثير لمن يسمعه، وأوحى إليه بأشياء وانصرف من عنده مكرمًا مبجلًا.».

وبديهي أن يقلق عمرو من الحفاوة الرائعة التي استقبل بها الشعب رئيسه الديني، فبادر إلى استشارة البطريرك في أحسن طريقة يتمكن بها من إدارة البلاد وسؤاله عن أنسب موعد لجباية الضرائب، كما أنه طلب إليه أن يبارك حملته على طرابلس؛ ذلك لأن عمرًا كان يقصد من مساهمة البطريرك في نجاح هذه الحملة بأن يجعله مسئولًا عن الأمن في البلاد وعن إخلاص السكان للعرب، وكافأه فعلًا على هذه الخدمات؛ إذ ترك اليعاقبة يستولون على معظم كنائس الملكيين وأديرتهم.

ثم إن اهتمام عمرو باليعاقبة جعلهم يبنون الآمال الكبار على المستقبل، مما حدا بالأسقف المؤرخ ساويرس بن المقفع أن يصف شعورهم هذا بقوله: «كانت الشعوب فرحين مثل العجول الصغار إذا حل رباطهم وأُطلقوا على ألبان أمهاتهم.».

وكان ساويرس على حق في وصفه؛ ذلك لأن الأقباط لم يعاملوا بهذه المعاملة اللينة منذ أمد بعيد، أضف إلى ذلك أن العرب في أثناء ولاية عمرو لم يحاولوا أن يضغطوا على الأقباط ليعتنقوا الإسلام ولم يضطهدوهم.

ولما درس عمرو حالة البلاد قرر أنه من المستحيل عليه أن يجبي الضرائب دون معاونة النصارى، فكتب إلى الخليفة يقول له: لما كان المسلمون لا يعرفون البلاد معرفة تامة فإنهم لا يستطيعون حصر المبالغ التي يمكن جمعها من الضرائب، وأنه استخدم لهذا الغرض نصرانيًّا قديرًا ونزيهًا على أن يحل غيره محله عندما يعرف حالة البلاد جيدًا.

وفكر عمرو أيضًا في إيجاد أداة قد تكفل حسن سير العدالة وصرح بمساهمة الوطنيين النصارى فيها، فقسم البلاد إلى عدد من الدوائر وعين في كل دائرة منها قاضيًا قبطيًّا كلفه بفض الخلافات المدنية والدينية لغير المسلمين، أما إذا كان الخلاف بين قبطي ومسلم، رفع الأمر إلى مجلس مكون من قضاة الطرفين، وكانت المسائل الجنائية من اختصاص القضاة المسلمين وحدهم.

(٢-٥) الخلاف بين عمر وعمرو على جباية الضرائب

لما استشار عمرو الأقباط في مسألة الضرائب، نصحوا له ألا يقوم بجبايتها حسب التقويم القمري، ولكن حسب التقويم المصري الذي وضعه الفراعنة منذ أمد بعيد وفق الفصول والمواسم، وقد وافق عمرو على هذا الرأي، ولكن عمرًا أنكر على عامله هذا التصرف لحاجته الملحة إلى المال، وأمره بأسلوب قاطع أن يستعجل جباية الضرائب ويرسلها إلى المدينة.

ولم يحل بخاطر إنسان أن يخالف عمرو أوامر الخليفة، ولكن ذلك الذي حدث بالفعل، وتبادل التابع والمتبوع في هذا الشأن عدة خطابات امتازت باللهجة الشديدة، ثم كان عمر لا يفهم لماذا تهبط قيمة الضرائب المفروضة على مصر سنة بعد سنة، ولكن هذا ما حدث بالفعل بعد أن شُلت حركة التجارة من جراء الحروب، وبعد أن قل عدد دافعي الجزية لازدياد عدد النصارى الذين اعتنقوا الإسلام، أما أهل الذمة أنفسهم، فلم يجدوا غضاضة في الإفلات من الجباة كلما سنحت لهم الفرصة، وسنتحدث عن ذلك عند الكلام عن المالية.

لما استبطأ عمر بن الخطاب الخراج من قِبل عمرو بن العاص، كتب إليه: «بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص، سلام الله عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد؛ فإني فكرت في أمرك والذي أنت عليه، فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيعة، وقد أعطى الله أهلها عددًا وجلدًا وقوة في بر وبحر، وأنها قد عالجتها الفراعنة وعملوا فيها عملًا محكمًا مع شدة عتوهم وكفرهم، فعجبت من ذلك وأعجب مما عجبت أنها لا تُؤدي نصف ما كانت تُؤديه من الخراج قبل ذلك على غير قحوط ولا جدوب، ولقد أكثرت في مكاتبتك في الذي على أرضك من الخراج، وظننت أن ذلك سيأتينا على غير نزر ورجوت أن تفيق فترفع إليَّ ذلك، فإذا أنت تأتيني بمعاريض تعبأ بها، لا توافق الذي في نفسي، لست قابلًا منك دون الذي كانت تؤخذ به من الخراج قبل ذلك، ولست أدري مع ذلك ما الذي نفرك من كتابي وقبضك، فلئن كنت مجربًا كافئًا صحيحًا، إن البراءة النافعة، وإن كنت مضيعًا لطعًا، إن الأمر لعلى غير ما تحدث به نفسك، وقد تركت أن أبتلى ذلك منك في العام الماضي رجاء أن تفيق فترفع إليَّ ذلك، وقد علمت أنه لم يمنعك من ذلك إلا عمالك، عمال السوء، وما توالس عليه وتلفف اتخذوك كهفًا، وعندي بإذن الله دواء فيه شفاء عما أسألك فيه، فلا تجزع أبا عبد الله أن يؤخذ منك الحق وتعطاه، فإن النهر يُخرج الدرُّ والحق أبلج ودعني وما عنه تلجلج فإنه قد برح الخفاء، والسلام.»

فكتب إليه عمرو بن العاص: «بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عمر أمير المؤمنين، من عمرو بن العاص، سلام الله عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد؛ فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين في الذي استبطأني فيه من الخراج، والذي ذكر فيه من عمل الفراعنة قبلي وإعجابه من خراجها على أيديهم ونقص ذلك منها مذ كان الإسلام، ولعمري للخراج يومئذ أوفر وأكثر والأرض أعمر؛ لأنهم كانوا على كفرهم وعتوهم أرغب في عمارة أرضهم منا منذ كان الإسلام، وذكرت أن النهر يُخرج الدر فحلبتها حلبًا قطع درها، وأكثرت في كتابك وأنبت وعرضت وتربت وعلمت أن ذلك عن شيء تخفيه على غير خبر، فجئت لعمري بالمفظعات المقدعات، ولقد كان لك فيه من الصواب من القول رصين صارم بليغ صادق، وقد عملنا لرسول الله ولمن بعده، فكنا نحمد الله مؤدين لأمانتنا حافظين لما عظم الله من حق أئمتنا نرى غير ذلك قبيحًا والعمل به شيئًا فتعرف ذلك لنا ونصدق فيه قلبنا معاذ الله من تلك الطعم ومن شر الشيم والاجتراء على كل مأثم، فأمضي عملك، فإن الله قد نزهني عن تلك الطعم الدنيئة والرغبة فيها بعد كتابك الذي لم تستبق فيه عرضًا ولم تكرم فيه أخًا، والله يا بن الخطاب؛ لأنا حين يُراد ذلك مني أشد غضبًا لنفسي ولها إنزالها وإكرامًا، وما عملت من عمل أرى عليه فيه متعلقًا، ولكني حفظت ما لم تحفظ، ولو كنت من يهود يثرب ما زدت يغفر الله لك ولنا، وسكت عن أشياء كنت بها عالمًا، وكان اللسان بها مني ذلولًا، ولكن الله عظم من حقك ما لا يجهل.»

ولما أراد عمرو أن يرد مرة أخرى على عمر، لم يستطع الخليفة أن يكتم غضبه واتهمه صراحة بأنه لا بد أن اختلس مبالغ كبيرة من المال،٣٢ ولم يلبث أن بعث إليه محمدًا بن مسلمة الأنصاري ليتسلم منه نصف المستحق له.٣٣
وليس بمستغرب أن يغترف عمرو المال، وهو العربي البدوي الذي وجد نفسه بين عشية وضحاها أمام ثروة كبيرة، ثم إن المؤرخين العرب لم يفندوا هذه التهمة، التي وجهت إليه بل نقل إلينا بعضهم أن الخليفة استجوب أحد أقباط مصر عن خراجها قبل الإسلام، فقال القبطي: «يا أمير المؤمنين، كان لا يؤخذ منها شيء إلا بعد عمارتها وعاملك لا ينظر إلى العمارة إنما يأخذ ما ظهر له كأنه لا يريد إلا لعام واحد».٣٤
وإذا تركنا هذه التهمة جانبًا، ألقينا عمرًا يريد المحافظة على ثروة البلاد والحيلولة بين الشعب وطمع الحكام، ويجمل بنا أن نورد الرد المفعم الذي أجاب به عمرو على الخليفة عثمان، فقد حدد عمرو الضرائب باثني عشر مليونًا من الدينارات، بينما رفعها عبد الله بن سعد إلى أربعة عشر مليونًا، فقال عثمان لعمرو: «يا أبا عبد الله، درت اللقحة بأكثر من درها الأول.»، قال عمرو: «أضررتم بولدها».٣٥
وإلى جانب إهماله مسألة الجزية، فإن عمرًا لم يهتم بتعليمات عمر الخاصة بمظهر الذميين على الرغم من إلحاح بعض الأشخاص لوضع هذه التعليمات موضع التنفيذ، نعم إن عمرًا أصدر أوامر تقضي بعدم إظهار الصلبان «ولكن بطل العمل بهذا الأمر، وقد عاد النصارى إلى عمل الصلبان في أفراحهم ومآتمهم، أما في حمص ودمشق، فلم يصرح لهم أبدًا بذلك منذ أن نصت شروط عمر على هذا الحرمان»،٣٦ وأخيرًا، صرح عمرو للأقباط بالإقامة في مدينة الفسطاط.

لقد أوجد هذا التسامح سوابق خطيرة بالنسبة للعرب، غير أن الأقباط استفادوا كثيرًا منه، ويرجع الفضل، دون شك، إلى موقف عمرو الذي كان يبغي من وراء ذلك أن يصبح حاكم مصر المطلق، وأخيرًا أراد أن يجعل الإسكندرية حاضرته بحجة أن المساكن التي تركها اليونانيون تصلح لإيواء جيش الاحتلال، ولما رفض عمر أن يصرح له بالإقامة حيث كان يريد، صدع عمرو للأمر وعاد إلى الفسطاط.

ولما تولى علي بن أبي طالب الخلافة وانقسم العالم الإسلامي إلى معسكرين متخاصمين، حكم عمرو مصر باسم معاوية، إلا أنه اشترط عليه، إزاء هذه الخدمة العظيمة، أن يتعهد له بتركه واليًا على مصر طوال حياته، ومن الواضح أن عمرًا كان يتحين الفرص ليعلن استقلاله، وينادي بنفسه أول خليفة على مصر بعد أن يفصلها تمامًا عن بقية الإمبراطورية، العربية.

(٣) الولاة يتبعون سياسة أساسها المنفعة

لم يحاول خلفاء عمرو أن ينهضوا بالبلاد، فقد اقتصر عملهم على المحافظة على الأمن وإرسال الجزية للخلفاء الأمويين ثم إلى الخلفاء العباسيين، ولما كانت مدة ولايتهم على وجه العموم قصيرة، فقد أرادوا أن يحققوا بعض المكاسب الشخصية.

وكيف يتبعون سياسة أخرى ولم يترك لهم الخلفاء الوقت الكافي لوضع برنامج إيجابي! وإذا قاموا بأي عمل لمصلحة البلاد، كانوا يثيرون شكوك السلطة المركزية وقلقها، وما حركة التنقلات التي كانت تشملهم إلا الدليل البين على عدم اهتمام الخليفة بما قد يقوم عملاؤه به من مجهود في مصلحة هذه الولاية.

(٣-١) المال أساس العلاقات بين المنتصر والمهزوم

وصف عبد الله بن صالح مصر بجملة في غاية الإبداع، قال: «من أراد أن يذكر الفردوس أو ينظر إلى مثلها في الدنيا، فلينظر إلى أرض مصر حين يخضر زرعها وتنور ثمارها».٣٧

ولا نكون مبالغين إذا قلنا إن صيحة الإعجاب هذه قد رددها كل أعرابي وطئت قدماه وادي النيل، وكان من الطبيعي أيضًا أن يعمل رجل الصحراء، الذي خرج منتصرًا من حرب شنها على إمبراطوريتين، على الاستفادة من انتصاراته، وأصدق دليل على ذلك هو إلحاح الجيوش المنتصرة في سبيل توزيع الأراضي الواسعة أمثال العراق وسوريا ومصر.

ولما حاقت المجاعة بالمدينة المنورة، طلب عمر أن يستعجل إرسال القمح اللازم للسكان وصاح بهذه المناسبة: «أخرب الله مصر في عمران المدينة وصلاحها».٣٨ وقال هذا الخليفة أيضًا عندما تكلم عن المهزومين: «يأكلهم المسلمون ما دموا أحياء، فإذا هلكنا وهلكوا، أكل أبناؤنا وأبناؤهم ما بقوا».٣٩ وهذه التصريحات تفضح جليًّا عن نيات الفاتح.

(٣-٢) الضرائب الأولى التي فُرضت على الأقباط

لما اجتمع مندوبو الفريقين حول قلعة بابليون ليحددوا شروط التسليم، كان أكثر اهتمام العرب منصبًّا على قيمة الجزية التي ستفرض على المغلوب.

ولما كان العرب في حالة لا تسمح لهم بابتكار أي نظام للضرائب، فقد نقلوا النظم المتبعة عند البيزنطيين، إلا أن الأهليين استفادوا من خفض محسوس في الضرائب، ثم إن نظام الضرائب أُعيد إلى أبسط قواعده في بادئ الأمر، ويقول المستشرق «فان برشيم» Van Berchem: «إن دافعي الضرائب كانوا يدفعون ضريبتين رئيسيتين: الجزية، وهي ضريبة مرتفعة جدًّا تُدفع نقدًا، و«الضريبة» وهي حصيلة عينية تُجبى من الحنطة، وكان يقابل هذا الدخل في ميزانية الدولة مصروفان متميزان: فكانت تُدفع رواتب الجند من الجزية، وكان ما يُجمع من الحنطة يُوزع على الجند وأسرهم.»، وتقدم على سبيل المثال رقمين يوضحان العلاقة بين هاتين الضريبتين: «شهر صفر سنة ٩١ «٧٠٩م»، من قرة بن شريك إلى أهالي شبرا بسيرو في مديرية إيشكو، أن الحصة التي يجب أن تدفعوها نقدًا لتسددوا جزية عام ٨٨ هي ١٠٤ دينارات وثلثا الدينار، بينما حددت ضريبة الغذاء بأحد عشر أردبًّا وثلث من القمح٤٠ ومن الطبيعي أن الضرائب العينية لم تقتصر فقط على القمح والدقيق، بل تعدتها إلى الخضراوات والقمصان وغيرها من الأشياء.٤١

إلا أن هذا المبدأ الخاص بطريقة توزيع وجباية الضرائب لم يستمر مع الأسف إلا فترة قصيرة جدًّا مما سبب التباين فيما نقله المؤرخون العرب، هذا التباين الذي يرجع جزئيًّا إلى تعارض التدابير التي فرضتها الإدارة، فالنصوص العربية تفرق بين الجزية والخراج مع أن هاتين الكلمتين تنطبقان على نوع واحد من الضرائب، ومن حسن الحظ أن نصوص المؤرخين العرب المبهمة قد عوضها اكتشاف ورق البردي، الذي يرجع تاريخه إلى القرون الأولى للهجرة.

ومن ناحية أخرى، بينما يدعي هؤلاء المؤرخون أن ضريبة قدرها ديناران فُرضت على أهل الذمة جميعًا فيما خلا الشيوخ والنساء والأطفال والمتوسلين والمشوهين، اتضح لنا أن هذا الرقم ما هو إلا متوسط ما يؤديه كل دافع ضريبة ليس إلا.

وكانت الجزية والضريبة حصيلتين تؤديهما الجماعة كلها وتحددهما السلطة المركزية لكل قرية، ثم توزع على دافعي الضرائب على أن تحصلها من كل فرد حسب ثروته، وأن قوائم الضرائب المكتوبة باللغة اليونانية والتي يرجع تاريخها إلى القرن الأول للهجرة تدل على أنه كانت تحصل مبالغ أقل من دينارين، «وكان مبلغ الدينار الواحد»، وهو الحد الأدنى الذي أشار إليه الفقه للشخص الواحد، قد هبط إلى أقل من ذلك في غالب الأحيان في القرون التالية، كما يتبين ذلك من الإيصالات التي صدرت وقتئذٍ،٤٢ وعلى العموم، فإنه في الوقت الذي فُرضت فيه هذه الضريبة، كان يحصل اثنا عشر درهمًا من الطبقة الوسطى وأربعة وعشرون درهمًا أو ديناران من الطبقة العليا وأربعة دنانير من ذوي الثراء.
أما ضريبة العقار المعروفة بالخراج، فلم ينص عليها أي اتفاق بين الطرفين، وكان كل ما يهم العرب هو جباية ضريبة توازي دينارين عن كل ذمي، وكانت تُدفع نقدًا أو عينًا، ويلاحظ أنه فيما عدا الإسكندرية وبابليون وبعض المدن الأخرى «كان لا بد من تحويل الجزية إلى ضريبة عقارية، ثم إن قيمة الضريبة التي حُددت بعد تعداد السكان كان يجب أن توزع على القرى حسب الأراضي المغمورة بالمياه لا حسب السكان، الذين يدفعون الضريبة».٤٣

(٣-٣) تدهور الحالة الاقتصادية والضرائب التي نتجت عنها

لم تمضِ سنوات معدودات على انتشار الإسلام، حتى شعر العرب بأن الضرائب التي أمر بها القرآن لا تكفي حاجات إمبراطوريتهم العظيمة، فقد تفاقمت الحالة المالية في مصر لعدة أسباب ذكر بعضها المؤرخ «هايد» Heyd؛ إذ قال: «لا ينكر أحد أن النشاط التجاري في بداية الإسلام تعرض لعدة طارئة؛ إذ إن الجهاد استنفد قوى المسلمين كلها وتوقفت من جراء ذلك حركة نقل البضائع، كما توقفت حركة التجارة الخارجية».٤٤ فقد أدت هذه الحالة الخطيرة إلى نتائج وخيمة في ميناء الإسكندرية مثلًا حيث شُلت الحركة ويأس سكانها، الذين كانوا يعيشون من التجارة مع الخارج، زد على ذلك عدم اهتمام السلطات برفاهية مصر وازدهارها، فكانت تكلف الشعب بالسهر على سلامة السدود والترع بدلًا من أن توليها عنايتها، فأُهملت إهمالًا خطيرًا ولم يستفد الشعب إلا قليلًا من فيضان النيل، ولم يتردد المقريزي في تعليقه على هذا الأمر بالتصريح بأن سبب نقص الخراج كان ناتجًا عن تزايد الخراب والتلف عامًا بعد عام.

ولما ساء المحصول الزراعي، رفض دافعوا الضرائب أن يسددوا المفروض عليهم كله، وحاولوا بطبيعة الحال أن يتحايلوا على الخزينة، وقد نعم المصريون من هذه الناحية بمزية لم يكونوا يتوقعونها، فبينما كان الحكام البيزنطيون يلجئون عادة إلى الضرب لحمل الشعب على دفع الضرائب، أعلن الإسلام بأنه إذا كان شخص في حالة لا تسمح له بدفع الجزية، فلا يجوز للحاكم أن يُكرهه على ذلك بالعقاب البدني؛ أي: باستعمال العصا، أو بتعريضه لأشعة الشمس الملتهبة، أو رش جسمه بالزيت المغلي، وإنما الوسيلة الوحيدة المصرح بها هي السجن لعدم دفع الديون.

وقال أبو سيف صراحة في هذا الصدد: «ولا يضرب أحد من أهل الذمة في استيدائهم الجزية ولا يقامون في الشمس ولا غيرها، ولا يجعل عليهم في أبدانهم شيء من المكاره، ولكن يُرفق بهم ويُحبسون حتى يؤدوا ما عليهم ولا يخرجون من الحبس حتى تستوفى منهم الجزية».٤٥
وكان الأقباط يفضلون الحبس على دفع الضرائب كما كان بعضهم يلتجئ إلى الأديرة؛ حيث كانت الرهبنة تعفيهم من الجزية مدى الحياة، ويقول المؤرخ «رينودو»: «إن عدد الرهبان ازداد إلى درجة جعلتهم يقيمون كل يوم صوامع جديدة».٤٦ وقد اكتفى بعضهم بتغيير محال إقامتهم بعد أن انتهت السلطات من تعداد السكان وأقاموا في نواحٍ أخرى لم تُدرج أسماؤهم في قوائم الضرائب، هذا عدا الأقباط الذين كانوا يعتنقون الإسلام هربًا من دفع الجزية، وكان عددهم يزداد سنة بعد أخرى.
صرح مؤرخو العرب أن مجموع الضرائب الذي بلغ في الماضي عشرين مليون دينار، هبط في عهد عمر بن الخطاب إلى اثني عشر مليونًا، ثم ارتفع إلى أربعة عشر مليونًا إبان ولاية عبد الله بن سعد،٤٧ وما لبث أن هبط بسرعة بعد ذلك، ففي خلافتي الأمويين والعباسيين، لم تصل قيمة الضرائب المجموعة على الثلاثة ملايين.٤٨

وبينما كان الدخل ينقص أخذت المصروفات تزداد، فكانت الرغبة في القيام بفتوحات جديدة وضرورة تأمين سلامة الإمبراطورية تقتضيان الاحتفاظ بجيوش وفيرة وكاملة العتاد، كما اقتضت المحافظة على الأمن الداخلي إنشاء قوة بوليسية منذ الساعة الأولى.

وكانت المسائل المالية شغل الخلفاء الشاغل، فقد حاولوا أول الأمر أن يضغطوا الميزانية، ولما كان الجيش يستنفد الجزء الأكبر من الدخل، حاولوا تخفيض أجور الجند، إلا أنهم باءوا بالفشل الذريع أربع مرات متتالية في القرن الأول للهجرة، ولم يكن أمامهم بعد ذلك سوى البحث عن حلول أخرى لا تعرضهم للخطر، فلجئوا إلى زيادة الضرائب على المدنيين.٤٩

(٣-٤) الإجراءات في سبيل زيادة الدخل

احتفظ الأقباط بذكريات حسنة عن حكم عمرو بن العاص لهم، رغم أنه لم يتردد في اتخاذ إجراءات مخالفة للقانون في سبيل مضاعفة الإيراد، ويقول ابن عبد الحكم في ذلك: «إن عمرو بن العاص لما فتح مصر قال لقبط مصر: إن من كتمني كنزًا عنده فقدرت عليه قتلته»، وأن نبطيًّا من أهل الصعيد يقال له: بطرس «ذُكر لعمرو أن عنده كنزًا، فأرسل إليه، فسأله، فأنكر وجحد فحبسه في السجن وعمرو يسأل عنه: «هل تسمعونه يسأل عن أحد» فقالوا: «إنما سمعناه يسأل عن راهب في الطور»، فأرسل عمرو إلى بطرس، فانتزع خاتمه من يده، ثم كتب إلى ذلك الراهب أن ابعث إليَّ بما عندك وختمه بخاتمه، فجاء رسوله بقلة شأمية مختومة بالرصاص، ففتحها عمرو، فوجد فيها صحيفة مكتوبة فيها: «مالكم تحت الفسقية الكبيرة» فأرسل عمرو إلى الفسقية، فحُبس عنها الماء ثم قُلع البلاط الذي تحتها، فوجد فيها اثنين وخمسين أردبًّا ذهبًا مضروبة، فضرب عمرو رأسه عند باب المسجد، فذكر ابن رقية أن القبط أخرجوا كنوزهم شفقًا أن يبقى على أحد منهم فيقتل كما قتل بطرس.».

ونعلم من جهة أخرى أن بعض الأقباط القاطنين في الإسكندرية أو في الأراضي المجاورة لها ساعدوا البيزنطيين الذين نزلوا بمراكبهم إلى الساحل عام ٢٣ أو ٢٥ من الهجرة، ولم يستغرب المؤرخون العرب إطلاقًا لهذه المساعدة ويعللونها بالحادث الآتي: «كان سبب نقض الإسكندرية هذا أن صاحب إخنا قدِم على عمرو بن العاص فقال: «أخبرنا ما على أحدنا من الجزية فيصير لها»، فقال عمرو وهو يشير إلى ركن كنيسة: «لو أعطيتني من الركن إلى السقف ما أخبرتك، إنما أنتم خزانة لنا، إن كثر علينا كثرنا عليكم، إن خفف عنا خففنا عنكم»، فغضب صاحب إخنا فخرج إلى الروم».٥٠

لم يفه الخلفاء بتصريحات حاسمة كالتي فاه بها عمرو، ولكنهم حرصوا على أن تكون للقوانين تفسيرات مطاطة تطاوع حاجتهم إلى المال، نعم لم يريدوا أن يتخطوا حدود القوانين، ولكنهم ذُهلوا لنقص دخلهم بهذه السرعة، ولما كانوا غير مستعدين في أي وقت من الأوقات لوقف سيل فتوحاتهم أو الحد من ترف معيشتهم، فقد أُرغموا على اتخاذ إجراءات مالية انتهت بإثارة موجة من السخط بين أفراد الشعب النصارى والمسلمين على السواء.

وإليك بعض الأمثلة، كان يوجد في مصر في العصر البيزنطي؛ أي: قبل أن يفرض المسلمون الجزية على البلاد، مساحات كبيرة من الأراضي الصالحة للزراعة قد هجرها أصحابها من الأقباط الذين رفضوا أن يسددوا الضرائب المفروضة عليها، ولما جاء العرب، ترك السكان أراضي أخرى صالحة للزراعة للسبب نفسه، فأصبحت السلطة لا تجني أية فائدة منها.

وقد عرض الوالي الوليد بن رفاعة في سنة ١٠٩ﻫ «٧٢٧م» على الخليفة هشام بن عبد الملك هذه الحالة المحزنة التي آلت إليها بعض الأراضي في مصر، والتمس منه أن يصرح بهجرة بعض القبائل العربية إلى مصر لتسد الفراغ الذي يشكو منه، وقد صرح الوالي أن استقرار العرب في هذه الأراضي لن يلغي خراجها «وهو ضريبة الخمس» ليفرض مكانه العشورية «وهي ضريبة العشر» وعلى كل، فإن هذه الهجرة قد تؤدي إلى ازدهار البلاد؛ إذ إن الأراضي المذكورة لم تسدد الخراج ولا العشورية.

وصرح هشام بن عبد الملك، عملًا بمشورة الوليد بن رفاعة، لثلاثة آلاف فرد من قبيلة قيس بالنزوح إلى مصر والإقامة فيها، وقد اشترط عليهم شرطًا واحدًا، وهو ألا يقيموا في الفسطاط وأن يستقروا في الحوف الشرقي، وسرعان ما اغتنى من أقام منهم في مدينة بلبيس لقيامهم بنقل البضائع الصادرة إلى بلاد العرب، وسرعان ما أخبروا سائر أفراد قبيلتهم بثرواتهم، فخف إلى مصر خمسمائة آخرون، فقدمت أفواج أخرى طلبًا لثراء ونزلت في الأراضي التي هجرها سكان البلاد الأصليون.

على أنه يجدر بنا أن نذكر أن هؤلاء العرب لم يحضروا إلى مصر لأغراض اقتصادية بحتة؛ إذ إن الوالي الوليد بن رفاعة لم يقدم اقتراحه إلى الخليفة إلا بعد ثورة الأهالي الأولى في الحوف الشرقي، وأن أول فوج من المهاجرين قطن في مدينة بلبيس؛ أي: في المكان الذي نشبت فيه الثورة.

وقد تمكن هؤلاء العرب من التوغل تدريجيًّا في البلاد كلها، وأصبحنا نراهم في الوجه البحري والوجه القبلي ومصر الوسطى، وقد تزوجوا من نساء قبطيات اعتنقن الإسلام، لم يعد أحد يستطيع أن يفرق بينهم وبين سكان البلاد الأصليين الذين اعتنقوا الإسلام، وقد حصل السواد الأكبر منهم على أراضٍ مما أدى إلى ظهور مشكلة البحث من نوع الضريبة التي يجب أن يؤديها هؤلاء المُلاك الجدد، وتَدَخُّل المُشرِّع لمصلحة السلطة، فأفتى بأن تستمر الأراضي الخاضعة للخراج في تأدية هذه الضريبة عنها حتى لو نُقلت ملكيتها إلى مالك مسلم، وحجة المشرع أن أراضي البلاد المحتلة ملك المسلمين جميعهم، وأنه ليس بالإمكان تضحية المصلحة العامة في سبيل المصلحة الخاصة.٥١

يتضح من هذه الفتوى أن السلطة استغلت لمصلحتها هذا الخطأ في ذلك العصر؛ إذ إنها تجاهلت عدم وجود أي فارق بين الجزية التي كانت تُجبى نقدًا وبين الخراج، الذي كان يجمع عينًا، وهاتان الضريبتان كانتا مفروضتين، على أي حال، على أهل الذمة دون سواهم.

وإن اضطرت السلطات إلى إعفاء سكان المدن الذين يعتنقون الإسلام، فإنها استمرت في جباية الخراج من الملاك الزراعيين جميعًا على الرغم من أن الخارج ليس إلا جزية مفروضة على الأراضي الزراعية واشتراك أهل القرية في دفعها، ولما رأى سكان الأقاليم أن ليس أمامهم أية فائدة مادية من دخولهم في الإسلام، تلكأوا في اعتناق الدين الجديد بخلاف الحال مع سكان المدن، ويقول المستشرق «دي ساسي»: «لعل ذلك أحد الأسباب التي دعت إلى بقاء المسيحية في الأقاليم مدة أطول منها في الأقاليم».٥٢
وعندما اتضح أن هذا الإجراء لا يكفي لسد عجز الميزانية، فكرت السلطات في زيادة نسبة الجزية، ويقول لنا المقريزي: «كتب معاوية بن أبي سفيان إلى وردان وكان قد تولى خراج مصر، أن زد على كل رجل من القبط قيراطًا، فكتب إليه وردان كيف نزيد عليهم وفي عهدهم ألا يُزاد عليهم شيء، فعزله معاوية».٥٣
وحاول أبو يوسف بعد ذلك أن يبرر رفع الجزية والخراج، فقال: «إن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رأى أن الأرض في ذلك الوقت محتملة لما وضع عليها، ولم يقل حين وضع عليها ما وضع من الخراج أن هذا الخراج لازم لأهل الخراج وحتم عليهم، ولا يجوز لي ولمن بعدي من الخلفاء أن ينقص منه، ولا يزيد فيه».٥٤
وقد فكرت السلطة أن تحمل الأحياء على دفع الجزية عن الأموات، ويقص ابن الحكيم علينا: «كتب حيان إلى عمر بن عبد العزيز يسأله أن يجعل جزية موتى القبط على أحيائهم، فسأل عمر عراك بن مالك، فقال عراك: «ما سمعت لهم بعهد ولا عقد وإنما أخذوا عنوة بمنزلة العبيد»، فكتب عمر إلى حيان بن شريح أن يجعل جزية موتى القبط على أحيائهم».٥٥ ويدل هذا الإجراء — حسب ما يقول المقريزي — على «أن عمر كان يرى أن أرض مصر فُتحت عنوة، وأن الجزية إنما هي على القرى، فمن مات من أهل القرى، كانت تلك الجزية ثابتة عليهم، وأن من مات منهم لا يضع عنهم من الجزية شيئًا».٥٦
إلا أن عمر بن عبد العزيز رفض أن يعمل بمشورة ولاته الذين نصحوه، أمام زيادة عدد الذين يعتنقون الإسلام فيمتنعون عن دفع الجزية، بأن يأمر بجباية الجزية من هذه الطبقة من المسلمين، فأجاب الخليفة: «إن الله إنما بعث محمدًا هاديًا، ولم يبعثه جابيًا، ولعمري لعمر أشقى من أن يدخل الناس كلهم الإسلام على يديه».٥٧
ثم إن جميع الطبقات التي كانت قد أُعفيت من دفع الجزية منذ الفتح فقدت مع مرور الزمن هذا الامتياز الممنوح لها، وقد فقد الرهبان على الأخص جميع الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها، مما أدى إلى ازدياد عدد معتنقي الإسلام ونقص عدد الرهبان، فهجرت الأديرة شيئًا فشيئًا وأصبحت خرابًا.٥٨

وقد كان عبد العزيز بن مروان أول من فرض على الرهبان جزية قدرها دينار في عام ٦٥ﻫ (٦٨٥م)، وبرر هذا الإجراء بأنه ليس من العدل أن تدفع الطبقات الفقيرة الضرائب ويُعفى عنها الرهبان والمطارنة والبطاركة، الذين يملكون ثروات عظيمة، ولما صار عبد الله بن عبد الملك واليًا على مصر في سنة ٦٨ﻫ (٦٨٦م)، اعتقد الأقباط أن السلطة ألغت الأمر الآنف الذكر، ولكن الوالي خيَّب آمالهم، فحمل عليه المؤرخون النصارى وأظهروا كراهيتهم له.

ومع ذلك كانت إيرادات الدولة في نقصان مخيف بالرغم من زيادة الضرائب، فقرر عبيد الله بن الأحدث، بعد مضي ثمانين سنة على الفتح العربي، أن يقوم بمسح الأراضي مسحًا دقيقًا بما في ذلك الأراضي البور، وقد نفذ قراره هذا في عام ١٠٦ أو ١٠٧ﻫ (٧٢٤ أو ٧٢٥م) وجلب إلى الخزينة أربعة ملايين دينار على الرغم من هبوط سعر الحنطة.

واتضح بعد ذلك أن المَسَّاحين لم يكونوا على جانب كبير من الدقة في عملهم؛ إذ وضعوا نصب أعينهم تخليص الدولة من المأزق المالي الحرج، الذي وقعت فيه على حساب الشعب، ونستخلص ذلك من قراءة إحدى أوراق البردي المعروفة اليوم باسم أوراق «رينييه»، أن أحد المسَّاحين قدر عقارًا بمائتي فدان، غير أن صاحبات العقار عارضن في هذا الرقم، وقلن إنهن مسحن الأرض كلها بما يقتضيه ضميرهن، فبلغت مساحتها ٩٣١ فدانًا من الأراضي الزراعية، وبعد فحص الأوراق والمستندات المتعلقة بهذه الأرض فحصًا دقيقًا، وصلت السلطة إلى تقدير مساحته ﺑ ٨٤١ فدانًا فقط، وعلق الأستاذ «جروهمان» على هذا الحادث قائلًا: «إذ وردت مثل هذه الأخطاء في الحجج الخاصة بالأبعديات الكبيرة، فما بالك بالقضايا التي كان يتعرض لها صغار الفلاحين الذين يفتقرون إلى وسائل الدفاع الناجحة».

وفي سنة ١٨٦ﻫ «٨٠٢م»؛ أي: في عهد الخليفة هارون الرشيد، قام الليث بن الفضل الوالي على مصر بمسح أراضي الحوف الشرقي، وقد استعمل المساحون قياس أقصر من القصبة، مما أثار شكوى السكان، ولكن الكندي يقول: إن الوالي رفض أن يستمع إلى شكواهم.٥٩
ثم لجأ الوالي إلى إجراء كان البيزنطيون قد فرضوه، منذ أواخر القرن الثالث الميلادي، وهو نظام العمل الإجباري للمصلحة العامة “Liturgie” وهذا دليل آخر لحيرة السلطة إزاء الحالة المالية، ويقول «جروهمان» اعتمادًا على أوراق البردي: «كانت السلطة تطبق مبدأ تكليف الشعب القيام بالأعمال العامة لصيانة الأسطول البحري خاصة، فكان الجزء الأكبر من هذا الأسطول يعتمد على موارد مصر، وكان أيضًا يسلح في الديار المصرية، ولم يكن تسخير الأيدي العاملة المصرية موقوفًا على صيانة الأسطول وتموينه فحسب، بل كان يتعداه إلى أصحاب الحرف والصناع، الذين قاموا أيضًا ببناء قصر للخليفة ببابليون وبأعمال أخرى خارج القطر،٦٠ كما كان الجند والموظفون المرسلون من قبل الولايات يتسلمون أجورهم من خزينة بلادهم الأصلية.»٦١
وفي سنة ٢٥٦ﻫ «٨٦٩م»، وصل مصر قائم جديد على شئون بيت المال، ألا وهو أحمد بن المدبر، وقد انتقده المؤرخون المسيحيون والمسلمون لصرامته مر الانتقاد، ولكن السياسة التي سار عليها ابن المدبر، كان لا بد منها في تلك الظروف، ويقول ساويرس بن المقفع في شأنه: «كان رجلًا شديدًا، صعبًا في أفعاله مخوفًا عند كل أحد، لا يغلب، ففعل أفعالًا لم يفعلها أحد قبله، وكان قد أقام بفلسطين مدة كبيرة وأذاق أهل تلك البلاد صعوبة وبلايا، فلما سمع أبونا البطرق بوصوله مصر، حزن، وعند وصوله إلى مصر، وضع يده على المسلمين والنصارى واليهود وأضعف عليهم الخراج، فقوم لكل دينار دينارًا وقوم للدينار ثلاثة حتى ملأ الحبوس في كل الأماكن، وأنفذ إلى الديارات في كل موضع وأحصى الرهبان: التي فيها وطالبهم بالجزية والخراج …».٦٢

وخصص أحمد بن المدبر ديوانًا للمراعي بعد أن كانت معفاة إلى تاريخه من الضرائب، ومنع أيضًا حرية التجارة بها وفرض عليها ضريبة أسماها «المراعي».

وهذه الضريبة التي ذُكرت مرارًا في القوائم المدونة على أوراق البردي كانت تُفرض على الأرجح على رءوس الأغنام، كما فُرضت فوق ذلك ضريبة على المروج أشارت إليها أوراق البردي دون أن تحدد طبيعتها؛ أما ضريبة الصيد، فهي ترجع أيضًا إلى عهد ابن المدبر.

وقد ذكرت هذه الضرائب كلها باسم «الضرائب الهلالية»؛ لأنها كانت تُجبى على حساب الشهر القمري، بعكس الخراج الذي كان يُجبى على حساب السنة الشمسية، يضاف إلى هذه الضرائب ضريبة أخرى معروفة باسم «الصدقة» وقد أصبحت في هذا العهد حسنة قانونية إجبارية على شكل ضريبة يدفعها المسلمون غير المسيحيين على السواء، ورد ذلك في أوراق البردي.

وقد تطورت الرسوم المفروضة على بعض الخضراوات المزروعة وأصبحت ضريبة قائمة بذاتها، وفرضت السلطات بعد ذلك ضريبة على أشجار النخيل والكروم، وإلى جانب ذلك، قام السكان بدفع الجزء الأكبر من المصاريف الخاصة بتحسين الأراضي الزراعية، وكان الصناع هم أيضًا يسهمون في هذا العمل، وعلى كل حال، فإن الضرائب شملت الصناعات على اختلاف أنواعها، غير أننا لم نعرف إلى أي حد رفعها ابن المدبر، وكل ما وصل إلى علمنا، أنه أعاد نظام الاحتكار وقرر رسومًا على الإيصالات ولوازم المكاتب «ثمن الصحف» وغيرها.٦٣

ويعتبر ابن المدبر آخر من حكم في مصر لحساب حكومة بغداد، فقد تولى من بعده ابن طولون، الذي بادر إلى إلغاء الرسوم والضرائب الجديدة، التي فرضها ابن المدبر، وكان لها أسوأ أثر في البلاد.

تلك هي الإجراءات الثابتة التي اتخذها الولاة بالاتفاق مع الخلفاء لزيادة دخل بيت المال، نضيف إليها المظالم، التي وقع الأقباط تحت طائلتها، وفي بعض الأحيان المسلمون، وذلك إثباتًا لشهوة الولاة الذين حكموا مصر لمدد قصيرة فأرادوا ألا يغادروها دون أن يغتنموا، مهما كان الثمن، ويقول المستشرق «مارسيل» في هذا الصدد: «ولما كان الوالي على يقين من أنه سيقال من منصبه ليحل والٍ آخر محله، فقد كان يعتني بما يجلب الفائدة إليه دون البلاد، وكان همه الوحيد أن يثري إبان ولايته القصيرة المدى وبأية وسيلة، حتى يعوض الخسارة التي تنتج عن إقالته، لذلك كان كل والٍ يزيد الضرائب التي يفرضها سلفه.».٦٤

(٣-٥) جشع أم تعصب؟

نعتقد شخصيًّا أن العامل الديني لم يكن إلا وسيلة تذرع بها الولاة لينالوا الثروة، ولا شك أن العقيدة الدينية، أو بعض الأسباب الأخرى، حملت بعض الولاة على سلوك مسلك آخر، ولكن لا يجوز أن نستند إلى سياسة الولاة وإجراءاتهم في مصر، لنقرر إذا كانوا يعملون بدافع التسامح أو بدافع التعصب.

وعندما نتكلم عن الحالات الشاذة، نقصد خاصة عبد العزيز بن مروان الذي ولي شئون مصر عشرين سنة متتالية، وعلى الرغم من أن المؤرخين النصارى لم يغتفروا له الضريبة التي فرضها على الرهبان، فإنه كان حاكمًا عادلًا طيبًا، ويقول أحد الأساقفة الأقباط: إن عبد العزيز كان يدعو إليه من وقت إلى آخر يوحنا رئيس الأساقفة لما بينهما من أواصر المودة والمحبة، وكان الوالي يبالغ في تكريم البطريرك إسحق ويحميه من الوشاة الحاقدين،٦٥ ويعزى هذا التسامح إلى أن الذي قام بتربية عبد العزيز هو أحد النصارى اسمه «أنستاس» أو «بار جومي»، ويقول ميخائيل السوري عنه: «إنه ذكي وكثير الاطلاع.»٦٦ وأكبر الظن أن هذه النشأة كان لها أثرها في عطفه على الأقباط.
وبالعكس يصور الرواة النصارى أخاه عبد الله في أبشع الصور؛ إذ لم يكتفِ هذا الوالي بإقرار ضريبة الدينار على رجال الدين، بل سجن أيضًا البطريرك اليعقربي ليرغمه على إعطائه جزءًا من ثروته، ويحدثنا عنه ساويرس قائلًا: «لما وصل عبد الله بن عبد الملك إلى كورة مصر، فعل أيضًا أفعال سوء، وكان جميع الأراخنة خائفين لفعله الذي حسنه له الشيطان … وفي تلك الأيام، خرج الطوباني الإكسندروسي وسار إلى مصر ليسلم عليه كالعادة من البطاركة والولاة، فلما نظر إليه قال: «من هو هذا؟» قالوا له: «هذا أب وبطرك جميع النصارى»، فأخذه وسلمه لواحد من حُجابه وقال له: «أفعل به ما تريد من الهوان إلى أن يقوم بثلاثة آلاف دينار»، فأخذه وأقام عنده ثلاثة أيام فلما نظر ذلك جرجه الشماس النمراوي، أنه ما يفرج عن البطرك إلا بعد أن يأخذ المال، تقدم إليه وقال له: «يا سيدنا تطلب نفس البطريك أو مال؟» فقال له: «أريد المال» فقال له الشماس جرجه: «ضمني إياه مدة شهرين أنحدر به إلى بحري أطلب له من الأراخنة والنصارى وأقوم لك عنه بثلاثة ألف دينار»، فسلمه إليه، فطاف به المدن والقرى على المؤمنين بالمسيح حتى حصل المال وجمعه.».٦٧

ويتهم ساويرس الوالي عبد الله بأنه حصل من أهل الذمة ثلثي دينار زيادة عما كانوا يدفعونه من قبل ويصفه الأسقف بأنه «كان محبًّا للمال جدًّا».

«ويتهمه الكندي بأنه شجع الرشوة وملأ جيوبه بمال الجزية.».٦٨

ولم يكن قرة بن شريك، الذي خلف عبد الله في ولاية مصر، أقل حبًّا للمال من سلفه، ويقص علينا ساويرس أنه لما ذهب البطريرك اليائس إلى قرة ليهنئه بالولاية، كما جرى العرف، قبض عليه قرة وقال له: «الذي قبضه منك عبد الله بن عبد الملك تحتاج أن تقوم لي بمثله.» ويحكى المؤرخ عن قرة أيضًا أنه اقتحم كنيسة الفسطاط مع نفر من الفساق المقربين إليه وبعض المهرجين، ومكثوا أمام الهيكل في أثناء أداء الصلاة.

إنها سنة استنها أحد الولاة الجشعين، فأصبح من المتعذر بعد ذلك أن يحال بين الولاة اللاحقين وبين نهجهم على منوال هذا السلف، وقد أرسل الخليفة سليمان بن عبد الملك إلى مصر أسامة بن زيد ليقوم على بيت المال، ويبدو أن هذا الرجل كان أكثر جشعًا ممن سبقه، ويقول المؤرخون المسلمون والنصارى: إنه قام بمصادرة الأملاك بغير حق كما أسرف في القتل بصورة وحشية، ولقد جمع الرهبان وأخبرهم بوجوب الإبقاء على الرسم الذي فرضه عبد العزيز عليهم، كما أجبرهم على أن يطلبوا من رجال الضرائب خاتمًا من حديد تنقش عليه أسماؤهم وموعد دفع الضرائب، على أن يضعوا هذا الخاتم في أحد أصابعهم حتى إذا ما قبض على راهب وكانت يده عاطلة منه قُطعت في الحال.

ويظهر أن أمر أسامة هذا دخل في دور التنفيذ، أما الرهبان الذين لجئوا إلى الأديرة واعتقدوا أنهم تمكنوا بهذه الطريقة الهرب من دفع الضريبة دون أن ينالهم أي عقاب، فقد قام رجال الشرطة بالبحث عنهم والقبض عليهم، ثم حكم عليهم بقطع رءوسهم أو جلدهم حتى الموت، وإلى جانب ذلك، أصدر أسامة أمرًا يحتم على السكان، الذين يسافرون بطريق النيل شمالًا أو جنوبًا أن يحملوا جواز سفر مدموغًا.

وقد كان لهذه الإجراءات أسوأ وقع في النفوس، إلا أن وفاة الخليفة حال في الوقت المناسب دون قيام ثورة في البلاد، لهذا لم يتوانَ عمر بن عبد العزيز بعد توليته الخلافة في سنة ١٠١ﻫ «٧١٩م» في عزل أسامة وتعيين أيوب بن شرحبيل مكانه بعد أن كلفه بتهدئة الخواطر وباستعمال اللين مع السكان، ثم أمره الخليفة بإلقاء القبض على أسامة ووضع حلقة من الحديد حول عنقه وتكبيل يديه وقدميه بأوتار خشبية، وسيق أسامة، وهو على هذه الحال، إلى مكان إعدامه، ولكنه مات في أثناء الطريق.

وقام عمر بن عبد العزيز بعمل آخر على جانب عظيم من الأهمية أكسبه عطف الأهالي وحبهم؛ إذ إنه أمر بإلغاء الجزية على الرهبان والأساقفة،٦٩ ولم يلبث أن أعيدت الضريبة مرة أخرى في عصر يزيد، وعاد الأقباط إلى سيرتهم الأولى من الشكوى من جور الولاة.

وفي خلافة هشام، أُعيد تعيين حنظلة بن صفوان على مصر «١١٩ﻫ/٧٣٦م»، وكان قد تولى هذا المنصب من قبل في عهد الخليفة يزيد، ولم يتبع حنظلة الخطط الحكيمة التي رسمها له الخليفة هشام، بل رفع الضرائب ولم يقتصر على فرض رسوم على الآدميين، بل تعداه إلى الحيوانات بعد أن أجرى إحصاءً عامًّا لها، وفرض أيضًا ضريبة الدمغة على الإيصالات.

وكانت للخليفة هشام سياسة حكيمة تخالف سياسة عامله السيئة، فقد كان يحاول كسب عطف الأقباط، الذين لم يفقدوا بعد نفوذهم في البلاد بدلًا من إثارة غضبهم بفرض ضرائب جديدة، ولما ظلوا بدون بطريرك مدة من الزمن، أمر الخليفة بتنصيب رئيس ديني عليهم، وأمر أيضًا بتسليم كل شخص سدد ضرائبه براءة رسمية باسمه حتى «لا يظلم أحد ولا يكون في مملكته ظلم»، ذكر الأسقف ساويرس كل هذا، ثم أردف قائلًا: «كان هشام رجلًا خائفًا من الله على طريق الإسلام وكان محبًّا لسائر الناس.».

ويتضح من سرد هذه الحوادث أن ظلم الولاة للشعب كان في معظم الأحيان ناتجًا عن أمور شخصية بحتة، ولم يلبث الولاة أن وجدوا من يقلدهم في تصرفاتهم، فلقد حذا حذوهم الموظفون الذين يعملون تحت إمرتهم، ويقول لنا ميخائيل السوري: «لما غادر المأمون مصر، تعددت المصائب على المصريين، وكان الفرس يدخلون القرى ويكبلون الذين يقاومونهم، كل عشرة أو عشرين معًا، ويرسلونهم إلى الفسطاط دون أن يتأكدوا إذا كانوا مذنبين أم لا، وقد زهقت أرواح الكثيرين دون أن يقترفوا أي ذنب، وطلب بعض المقبوض عليهم، وهم في طريقهم إلى الهلاك، أن يقبل جلادهم منهم رِشا في مقابل إطلاق سراحهم، وحينما صرفوا له المبلغ، قال لهم الرجل: انتظروا ريثما نقابل أناسًا آخرين في الطريق فأكبلهم بالسلاسل مكانكم. ولم يلبثوا أن صادفوا ثلاثة رجال: كاهنًا وعربيين كان أحدهما إمام مسجد فأطلق سراح الذين أعطوه الرشا، وألقى القبض على هؤلاء مكانهم.».٧٠

وكان استهتار الولاة بمصلحة مصر واضحًا لدرجة أنه عندما اشتدت الدسائس والمؤامرات في بلاط بغداد في القرن الثالث الهجري، كان من النادر أن يترك شخص ذو نفوذ بلاط الخليفة ويعيش بعيدًا عنه، وإذا اختير واليًا على قطر من الأقطار، عين وكيلًا عنه يدير شئون الحكم باسمه ويخصه بجزء من الدخل مقابل هذا التعيين.

وكان جمع المال هو الهدف الأول للولاة، ولذلك عانت البلاد أزمة اقتصادية شديدة قبل ظهور الدولة الطولونية؛ إذ قل المحصول بسبب استنزاف الحكومة لمواردها جزافًا.

على أن معاملة الأمويين للشعوب المغلوبة كانت بصفة عامة أحسن من معاملة العباسيين لهم، فكثيرًا ما استعمل هؤلاء القوة والعنف لابتزاز الأموال، وأكبر الظن أن حاجتهم الملحة إلى المال حالت دون اتباعهم سياسة اللين، وعلى كل، فإن تاريخ البطاركة اليعاقبة ما هو إلا سلسلة طويلة من الشكاوى، ابتدأت من عهد البطريرك الثاني والخمسين بعد القديس مرقص، وقد بلغ اليأس بأحد الأساقفة، واسمه قزمان، إلى حد جعله يتنازل عن سلطته لعلية القوم من طائفته، فجعلهم مسئولين عن تأدية المبالغ المستحقة للحكومة ثم انسحب إلى مدينة «دمرو».

(٤) ثورة الأقباط

أدرك الأقباط أنهم بالغوا في تفاؤلهم؛ لأن الحكومة مهما كانت متسامحة لا تستطيع أن تعيش دون جباية الضرائب، وزادت خيبة أملهم عندما أدركوا أن الفاتح الجديد كان يريد أن ينعم بثمرة انتصاره، لذلك لم يلبثوا أن وضعوا نصب أعينهم هدفًا واحدًا هو تغيير حكامهم الجدد والتحرر من ربقتهم.

وقف الشعب في أثناء الفتح موقف المحايد، الذي يعطف على العرب، ولكن بعض الأقباط الذين يسكنون ضواحي الإسكندرية انحازوا إلى البيزنطيين، وانضموا إلى صفوفهم عندما قام هؤلاء بهجوم مضاد على العرب، وسبب هذا الانحياز — كما سبقت الإشارة إليه — أن عمرًا أجاب بخشونة على صاحب «إخنا» عندما طلب إليه تحديد قيمة الضريبة الواجب دفعها للخزينة.

غير أن الأقباط لم يحركوا ساكنًا بعد مقتل عثمان والانشقاق الذي حدث بين أنصار علي بن أبي طالب وأعدائه، وقد أثار هذا الموقف دهشة المستشرقين، ولكن الأكليروس القبطي — وكان وقتئذ هو الذي يمكنه إشعال نار الثورة — كان راضيًا كل الرضا عن الاحتلال العربي؛ لأن عمرو أكرم بطريركهم كل الإكرام وأحاطه بالإجلال والاعتبار وطلب إليه نصائحه وبركته، وأمر بإعفاء رجال الدين من الجزية.

ولما قامت ثورة العباسيين على الأمويين، كان الموقف في مصر قد تغير كل التغير؛ لأن خلفاء دمشق فرضوا الجزية على رجل الدين وزادوا نسبتها على الشعب؛ وذلك لحاجتهم إلى المال مما أغضب الشعب لهذين الإجراءين فثار عام ١٠٧ﻫ «٧٢٥م» في أثناء خلافة هشام بن عبد الملك، وهذا دليل على عدم رضاء الأقباط — وعلى رأسهم رجال الدين — عن حكامهم.

وقد شاء القدر أن يلجأ مروان بن محمد، آخر الخلفاء الأمويين إلى مصر حيث اضطهد البطريرك قبل أن يكبله بالحديد، وكان هذا العمل بمثابة إيذان لانضمام النصارى كلهم إلى صف العباسيين «الخراسانيين كما كان يسميهم ساويرس بن المقفع»، وقد زودنا هذا المؤرخ بمعلومات على جانب عظيم من الأهمية عن أبناء ملته فقال: «كان بقية النصارى بمصر قالوا للخراسانيين: «هذا أبونا البطرك عند مروان ولا ندري ما يصنع به»، وكان البشامرة «أهل البشمور» قد لقوهم من الفرما وقالوا للخراسانيين: إن بطركنا قد أخذه مروان ليقتله بسبب أنا قاتلناه وقتلنا عسكره قبل مجيئكم إلينا، وكان الناس يقولون إن يد الرب مع الخراسانيين، وكانوا إذا وجدوا قومًا عليهم علامة الصليب، يخففون عنهم الخراج ويرفقون بهم ويعملون معهم الخير في جميع البلاد، وصلبوا مروان منكسًا بعد أن قتلوه، وجلب الخراسانيون أنبا خيال وأكرموه كرامة عظيمة.٧١
ولما كان العباسيون أكثر دراية من عمرو، فقد عرفوا كيف يستعينون بالأهالي، الذين كانوا على استعداد لمساعدتهم ضد حكام البلاد، إلا أن كثيرًا ما يعيد التاريخ نفسه؛ إذ قد وجد العباسيون أنفسهم مضطرين إلى فرض ضرائب باهظة، ويقول ساويرس في ذلك: «ولما كان في ثالث سنة من مملكة الخراسانيين، أضعفوا الخراج وأكملوه على النصارى ولم يوفوا لهم بما وعدوهم.».٧٢

وأدت هذه السياسة إلى تعدد الثورات في البلاد واستفحال أمرها، فقد قامت خمس ثورات مهمة بين سنة ١٢١ﻫ «٧٣٩م» وسنة ١٥٦ﻫ «٧٧٣م».

ولكن نشبت أكبر ثورة في عام ٢١٦ﻫ «٨٣١م» أيام خلافة المأمون؛ إذ سالت فيها الدماء وترتبت عليها نتائج رهيبة، وقد لوحظ انضمام عدد كبير من المسلمين إلى النصارى في ثورتهم، واختار الثوار أنسب الأوقات للقيام بحركتهم، حيث كان عدد كبير من الولايات في حالة ثورة، وإذا كانت الأطماع السياسية في الخارج هي التي حركت هذه الثورات، فإنها لم تقم في مصر إلا بسبب الضرائب كسابق عهدها، وكتب المقريزي في هذا الصدد: «لما كان في جمادى الأولى سنة ٢١٦، انتقض أسفل الأرض بأسره عرب البلاد وقبطها وأخرجوا العمال وخلعوا الطاعة لسوء سيرة عمال السلطان فيها، فكانت بينهم وبين عساكر الفسطاط حروب.».٧٣
وكان وجود البشموريين٧٤ في صفوف الثوار جعل القتال بدون هوادة، ويقول كاتب عربي ذكره المقريزي: إن هؤلاء القوم أكثر توحشًا وتعنتًا من سائر سكان مصر، وقد أقلقوا السلطات، ألم يناصبوا العرب العداء سبع سنوات بعد سقوط الإسكندرية في أيدي عمرو؟ ألم يكونوا أول من قام بإعلان الثورة ضد جباة الضرائب؟
ويذكر المستشرق «كاتريمير» Et. Quatremere، ضمن بحثه مخطوطًا عربيًّا عن حياة ميخائيل، فيأتينا بتفاصيل وافية عن استعداد هؤلاء القوم للقتال، ويقول هذا المخطوط: «قام البشموريون بالثورة ضد عبد الملك وكان يقودهم مينا بن بكيرة، وقد انضموا إلى أهل شبرى سنباط واستولوا على هذه الناحية ورفضوا أن يدفعوا الجزية للحاكم وللقائم العام على شئون الضرائب، وقد سار إليهم عبد الملك على رأس جيش، ولكنه لاذ بالفرار بعد مذبحة كبيرة، فأرسل إليهم عبد الملك جيشًا وأسطولًا ولكنهما باءا بالفشل الذريع، وعندما قدم الخليفة مروان مصر وأُخبر بما حدث، كتب إلى البشموريين يعرض عليهم العفو العام ولكنهم رفضوا هذا العرض، فسيَّر إليهم جيشًا قويًّا مكونًا من جنود مصريين وسوريين، إلا أنها لم تستطع أن تلتحم بالثوار الذين اعتصموا في منطقة المستنقعات ذات الطُرق الضيقة التي لا يمكن أن يمر خلالها سوى شخص واحد، إذا انزلقت قدمه في الوحل غاص فيه ومات حتمًا، واستطاعت الجيوش العربية أن تحاصر هذا المكان، ولكن عندما أسدل الليل ستاره، خرج البشموريون من معاقلهم وساروا في الممرات التي انفردوا بمعرفتها وما لبثوا أن انقضوا انقضاض الصاعقة على المسلمين فقتلوا منهم ما وسعهم القتل وسلبوا نقودهم وخيولهم.».
«ولما دخل الكوثر بن الأسود — قائد قوات مروان — الإسكندرية، وأمر بسجن البطريرك ميخائيل بعد أن ضربه ثم أمر بقطع رأسه، وكان الأمر ينفذ وكانت يد الجلاد مرفوعة لتهوى على رقبة البطريرك، عندما اختلج قلب كوثر بعاطفة الشفقة وقال لصحبه: «ماذا نجنيه من قتل هذا الشيخ العجوز؟ لقد كتب إلى البشموريين يطلب إليهم الكف عن محاربتنا ولكنهم أبوا أن يعملوا بنصيحته، فلنأخذ معنا إلى رشيد ليكتب إلى هؤلاء القوم أنه بسببهم ما ناله من سوء المعاملة، وبينما كان الأمير في طريقه إلى رشيد، علم أن المدينة، وقعت في أيدي البشموريين الذين خربوها وأحرقوها بعد أن قتلوا مَنْ فيها من المسلمين.».٧٥

ولو كانت الثورة اندلعت في القطر المصري وحده بسبب الخلاف حول دفع الضرائب، لما قام الخليفة بالسفر إلى مصر لقطع دابرها، ولكن صادف أن أعلن نصر بن شباث في الوقت نفسه الثورة على الخلافة، واعتمد في حركته على السوريين الذين ظلوا مخلصين لبني أمية، كما وصل أسطول حربي من الأندلس ورسا في ميناء الإسكندرية، فقلق المأمون كثيرًا وخشي استفحال الصورة؛ لأن المصريين لا يتورعون على الاتفاق مع الأمويين، الذين لجئوا إلى إسبانيا كما اتفقوا مع العباسيين ضد الأمويين.

ولا بد أن ميخائيل السوري كان يعني ما يقوله عندما كتب: «أعلن نصر وصحبه الثورة في الشام وحثوا في آن واحد المصريين على الثورة.».٧٦
«واستولى عليها رجلان هما سري وجوري،٧٧ وبعد أن جلبا الذهب بمقدار الأحجار، أخذا يحصلان الجزية «باسمهما»، ولما توفيا خَلَفَهُمَا ولداهما: فتولى عبيد بن ساري على الفسطاط والجنوب، وحكم أحمد٧٨ الشمال، أما الإسكندرية، فقد استولى عليها قوم جاءوا من بلاد الأندلس.».٧٩

وعلى الرغم من أن البطريرك يوساب عمل جاهدًا لإقناع البشموريين على عدم ارتكاب أعمالهم العدوانية، نرى ساويرس يبرر ثورتهم فيقول: عامل العرب البشموريين على الأخص في غاية من القسوة، فقد ربطوهم بسلال إلى المطاحن وضربوهم بشدة ليطحنوا الغلال كما تفعل الدواب سواء بسواء، فاضطر البشموريون أن يبيعوا أولادهم ليدفعوا الجزية ويتخلصوا من آلام العذاب، ولما اقتنعوا نهائيًّا أن هذا الظلم لا يحده إلا الموت، وأن بلادهم كلها مستنقعات تخللها الطرق الضيقة التي ينفردون بمعرفتها، وأنه يعد من المستحيل على جيوش المسلمين أن يغزوها، فقد اتفقوا جميعًا على إعلان الثورة ورفضوا دفع الجزية … وكان البطريرك يوساب يذوب حسرة على رعيته التي تحالف على إفنائها الطاعون والمجاعة والحرب، غير أن البشموريين وطدوا عزمهم على مواصلة القتال وأخذوا يصنعون لأنفسهم الأسلحة وحاربوا الخليفة علانية ورفضوا دفع الجزية على الإطلاق، ووصلت بهم الحال أنهم قتلوا كل مَنْ جاء إليهم ليقوم بعمل الوسيط بينهم وبين السلطة، وقد تحسر البطريرك عليهم؛ لأنهم خاضوا غمار الحرب ضد عدو يفوقهم في العدد والعتاد.

وتعرضوا للموت بحكم إرادتهم، فكتب إليهم خطابًا حاول فيه أن يقنعهم بعدم قدرتهم على مقاومة الخليفة بالسلاح، ويصف لهم المصائب التي ستحيق بهم ويطلب إليهم أن ينصرفوا عن عزمهم، ولما اتضح له أن هذا الخطاب لم يؤثر فيهم، أرسل الخطاب تلو الخطاب ملحًّا في رجائه، ثم لما قدم الأساقفة حاملين معهم هذه الرسائل، انقض عليهم البشموريون وجردوهم من ملابسهم وأمتعتهم وطردوهم بعد أن أوسعوهم سبًّا وشتمًا، ولما عاد هؤلاء الأساقفة إلى البطريرك وقصوا عليه كل ما حدث لهم، قرر البطريرك أن يترك هذا الشعب لمصيره.٨٠
وكان المأمون في ذلك الحين قائمًا في سوريا، فخف إلى مصر بعد أن منح عفوه إلى نصر الثائر، وكان بطريرك «تل مهرة» «ديونيسيوس» نازلًا في دمشق، فأرسل إليه المأمون خطابًا يقول فيه: «امكث هنا لتأتي معنا إلى مصر؛ لأننا نريد منك أن تذهب كسفير عند «البياماي»٨١ في مصر السفلى وتقنعهم بالكف عن القتال والعودة إلى الطاعة.».٨٢

ولنترك الآن ديونيسيوس يحدثنا بنفسه عما طرأ: «عندما وصلنا إلى مدينة الفرما، استدعاني الملك وقال لي: «لقد علمت أيها البطريرك بنبأ ثورة النصارى المصريين المعروفين باسم البياماي، وأنهم لم يكتفوا بالخراب الذي أصابهم من جراء هجومنا الأول عليهم، ولولا تسامحي وعدم تفكيري في القضاء عليهم لما أرسلت إليهم رجلًا مثلك، خذ معك المطارنة الذين بصحبتك وسائر المطارنة المصريين واذهب لمقابلتهم وفاوضهم بشرط أن يسلموا الثوار، وليأتوا معي ومع جيشي إلى المكان الذي أُعَينه فأسكنهم فيه، فإذا رفضوا فإني سأقتلهم بالسيف.»، ولما حدثت الخليفة طويلًا على أساس أن يخضع البشموريين لحكمه ويتركهم في بلادهم أجاب بالنفي وقال: «لا! فليخرجوا من البلاد أو يتعرضوا للقتل.».

ثم يستأنف ديونيسيوس قصته قائلًا: «لقد وجدناهم مجتمعين وقد احتموا في جزيرة محاطة بالمياه والخيزران والغاب من كل جهة، فخرج إلينا رؤساؤهم وتقدموا نحونا، ولما وجهنا إليهم اللوم على الثورة التي أشعلوها والمذابح التي اقترفوها، أنحوا باللائمة على مَن كان يحكمهم.»٨٣ إلا أنهم عندما علموا بوجوب الخروج من بلادهم، حزنوا حزنًا شديدًا، ورجونا أن نبعث إلى الملك برسالة نطلب إليه فيها أن يسمح لهم بالمثول بين يديه ليقصوا عليه كل ما احتملوه من الهوان.
«وقالوا: إن أبا الوزير الوالي٨٤ كان يرغمهم على دفع جزية لا يستطيعون تحملها، وكان يسجنهم ويربطهم إلى الطواحين ويضربهم ضربًا مبرحًا ويضطرهم إلى طحن الحبوب كالدواب تمامًا، وعندما كانت تأتي نساؤهم إليهم بالطعام، كان خدمه يأخذونهن ويهتكون عرضهن، وقد قُتل منهم عددًا كبيرًا، وكان عازمًا على إبادتهم عن بكرة أبيهم حتى لا يشكوه إلى الملك … ولما عدنا إلى الملك، أخبرناه بالظلم الواقع على المصريين وجور الوالي، وبعد أن قدمت له تقريري قال لي: أنا غير مسئول عن سياسة ولاتي؛ لأني لم أملِ عليهم هذا الموقف الذي اتبعوه، أنا لم أفكر قط في إرهاق الناس، وإذا كنت قد أشفقت على الروم وهم أعدائي، فكيف لا أشفق على رعيتي؟».٨٥
ويحدثنا المؤرخون المسلمون على أن المأمون، حينما وصل إلى مصر، عنَّف الوالي عيسى بن منصور تعنيفًا شديدًا وعزله قائلًا: «لم يكن هذا الحادث العظيم إلا عن فعلك وفعل عملك، حملتم الناس ما لا يطيقون وكتمتوني الخبر حتى تفاقم الأمر واضطربت البلاد.».٨٦
وعلى الرغم من نصائح رجال الأكليروس المتلاحقة، رفض البشموريون التسليم، فلم يكن من المأمون إلا أن سحقهم سحقًا وقتل عددًا كبيرًا منهم، ثم أرسل في طلب رؤسائهم «وأمرهم أن يغادروا هذه البقعة غير أنهم أخبروه بقسوة الولاة المعينين عليهم، وأنهم إذا غادروا بلادهم لن تكون لهم موارد للرزق؛ إذ إنهم يعيشون من بيع أوراق البردي وصيد الأسماك، وأخيرًا رضخوا لأمره وسافروا على سفن إلى أنطاكية حيث أرسلوا إلى بغداد٨٧ وكان يبلغ عددهم ثلاثة آلاف مات معظمهم في الطريق، أما الذين أسروا في أثناء القتال، فقد سيقوا عبيدًا ووزعوا على العرب، وبلغ عدد هؤلاء خمسمائة فأرسلوا إلى دمشق وبيعوا هناك.».٨٨
واستطاع المأمون أن يطفئ جذوة الثورة الوحيدة المستقرة في البلاد، وكتب المقريزي في هذا الشأن: «ومن حينئذ أذل الله القبط في جميع أراضي مصر وخذل شوكتهم فلم يقدر أحد منهم على الخروج ولا القيام على السلطان، وغلب المسلمون على القرى فعاد القبط بعد ذلك، إلى كيد الإسلام وأهله بأعمال الحيلة واستعمال المكر وتمكنوا من النكاية بوضع أيديهم في كتاب الخراج.».٨٩

ويجدر بنا أن نذكر هنا أنه بينما كان البشموريون يقاتلون قتال اليائس في ثورتهم الأخيرة التي يخرج منها المقريزي بنتائج عن جانب عظيم من الخطورة، لم يسجل المؤرخون أية ثورة للأقباط في أية بقعة أخرى من القطر، والواقع أن الأقباط لم يلجئوا بعد ذلك إلى أسلوبهم القديم، كما يقول المقريزي؛ لأنهم لم يكن لديهم أبدًا غير هذا الأسلوب، ولما قامت الثورات، اشترك فيها الأقباط بتشجيع من العناصر الأجنبية سواء كانت هذه العناصر من المسلمين أو من البشموريين «وهم مزيج من الأقباط واليونانيين»، ولما أبيد البشموريون عن بكرة أبيهم، لم يحاول الأقباط القيام بأية حركة ثورية عامة.

(٥) الفوائد التي جناها الأقباط

(٥-١) الأقباط يحتكرون الأعمال الإدارية

إن الأحداث التي ذكرناها لا تعني بأن الأقباط كانوا تعساء تحت حكم الولاة العرب، بل كانوا أسعد كثيرًا مما كانوا عليه أيام البيزنطيين، وبالرغم من جهود الخلفاء واهتمامهم بتطبيق تعاليم القرآن، فإن الأقباط لم يقتصروا على شغلهم معظم الوظائف الإدارية فحسب، بل كان لهم الأمر والنهي في بعض الأحيان، وبقي نظام الضرائب والحسابات بين أيديهم مما أتاح لهم الفرصة لتحقيق مكاسب كبيرة، وكذلك يمكننا أن نقول إنه فيما يتعلق بالأقباط ظلت تعاليم القرآن غير معمول بها.

وقد أظهر الخلفاء مرارًا رغبتهم في إبعاد الأقباط من الوظائف الإدارية، كما أنهم أظهروا خيبة أملهم — شفهيًّا إن لم يكن كتابيًّا — كلما وجدوهم في مناصبهم، ولكن دراية عمرو بن العاص السياسية تغلبت على تزمت عمر الديني، ولما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة بعد مضي قرن من فتح مصر، ذكر حكام الأقاليم بواجبهم، ووجه إليهم رسالة قوية قال فيها: «عمر بن عبد العزيز يقرأ لكم كلمات الله هذه «وهنا ذكر بعض الآيات القرآنية الخاصة بالذميين»، لقد سمعت أنه فيما مضى، عندما َكانت الجيوش الإسلامية تدخل البلاد، كان المشركون يذهبون لمقابلتهم وأن المؤمنين يطلبون معاونتهم في إدارة البلاد لسدادة رأيهم ودرايتهم في الشئون الإدارية وجباية الضرائب، ولكن لا يوجد الرأي السديد ولا الدراية عند الذين يستأثرون غضب الله ورسوله، ثم إن الله أمر بنهي هذه الحالة، ولا أود أن يخبرني أحد بأن واليًا ترك في ولايته عاملًا يدين بعقيدة غير العقيدة الإسلامية، وأني سأقبل هذا الوالي في الحال، وأنه من الواجب علينا أن نبعد الذميين من الوظائف كما أنه من الواجب علينا أن نقضي على دينهم، فليخبرني كل والٍ عما فعله في ولايته.٩٠
ولما تلقى أيوب بن شرحبيل هذه الرسالة، ألغى امتياز الأقباط الخاص بإدارة أموال المقاطعات وأحل المسلمين محلهم.٩١
ومع ذلك، لم يمضِ خمسة وثلاثين عامًا على إصدار هذا الأمر حتى أخطر الخليفة العباسي المنصور بوجوب إصدار أوامر دقيقة بخصوص إبعاد الذميين من الوظائف، نعم إن هذا الإجراء لم يمهد له من قبل، بل كان ابن ساعته، فقد حدث أن تقدم إلى الخليفة بعض المسلمين، في أثناء حجة له، والتمسوا منه أن يحميهم من جور النصارى، بعد أن أذن لهم الخليفة بأن يتدخلوا في شئون المسلمين وأن يخبروه بكل ما يعلمونه خاصة بالأمويين، فما كان من المنصور إلا أن قال لكاتم أسراره: «هذا ختمي، خذه وابعث بأمره لطلب جميع المسلمين الذين لهم دراية في العمل، واكتب إلى جميع الولاة لكي يفصلوا الذميين من الخدمة.»، ولما كان كاتم أسراره مقتنعًا من أن هذه الأوامر لن تدخل في دور التنفيذ، أجاب الخليفة بقوله: «لم أفعل شيئًا مما أمرتني به؛ لأني على يقين من أن الذميين إذا أثير غضبهم، فعلوا الدسائس ضدنا.».٩٢
والواقع أن الذميين لم يقالوا أبدًا دفعة واحدة من وظائفهم، بل أصبحوا في خلافة المهدي أصحاب الأمر والنهي، وأظهروا كبرياءهم حتى سخط عليهم المسلمون واحتجوا على ذلك: فأمر الخليفة حينئذ ألا يترك الوالي بجانبهم أي كاتب ذمي، وأمر أيضًا بقطع يد المسلمين الذين يستعينون بكاتب نصراني٩٣
أما الخليفة المهدي الذي كان يوصي حكامه بأن يتخلصوا من موظفيهم الذميين، فلم يحاول قط تطبيق المبدأ الذي كان يُنادي به، وقد استمر النصارى يتمتعون بشغل الوظائف الإدارية كما كان حالهم في الماضي، وأحسن دليل على ذلك ما صرح به المأمون لكاتم سره لما كان في مصر؛ «سئمت من الشكاوى التي أتلقاها ضد النصارى بخصوص اضطهادهم المسلمين، وعدم نزاهتهم في إدارة الشئون المالية.».٩٤

وكذلك اكتفى عمر بن عبد العزيز والمنصور والمهدي وهارون الرشيد والمأمون والمتوكل والمقتدر بالله بأن يعزلوا اسميًّا النصارى من الوظائف العامة، ولكنهم في الواقع تركوهم في مراكزهم.

(٥-٢) امتناع تنفيذ الأوامر الخاصة بزي النصارى

أذن عمرو للأقباط بارتداء زي المسلمين،٩٥ فلم ينلهم من ذلك الحين أي ضغط من هذه الناحية، والواقع أن الخليفة والوالي لم يفكروا حتى عام ٢٣٣ﻫ «٨٤٨م» في إلغاء هذا الإذن، وقد رأى عمر بن عبد العزيز في الوقت الذي أمر فيه بعزل أهل الذمة من الوظائف العامة أن يذكروا ولاته بشروط عمر، فيقول لنا ابن البطريق: «لم يزل النصارى يلبسون السواد ويركبون الخيل في أيام المتوكل، أما المتوكل، فكتب إلى جميع البلدان أن يأخذوا النصارى بلباس العيار والرقاع في الدراريع رقعة من قدام ورقعة من خلف، وأن يمنعوا من ركوب الخيل،٩٦ وأن تصير في سروجهم أكر ويركبون بركب خشبي، وتصور على أبواب دورهم صور الشياطين، وفي نسخة أخرى صور «الخنازير القرود» فقال النصارى من هذا إذاء شديد وحزن وغم.».٩٧

(٦) اتجاه العرب إلى اتباع سياسة استعمارية

أظهرنا كيف تأثر العرب والأقباط على السواء بالاعتبارات المالية، وقد ظل المال في الواقع مدة طويلة العامل المهيمن على علاقاتهم، ويقول المستشرق جاستون فييت: «كان الخلفاء الأولون يعتقدون، في الخمسين سنة التي تلت وفاة النبي، بعدم استطاعتهم تكوين إمبراطورية إسلامية.»٩٨ لذا وجدنا أن المال، خلال هذه الفترة التي كان العرب في حاجة ماسة إليه، أصبح الرائد لسياستهم حيال الشعوب المغلوبة، ولم تمكنهم عدم خبرتهم انتهاج سياسة استعمارية سليمة، كما أن المنازعات الداخلية التي قامت مبكرة في الإمبراطورية الجديدة لم تسمح لهم باتباع سياسة بعيدة المدى.

بزغت شمس الإمبراطورية العربية في عهد الأمويين، فلما أصبحت حدودهم في مأمن من الخطر، أخذ الخلفاء يعملون على طبع البلاد المحتلة بطابع عربي إسلامي.

والأمثلة عديدة، لما وضع عمرو نظامًا للعدل في مصر، احترم إرادة الأقباط بأن جعلهم يحاكَمون أمام قضاة من جنسهم ودينهم فيما عدا الحوادث الجنائية، ولكن ما أن تولى معاوية بن أبي سفيان الخلافة عام ٦٠ﻫ «٦٦٤م» إلا وعين إلى جانب القاضي القبطي قاضيًا مسلمًا ليحكم في القضايا المدنية الخاصة بأهل الذمة، وفي عام ١٢٤ﻫ «٧٤٥م»، قرر حفص بن الوليد توزيع ميراث الذميين حسب تعاليم الشريعة الإسلامية لا حسب قوانينهم الخاصة،٩٩ وقرر عمر بن عبد العزيز أنه إذا قتل عربي نصرانيًّا، لن يحكم عليه بالإعدام، بل يطلب إليه أن يدفع فدية قدرها خمسة آلاف «زوزة» ثم منع خصم مبالغ على إيراد المساكن والمواريث والأراضي لمصلحة الكنائس والأديرة والفقراء.١٠٠

وما هذه إلا أمثلة تدل دلالة واضحة على الروح التي كانت سائدة في هذا العصر، وهذه الروح أخذت تزداد قوة؛ إذ كان العربي المنتصر يريد إظهار تفوقه على الذمي المقهور.

ولكن الأمر الذي كان له أكبر أثر في حياة الأقباط الاجتماعية، هو القرار الخاص باستعمال اللغة العربية في المعاملات الرسمية، وقد صدر هذا القرار عام ٨٥ﻫ «٧٠٥م» في ولاية عبد الله بن عبد الملك،١٠١ فأخذ الأقباط يهملون تدريجيًّا دراسة اللغتين اليونانية والقبطية وتعلموا اللغة العربية التي أصبحت لغة الأعمال، وقبيل ذلك، كان العرب قد اتخذوا قرارًا عمليًّا في هذا المضمار، فتعلم بعضهم اللغة القبطية، ويذكر لنا الكندي مثل القاضي خير بن نعيم «١٢٠–٧٣٨» الذي «كان يسمع كلام القبط بلغتهم ويخاطبهم بها، وكذلك شهادة الشهود منهم ويحكم بشهادتهم.»١٠٢ مما جعلنا نفرض أن بعض الموظفين درسوا اللغة القبطية ليوطدوا الصلة بينهم وبين الشعب. ويذكر «رينودو» أن «البطريرك يوساب عندما وجه كلامه باللغة القبطية إلى المطارنة الذين جاءوا يتهمونه، فهم بعض المسلمين ما قاله البطريرك ونقلوه إلى القاضي.».١٠٣
قلق العرب من سرعة إقبال الأقباط على دراسة اللغة العربية وخاصة القرآن؛ إذ كانوا يعتقدون أنهم سيضطرون الأقباط إلى ترك وظائفهم إذا أمروهم باستعمال لغة القرآن في الأعمال الرسمية، ولذلك أصدر الخليفة المتوكل في سنة ٢٣٥ﻫ «٨٤٩م» نشرة يحذر فيها من توظيف النصارى واليهود ومن تعليمهم اللغة العربية،١٠٤ ويضيف أبو الفرج بن الجوزي في تاريخه لعام ٢٤٠ﻫ «٨٥٤م» أنه طلب إلى الذميين أن يعلموا أبناءهم اللغتين العبرية والسريانية بدلًا من اللغة العربية.١٠٥
زد على ذلك أنه كلما تضخم عدد الذين اعتنقوا الإسلام، ظهر للأغلبية أن النصارى ما هم إلا عنصر مناوئ في وسط المجتمع الإسلامي، وكان المسلمون يميلون إلى اعتبارهم حلفاء طبيعيين للإمبراطورية البيزنطية المسيحية، فتحملوا لذلك رد فعل العرب بين حين وآخر، ويؤكد ميخائيل السوري أن عمر بن عبد العزيز أساء معاملة النصارى؛ لأن جيوشه اضطرت إلى رفع حصار القسطنطينية بعد أن تحملت خسائر فادحة.١٠٦
وغضب أيضًا المهدي على النصارى؛ لأن بعض الفرق البيزنطية هزمت ابنه هارون الرشيد وقائدين من قواده، «وقد أرسل المهدي أيضًا محتسبًا لهدم الكنائس التي بُنيت في عهد العرب، وأمر ببيع العبيد النصارى وخرب عددًا كبيرًا من المعابد.».١٠٧

ثم جاء هارون الرشيد ففرض على الذميين زيًّا خاصًّا؛ ذلك لأن سكان الحدود كانوا يتجسسون لمصلحة الإمبراطور «نقيفور» البيزنطي، ولكن يلوح أن الإجراء لم ينفذ إلا في مدينة بغداد، أما أقباط مصر، فلم ينلهم منه شيئًا.

ولما انتقل الحكم إلى الولاة المستقلين وضعوا حدًّا للسياسة التي كان يتبعها الخلفاء، ونَعِمَ النصارى مرة أخرى بشيء من التسامح للأسباب التي سنبينها في الباب التالي.

هوامش

(١) Adolf Grohmann, Apercu de papyo logrie arabe نشرته جمعية فؤاد الأول لأوراق البردي في Etudcs de papyrologie الجزء الأول.
(٢) papyrus Reicr ذكره جروهمان Apercu ص٤١، ٤٢.
(٣) نفس المصدر، ص٤٤، ٤٦.
(٤) Les Mosquees du care، ص١٩.
(٥) حسن بن عتاهية.
(٦) عبد العزيز بن مروان بن الخليفة مروان وشقيق الخليفة عبد الملك بن مروان، ولولا وفاته لتربع على كرسي ولاية مصر مدة أطول، وكان شقيقه قد عينه خليفة له.
(٧) ص٩١، وكان يقصد عمر موقع العاصمة الجديدة.
(٨) W. Hryd, L’histoire du commerce au Moyn-Age. والجزء الأول ص٤٠ و٤١.
(٩) المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار للمقريزي، طبع بولاق، جزء أول، ص٧٤.
(١٠) ابن بطريق، ص٤١.
(١١) ابن بطريق، ص٥٨.
(١٢) تاريخ البطاركة، ص٢٠٧–٢٠٨.
(١٣) الكندي، ص١٣١.
(١٤) الكندي، ص١٣٢.
(١٥) الكندي، ص١٣٢.
(١٦) الكندي، ص٧٧–٧٨.
(١٧) يقول الأستاذ فييت في دائرة المعارف الإسلامية «قبط» إن النظرة القانونية للكنائس الجديدة تعود إلى القرن الثاني للهجرة فقط «القرن الثامن الميلادي».
(١٨) بعد عمرو بن العاص.
(١٩) L’Egypte musulmana et les fondateurs de see mumanls.
(٢٠) ص٥٨٤.
(٢١) البلاذري، فتوح البلدان، ص٢١٤.
(٢٢) أبو يوسف، ص٣٦–٤٣.
(٢٣) خطط المقريزي، الجزء الأول، ص٢٩٥.
(٢٤) ذكره «دي ساسي» في Trois memore sur la nature et les Revolutions du droit de propriéte temitoriale en Egypte Puf. L. I. F. A. O. Bibliothéque dens Arabisants P. 149.
(٢٥) ص٨٩.
(٢٦) بلاذري ص٢١٧.
(٢٧) ابن عبد الحكم، ص٨٣.
(٢٨) الكندي، ص٣٢.
(٢٩) ص٥٨٤.
(٣٠) ساويرس بن المقفع، ص١٠٩.
(٣١) ليبيا.
(٣٢) ذكر ابن عبد الحكم هذه المراسلات في صفحة ١٥٨–١٦٠.
(٣٣) ابن عبد الحكم، ص١٤٦.
(٣٤) ابن عبد الحكم، ص١٤٦، ويقول المؤرخ الإنجليزي «لين بول» دون أن يذكر المصدر الذي استقى منه هذا الخبر، إن عمرو لما تُوفي ترك سبعين كيسًا من الدنانير «ما يوازي عشرة أطنان من الذهب تقريبًا» ورفضوا أولاده أن يرثوا هذا المبلغ لغتهم. “The Story of Cairo” أما اليعقوبي فيذكر فقط أن عمرًا ترك بعد وفاته ثروة ضخمة «طبعة سنة ١٣٥٨، الجزء الثاني ص١٩٨».
(٣٥) ابن عبد الحكم، ص١٦١.
(٣٦) ميخائيل السوري، الجزء الثاني، ص٤٣٢.
(٣٧) ابن عبد الحكم، ص٥.
(٣٨) الطبري، طبع ليدن، الجزء الأول، ص٢٥٧٧، وقد نوه البلاذري إلى هذا الحادث في صفحة ٢١٦ من تاريخه دون أن يعلق عليه.
(٣٩) أبو يوسف.
(٤٠) ج٣، ص٤٧، رقم ١٦٠–١٦٣ Grohman, Eyptian in te Eyptan Library.
(٤١) جزء أول، ص٦١. Grohman, Apercu.
(٤٢) Le Gommence du Vent au Moyen Age, L. P. 26.
(٤٣) دائرة المعارف الإسلامية، مقال الجزية.
(٤٤) sacy, Drou du Propriété lenitorial, p. 172.
(٤٥) كتاب الخراج، ص٧٠. لم تلبث في الواقع هذه العقوبات أن طُبقت. وتنص ورقة من أوراق البردي التي يرجع عهدها إلى القرن الثالث الهجري نصًّا صريحًا على إمهال دافعي الضرائب ثلاثة أيام كي يسددوا ما عليهم وإلا ضُربوا عشر عصيان يوميًّا … «أوراق البردي العربية الجزء الثالث ص١٠٤ رقم ١٧٠».
(٤٦) ص١٨٢.
(٤٧) يعترف المؤرخون بصفة عامة بصحة هذه الأرقام.
(٤٨) خطط، الجزء الأول، ص٩٨–٩٩.
(٤٩) ص٨٧.
(٥٠) ابن عبد الحكم، ص١٧٦–١٧٧.
(٥١) الكندي، ص٧٦–٧٧.
(٥٢) Droit de propriété lenitoriale, p. 185.
(٥٣) خطط، الجزء الأول، ص٧٩.
(٥٤) أبو يوسف، ص٤٨، ويقول البلاذري: إن الضريبة المفروضة على مدينة الإسكندرية والتي كانت ثمانية عشر ألف دينار، بلغت في عصر هشام بن عبد الملك الثلاثين ألفًا.
(٥٥) ص٨٩.
(٥٦) الخطط، الجزء الأول، ص٧٧.
(٥٧) الخطط، الجزء الأول، ص٧٨.
(٥٨) ويبدو أن هذا القرار اتُّخذ بعد أن ساء الرهبان استغلال امتيازاتهم، وهناك حادث وقع سنة ١٢٧٤م «٦٧٢م» يوضح هذه المسألة، فقد طلب الرهبان في ذلك العام إعفاءهم من أداء الجزية، فأجابتهم السلطات مشترطة عليهم عدم إخفاء الأشخاص الذين يتهربون من دفع الضرائب في أديرتهم، وألا يرسموا أي راهب قبل أن يستأذنوا الديوان. «تاريخ البطاركة اليعقوبيين وحبيب زيات: «خراج الأديرة وجزية الرهبان» في مجلة المشرق سنة ١٩٣٨».
(٥٩) ص١٤٠.
(٦٠) جروهمان: Apercu الجزء الأول ص٦٧. من الصعب أن نحدد المدة التي طُبق خلالها هذا النظام، وإلى أي حد طبق في أثناء القرن الثاني للهجرة.
(٦١) الخطط، الجزء الأول، ص٣١٤–٣١٥.
(٦٢) تاريخ البطاركة، الجزء الأول، ص٢٤٢.
(٦٣) Grohmann, Aperçu, I, P. 74.
(٦٤) Ľ Egypte arabe, p. 43–4.
(٦٥) Vie d’isnac, Pchianche ďAlexmçhie, p. o., XI, p. 377–85.
(٦٦) الجزء الثاني، ص٤٧٥.
(٦٧) ص١١٤.
(٦٨) ص٥٩.
(٦٩) ساويرس، ص١٥٢.
(٧٠) الجزء الثالث، ص٧٧، ٧٨.
(٧١) تاريخ البطاركة اليعاقبة، ص٢٠٤–٢٠٥.
(٧٢) نفس المرجع، ص٢٠٥.
(٧٣) الخطط، الجزء الأول، ص٧٩–٨٩.
(٧٤) سكان بشمور وهي أرض واقعة على مستنقعات يُزرع فيه الغاب، بين الإسكندرية ورشيد، بالقرب من بحيرة إدكو، ويزعم سعيد بن بطريق أنهم سلالة أربعين يونانيًّا بقوا في مصر بعد انتصار العرب ثم نما عددهم بالتزاوج «ص ٥٧».
(٧٥) Rederches, p. 152–G.
(٧٦) تاريخ، الجزء الثالث، ص٥٩.
(٧٧) المقصود هنا السري بن الحكم وعبد العزيز الجروي.
(٧٨) المقصود هنا علي بن عبد العزيز الجروي.
(٧٩) يذكر ساويرس هذا الحادث دون أن يعلق عليه أهمية.
(٨٠) ص٢٧٦، ٢٧٧.
(٨١) كان بعض الرواة المسيحيين، ومن بينهم ابن بطريق، يسمون هكذا البشموريين.
(٨٢) ميخائيل السوري، الجزء الثالث، ص٧٦.
(٨٣) لعلهم يقصدون الوالي.
(٨٤) لعله يقصد صاحب الخراج في دائرة البشموريين.
(٨٥) ميخائيل السوري، جزء ٣، ص٧٨، ٧٩.
(٨٦) الكندي، ص١٩٢.
(٨٧) كتب صاحب تاريخ البطريرك ميخائيل في هذا الصدد التفاصيل الآتية: «أمر المأمون بالبحث عما تبقى من البشموريين في مصر، وأرسلهم إلى بغداد حيث مكثوا في سجونها، ثم أطلق سراحهم شقيق المأمون وخليفته إبراهيم، وقد عاد البعض إلى بلادهم وبقي البعض الآخر في بغداد وهم فيها حتى الآن ويعرفون بالبشموريين. ولعل عاد بعضهم بعد ذلك إلى مصر وفي نفوسهم روح الثورة. Quatrcmerc, Recherches, p. 16–3».
(٨٨) ميخائيل السوري، الجزء الثالث، ص٨٣.
(٨٩) الخطط، ج١، ص٧٩–٨٠.
(٩٠) ابن النقاش «ترجمة النص الفرنسي المذكور في الجريدة الآسيوية الفرنسية».
(٩١) الكندي، ص٦٩.
(٩٢) ابن النقاش.
(٩٣) ابن النقاش.
(٩٤) ابن النقاش.
(٩٥) وبالأحرى أنه لم يمنعهم من أن يستتروا بزي المسلمين.
(٩٦) ابن بطريق، ص٥٩.
(٩٧) ابن بطريق، ص٦٣.
(٩٨) L’Egypt Arabe, dans Hist. de la Nation Egypienne, IV. P. 47.
(٩٩) أبو المحاسن بن تغري بردي، طبعة دار الكتب المصرية، جزء ١، ص٢٩٤.
(١٠٠) ميخائيل السوري، جزء ٢، ص٤٨٩.
(١٠١) الكندي ص٥٨، ٥٩.
(١٠٢) الكندي، ص٣٤٩ (على الهامش).
(١٠٣) تاريخ البطاركة، ص٢٩٠.
(١٠٤) الخطط، جزء ٢، ص٤٩٤.
(١٠٥) حبيب زيات، لقب القاضي في دولة المماليك في مجلة المشرق سنة ١٩٣٨.
(١٠٦) ميخائيل السوري، جزء ٢، ص٤٨٨.
(١٠٧) ميخائيل السوري، جزء ٣، ص٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤