الفصل الخامس عشر

عبده الحمولي وفنه

لحضرة العلامة المفضال صاحب الفضيلة الشيخ: مصطفى عبد الرازق، الأستاذ بكلية الآداب بالجامعة المصرية

رغب إليَّ الفاضل الأديب قسطندي أفندي رزق أن أكتب له كلمة في حياة عبده الحمولي وفنه. وجه إليّ هذه الرغبة في رسالة يقول فيها «إنه وفق إلى تصنيف كتاب في الموسيقى الشرقية والغناء العربي وحياة عبده الحمولي، وفي الكتاب بحوث وآراء الفحول الموسيقيين وفطاحل الشعراء والأدباء، ومعارضات في التجديد والتطور اللذين أوشكا أن يجهزوا على الرمق الباقي من الموسيقى الشرقية، وما لها من سحر وتأثير في النفوس».

ويتلطف قسطندي أفندي رزق فيقول «ولما كنتم معاصرين لغريد الشرق الذي لا تفتح العين على مثله، ولا تضنون أبدًا في ضم يدكم إلى يدي الضعيفة لتشاطروني الأجر عند الله وحسن الأحدوثة لدى الناس لقيامي بالواجب نحو الأفذاذ الراحلين المصريين الذين أخذت على عاتقي القيام بتخليد ذكراهم … أرجوكم أن تحضروا لي كلمة عن الفقيد، وعما إذا كنتم من أنصار موسيقاه العربية الساحرة لأدرجها ضمن كتابي».

وكان المعقول أن ألتمس سبيلا للخلاص من مزاحمة فحول الموسيقيين وفطاحل الأدباء والشعراء، ولي العذر بأنني لست موسيقيًا، ولم أسمع عبده الحمولي مغنيًا قط إلا ما حفظه الحاكي من بعض أدواره الشجية. لكن قسطندي أفندي زارني ليبين لي رغبته شفاهًا، فلقيت منه رجلاً مخلصًا للموسيقى العربية مخلصًا في حب عبده الحمولي أمام الموسيقى العربية في القرن التاسع عشر مخلصًا في معارضة كل تجديد يذهب بسحر الموسيقى الشرقية ويبطل مميزاتها.

وما يكون لي أن ألقى هذا الإخلاص كله بغير التلبية والتشجيع في زمن قلما تجد فيه عاملاً مخلصًا.

وإني وإن كنت غير موسيقي فإني أحب الموسيقى بفطرتي حبًا جمًا، وقد حاولت في عهد الشباب مرة أن أتعلم بعض الموسيقى فلم يسعدني الفراغ بل لم يسعدني فراغ للإكثار من سماع الموسيقى، لكنني ظللت دائمًا محبًا لهذا الفن الجميل، بل ظللت متتبعًا ما يمر به من أطوار التجديد في بلادنا.

وأحب أنواع الموسيقى إليَّ أبطسها وأسرعها تأثيرًا في العواطف، وعندي أن الموسيقى متعة للنفس وراحة للخاطر المكدود فإذا تعقدت ألحانها وأصبح تأليفها عويصًا يحتاج في إدراك مراميه إلى كد الذهن وفرط التأمل فقد خرجت الموسيقى عن حدودها واتجهت إلى غير وجهتها.

ليس أفضل الموسيقى عندي ما انطبق على قواعد الفن، فلم يدركه شذوذ ولم يخالف قانونًا من قوانين الصناعة لأنني لا أعرف هذه القوانين ولا أستطيع أن أميز الألحان التي تراعيها من الألحان التي تجاوزها، ولكنني أحس لبعض الأنغام بطرب لا أحس به لسائرها، وأذكر أنني سمعت بعض المغنين العصريين في بداية عهدهم يوم كان الفن لم يقيدهم تقييدًا ولم يحطهم بالسلاسل من قواعده والأغلال، فكنت يومئذ معجبًا بهم كل الإعجاب وكان أشد إعجابي بهم حين تثور عاطفة من عواطفهم عند الإنشاد فتسمو بألحانهم وأنغامهم صُعدًا إلى ما وراء القواعد الفنية. ولما سمعت هؤلاء المغنين بعد أن حذقوا الفن وأتقنوا أصوله وأصبحوا لا يسيرون في أغانيهم إلا على صراط ممدود، أصبحت آسف على تلك الوثبات التي كانت تطير بهم وتطير بنا معهم إلى آفاق لا تعرف الحدود.

قد يكون بحكم الإلف ما يروقني من الألحان الشرقية أكثر مما يروقني من غيرها، لكنني كثيرًا ما يذهب بي الطرب إلى غايته عند سماع قطع موسيقية أوربية؛ ففي الموسيقى الغربية كما في الموسيقى الشرقية أنغام إنسانية من شأنها أن تهز العواطف البشرية هزًا عنيفًا، أو ترد العواطف الهائجة إلى هدوء مريح. والموسيقي العبقري هو الذي يستطيع بموهبته أن يهتدي إلى هذه الأنغام فيؤلف منها نظمًا متسقًا يحدث أثره الموسيقي البليغ في نفوس البشر جميعًا.

ويخيل إلي أن عبده الحمولي كان عبقريًا من هذا الطراز فهو قد استخلص من الأغاني المصرية التي كانت معروفة لعهده كل ما يصلح أن يكون لحنًا موسيقيًا إنسانيًا، وألف من ذلك على قلته أغاني نقل بعضها من أناشيد الخلود، واقتبس عبده الحمولي مما وصل إليه من أغاني الأتراك ما يلائم مذهبه، فجمع ألحانًا إنسانية أيضًا لم يتناولها تقليدًا ولكنه نفذ إلى أعماقها وصقلها بذوقه وفنه صقلاً حتى تماثلت بما تم له من الألحان المصرية، وألف من هذا وذاك ترانيم بهرت ذوق الترك والعرب، ولو أن عبده الحمولي عرف الموسيقى الغربية لاستخلص منها أيضًا أبعدها عن التعقيد والتكليف وأدناها أن يكون غذاء للروح الإنساني، وراحة ونعيما، ثم لسلط عبقريته على تلك الخلاصة، فلم تدع فيها شذوذًا ينبو عن ملاءمة ما تم له من التأليف بين الموسيقى المصرية والموسيقى التركية، ثم لألف بعد ذلك من موسيقى الشرق وموسيقى الغرب تلك الموسيقى الإنسانية التي تهفو إليها الفطر في الناس جميعًا ولا تهتدي إليها سبيلاً.

هذا النزوع إلى إيجاد موسيقى إنسانية تجتمع الأذواق كلها على الإعجاب بها والشعور بجمالها على أساس ما أبقت الأيام في طيات الموسيقى المصرية والذوق المصري من آثار الحضارات الماضية والعصور الخوالي هو رسالة عبده الحمولي النبيلة التي أدى بعضها وترك للأعقاب أن يتموها.

وكان عبده الحمولي نبيلاً في مذهبه الفني كما كان نبيلاً في أخلاقه وشمائله، وفي سيرته بين الناس، وإنك لتدرك النبل في جوهر صوته وفي كيفية أدائه واختباره للأنغام وتأليفه بين الألحان. كان يتسامى بفنه عن التبذل والتكلف فلا ينحدر في غنائه إلى مثل التكسر في النبرات المائعة الذليلة.

«ومن أكبر الأدلة على استعداده شدة طربه من الغناء كأنه كان يغني ليطرب نفسه. وشغف المرء بصناعته وتلذذه بممارستها يدلان على انطباعه عليها واقتداره على إتقانها».

هذا ما يقوله جرجي زيدان في تراجم مشاهير الشرق وأين ممن يغني ليطرب نفسه؟

أولئك الذين إذا تغنوا في محفل بصبصت عيونهم يمينًا وشمالاً، وتمايلت أخادعهم صيدًا ودلالاً، وتصنعوا العبوس تارة، ثم تصنعوا الابتسام كأنما كل جهدهم مصروف إلى إلهاء الناس بتقلبات سحنهم وحركات جسومهم، وكأنما كل هَمِّ سامعيهم أن يتلقفوا من ثغورهم بسمة طائرة أو يغنموا من عيونهم لمحة راضية أو يروا في تزايل أعضائهم وضعًا معجبًا.

لم يكن كذلك عبده الحمولي الذي كان إذا شدا توجهت نفسه إلى الفن وحده، يريد أن تستوفي الصناعة حقها، وأن تبرز الألحان مستكملة جمالها فإذا استوت له القطعة الموسيقية البارعة كان أول مدرك لسحرها وروعتها وأول مستمتع بلذتها وبهجتها.

فليس يستجدي من الناس إعجابهم، ولكنه يرى من البر بالناس أن يمتعهم بهذه اللذة الفائقة، وأن يشركهم في تلك السعادة العالية.

عاش عبده الحمولي حياة كريمة نبيلة فلما مات مات أيضًا موتًا نبيلاً كريمًا تجلى فيه نسيانه نفسه في سبيل المروءة والوفاء.

ورد في تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر نقلاً عن جريدة: «مصباح الشرق» أن عبده الحمولي أصيب في آخر عمره بذات الرئة، وتراكمت عليه هموم الحياة «ودخل من داء السل في الدرجة التي لا يرجى منها شفاء، وأشار عليه الأطباء بسكنى الصعيد مدة الشتاء؛ فأقام في سوهاج شهرين ونصفا عادت له في أثنائها بعض قوته، وتقوى أمله في شفائه، ولم يدرك المرحوم كنه دائه إلا في اليوم الذي مات في غده. ثم عجل العودة إلى مصر ليشتغل بوضع غنائه في اسطوانات الفنوغرافات طلبًا للعيش، ولما حضر باشر ذلك فعلا ثم جاءه نعي أحد أصدقائه المخلصين بالمنيا فاغتم غمًا شديدًا، ولم يسمع لنصيحة أصحابه بل خالفهم لقضاء ما توجبه عليه مروءته، وسافر إلى تلك المدينة وأقام هناك أيامًا ولما عاد عاد باشتداد المرض عليه حتى أدركته منيته».

وإذا كان ذكر الفتى عمره الثاني فإن ذكر عبده الحمولي لا يزال بعد موته مثال النبل والكرم.

والذين يحيون اليوم وبعد اليوم تذكار الحمولي إنما ينشرون صفحات من آيات العبقرية ومكارم الأخلاق ليوجهوا الإصلاح الموسيقي في بلادنا وجهة صالحة ويضربوا لأهل الفن ولغير أهل الفن مثلاً في المروءة وفي عرفان المرء لكرامة نفسه، وكرامة الفن الذي يمارسه وعبده الحمولي ممن يصدق فيهم قول أبي العلاء:

جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم
بعد الممات جمال الكتب والسير

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤