إجازة بلا عمل

دار «تختخ» بدراجته دورةً واسعةً حول قسم الشرطة، فاستطاع أن يرى من خلال القضبان الحديدية على النافذة رأس الشاويش «فرقع» وهو مائلٌ إلى الأمام على المكتب، وقد انهمك في تحرير أحد المحاضر.

وعندما تأكَّد من وجود الشاويش، عاد مرةً أخرى إلى الإسراع في تشغيل قدمَيه؛ فقد كان يُريد زيارة القسم دون أن يكون الشاويش موجودًا. وأسرعت الدراجة عائدة به إلى «الكازينو»، حيث كان بقية المغامرين الخمسة في انتظاره، وعندما رأوه قد عاد سريعًا، أدركوا أنه لم يتمكَّن من دخول القسم، وأن الشاويش ما زال في مكانه.

هزَّ «تختخ» رأسه للأصدقاء، ففهموا ما يقصد … كان يُريد أن يقول لهم باختصارٍ شديد إنه فشل في مهمته.

وكان اللغز الذي يشغل بال الأصدقاء هذه المرة من نوعٍ غريب؛ كان مجرَّد حادث سرقة بسيط، لم يكونوا في الظروف العادية يشغلون أنفسهم به، ولكن كان هناك سببان وراء هذا الاهتمام … الأول أنهم قضوا الإجازة كلها دون أن يقوموا بمغامرةٍ واحدة … واقترب موعد العودة إلى المدرسة، وهم كُسالى لا يفعلون شيئًا إلَّا اللعب، والقيام برحلاتٍ قصيرة حول «المعادي».

والسبب الثاني هو «لوزة»؛ فقد شاهدت المتهم في الحادث عندما قُبض عيله، وأحزنها ما بدا على وجهه من يأسٍ وخوف، عندما أمسكته يد الشاويش القاسية، وجذبته إلى القسم. وكانت «لوزة» ساعتها قد ذهبت لزيارة صديقة تسكن بجوار «البنسيون» الصغير الذي يقع على النيل، وعلمت منها أن حادث سرقة قد وقع في «البنسيون»، وأن صاحبة «البنسيون» وهي عجوز قد ماتت من الصدمة عندما سُرقت منها تحويشة العمر، التي لا يعلم أحد قيمتها بالضبط.

ووقفت الصديقتان في النافذة ترقبان سيارات رجال الشرطة وهي تُحيط بالمنزل، وكان المتهم عائدًا إلى الفندق في المساء عندما وجد رجال الشرطة في انتظاره، فألقوا القبض عليه …

ولقد لفت نظر «لوزة» بوجهٍ خاص العسكري «شكر» مساعد الشاويش «فرقع»، الذي نُقل حديثًا إلى «المعادي»، وهو رجلٌ قصير القامة سمين للغاية كبير الرأس، يبدو كأنه نائمٌ طول الوقت.

وعندما شهدت «لوزة» كل ما حدث، عادت مسرعةً إلى الأصدقاء لتُخبرهم بما رأت، وقالت إنه من الممكن أن يكون الحادث لغزًا يمكن حله، ولكن «تختخ» احتجَّ قائلًا: إنه ليس هناك أي لغز … فهو حادث سرقة عادي، وقد قبض الشاويش على المتهم، وسوف يُقدَّم للمحاكمة وينتهي الأمر.

كان هذا كل ما حدث يوم الجمعة، وفي يوم السبت وتحت إلحاح «لوزة»، ذهب «تختخ» لزيارة القسم ومقابلة المتهم، ولكنه لم يستطِع فعاد إلى الأصدقاء في «الكازينو».

قال «تختخ» وهو يجلس بجوار الأصدقاء: ما زال الشاويش موجودًا في مكانه. إنه يُشبه القط الذي قبض على الفأر ولن يتركه أبدًا، فهي فرصة لإثبات ذكائه وجدارته، فقد قبض على الفاعل بعد ساعاتٍ قليلة من وقوع الجريمة.

ردَّت «لوزة» وهي تبتلع جرعةً من الزجاجة المثلجة: لقد أثَّر فيَّ شكل الشاب المتهم، خاصةً وقد أخذ يصيح: أنا بريء … إنني لم أسرق شيئًا مطلقًا!

تختخ: على كل حال من أجل خاطر «لوزة» سوف نُحاول معرفة ظروف الحادث بالضبط، وبعدها سنبحث إذا كان يستحق أن نتدخَّل أم لا … وسوف أُجرِّب زيارة الفندق لمعرفة القصة الآن قبل زيارة المتهم في القسم …

ووصفت «لوزة» مكان «البنسيون»، فقام «تختخ» بعد أن اتفق مع الأصدقاء على أن يعودوا إلى منازلهم، على أن يتصل بهم عندما يجمع معلوماتٍ كافية.

عاد «تختخ» يقفز إلى دراجته في هذا اليوم الحار، وهو يتمنَّى أن يعود إلى البيت، ويقف تحت الدش البارد دقائق ثم يأوي إلى فراشه.

وصل «تختخ» إلى مكان «البنسيون» نحو الساعة الثانية عشرة ظهرًا، والشمس حادة في وسط السماء، وليس هناك إلَّا عدد قليل من المارَّة يُسرعون الخطا اتقاءً لنيران الشمس القاسية.

وكالعادة، دار «تختخ» حول «البنسيون» يتأمَّله من الخارج، كان عبارةً عن «فيلا» صغيرة من الطراز القديم مكونة من طابقَين، وتُحيط بها حديقةٌ جميلة وسور من الطوب الأحمر، وعليه لافتة «بنسيون روز». وعندما انطبعت الصورة في ذهنه، تقدَّم بثباتٍ وضغط الجرس، ومرَّت لحظات، ثم فُتح الباب، وظهرت على العتبة فتاةٌ متوسِّطة السن، ترتدي مريلةً وقالت: نعم …

قال «تختخ» ببساطة: أُريد مقابلة صاحبة «البنسيون».

ردَّت الفتاة في حزن: صاحبة «البنسيون» … لقد ماتت أمس! ألا تعلم؟

تختخ: أليس هناك من يحل محلها؟

الشغَّالة: هناك الأستاذ «جان» ابن شقيقها، ولكنه غير موجود الآن؛ فقد ذهب إلى القاهرة.

تختخ: متى سيعود؟

الشغَّالة: لماذا؟ …

تختخ: أُريد استئجار غرفة في «البنسيون».

نظرت الشغَّالة إليه في ضيقٍ وقالت: إننا لا نُؤجِّر غرفًا للصبيان، فاذهب وأحضر والدك …

تضايق «تختخ» لهذه الملاحظة السخيفة وقال: لا داعي لهذا الأسلوب، فليس من عملك تحديد أعمار السكَّان … هل عندكم غرفة خالية؟

ردَّت الشغَّالة: نعم، هناك غرفة في الدور الثاني! كان يشغلها «محسن» الذي قبض عليه رجال الشرطة …

تختخ: أُريد استئجارها …

الشغَّالة: عندما يعود الأستاذ «جان»، فهناك إصلاحات في أرض الغرفة، حيث كان اللص قد أخفى النقود المسروقة.

أثارت هذه المعلومات انتباه «تختخ» فقال: هل من الممكن أن أشرب كوبًا من الماء؟

الشغَّالة: من الممكن طبعًا.

وما كادت تدخل لتُحضر كوب الماء، حتى دفع «تختخ» باب «البنسيون» ودخل، ثم أغلقه خلفه. كان المكان مُظلمًا نوعًا ما، ورطبًا وباردًا، فأحسَّ «تختخ» بالراحة من حرارة الشمس المحرقة، واختار كرسيًّا قريبًا وجلس عليه، وفي مواجهته تمامًا كانت رخصة «البنسيون» في بروازٍ من الخشب، وبجوارها صورة لسيدةٍ لم يشكَّ «تختخ» لحظةً أنها «روز» صاحبة «البنسيون» التي ماتت أمس؛ فقد كانت ملامحها تنطق بأنها ليست مصرية. وكانت ترتدي ملابس من الطراز القديم، وقبعتها فيها وردة كبيرة.

عادت الشغَّالة بكوب الماء ودُهشت عندما وجدت «تختخ» يجلس في صالة «البنسيون»، ولكن قبل أن تنطق بكلمة أشار «تختخ» إلى الصورة متسائلًا: هل هذه هي مدام «روز»؟

الشغَّالة: نعم.

ولاحظ «تختخ» أن الفتاة قد بدا عليها التأثُّر، فقال: يبدو أنها كانت امرأةً طيبة …

تنهَّدت الشغَّالة قائلة: يرحمها الله …

ودقَّ جرس، فقالت: سأصعد إلى فوق، يبدو أن أحد الزبائن يُريد شيئًا …

وشكرها «تختخ» على كوب الماء البارد، ووقف متظاهرًا بأنه سيخرج، فأسرعت الفتاة إلى السلم الذي يوصل بين الدور الأول والثاني، وأخذت تصعد مسرعة.

وبدلًا من أن ينصرف أخذ يدور في صالة «البنسيون» يتأمَّله. كانت الصالة مربعةً وبها عدة مقاعد للجلوس، ومنصة عالية حيث يجلس عادةً من يُدير «البنسيون»، ثم دهليز طويل على جانبَيه أربع غرف كانت كلها مُغلقة.

وبعد لحظاتٍ سمع «تختخ» صوت أقدام تقترب من الباب، عرف أنها أقدام الشاويش «فرقع» فاختفى خلف الباب، ولم يكد الشاويش يدخل حتى قفز هو خارجًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤