المتهم

انتهز «تختخ» فرصة وجود الشاويش في «البنسيون»، وانطلق مسرعًا بدراجته في الشمس المحرقة إلى القسم، حيث كان المتهم «محسن» ما زال هناك، ولم يُرحَّل بعدُ إلى السجن.

وعندما دخل «تختخ» القسم عرف العسكريَّ «شكر» على الفور كما وصفته «لوزة»، ولم يكن قد رآه من قبل، فاتجه إليه فورًا قائلًا: أنا «توفيق خليل» … مرحبًا بك في «المعادي» … ونرجو أن تجد العمل هنا مريحًا.

نظر «شكر» إلى «تختخ» في كسلٍ شديد وكأنه قام لتوِّه من النوم، وكان الحر قد أسال العرق على وجهه ورقبته، فبدا كأنه يعوم، وقال بصوتٍ ثقيل: شكرًا …

تختخ: أُريد أن أقابل «محسن».

شكر: «محسن» «محسن» آه … تقصد المجرم الذي سرق مدام «روز»؟ …

تختخ: نعم أقصد ذلك.

شكر: لماذا تُريد مقابلته؟

اضطُر «تختخ» إلى كذبةٍ بيضاء سريعة، وقال: إنه قريبي.

شكر: لا بد من استئذان النيابة.

تختخ: نيابة؟! ولكن النيابة في حلوان.

شكر: هذه هي التعليمات.

تختخ: ولكن …

ولكن «شكر» كان قد عاد إلى نومه الثقيل دون أن يرد، فنظر «تختخ» حوله بسرعة … كانت غرفة الحجز قريبةً وواضحة، فبابها مشبك بالقضبان في النصف العلوي منه، وكان «تختخ» يحتاج إلى ثلاث خطواتٍ فقط ليصل إلى الباب، فلم يتردَّد واتجه مسرعًا على أطراف أصابعه إلى باب الغرفة، ثم نادى بصوتٍ هامس: «محسن» … «محسن» …

سمع «تختخ» حركةً في الغرفة المظلمة، ثم ظهر وجه «محسن» من خلال قضبان الباب، وقبل أن ينطق بحرفٍ قال «تختخ»: لا ترفع صوتك، أنا صديقك أُريد مساعدتك.

قال «محسن»: ولكن من أنت؟

ردَّ «تختخ» بسرعة قائلًا: اسمي «توفيق» … وأصدقائي يدعونني «تختخ»، وأُريد أن أعرف ظروف الحادث كلها.

كان وجه «محسن» يُشبه وجه الطفل، شعره أسود متهدِّل على جبينه الواسع، وعيناه سوداوان، وقد طال شعر لحيته وشاربه، وبدا عليه اليأس الشديد.

نظر «محسن» إلى «تختخ» نظرةً طويلة، وقال: ولكن … ماذا تستطيع أن تفعل؟! إن الأدلة كلها ضدي.

تختخ: دَعك من هذا اليأس … وقُل لي ما عندك بسرعة، وباختصارٍ قبل أن يعود الشاويش.

محسن: سأسرد لك الحوادث بسرعة، لقد حدث كل شيء أمس الجمعة … وهو أول الشهر كما تعلم، فقبضنا المرتبات يوم الخميس كالمعتاد، ونزلتُ إلى القاهرة حيث سهرت وعدت متأخِّرًا، فاستيقظت في التاسعة والنصف صباحًا تقريبًا، وبعد أن أفطرت لبست ثيابي وذهبت لأدفع الإيجار لمدام «روز» … ثم قاطعه «تختخ»: كم كانت الساعة؟

محسن: كانت حوالي العاشرة والنصف تقريبًا.

كان «تختخ» يُقيِّد المواعيد في ورقةٍ صغيرة فقال: أرجو أن تُحدِّد المواعيد بدقةٍ لأن هذا أمرٌ هام جدًّا …

استمرَّ «محسن» في حديثه فقال: ثم خرجتُ من عند مدام «روز»، فذهبت إلى غرفة صديقي «كامل» … لأتفق معه على الذهاب إلى السينما، في حفلة الساعة الثالثة بعد الظهر، ولكنه كان ذاهبًا لمشاهدة مباراة في الكرة، وكان قد ارتدى ثيابه ويستعد للنزول، فتركته وذهبت إلى غرفتي، ثم نزلت فجلست في الصالة بالدور الأول، أقرأ الجريدة لاختيار الفيلم الذي سأدخله، ومرَّ بي «كامل» فحيَّاني وهو خارج، وبعدها بنصف ساعة تقريبًا غادرت «البنسيون» إلى القاهرة …

تختخ: هل كان في «البنسيون» أحد غيرك؟

محسن: لم يكن هناك أحدٌ في الدور الأرضي؛ فقد خرج الموظَّفون الأربعة الذين يسكنون به منذ الصباح الباكر؛ لأنهم يعملون في شركة طيران، وإجازتهم يوم الأحد وليس يوم الجمعة …

تختخ: وفي الدور العلوي؟

محسن: كانت مدام «روز» في غرفتها والست «دولت» في غرفةٍ ثانية، وهي سيدة مشلولة تستعمل مقعدًا متحرِّكًا، وهي التي اكتشفت الحادث، بعد أن سمعت صوت جسم مدام «روز» يسقط على الأرض، فاتجهت إلى غرفتها بالمقعد المتحرِّك وأبلغت الشرطة …

تختخ: وما هي أهم الأدلة ضدك؟

محسن: بصماتي التي وُجدت على كرسي في غرفة مدام «روز»، وكمية من النقود المسروقة، وُجدت مُخبَّأةً تحت الألواح الخشبية في أرضية الغرفة التي أسكن بها.

تختخ: أليس في «البنسيون» شغَّالون؟

محسن: نعم، هناك «عمر» الطباخ، والشغَّالة «حسنية»، ولكنهما كانا في الخارج لشراء لوازم الغداء.

تختخ: وماذا قلتَ لرجال الشرطة دفاعًا عن نفسك؟

محسن: قلت لهم إني بريء … فأنا بريءٌ فعلًا.

تختخ: لا أقصد إذا كنت بريئًا أم لا … أقصد ما هو تفسيرك لوجود بصماتك على الكرسي والنقود تحت اللوح الخشبي؟

محسن: بالنسبة للبصمات التي وجدوها على الكرسي، فقد كنت أستند إليه عندما ذهبت لإعطاء الإيجار لمدام «روز» ذلك الصباح.

تختخ: والنقود التي وُجدت بغرفتك؟

محسن: هذا ما لا يمكنني تفسيره … ولا يمكن أبدًا أن أتصوَّر كيف وصلت إلى هذا المكان.

تختخ: إنها طبعًا لم تطِر من غرفة مدام «روز» لتستقر في غرفتك؟

تنهَّد «محسن» في ضيقٍ ويأس وقال: إنها مؤامرةٌ مدبَّرة ضدي؛ فليس من المعقول أن أسرق هذه السيدة المسكينة التي كانت تُحبني، حتى عندما كنت أتأخَّر في دفع الإيجار وهو سبعة جنيهات ونصف جنيه، كانت تُمهلني، بل كانت تُقرضني أحيانًا.

تختخ: من الذي يمكن أن يتآمر ضدك ويضعك في هذا المأزق؟

محسن: لا أدري، فكل من في «البنسيون» أصدقائي، وأنا لم أوذِ أحدًا لينتقم مني بهذه الصورة.

تختخ: وهل كنت تمر بأزمةٍ مالية في الفترة الأخيرة؟

نظر «محسن» إلى «تختخ» بحزنٍ وقال: إنك تسأل مثل رجال الشرطة تمامًا! نعم، لقد كنت في ضائقةٍ مالية فعلًا … لأنني سوف أتزوَّج قريبًا … ولكن هذا لا يمكن أن يدفعني إلى السرقة.

تختخ: وهل علمتْ خطيبتك بما حدث؟

محسن: لا أظن … ولكن الصحفيين جاءوا اليوم إلى هنا … ونقلوا تفاصيل كل ما حدث كما كُتب في محضر الشرطة … وغدًا تنشره الجرائد فأُفصل من عملي … وأفقد خطيبتي … بل أفقد كل شيء.

واكتفى «تختخ» بهذا وخرج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤