بريء … أم مجرم؟

في الصباح الباكر كان «تختخ» يقرأ جرائد الصباح الثلاثة باهتمام، وكانت تروي كل تفاصيل القصة … وكان هناك خلافٌ في التفاصيل بين الجرائد الثلاث … ولكنها أجمعت على أن «محسن» هو المتهم الوحيد. وقرأ «تختخ» أسماء بقية النزلاء في «البنسيون»؛ «علاء» و«كريم» و«فوزي» و«فاروق»، وهم جميعًا موظَّفون في شركات الطيران … ويسكنون بالدور الأرضي من «البنسيون»، ويعملون يوم الجمعة وإجازاتهم الأسبوعية يوم الأحد، وقد ثبت من التحريات أنهم خرجوا جميعًا في الصباح الباكر إلى أعمالهم.

في الدور العلوي تسكن صاحبة «البنسيون» «روز»، والسيدة «دولت» المشلولة التي تتحرَّك على كرسيٍ ذي عجلات، وهي التي اكتشفت الحادث وأبلغت الشرطة …

الساكن الثالث في الدور العلوي هو «كامل» … وهو موظَّفٌ حكومي أيضًا، وصديق «محسن»، وعادةً ما يسهران معًا، وقد دافع عن صديقه بحرارة، ونفى عنه تهمة ارتكاب الجريمة. وكان «كامل» في صباح الحادث قد خرج في حوالي الساعة الحادية عشرة، حيث ذهب إلى أحد النوادي لمشاهدة مباراةٍ في كرة القدم.

الساكن الرابع هو «سيد» وهو موظَّفٌ حكومي أيضًا، وقد خرج منذ الصباح الباكر لزيارة أسرته التي تُقيم في «طنطا»، وهو يقوم بهذه الرحلة أسبوعيًّا في مواعيد محدَّدة.

الساكن الخامس في الدور العلوي «محسن» المتهم، وقالت الجرائد إنه شابٌّ طيب، ولم يسبق أن اتُّهم في شيء …

وضع «تختخ» الجرائد جانبًا عندما سمع صوت أقدام الأصدقاء وهي تدق السلالم في طريقها إليه، وبعد لحظاتٍ كان أمامه الأربعة، وكلٌّ منهم يحمل جريدةً في يده.

وبعد أن تبادلوا التحية قال «تختخ»: أراكم جميعًا تحملون الجرائد، فهل تحملون استنتاجات جديدةً حول الجريمة؟

هزَّ الجميع رءوسهم بالنفي، ثم قالت «لوزة»: يبدو أنني كنت مخطئةً عندما تصوَّرت أن هذا الشاب بريء … فالأدلة كلها ضده … البصمات على الكرسي والنقود في غرفته …

نوسة: أكثر من هذا … لقد ذكر مندوب جريدة الأهرام أن السيدة «دولت» المشلولة، سمعت في الثانية بعد الظهر صوت أقدام تعبر الدهليز بين غرفة «محسن» وغرفة مدام «روز»، وهما متقابلتان، وكانت هذه الأقدام خارجةً من غرفة «محسن» أيضًا … فليس هناك شك في أنه الفاعل.

عاطف: نُريد أن نُعيد تصوير السرقة مرةً أخرى … لا أقصد تصويرها بالكاميرا، ولكن نُريد أن نُرتِّب الحوادث كما وقعت … فهل يمكن أن تقوم لنا يا «تختخ» بهذه المهمة؟

تختخ: من كلامي مع «محسن» ومن كلام الجرائد يمكن أن أُعيد تصوير الحوادث كما يأتي: عندما ظهرت شمس صباح يوم الجمعة، استيقظ أولًا الموظَّفون الأربعة الذين يسكنون بالدور الأرضي، وهم عادةً لا يتناولون إفطارهم في «البنسيون» … وخرجوا بعد شرب الشاي فقط الذي أعدَّته لهم «حسنية» الشغَّالة. في الدور العلوي كانت الحياة في «البنسيون» أقل نشاطًا، فجميع من فيه يستيقظون في هذا اليوم — يوم الإجازة — متأخِّرين … السيدة «روز» صاحبة «البنسيون»، وهي سيدةٌ عجوز ومريضة تعيش على الأدوية … ولْنقل إنها استيقظت في الثامنة لإدارة «البنسيون» وقبض الإيجارات، أمَّا السيدة «دولت» وهي سيدةٌ مشلولة تعيش على إيراد منزل في القاهرة، وليس لها زوج ولا أبناء، فلعلها استيقظت بعد ذلك بساعةٍ أو أكثر. وهناك «سيد» الموظَّف وقد خرج في الحادية عشرة صباحًا؛ ليُسافر إلى «طنطا» حيث اعتاد السفر في كل يوم جمعة لزيارة أسرته التي تُقيم هناك. وعندنا «كامل» الموظف وصديق «محسن»، وقد خرج في الحادية عشرة تقريبًا للذهاب إلى النادي؛ ليجد مكانًا كما يفعل هواة الكرة لمشاهدة مباراة في كرة القدم. وهناك «محسن» المتهم، وهو الوحيد الذي بقي في «البنسيون» حتى حوالي الثانية عشرة — حسب أقواله — ثم خرج للغداء في القاهرة كما اعتاد كل يوم جمعة، ولدخول السينما حفلة الساعة الثالثة … هذا هو ملخَّص الوقائع كما حدثت في ذلك اليوم …

نوسة: وكيف تمَّت جريمة السرقة؟

تختخ: إن كل شيء في جريمة السرقة قائمٌ على أقوال السيدة «دولت»؛ فهي تقول إنها سمعت في الساعة الثانية تقريبًا صوت خطوات في الدهليز، ثم صوت شهقة قوية، ثم صوت سقوط جسم ثقيل … فصوَّرت الحادث على أن الخطوات خرجت من غرفة «محسن»، ثم اتجهت إلى غرفة «روز»، وبعد لحظاتٍ سمعت الشهقة، وسقوط الجسم، فأسرعت إلى غرفة «روز» حيث وجدت أنها وقعت على الأرض ميتة، وبجوارها حقيبة يدها مفتوحة …

عاطف: ألم تسمع صوت الأقدام وهي تعود مرةً أخرى؟

تختخ: نعم … سمعت أولًا صوت الأقدام تعود إلى غرفة «محسن»، ثم بعدها سمعت هذه الشهقة وسقوط الجسم، فأسرعت إلى الدهليز، ثم إلى غرفة «روز».

مُحب: ولكن «محسن» خرج في الثانية عشرة والجريمة تمَّت في الثانية تقريبًا، فكيف يكون هو مرتكبها؟

تختخ: إنه لم يستطِع إثبات خروجه من «البنسيون» في الثانية عشرة، خاصةً وقد كان الجميع في الخارج، و«حسنية» الشغَّالة ذهبت إلى السوق مع الطباخ «عمر» لشراء لوازم الغداء … فلم يكن في «البنسيون» إلَّا «روز» و«دولت» و«محسن»، وقد كانت السيدتان في غرفتَيهما، فلم يكن هناك من رآه وهو يُغادر «البنسيون» في هذا الموعد …

لوزة: لا أمل … فالجريمة ثابتةٌ عليه فعلًا، وكل شيء ضده، خاصةً صوت الأقدام بين غرفته وغرفة «روز»، ثم وجود النقود في غرفته.

تختخ: في الأغلب سوف يُقدَّم إلى المحاكمة ويصدر الحكم عليه، إلَّا إذا ظهرت أدلةٌ جديدة، وهذا غير متوقَّع على الإطلاق.

مُحب: إذن لا دخل لنا في الموضوع إطلاقًا، وعلينا أن نبحث عن رحلةٍ قصيرة خارج «المعادي»، ننسى فيها هذه الحكاية كلها.

لوزة: سأذهب لزيارة صديقتي التي تسكن بجوار «البنسيون»؛ لأنها طلبت مني كتابًا تقرؤه، وسوف أعود إليكم مرةً أخرى بعد نصف ساعة على الأكثر.

خرجت «لوزة» فركبت دراجتها الصغيرة، ولم يكد «زنجر» يراها حتى أسرع يجري خلفها …

وكانت «لوزة» تُريد العودة مسرعة، فلما وجدت صديقتها في شرفة البيت، طلبت منها النزول إلى الحديقة لأخذ الكتاب، فنزلت الصديقة بسرعة ودعت «لوزة» للصعود إلى فوق، ولكن «لوزة» رفضت قائلة: إننا نُفكِّر في القيام برحلةٍ أنا والأصدقاء، وأُريد أن أعود مسرعةً إلى هناك لأشترك في الحديث.

قالت الصديقة: أشكرك كثيرًا يا «لوزة» على هذا الكتاب، ومن المؤكَّد أنني سأستمتع بقراءته؛ فقد عاد الهدوء إلى بيتنا.

قالت «لوزة» مستفسرة: وهل كان في منزلكم ضجة؟

الصديقة: كانت الضجة تأتي من «البنسيون»؛ فقد كانت المرحومة مدام «روز» تتشاجر كثيرًا مع السيدة «دولت»، وكان صياحهما يستمر أحيانًا بالساعات … والآن لم تعد الست «دولت» تجد من تتشاجر معه، فهدأ الشارع كله وأصبحنا ننعم بالهدوء.

استمعت «لوزة» باهتمامٍ إلى حديث صديقتها، ثم استأذنت منها، وأسرعت إلى دراجتها وهي تكاد تطير؛ لأنها حصلت على هذه المعلومات، وقد دُهش «زنجر» كثيرًا لأن صديقته الصغيرة عادت بهذه السرعة، فأخذ يلهث وهو يُتابع الدراجة تحت أشعة الشمس الحارقة.

لم تكد «لوزة» تدخل حتى قطعت الأحاديث الجانبية التي كان يتبادلها الأصدقاء وقالت: هناك معلوماتٌ جديدة …

عاطف: عن أي شيء؟! لغز جديد؟!

لوزة: لا إنها معلوماتٌ عن حادث سرقة «البنسيون».

ونظر إليها الجميع وقد ملأ عيونهم الأمل، فقالت: لقد كانت مدام «روز» والست «دولت» عدوَّتَين … أقصد أنهما كانتا تتشاجران معًا كل يوم، حتى كان صياحهما يملأ الشارع.

قال «عاطف» لأخته متضايقًا: هل هذا كل شيء؟ إنهما كانتا تتخانقان، وهل هذه معلومات هامة؟

تختخ: نعم … هذه معلومات لا بأس بها … وقد قرَّرتُ أن نُعيد النظر في الموضوع كله. فالحادث كله … والقبض على المتهم استند على كلام الست «دولت» ولعلها تكون مخطئة … أو قصدت أن تُدلي بأقوالٍ غير دقيقة، حتى توقع «محسن» في الحادث لإبعاد الشبهة عن شخصٍ آخر.

مُحب: أو … لإبعاد الشبهة عن نفسها.

التفت الجميع إلى «مُحب» مندهشين … فهذه فكرة لم تخطر لهم على بال، ولكن «نوسة» قالت: ما هذا الكلام؟! هل يمكن أن تقوم سيدة عجوز ومشلولة بسرقةٍ من هذا النوع؟

تختخ: لِم لا؟ لقد قرأتُ كثيرًا عن جرائم قامت بها سيدات … ومن أصول عمل رجل الشرطة ألَّا تستبعد شيئًا، وفي اعتقادي أن كلام «لوزة» عن الخناقات التي كانت بين السيدتَين، يدعو إلى إعادة التفكير في الموقف كله.

نوسة: ماذا سنفعل يا «تختخ»؟

تختخ: سنضع قائمةً بالمشتبه فيهم، ونبدأ البحث من جديد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤