في المصيدة

خرج «تختخ» واتجه إلى منزله واستطاع كالمعتاد التسلُّل من الباب الخلفي والدخول إلى غرفته، حيث خلع ثياب التنكُّر وجلس يُفكِّر في لغز النقود … بعد أن اتصل تليفونيًّا ﺑ «نوسة» و«لوزة» … فحضرتا على الفور …

قالت «لوزة»: إننا لم نقم بأي جهدٍ في حل هذا اللغز، وأنت و«مُحب» و«عاطف» … تقومون بكل العمل.

تختخ: على كل حال أنت التي بدأت هذا اللغز، ولا بد أن ننتهي منه سريعًا؛ فلم يبقَ سوى ثلاثة أيام على دخول المدرسة، وليس أمامنا وقت.

نوسة: وإلى أي حدٍّ وصلت الآن؟

تختخ: الشبهات كلها تُحيط ﺑ «فوزي» الذي يسكن في الدور الأرضي؛ فقد ثبت أنه غادر الشركة بين الساعة الثانية عشرة والثالثة، وأنه خرج لإحضار نقود لسد في عهدته … وقد قابله بائع اللبن في «البنسيون» حوالي الساعة الثانية إلَّا ربعًا، وعندما عُرفت جريمة السرقة اتفق معه على عدم الإدلاء بشهادة لرجال الشرطة.

لوزة: ولماذا لم تقبض الشرطة على «فوزي»؟

تختخ: لقد استطاع الفرار في الصباح الباكر، وكنتُ قد اتفقت مع «كامل» على مراقبته، ولكن «كامل» استسلم للنوم وترك العصفور يطير من القفص.

لوزة: وما العمل الآن؟

تختخ: إن العملية كلها في أيدي رجال الشرطة، وقد وضعوا عدة كمائن على مداخل «الإسكندرية»؛ لأن المعتقَد أنه اتجه إلى هناك … وفي الأغلب سوف يقبضون عليه.

نوسة: إذن لقد انتهت القضية عند هذا الحد.

تختخ: للأسف لا … فهناك أدلةٌ جديدة تقلب نظرياتنا رأسًا على عقب، وقد لا يكون «فوزي» هو اللص.

نوسة: غير معقول! … إن القضية واضحة جدًّا.

تختخ: سأقول لكما على ما يدور في رأسي فحاولا التفكير معي … سنُصدِّق «محسن» مؤقَّتًا ونتفق معه على أنه ذهب إلى مدام «روز» في العاشرة والنصف لدفع الإيجار. لقد دفع لها سبعة جنيهات ونصف جنيه، وسنفترض أن المبلغ كان فكة «خمسة جنيهات» وجنيهَين ونصف جنيه … لقد ذهب «فتحي» بائع اللبن إلى مدام «روز» بعد ذلك، ولْنقل في الحادية عشرة إلَّا ربعًا؛ ليُحاسبها على ثمن اللبن فلم يجد معها فكة، وكما قال كان كل ما معها من نقودٍ من فئة «العشرة جنيهات والخمسة جنيهات» … فأين اختفى الجنيهان والنصف؟

لوزة: وماذا يعني كل هذا …؟

تختخ: يعني أن شخصًا ثالثًا دخل غرفة مدام «روز»، بعد العاشرة والنصف وقبل الحادية عشرة إلَّا ربعًا، أي بين دخول «محسن» ودخول بائع اللبن، وهذا الشخص لم يتقدَّم بالشهادة لرجال الشرطة فمن هو؟ هل هو «فوزي» أم شخصٌ آخر؟

لوزة: ولكن قد يكون «محسن» قد دفع المبلغ عشرة جنيهات مجمَّدةً وأخذ الباقي، وفي هذه الحالة تنهار هذه الفكرة …

تختخ: تمامًا، أنت ذكية للغاية يا «لوزة»، وقد طلبتُ من المفتش أن يسأل «محسن» عن المبلغ الذي دفعه، وهل كان فكةً أم مجمَّدًا؟

نوسة: بالضبط … وعلى كل حال إذا قبضوا على «فوزي»؛ فسوف تكون لشهادته قيمة هامة!

مضت فترة والأصدقاء الثلاثة يتحدَّثون في اللغز، ثم حضر «مُحب» و«عاطف» من المشوار الذي ذهبا إليه للبحث عن «فوزي»، فقال «مُحب»: لم يذهب «فوزي» للشركة اليوم على الإطلاق.

تختخ: آسف جدًّا لأنني أُتعبكما معي … فقد علمت من المفتش «سامي» أن «فوزي» لم يذهب إلى الشركة، وأنا شخصيًّا توقَّعت هذا منذ الصباح الباكر، عندما عرفتُ أنه غادر «البنسيون» دون أن يراه أحد، ولعله أحسَّ من حديثي معه أنني اشتبهت فيه … أو لعله خاف أن يتكلَّم «فتحي» فقرَّر الفرار.

عاطف: وهل أنت متأكِّدٌ أنه اللص؟

تختخ: ليس هناك شيء مؤكَّد حتى نصل إلى كل الإجابات التي نُريدها عن الأسئلة.

ثم شرح «تختخ» ﻟ «مُحب» و«عاطف» فكرته حول النقود الفكة والمجمَّدة، وقال لهما إنه في انتظار ردِّ المفتش بعد سؤال «محسن».

في هذه اللحظة دقَّ جرس التليفون في الدور الأسفل، وسمع الأصدقاء والدة «تختخ» وهي ترد عليه … وبعد لحظاتٍ سمعوها تنادي: «توفيق» … «توفيق» … تليفون لك من المفتش «سامي» …

أسرع «تختخ» إلى تحت ولم يُطِق الأصدقاء صبرًا على البقاء، فنزلوا خلفه، وأخذت والدة «تختخ» تنظر إليهم في دهشة وهم ملتفُّون حول التليفون في اهتمامٍ بالغ.

سمع «تختخ» صوت المفتش يقول في مرح: لقد وقع «فوزي» في المصيدة، واستطاع رجالنا القبض عليه في الأوتوبيس الصحراوي عند مدخل مدينة «الإسكندرية»، وكان معهم أوصافه كاملة.

تختخ: وهل اعترف بأنه اللص؟

المفتش: أبدًا … إنه يُنكر كل شيء ويقول إنه لم يرَ مدام «روز» في ذلك اليوم؛ لأنه لم يكن يملك أجرة الغرفة ليدفعها لها.

تختخ: وما هو الموقف؟

المفتش: سنأتي إلى «المعادي» وهو معنا بعد حوالي أربع ساعات، وسوف نُواجهه بالأدلة وبكلام «فتحي» بائع اللبن، وسيُضطر إلى الاعتراف أمام الأدلة.

تختخ: وهل سألتم «محسن» عن نوع النقود التي دفعها لمدام «روز»؟ … وهل كانت مجمَّدةً أم فكة؟

المفتش: لم نسأل بعد، ولكنني اتصلت تليفونيًّا بالسجن، وطلبت من الضابط المسئول سؤال «محسن»، ولم أتلقَّ ردًّا حتى الآن … فلتبقَ في المنزل لأتصل بك … أو أحضر مع المتهم «فوزي».

تختخ: من المهم جدًّا معرفة الإجابة عن سؤال «محسن»، فأرجو أن يصلني رد حالًا.

المفتش «سامي»: سأتصل بك بعد نصف ساعة على الأكثر.

انتهت المكالمة التليفونية وكان الأصدقاء جميعًا قد سمعوها، فقال «مُحب»: إذن فقد وقع «فوزي» … إنه في الغالب هو الذي ارتكب الحادث.

تختخ: ممكن … خاصةً إذا ثبت أن «محسن» دفع إيجار غرفته فكة … لقد سرقها «فوزي» ودفعها لسد العجز؛ فقد كان العجز الذي عنده قيمته ٢٧٫٥ جنيهًا … وهذا يعني أنه دفع ورقتَين من فئة «العشرة جنيهات»، ثم دفع خمسة جنيهات وجنيهَين ونصف جنيه … وهو المبلغ الفكة الذي كان مع مدام «روز»، والذي أخذته من «محسن».

نوسة: إن الأدلة كاملة ضد «فوزي» … وسيُضطر إلى الاعتراف.

مضت فترةٌ من الوقت ودقَّ جرس التليفون مرةً أخرى … وكان الأصدقاء لم يُغادروا مكانهم حوله، فردَّ «تختخ» على الفور، وكان المتحدِّث هو المفتش «سامي» الذي قال: لقد قال «محسن» إنه دفع الإيجار فكة، أي خمسة جنيهات وجنيهَين ونصف جنيه … وإن مدام «روز» أخذت المبلغ ووضعته تحت المخدة.

تختخ: هذا ما توقَّعتُه بالضبط …

المفتش: هل هذا يُؤدِّي إلى تغييرٍ في موقف المتهم؟

تختخ: لا أدري بعد … وحتى تحضروا إلينا، سأكون قمتُ ببعض التحريات.

المفتش: إن «فوزي» في الطريق الآن إلى القاهرة، وبمجرَّد وصوله سوف أُحضره معي إلى قسم «المعادي».

تختخ: ستجدنا في «البنسيون» … وبالمناسبة أنا متنكرٌ في شكل شاب ذي شارب رفيع، حتى لا تظنني متهمًا جديدًا.

ضحك المفتش على هذه النكتة … ثم انتهت المكالمة … والتفت «تختخ» إلى الأصدقاء قائلًا: سأرتدي الآن ثياب التنكُّر مرةً أخرى وأذهب إلى «البنسيون»، وعليكم أن تحضروا إلى هناك بعد نصف ساعة وتسألوا عني؛ فقد أحتاج إلى مساعدتكم.

بعد دقائقَ كان «تختخ» المتنكِّر في طريقه إلى «البنسيون» وقد استغرقته الخواطر.

وكانت الساعة قد اقتربت من الثالثة، وكان «كامل» قد عاد من عمله، فصعد «تختخ» إليه في غرفته، ووجده يجلس في مقعدٍ مواجه للنافذة، وقد بدت عليه علامات التفكير …

قال «تختخ»: كيف الحال؟

كامل: آسف جدًّا … إذ تركت «فوزي» يفر منا … لقد ظلِلت مستيقظًا حتى الرابعة والنصف تقريبًا … وتصوَّرت أنه لن يُغادر «البنسيون» فاستسلمت للنوم …

تختخ: لا بأس … لقد قبض رجال الشرطة على «فوزي» …

كامل: وهل اعترف؟

تختخ: لا … إنه مُصرٌّ على أنه لم يرتكب السرقة … ولكن هناك أدلةً جديدةً على أنه هو اللص …

بدت على وجه «كامل» علامات الاهتمام الشديد وقال: أدلةٌ جديدة؟!

تختخ: نعم … لقد ثبت أن «محسن» قد دفع لمدام «روز» إيجار غرفته سبعة جنيهات ونصف جنيه فكة، ولكن عندما حضر بائع اللبن في الحادية عشرة إلا ربعًا تقريبًا لم يكن معها فكة، ولمَّا كانت لم تُغادر غرفتها فلا بد أن شخصًا دخل في الفترة بين العاشرة والنصف والحادية عشرة إلَّا ربعًا، وأخذ منها الفكة لسببٍ أو لآخر … وهذا الشخص يُهمُّنا معرفة من هو؛ لأن ذلك سيُعيد التحقيق من جديد.

قال «كامل» بصوتٍ مرتعش: إذن فسوف يُفرج عن «محسن»؟ ذلك شيءٌ رائع حقًّا.

عاد «كامل» إلى الحديث فقال: للأسف فإنني سوف أُغادر «البنسيون» قريبًا؛ لقد وجدت شقةً صغيرةً في القاهرة، وسأنتقل إليها حتى لا أُسافر كل يوم بين «المعادي» والقاهرة … وتمَّت الموافقة على الطلب.

أحسَّ «تختخ» أن «كامل» لا يُريد الاستمرار في الحديث وتركه وخرج، وقد شغلت باله هذه الهجرة المفاجئة من «البنسيون»؛ فإن السرقة وموت مدام «روز» دفعا النزلاء إلى مغادرة المكان …

ذهب «تختخ» إلى غرفته في انتظار حضور المفتش، وأخذ يُفكِّر بعمقٍ في الحادث من جميع نواحيه، ويتصوَّر كيف وقع … وبعد لحظاتٍ سمع «حسنية» تناديه، فأدرك أن الأصدقاء قد وصلوا، فنزل إليهم وجلسوا في صالة «البنسيون»، يتناولون المشروبات المثلَّجة ويتبادلون أحاديث بعيدةً عن القضية حتى لا يُثيروا انتباه أحد … وخطرت ببال «تختخ» فكرةٌ مفاجئة … من الذي دفع إيجار الست «دولت» في هذا اليوم؟ هل هو «محسن» كالمعتاد، أم «كامل»، أم أنه شخصٌ آخر من نزلاء «البنسيون» أو العاملون فيه …؟ إن الإجابة عن هذا السؤال قد تُؤدِّي إلى دليلٍ جديد في القضية …

وهكذا طلب «تختخ» من الأصدقاء العودة إلى منازلهم للغداء … ثم صعد إلى الست «دولت» فوجدها تتغدَّى في غرفتها، فدعته إلى مشاركتها الغداء ولكنه شكرها … ثم غادر الغرفة على أن يعود إلى مقابلتها بعد الغداء.

ذهب «تختخ» إلى غرفته في انتظار تليفون المفتش «سامي»، وطلب بعض «السندوتشات» للغداء، ثم ارتاح قليلًا …

بعد ساعةٍ دقَّ جرس التليفون وارتفع صوت «حسنية» يطلبه … فأسرع إلى التليفون حيث وجد المفتش يتحدَّث إليه من قسم «المعادي» قائلًا: لقد وصلنا إلى القسم ومعنا «فوزي»، أرجو أن تحضر فورًا.

لم تمضِ دقائق حتى كان «تختخ» قد وصل إلى القسم، ولكن الشاويش «فرقع» الذي كان يقف قرب الباب منعه قائلًا: إن المفتش يُحقِّق قضية هامة، ولن يستقبل أحدًا الآن …

قال «تختخ» للشاويش: أرجو أن تقول للمفتش إن أحد أقرباء «محسن» ويُدعى «توفيق» يُريد مقابلته.

بعد لحظاتٍ كان «تختخ» يجلس بجوار المفتش الذي عرفه طبعًا.

تبادل «تختخ» والمفتش حديثًا هامسًا، ثم قال المفتش ﻟ «فوزي»: نحن آسفون للقبض عليك بهذه الصورة، ولكن هناك أدلة قوية ضدك … فإنك غادرت المصنع يوم حادث السرقة لإحضار ٢٧٫٥ جنيهًا، هي قيمة النقص الذي في عهدتك، وقد حضرت إلى «البنسيون» وقابلت «فتحي» بائع اللبن … ثم عدت إلى الشركة ودفعت النقود … فمن أين أحضرت النقود؟ ولماذا لم تتقدَّم بالشهادة؟

كان «فوزي» يبدو شاحبًا ومضطربًا، وقد بدا عليه التعب الشديد … فأخذ ينظر حوله، ثم قال: إنني فعلًا خرجتُ من الشركة يوم الحادث وذهبت إلى «البنسيون»، ولكني لم أصعد إلى الدور الثاني ولم أُقابل مدام «روز» في ذلك اليوم على الإطلاق …

المفتش: بدلًا من المحاورة غير المجدية قل لنا كيف قضيت هذا اليوم، منذ الصباح حتى عودتك إلى «البنسيون» في الساعة الرابعة.

فوزي: أُقسم لك … إنني سأقول لك الحق … كل الحق … ولا شيء إلَّا الحق.

وأحسَّ «تختخ» أن «فوزي» يقول الحق فعلًا … فأخذ يُنصت إليه باهتمام، وقد دارت برأسه سلسلة متشابكة من الأفكار، ومضى «فوزي» يقول: في هذا الشهر بدأتْ لجنة الجرد تجرد كل العُهَد التي عند الموظفين، وقد كان في عُهدتي نقص قدره ٢٧٫٥ جنيهًا … وقد تحفَّظت لجنة الجرد على مرتبي البالغ ١٨ جنيهًا حتى أُسدِّد بقية العجز، وهكذا جاء أول الشهر ولم يكن في إمكاني تسديد أجرة الغرفة … ولم تكن مدام «روز» تسمح بتأخير الدفع … ولهذا قرَّرت ترك «البنسيون» لأقيم مع صديقٍ في غرفةٍ إيجارها الشهري ثمانية جنيهات، أي يدفع كلٌّ منا أربعة جنيهات.

وسكت «فوزي» … قليلًا … ثم قال: وفي يوم الخميس السابق على السرقة أمهلتني اللجنة يومًا واحدًا لتسديد بقية العجز وإلَّا أُوقفت عن العمل، وفي ذلك اليوم … الخميس، استطعت جمع بقية المبلغ من أصدقائي، ولكن للأسف عندما ذهبت إلى الشركة يوم الجمعة نسيتُ المبلغ في «البنسيون»، وهكذا أخذت إذنًا من الشركة لإحضار المبلغ وعدت فعلًا وأخذته، ثم مررت بصديقي الذي سأسكن معه، وهو موظَّفٌ حكومي وإجازته يوم الجمعة؛ لأخبره بأنني سأنتقل للشقة معه في اليوم التالي، وقد قضيت معه بعض الوقت، ثم عدت إلى الشركة.

المفتش: ولماذا لم تتقدَّم بشهادتك؟

فوزي: لقد وجدت رجال الشرطة قد قبضوا على المتهم، وعندهم الأدلة كلها فلم أجد دافعًا للتقدُّم بالشهادة، ولم يسألني أحدٌ وخشيت أن يسألوا عن ظروفي وحالتي المالية، فيتصوَّروا أنني مشتركٌ في الحادث، أو أي شيء، فسكت وطلبت من بائع اللبن الذي قابلني عند باب «البنسيون» السكوت أيضًا، خاصةً أنه شرح لي ظروفه هو الآخر.

المفتش: على كل حال يمكن التأكُّد من صحة هذه المعلومات … فمن هم زملاؤك الذين اقترضت منهم النقود؟ ومن هو صديقك الذي ذهبت إليه في ذلك اليوم …؟

أعطى «فوزي» أسماء أصدقائه وعنوان صديقه الموظَّف، فكلَّف المفتش بعض الضبَّاط للتأكُّد من صحة المعلومات وخرجوا فورًا، واندفعت صفَّارات السيارات وهي تُسرع بهم بعيدًا.

التفت المفتش إلى «فوزي» قائلًا: ولماذا إذن غادرت «المعادي» مسرعًا … وذهبت إلى «الإسكندرية»؟

فوزي: في الحقيقة إني نويت أن أعود إلى «الإسكندرية» لأبحث عن عملٍ هناك، وقد قلت للأستاذ «توفيق» هذا الكلام … ولكن عدت وقرَّرت البقاء في الشركة، وقد سافرت ﻟ «الإسكندرية» لإحضار بعض النقود من والدي، لأواجه بها مصاريف الشهر.

مال «تختخ» على المفتش وهمس في أذنه: يبدو أنه يقول الصدق، وسوف يعود رجالك ليتأكَّدوا من صحة كلامه.

المفتش: في هذه الحالة نعتذر له ويكون كل ما فعلناه بلا سبب، ويبقى «محسن» هو المتهم الوحيد.

تختخ: على العكس، إن ما فعلناه لم يكن بلا فائدة؛ فكل ارتيابي كان موجَّهًا إليه، وإن صدق كلامه فهذا يُؤيِّد شكوكي السابقة في شخصٍ آخر كنت قد استبعدته لكثرة الأدلة ضد «فوزي»، فقد بدأت أشك في شخصٍ آخر؟

المفتش: غير معقول! … هل نبدأ تحريات أخرى؟

تختخ: أبدًا … ولكن سوف أقوم بتجرِبةٍ قد تُثبت صحة شكوكي.

المفتش: ومن الذي تشتبه فيه هذه المرة؟ لعلك تشتبه في السيدة «دولت» باعتبارها كانت الوحيدة الباقية في «البنسيون» في ذلك اليوم؟

تختخ: لا ليست «دولت» من أُفكِّر فيه … إنه شخصٌ لم نُفكِّر في اتهامه من قبل.

المفتش: من هو؟

تختخ: بدلًا من إضاعة الوقت في الكلام تعالَ معي.

المفتش: إلى أين؟

تختخ: إلى «البنسيون» واترك خبرًا أنك هناك … ولكن قبل كل شيء هل معك عشرة جنيهات ورقة واحدة؟

المفتش: نعم، لماذا؟ هل تُريد شراء شيء؟

«تختخ» مبتسمًا: لا … أُريد اختبار أعصاب شخص ما.

وخرج المفتش و«تختخ» مسرعَين بعد أن نبَّه المفتش على الشاويش بالاتصال به في «البنسيون» عند عودة الضبَّاط …

ركب «المفتش» و«تختخ» سيارة المفتش واتجها إلى «البنسيون»، وفي الطريق روى للمفتش شكوكه واستنتاجاته حول الشخص الذي ارتكب الجريمة، ورسم خطةً معيَّنةً للإيقاع به.

دخل الاثنان «البنسيون» … وصعدا بهدوءٍ على السلم، ثم دخل «تختخ» والمفتش إلى غرفة الست «دولت»، وكانت جالسةً في مكانها على الكرسي المتحرِّك تنظر من النافذة، فقال لها «تختخ»: آسف لإزعاجكِ وأُقدِّم لك المفتش «سامي» مدير البحث الجنائي … ونُريد سؤالك بعض الأسئلة.

فزعت الست «دولت» قليلًا، ثم قالت: تفضَّلا، عَمَّ تُريدان أن تسألا؟

تختخ: هل عندك ساعة؟

السيدة: نعم، ولكنها عاطلة عن العمل منذ شهر، ولم أُرسلها للتصليح حتى الآن …

تختخ: ومن أين عرفت أن الساعة كانت الثانية عندما سمعت صوت أقدام في الصالة وحدوث سقوط الجسم؟

دولت: إنني هنا منذ عشرين عامًا أجلس في هذا المكان، وأعرف مواعيد كل من يمر بالشارع أو يدخل «البنسيون»، وفي هذه الساعة بالضبط تمر سيارة الدكتور «سيف الدين» الذي يُعالج أحد المرضى بجوار «البنسيون» في مثل هذا الموعد منذ أربعة أشهر تقريبًا.

تختخ: ولكن من الممكن أن تكون الساعة الواحدة والنصف أو قبل ذلك أو بعد ذلك.

دولت: من الممكن طبعًا … فلستُ أستطيع ضبط الوقت بهذه الدقة.

تختخ: وهل أنت التي دفعت إيجار غرفتك هذا الشهر؟

دولت: لا …

تختخ: من الذي دفعه؟ … هل هو «محسن» مثل كل شهر؟

دولت: لا … هذا الشهر دفعه «كامل».

تختخ: هذا ما كنت أُريد معرفته … هيا يا حضرة المفتش.

دقَّ «تختخ» باب «كامل» فسمع صوته بالداخل يقول: ادخل. فأشار للمفتش بالبقاء بجوار الباب ليسمع الحوار الذي سيدور بينه وبين «كامل»، ثم دخل وترك الباب مواربًا …

قال «تختخ»: آسف لإزعاجك مرةً أخرى …

كامل: هل قبضتم على «فوزي»؟ وهل اعترف؟

تختخ: نعم قبض عليه رجال الشرطة، ولكن سمعنا منه أقوالًا غريبة.

ارتبك «كامل» واصفرَّ وجهه، وقال: أي أقوال؟

تختخ: لقد قال إنه رآك نحو الساعة الواحدة قرب «البنسيون» يوم الحادث.

قال «كامل» … مضطربًا: آه، لقد مررتُ قرب «البنسيون» فعلًا ولكني لم أدخل …

تختخ: شيءٌ آخر … هل أنت الذي دفعت إيجار الست «دولت» إلى مدام «روز» هذا الشهر؟

كامل: لا … نعم … أقصد أنها أعطتني النقود فعلًا ولكني لم أدفعها … لقد كنتُ متعجِّلًا … وقد قلت لكم من قبلُ إنني لم أدخل حجرة مدام «روز» في ذلك اليوم مطلقًا …

أخرج «تختخ» الجنيهات العشرة من جيبه بحركةٍ مفاجئة، ثم قال: إذن فأنت لم ترَ هذه الورقة من قبل؟

نظر «كامل» إلى الورقة وقال: هذه الورقة؟

تختخ: إنها ورقة ذات عشرة جنيهات … كما ترى … تركها اللص في غرفة مدام «روز»، وقد وجدها رجال الشرطة ووجدوا بصمات اللص عليها.

وفجأةً انقضَّ «كامل» على «تختخ» وانتزع الورقة من يده صائحًا: لن تخرج من هنا حيًّا! من الذي أدخلك في هذه القضية؟! ومن أنت؟ …

ولكن قبل أن يتحرَّك «كامل» من مكانه كان المفتش قد دخل من الباب قائلًا: لا داعي لتصرُّفاتٍ طائشة، لقد وقعت وانتهى الأمر.

انهار «كامل» انهيارًا كاملًا وأخذ يبكي بصوتٍ مرتفع واعترف بجريمته، فأمسك به المفتش واقتاده إلى الخارج وحملته العربة أمام دهشة سُكَّان «البنسيون»، وانطلقت إلى قسم الشرطة …

كان بقية الأصدقاء قد علموا بوصول المفتش فذهبوا إلى القسم … وهكذا اجتمع المغامرون الخمسة، وأخذ الجميع يستمعون إلى «تختخ» وهو يشرح كيف توصَّل إلى اللص …

قال «تختخ»: لقد بدأتُ أشك في «كامل» منذ اللحظة التي قال لي فيها إن رجال الشرطة قد عثروا على النقود المسروقة تحت اللوح الثالث في غرفة «محسن»؛ فهذه المعلومات لم ترد في محضر الشرطة كما قالت الجرائد، بل لم يذكرها أحدٌ على الإطلاق ولا «محسن» نفسه؛ لأنها لم تكن شيئًا ذا أهمية في الحادث كله، المهم أن النقود وُجدت في غرفة «محسن»، وهو الدليل الأكيد على أنه هو اللص.

سكت «تختخ» قليلًا وكانت العيون كلها مسلَّطةً عليه، ثم مضى يقول: ثم قال «فتحي» بائع اللبن إنه عندما ذهب إلى مدام «روز» في الحادية عشرة إلَّا الربع لم يجد معها فكة، برغم أن «محسن» أعطاها سبعة جنيهات ونصفًا في العاشرة والنصف؛ أي إنه كان معها نصف جنيه وكانت تستطيع أن تدفع منه ثمن اللبن … ولكن كل النقود التي كانت معها كانت من فئة «العشرة جنيهات والخمسة جنيهات» … معنى هذا أن شخصًا ما قابل مدام «روز» بين العاشرة والنصف والحادية عشرة إلَّا الربع … فمن هو؟ الثابت أن الموظَّفين الأربعة خرجوا من المنزل إلى أعمالهم … وأن الشغَّالة «حسنية» و«عمر» الطبَّاخ كانا في السوق، و«سيد» سافر إلى «طنطا»، و«محسن» دفع لها الإيجار وانتهى الأمر … إذن ﻓ «كامل» هو الشخص الوحيد المحتمل أن يكون قد دخل غرفة مدام «روز» ليدفع لها الإيجار له وللست «دولت» … وقد أعطاها خمسة عشر جنيهًا مكونةً من ورقة من فئة «العشرة جنيهات»، وورقة من فئة «الخمسة جنيهات»، وأخذ الباقي جنيهَين ونصفًا؛ لأن مجموع إيجاره وإيجار الست «دولت» هو اثنا عشر جنيهًا ونصف جنيه … وهكذا أصبح كل ما مع مدام «روز» من نقودٍ أوراقًا كبيرةً من فئة «العشرة جنيهات والخمسة جنيهات»، ولكن «كامل» أنكر من قبلُ رؤيته لمدام «روز» يوم الحادث، ممَّا زاد من شكي في شخصه، وحاولتُ أن أنصب له فخًّا يسقط فيه ويجعله يعترف.

مُحب: لماذا أنكر أنه دفع الإيجار لمدام «روز»؟

تختخ: لأنه كان يُريد أن يُبعد الشبهات عنه تمامًا …

المفتش: ولماذا اختار هذا اليوم بالذات لارتكاب جريمته؟

تختخ: لقد خطَّط للجريمة منذ وقتٍ طويل … فهو يعرف تحرُّكات كل شخص في «البنسيون» … ويعرف أن مدام «روز» تُخرج نقودها أول الشهر لتُسلِّم الإيرادات وتدفع المصروفات، فتكون النقود قريبةً منها ومنه أيضًا حتى لا يُضطر للبحث عنها.

لوزة: إنني لم أتصوَّر خطته كاملةً حتى الآن …

تختخ: المسألة غايةٌ في البساطة … لقد قرَّر أن يُلقي الشبهات على «محسن»، فخرج في الصباح قبله ليُثبت أنه بعيدٌ عن مكان الجريمة، وأن «محسن» هو الوحيد الباقي في «البنسيون» … وذهب إلى القاهرة حيث قطع تذكرةً في مباراة الكرة، وقطعها واحتفظ بالكعب الذي أبرزه لرجال الشرطة ليُثبت وجوده في المباراة في أثناء وقوع الجريمة … ثم عاد ﻟ «المعادي» حوالي الساعة الثانية، ودخل عن طريق نافذة غرفة «محسن»، وفتح الباب وسار بخطواتٍ مسموعة حتى تسمعه الست «دولت»؛ فتظن أنه «محسن»، ودخل إلى غرفة مدام «روز» وهو يظن أنها ليست موجودة، وقد ظنَّها قد نزلت إلى الدور الأرضي لتُشرف على «البنسيون» كالمعتاد … ولكن يبدو أن مدام «روز» انتهزت فرصة غياب النزلاء، وقرَّرت أن تنام قليلًا، فدخل ووجدها نائمة، فلم يتردَّد في مد يده تحت المخدة وأخذ النقود، واستيقظت مدام «روز» على حركته من الغرفة، فرأته يحمل النقود ويخرج، فلم يحتمل قلبها الصدمة.

المفتش: وكيف دخل عن طريق النافذة؟

تختخ: لقد دخل عن طريق باب الحديقة الخلفي، وهو يعرف أن لا أحد يدخل في هذه الساعة، وعندما أصبح في الحديقة تسلَّق الشجرة وقفز إلى داخل الغرفة ومنها إلى غرفة مدام «روز»، حيث ارتكب جريمته وعاد من نفس الطريق … ثم أسرع إلى القاهرة وعاد في المساء ليجد التهمة قد أُلصقت ﺑ «محسن» … كما قدَّر … وخاصةً أنه أخفى جزءًا من النقود المسروقة تحت خشب غرفة «محسن» لإثبات التهمة عليه …

ونظر المفتش إلى «كامل» فوجده منكَّس الرأس، لا يستطيع رفع عينَيه إلى الموجودين، فأمر الشاويش بإيداعه الحبس … ثم التفت إلى المغامرين الخمسة قائلًا: … والآن إلى «الكازينو» كالمعتاد لنأخذ «الجيلاتي».

وانتهى لغزٌ جديد … وما تزال هناك ألغازٌ أكثر غموضًا وتشويقًا …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤