ألفريد دوموسيه١

نادرة من فحول شعراء الفرنسيس، ولد بباريس سنة ١٨١٠، ومات بها سنة ١٨٥٧، وهو ثاني أنجال «موسيه باتي»، تعلم في كلية هنري الرابع، فكان من أقرانه فيها «الدوق دورليان»، وبعدما تردد بين الحقوق والطب والرسم والموسيقى انقطع لعلوم الأدب.

وفي الثامنة عشرة من عمره أُلْحِقَ بالمعهد الأدبي عند «نودييه»، وكان مخصصًا للمذهب المطلق٢ فوضع بعد دخوله بسنتين كتاب «قصص إسبانيا وإيطاليا» سنة ١٨٣٠؛ فكان له استحسان عظيم و«دون بايز» و«الأندلسية» وقصيدة في القمر وغيرها، فكانت من نفثات أقلامه وهو في شرخ شبابه، مما سحر الناس برقته المتناهية في الشعر ورشاقته البديعة في صوغ القريض؛ حتى نهض بالمذهب المطلق ورفع شأنه.

وقد حلَّى طروس «مجلة باريس» ببدائع رواياته مثل: «أدعية لا تجدي»، و«أوكتاف»، و«فكر رفاييل السرية»، ثم ظهرت رواياته التمثيلية: «ليلة في فينزيا»، و«منظر في كرسي» سنة ١٨٣٢، و«الكأس والشفتان»، و«فيمَ تحلم الفتيات؟» رواية لطيفة، و«شجرة الصفاف» مرثية، و«نامونا» قصيدة طلية بلهجة تهكم رقيقة.

وعلاوة على اقتداره النادر في بث تأوهاته التي تكاد تسمعها من بين سطوره، فإنه كان يجاري بعض الشعراء في مذاهبهم، لا سيما «بيرون» الشاعر الإنكليزي المشهور، ونخص بالذكر «رولَّا» سنة ١٨٣٣؛ فإنها من أسلوب الشاعر السابق، ولها رنة مؤثرة فخم فيها الهيام.

ثم أصابته نوبات وقلاقل حولت ذكاءه من طور إلى طور أرقى منه سببه له الحب؛ إذ أحب «جورج صاند» الروائية الشهيرة وأحبته، وسافر معها في شتاء سنة ١٨٣٣ إلى إيطاليا متنقلًا بين جنوه وفلورنسا وبولونيا وفيرار، ثم ألقى عصا الترحال في فينزيا، وهناك شجر بينهما خلاف شديد أفضى إلى الانفصال بسبب انقلابها وخيانتها عهده؛ فرجع إلى باريس وحده في أبريل سنة ١٨٣٤، وقد أنهكته الشجون وتيمه الهوى المبرح وسحقته هذه التجارب، ولكن كان لها الفضل لكونها صيرته شاعرًا مجيدًا من أوائل الشعراء، كما أشار بذلك في عرض كلامه في قصيدة «ليلة من تشرين الأول» حيث قال:

وقصارى الكلام أن بليتك هي التي أنارت قلبك، فالفادحات والأوصاب بمثابة المعلم، والإنسان كالطفل المتعلم وبقدر الرزايا تكون المعارف؛ وإنها لشِرعة قاسية ولكنها حكمة بالغة قديمة كالدنيا ونكدها.

ومن سنة ١٨٣٥ إلى ١٨٤٠ ظهرت معجزات قريضه ونثره وصوت آلامه في الحب والشك والسلوان، وهي «لياليه الأربعة» التي سارت بذكرها الركبان: «ليلة من أيار» و«ليلة من كانون الأول» و«ليلة من آب» و«ليلة من تشرين الأول».

ففي الأولى يبكي «موسيه» من خيانة حبيبته، ويُعرض عن الطيف الذي يدعوه إلى الغناء، وفي الثانية يبحث في العزلة عن شفاء آلامه وأوصابه، وفي الثالثة يعاود قسمه بأن لا يفتح قلبه للحب، وفي الرابعة يزعم أنه طاب ويود أن يقص أخبار آلامه التي يدعي أنه برئ منها، ولكنه عندما سردها كادت تجهز عليه وطأة الانفعال، فأخذ الطيف عليه موثقًا بالغفران والنسيان.

وهذه الليالي مع «رسالته إلى لا مارتين» و«تذكار» هي التي رفعته إلى مصافِّ فحول الشعراء الذين يشار إليهم بالبنان، ولم يلهم شاعر غيره أن يوفق للإتيان بمثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.

يأخذ العجب القارئ لمَ خُصَّ هذا الشاعر وحده بهذه الهبة الجليلة؟! هذا لأنه أحرقه الجوى، وبرى أعظمه الهوى، وأذاب ما على فؤاده من الحجب؛ فاستنار بنور الحب عقله وجنانه، فكان يعبر عن وجدانه وشعوره كما يصف الناظر المرئيات، وغيره لم يجمع بين الوجد المبرح والبلاغة الساحرة؛ فتراه مهما كان مقتدرًا على القريض، وحاول أن يصف الهوى، فإنه لا يصفه إلا وصفًا خياليًّا سمجًا تمجُّه الأذواق وتزدريه الأذهان.

وبعد «الليالي» ظهرت قصيدته «الأمل في الله» ورواية قصصية كبيرة كتبها نثرًا وسماها «اعتراف طفل من أبناء الجيل» سنة ١٨٣٦، سرد فيها الشاعر — وقد قارب الشفاء — ما انتابه من مضض الآلام، ثم «نعمة طيبة» وهي بديعة النظم شائقة المعاني.

وكتب عددًا عظيمًا من الروايات التمثيلية كان لها نصيب وافر من الرقة والبلاغة تماثل في أسلوبها روح شكسبير، منها: «فانتازيو»، و«أهواء ماريان» سنة ١٨٣٣، و«لورينزاشو»، و«لا يمزح بالحب» سنة ١٨٣٤، و«باربيرين» سنة ١٨٣٥ وغيرها.

وفي أواخر أيامه أنهكه التعب والمرض من الإفراط في الملذات٣ فضعف ذكاؤه، وفي سنة ١٨٥٢ انتُخب في المجمع العلمي الفرنسي بعدما وهت قواه الجسدية والعقلية، وما فتئ مرعيًّا في فرنسا بأنه أكبر الشعراء في الحب وأصدقهم وأشدهم تأثيرًا.

ليلة من تشرين الأول La Nuit d’Octobre

الشاعر : أصبحت والحمد لله لا أتذكر مما تكبدته من الآلام فيما سلف من الأيام. إلا كطيف خيال أو ضباب خفيف أهاجه الفجر، ثم لاحت بعده تباشير الصباح ونفحات النسيم العليل بين الندى البليل.
الطيف : ما الذي دهاك يا شاعري؟! وأي عناء خَفِي أَنَّ منه قلبُك حتى صرمت حبالي وصرتُ أتلهف لسبر هذا الداء الكمين الذي طالما أنضب مني الدمع؟!٤
الشاعر : قد كان ألمًا معروفًا بين الخاص والعام، ولكنا إذا شعرنا ببعض السأم حل القلوب تصورنا لقصر العقول أننا أول من أحس بالداء.
الطيف : إنك لأرفع مما اتصفت به، فالنفس العلية لا تتألم من الحادث الجلل، وما الذي حرَّك منك الآن أيها الحبيب ما سكن من أليم الذكرى؟! فافتح لي صدرك وخبرني عن موضع دائك فقد لقيت من لا يضيع عنده السر، وإن السكوت لأخو الموت، وفي الشكوى إلى أخي المروءَة سلوان وعزاء، كما قد ينجي الكلام من وخز الضمير والندم.
الشاعر : وحيث لا مناص لي الآن من بث الشكوى، وشرح ما صدع الفؤاد من الهم والبلوى، وإني لأحار في تسمية هذه الآلام أحب أم جنون أم كبرياء؟! ولا أدري إن كان أصاب أحدًا قبلي ما أصابني منه، وحيث خلت بنار الدار فاجلس لأقص عليك الحديث وهاك الكنارة٥ فأيقظ مني الفكر بنغماتك العذبة.
الطيف : خبرني يا شاعري قبل سرد أوصابك وأشجانك إن كنت برئت منها وعوفيت، فتكلم ودع الحب والحقد جانبًا، ولو فكرت أني وُسِمْتُ بأحب الأسماء وألطفها ألا وهو المعزي المسلي نافي الأحزان والأتراح؛ فلا يجربك الظن أني كنت قرينك فيما ذهب عنك من الجوى المبرح.
الشاعر : قد انقشع الداء وتم الشفاء، ولم يبق منه في الذاكرة إلا خيال، وحينما يدور بخلدي ذكر المواطن التي خاطرت فيها بروحي أتخيل أني أرى مكاني إنسانًا غيري، وأني لست بطل القصة؛ فهيا نتجاذب أطراف الحديث باطمئنان ونتساجل بث الشكوى، فما أحلى البكاء والابتسام عند تذكار الأوصاب التي يتسنى لنا نسيانها.
الطيف : أحنو وأعطف على قلبك المنفطر كأم حنون ساهرة بجانب ولدها المحبوب، وإني لأرتعد كالريشة في مهب الريح فوق هذا القلب الذي طالما كاتمني ما انتابه من مضض الوجد ولوعة البين، وهأنا يقظ وكنارتي مهيأة لرقيق النغم وشجية لتتبع لهجة صوتك الحزين علِّي أنفي عن قلبك ما علق به من الهموم والآلام.
الشاعر : لا يعد من عمري إلا ما قضيته في العمل؛ فحبذا الوحدة وحمدًا لله الذي حبب إليَّ الانقطاع عن العالم وانعكافي في غرفة مطالعتي هذه كمسكين بائس، ولكم أقفرت بي الدار، وافترش الغبار المقاعد، ولا أنيس لي إلا المصباح؛ فنعم هذا القصر بل كَوْني وعالَمي الصغير … وأنت أيها الخيال الخالد، هلم نغني فإني أحب أن أطلعك على أعماق قلبي، وسأقص عليك ما تحدثه المرأة من المصائب، وما رمتني بها إحداهن وربما لا تجهلها. قد سلبتني النهى وصرت لها كالرقيق فاقد الإدارة والقوة. بيد أني كنت أحسبني راتعًا في بحبوحة الهناء والسعادة، وكنا نتمشى على كثبان الرمل الفضيِّ على مقربة من الغدير، وأمامنا على مرمى النظر شجر الحور الأبيض، يعبث النسيم بقامته الطويلة الهيفاء، التي كانت بمثابة دليل على الطريق الذي نؤمه، وكنت أرى في ضوء القمر هذا الجسم الجميل يتثنى بين ذراعيَّ كماء الجداول ونحن سكوت والهوى يتكلم.
وما كنت لأفكر لأي شأو تطوِّح بي السعادة والهناء، ولا ريب أن نار الغضب التي اتقدت في قلوب الآلهة كانت في حاجة لقربان تأكله؛ لأنها حنقت عليَّ واقتصت مني لكوني أردت من باب التجربة أن أكون سعيدًا.
الطيف : إن خيال التذكار الهنيء جاء طارقًا ذاكرتك ليخيم في رسومه القديمة، فَلِم لا ترغب أن يسير سيرته الأولى، وذلك خير من جحود أيامك الحلوة الرغدة، وإن كنت قد عثر بك الجد أيها الفتى فاعمل على شاكلته وابتسم لأيام حبك الأولى.
الشاعر : كلا فخليق بي أن أبتسم لأيامي المنكودة كما أنبأتك من قبل أيها الخيال، وإني أود أن أقص عليك بلا تأوه ما انتابني من الأماني والآلام والبُحران٦ والزمان والمكان.
ففي ليلة على ما أذكر من تشرين الأول كئيبة قرة٧ هي وليلتنا هذه صنوان أو توأمان، وكانت رياحها تعصف بنغمة واحدة؛ فتحرك من رأسي التي أجهدها النصب ما سكن من مر الشجون والأتراح، وكنت مشرفًا من النافذة منتظرًا حبيبتي منصتًا كأن على رأسي الطير في ظلام حالك؛ فجاش القلق بخاطري وساورتني الظنون والأوهام، حتى مثلت أمامي الخيانة، وكان الحي الذي أسكنه معتمًا قفرًا لا يُرى فيه إلا نفر قليل من السابلة٨ بأيديهم مصابيح.

وكان كلما هب النسيم من الباب يُسمع له على بعد صوت أشبه بأنين إنسان، وما أدري كيف أعبر عما دار بخلدي من التشاؤم حتى غبت من القلق والحيرة عن الصواب. وأذكر أنه بقي لي مسكة من القوة فلما دقت الساعة اقشعررت وارتعدت فرائصي ولم تقبل بعد؛ فبقيت وحدي مطرق الرأس أسرح الطرف في الطريق، وإني لم أخبرك بعد بأية جرأة أضرمت هذه المرأة المتلونة في قلبي نار الحب؛ إذ كنت لا أحب غيرها في العالم ولا أستطيع أن أحيا بدونها يومًا واحدًا، فتمثل لي النحس بصورة أبشع من الموت، ولأفصم ما بيني وبينها من عرى الألفة والمحبة لم أدع في جعبة اللعن لفظًا أو معنى للغدر والخيانة إلا ووسمتها به، وانتظمت أمام ناظريَّ جميع المصائب التي رمتني بها فلم يفتني العد والحصر؛ فوا أسفا على ذكرى جمالها المشئوم! فكم سببت لي من بث وهمٍّ لم يلطفهما سلوان ولا عزاء.

فما عتَّم أن لاح الفجر وأنا منتظر بغير طائل ولا جدوى، وكنت بجانب الشرفة وقد داعب النعاس عيني فأغفيت، ثم صحوت فرأيت تباشير السحر، فرددت طرفي فجأة في أطراف الطريق الضيق؛ فسمعت وقع أقدام خفيفة فقلت: اللهم تداركني بقوتك، فإني أراها وهي عينها، فدخلت فقلت لها: من أين أقبلت وما فعلت الليلة؟

أجيبيني.ماذا تبتغين مني؟! وما الذي طوح بك إليَّ في هذه الساعة؟ وأين استلقى هذا الجسم اللطيف إلى الصباح مع أني لم أبرح مكاني وحيدًا ساهرًا باكيًا؟ أين اضطجعت ولمن جدت بابتسامك؟ يا لك من غادرة خائنة جسورة! أمن الممكن أن تجيئيني لتقديم ثغرك لقبلي؟! فهيهات هيهات لما تبغين، وبأي شوق قبيح تجترئين أن تعانقيني بأذرع مُلَّ منها وملت؟! فاذهب واغرب عني يا خيال الخليلة، وارجع إلى رمسك إن كنت أنشرت منه، ودعني أنسى زمن صباي مدى حياتي، وإذا تذكرتك تحققت بأن لست إلا في عالم الأحلام.
الطيف : ناشدتك الله أن تلطف ما بك؛ فإني أقشعر من حديثك، وإن جرحك أيها الحبيب مهيأ للانفجار ثانية إذ اندمل على الصديد والأذى، واهًا لدنيا لا تنسى مصائبها عاجلًا إلا بعد كر السنين، فانسَ جهد استطاعتك مضض الأيام واطرد اسم هذه المرأة التي لا أريد تسميتها من ذاكرتك.
الشاعر : خزيًا لك يا من هي أول من علمتني البغض وأفقدتني الرشد من الغضب والانزعاج. تبًّا لك أيتها المرأة التي سحرتني بعينيها فوقعت في حبالة هذا الحب المشئوم الذي أقبر ربيعي وأيام هنائي في عالم الخيال، وإن صوتك وابتسامك ونظرك المفسد المضل لهي التي علمتني اللعن والسباب، ورماني في مهاوي اليأس صباك الفتاك وجمالك الفتان.
عار عليك فإني لم أكُ بعد إلا ساذجًا كالطفل، وكان قلبي كزهرة في الفجر لم تتفتح من أكمامها إلا لحبك، ولا ريب أن هذا القلب الذي لم يجد له غوثًا ذهب فرطًا، ولو تركته بُراء لكان أسعد حظًّا، فضحا لك يا علة ضري ووسواسي يا من فجرت ينابيع الدمع من آماقي وجفوني، ولبث سائلًا مسترسلًا لا مجفف له نابعًا من جرح لم يبرأ بعد، ولكني سأتطهر في هذا الينبوع المر علِّي أترك فيه درن تذكارك الممقوت.
الطيف : حسبك ما قاسيته من هذه الخائنة، وحيث إن أمانيك لم تلبث إلا عشية أو ضحاها؛ فلا تفضح هذا اليوم حينما تذكرها، وإن أردت أن تحب فاحترم الحب.
خُلِقَ الإنسان ضعيفًا فتراه لا يقوى على الغفران لمن أساءَه إلا بجهد جهيد، فاغنم الراحة من عذاب البغض والحقد، وإن أعوزتك المسامحة فعليك بالنسيان، وكما أن الموتى نائمون هامدون في بطون اللحود يلزمنا أن نخمد عواطفنا في رموس القلوب. وذخائر الأفئدة المغبرة يجب علينا أن لا نمد يدًا إلى بقاياها المقدسة، ولِمَ أراك تئن من سرد مصابك وعذابك، وتبتغي أن لا تراه إلا في عالم الرؤيا أو كحب كاذب كبرق خلَّب. أتخال أن القضاء يسير بغير حكمة ولا سبب، وتظن أن الضربة التي أصابتك ضربة طيش، كلا فعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم، وربما كان ما أصابك واقيًا لك من أعظم منه، وقصارى الكلام أن بليتك هي التي أنارت قلبك؛ فالفادحات والأوصاب بمثابة المعلم، والإنسان كالطفل المتعلم، وبقدر الرزايا تكون المعارف، وإنها لشرعة قاسية ولكنها حكمة بالغة قديمة كالدنيا ونكدها. نحن في حاجة للبكاء لنحيا ونشعر كالحصيد يعوزه الندى ليدرك، والسرور رمزه نبات مقطوع مغطى بأزهار تميل أعناقها من الندى. ألمَ تُشْفَ من جنونك ولم تزل في عنفوان شبابك سعيدًا محبوبًا؟! وهذه المسرات الصغيرة هي التي تُرغب الناس في الحياة، وإذا كنت لم تذق طعم البكاء ماذا تكون حالك؟ أكنت تهنأ بآصال تمرح فيها بين شجيرات الخلنج مع صديق قديم تشربان وتتسامران؟! أكان يسوغ لك كأسك إن كنت لم تذق طعم البشر والفرح؟! ألا تحب الأزهار والمروج والرياض وشعر بترارك٩ وتغريد الطيور الصادحة وميكيل إنج١٠ والفنون الجميلة وشكسبير١١ ومحاسن الطبيعة؟! ولولا بعض تأوهات قديمة لما كنت تفهم شجو السموات وطربها الذي لا يوصف، وسكون الليل، وخرير الأمواج، ولو لم تعتورك الحمى والسهاد ما كنت في الراحة الأبدية ولما كانت لك خليلة جميلة تقاسمها صنوف المسرات والملذات.١٢
الشاعر : لقد قلت حقًّا فالحقد ممقوت، وما كان ذاك إلا قشعريرة ملؤها الانزعاج تحدثها هذه الأفعى حينما تزحف في القلوب، فأصخ لي أيها الخيال وكن شهيدًا لهذا اليمين: قسمًا بعيني حبيبتي المزريتين بالزمرد، والجو والسماء، والشمس المشرقة في الأفق كدرة متدحرجة، والطبيعة وعظمتها، والخالق وقدرته، والنور ولألائه، والنجم العزيز عند المسافر، والمروج ونضرتها، والغابات ورهبتها، والحياة وسلطتها، والعالم وحركته، إنني لطاردها من ذاكرتي، وسأعيش مسلوب الحجى من الوجد والشغف. والساعة السعيدة هي التي أنساها فيها وأغفر لها ما قدمت وأخرت، وليعف بعضنا عن بعض، ولنفصم عرى الحب الذي جمعنا أمام الخالق بآخر العبرات التي ستكون وداعًا إلى الممات.
والآن أيها الخيال البهي الطلعة أسمعني بعض الأغاني الشجية المطربة، أغاني الأيام الهنيئة السعيدة، إذ الرياض تنفح بأريج شذاها، وقد اقترب الصباح، فهيَّا أيها الخل الوفي نقتطف أحاسن أزاهير هذه الجنات. تعال نمتع الناظر بمحاسن الطبيعة الخالدة التي تطرح الآن نقاب النوم، ولنعتبر أننا سنولد الساعة مع أشعة الغزالة.

الفرس الوحشية La Cavale Sauvage

كاد يودي بها الظمأ في مفازة١٣ تستعر منها الرمضاء،١٤ فهامت على وجهها ثلاثة أيام تبحث عن الماء؛ فلم تظفر به في أرجاء هذه البطحاء، ثم أمَّلت أن تجود عليها السماء بوابل يدرأ عنها غاثلة الغلة١٥ في صحراء افترش الغبار نخلها وركد هواؤها، فترى جريد النخل متدليًا لا حراك به، وقد حمي وطيس الشمس، وأضحى الفضاء كتنور أكلبه السجر.١٦
سارت متخبطة في هذه الجرداء١٧ ترتاد بئرًا تبلُّ منها صداها، وأنَّى تجدها وقد جففته ذكاء،١٨ وترى الأُسْد مضطجعة فوق الصفا١٩ تحرُق الأرَّم٢٠ من الغيظ.

شعرت هذه المهرة البائسة أنها رزحت تحت كلكل القضاء، وقد غلى الدم في عروقها، وانفجر من منخرها؛ فخانتها قواها ووقعت مغشيًّا عليها، وشرب الرمل دمها بنهم فارتوى، وعرفت أنه ما ضنَّ عليها بالماء إلا وهو أظمأ منها، ثم تمددت وانطفأ نور عينيها النجلاوين؛ فأسلمت الروح وأدرجت الصحراء فرسها — بل ابنتها — في أكفان من رمالها المضطربة.

أفات فرسنا المنكودة أن ترقب القوافل وهي مارة تحت ظلال الأشجار الوارفة، فما عليها لتفلت من شقائها إلا أن تتبعها مطأطئة الرأس لتجد في بغداد الإسطبلات الرطبة المنعشة والمذاود المذهبة والبرسيم المزهر الغض وآبارًا باردة لم ترها السماء.

وإن كان البارئ قد خلقنا من طين واحد؛ فلابد أن يكون عجننا في آنية مختلفة الصلصال وجففنا في شمس تكاد تتميز من الغيظ.

ومهما يكن المخلوق نسرًا أو خطافًا، فلا يستطيع أن يحني عاتقه أو يخفض جناحيه من الذل؛ إذ ليس له من السعادة والهناء أعظم من كلمة واحدة، وهي الحرية.

زهرة A Une Fleur

ما تبتغين أيتها الزهرة العزيزة التي هي أحب وألطف تذكار؟ ومن طوح بك إليَّ وقد بقي فيك مسحة من النضارة والحياة؟!

قطعت طريقًا طويلًا طي قرطاس مختوم فماذا سمعت؟ وبم همست إليك اليد التي قطفتك من الخمائل؟

هل أنت إلا ضغث٢١ يدب فيه الموت؟ أو متهيئ لأن يزهر مرة أخرى، أم أدرجت فيه فكرة؟ لهفي على زهرتك أيها الضغث التي تماثل ببياضها الوداعة المحزنة. وورقك بلونه يشابه الأمل الخائف المتهيب.
تكلم إن كنت تحمل إليَّ رسالة فقد لقيت من لا يضيع عنده السر. ليت شعري أخضرتك سر من الأسرار ورياك٢٢ لغة من اللغات؟ فإن كان الأمر كما تحدثني به النفس؛ فناجني أيها الرسول الخفي، وإن لم يك عندك شيء، فابقَ صامتًا ونم على قلبي خفيفًا رطبًا.
إني لأعرف حق المعرفة هذه اليد التي ملئت فضلًا وولعت بالأهواء، وعقدت كمك الباهت بهذا الخيط الناعم، وإن هذه اليد لم يجد «فيدياس ولا براكسيتيل»٢٣ لها أختًا؛ ليتخذاها نموذجًا لما يصنعان من بديع التماثيل إلا يد الزهرة ربة الجمال.
إنها لزهراء حلوة جميلة صادقة ويقال: إنها ستكون كنزًا لمن أسعده الحظ فكانت له عروسًا، ولكنها حكيمة قاسية أخاف غضبها وشرها، فصه٢٤ أيتها الزهرة ودعيني أتيه في بيداء الأماني.

لوسيا Lucie

كنتُ ذات ليلة جالسًا بجانبها، فانحنت على البيانو وتسربت إليه يدها البيضاء، وهي غارقة في بحار أمانيها؛ فُخيل إليَّ أني أسمع خرير الماء، أو أن النسيم مر على مقصبة٢٥ مشفقًا أن يوقظ ما حط عليها من الطير.

وكانت ملذات الليالي الشجية تنبعث حولنا من أكمام الأزهار، وعلى كثب منا حديقة غناء، بها القسطل والبلوط العتيق، تميل منها الجذوع تحت غصونها الميادة، ونحن منصتان لسكون الليل، وكانت النافذة مفتوحة يمر منها أريج الخريف المنعش فعطر غرفتنا، وكانت الرياح ساكنة والسهل قفرًا، ونحن وحدنا تساورنا الشجون، ولم يك لنا من العمر إلا خمسة عشر ربيعًا.

نظرتُ إلى لوسيا فإذا هي بيضاء ذهبية الشعر، بعينيين لم أرَ أجمل منهما، تزريان بصفاء السماء، فَسرَت في دمي نشوة جمالها؛ إذ كنت لا أهيم بغيرها وحبي لها كحب الأخ لأخته، وكان الحياء يخامر كل بادرة منها.

وبينا نحن سكوت إذ مست يدي يدها؛ فرأيت جبينها الوضاح وقد ارتسم عليه الحزن، وكنت أشعر أن لنضارة الوجه وشباب الفؤاد وهما توأمان ورضيعا لبان تأثيرًا عظيمًا في شفاء تباريحنا وآلامنا.

أشرق القمر في سماء نقية رائقة، وما لبث أن اشتملته مزنة٢٦ بيضاء كنسيج من اللجين.٢٧ وكانت ترى فيَّ صورتها مرتسمة تتلألأ في عيني، ويخيل إليّ أن ابتسامها أشبه بابتسام الملائكة، ثم غنت بصوتها الرخيم العذب:
… أيتها الموسيقى، إنك لبنت الألم! ولغة ابتدعها العقل لتترجم عن الحب، أنزلها الله من سمائه إلى إيطاليا، ومنها جاءتنا بآياتها البينات، وهي ألطف لسان للقلب يحمل فِكَرَهُ التي هي أشبه بالعذارى الخفرة٢٨ المتهيبة التي تخاف من ظلها وتمشي مختمرة٢٩ دون أن تخشى العيون.

ومن يعلم مبلغ ما يعقله أو يقوله غلام مثلي، حينما يسمع تأوهاتك التي تولدت من الهواء الذي يستنشقه؟ تنهدات لها رنة حزن أشبه بقلبه لطيفة كصوته.

إن فاجأتها وجدتها ساجمة العبرات، وهذا غاية ما تعرفه، والباقي سر يجهله الناس كأسرار اللجج وغياهب الغابات!

كنا وحدنا تخامرنا الشجون وأنا ناظر إلى لوسيا، وقد خيل إلينا أن صدى أنشودتها يكاد يذيب القلوب، ثم أسندت عليَّ رأسها المثقل بالهموم، فسألتها هل يشعر قلبك أنك في موقف «ديسديمونا»٣٠ فلذلك تغالبك الهموم من كل صوب؟! إنك تبكين أيتها المسكينة، وقد تركت شفتي تلثم ثغرك اللطيف إذ أنت هائمة في مفاوز الشجون؛ فكأنني ما قبَّلت إلا الحزن، وعانقتك فوجدتك مثلوجة الجسم شاحبة اللون، واليوم ولم يمض إلا شهران أراك رهينة الرمس!

أيتها الزهرة النضرة الطاهرة! أرى موتك قد تمثل ابتسامًا يماثل حياتك عذوبة ورقة، وأصبحت وقد حملك الله بمهدك إلى رحمته.

يا ما أحيلى سرًّا منك يسكنه الطهر والعفاف من شجي الأناشيد وأماني الحب وابتسامات تخجل وميض البروق وفعال في السذاجة٣١ كفعال الأطفال!
وأنت أيها الحب! يا مَن لم تدرك له العقول كنهًا، ولا يقدر أن يعتصم منه أحد، ويا مَن أوقف «فوست»٣٢ مترددًا على باب «مرجيريت»، فكيف أصبحت يا صفاء الأيام الأوَل الهنيئة؟ خيَّم السكون على روحك أيتها الكاعب! فوداعًا لذكراكِ وسلامًا على يدك البيضاء، التي كانت تحدث من «البيانو» في ليالي الصيف تلك النغمات التي لا يزال رنينها مرفرفًا في أركان البيت.

أوصيكم أيها الأحباب الأعزاء أن تغرسوا على قبري شجرة صفصاف؛ فإني أهوى لونها الباهت كالحزين الأسف وأغصانها المرسلة كدمع الباكي، فنعم ظلها الظليل على أرض سأنام فيها نومي الطويل.

١  Alfred de Musset.
٢  من ضمن أقسام الشعر الفرنسي قسمان عظيمان: المُقيد Classique وهو ما تقيد بما سنه القدماء من شعراء اليونان واللاتين، والمُطلق Romantique وهو ما لا يتقيد بشيء، وهو عكس الأول.
٣  كان حبه مبرحًا متيمًا، فكان يعتكف في داره ممضيًا وقته في البكاء والنحيب، حتَّى جُنَّ في أواخر أيامه من شدة الحب، وكان يُكثر من شرب الأبسنت وقت انفعاله واضطرابه؛ ليُخَفِّف ما به من وطأة الحزن والبكاء.
٤  من خرافات اليونان أنَّ المشترى إله الآلهة كان له من «منيموزبن» إحدى زوجاته تسع بنات يعرفن باسم الموز Les Muses واختصت كل واحدة منهن بفن من الفنون وصارت إلهة له، وفي هذه القطعة تخيل الشاعر أنَّه يُخاطب طيف «موز» الشعر، فلذلك فضَّلنا التعبير عنه بالطيف بدل «موز»، أو إلهة الشعر.
٥  آلة موسيقية بأوتار كانت تستعملها العرب، وأطلقناها هنا على «اللير»، وهي آلة مُوسيقية وترية كانت مُستعملة عند قدماء الإفرنج.
٦  اختلاط العقل عند نوبات المرض الشديد.
٧  شديدة البرد.
٨  المارون في السبيل؛ أي الطريق.
٩  من مشاهير الشعراء الإيطاليين.
١٠  مصور مشهور من إيطاليا.
١١  من فحول شعراء الإنكليز.
١٢  في هذا الموضع كرر المؤلف الجزء الذي ذكر فيه سيره مع خليلته في ضوء القمر قرب الغدير؛ فلذلك ضربنا عن ذكره صفحًا؛ لتكراره بلفظه ومعناه.
١٣  صحراء.
١٤  الرمل حينما يسخن من حرارة الشمس.
١٥  العطش الشديد.
١٦  أي صار كلبًا، من السجر؛ أي الإيقاد.
١٧  الأرض التي لا نبات فيها.
١٨  الشمس.
١٩  الصخر.
٢٠  تصرف بأسنانها حنقًا.
٢١  قضيب صغير من النبات به بعض أوراق أو أزهار.
٢٢  الرائحة الجميلة.
٢٣  اثنان من مصوري التماثيل من مشاهير قدماء اليونان.
٢٤  اسكتي.
٢٥  مكان مزروع فيه قصب؛ أي الغاب.
٢٦  السحابة البيضاء.
٢٧  الفضة.
٢٨  الشديدة الحياء.
٢٩  مدارية رأسها بخمارها.
٣٠  امرأة أو تللو «من روايات شكسبير»، ويُضرب بها المثل الفرنسي للمرأة العفيفة الطاهرة الذيل البريئة المتهمة من زوجها بالشبهات ظُلْمًا.
٣١  البساطة.
٣٢  رواية مشهورة للفيلسوف الألماني «جوت»، ومرجيريت حبيبة فوست.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤