الفصل الثاني

مسالك الحضارة اليونانية إلى العرب١

كان الخلاف على طبيعة المسيح مبدأ مناقشات تناولتها الشيع الكنسية في القرون الأولى من انتشار المسيحية، وكان لاختلاف المذاهب في تلك المسألة أثر كبير في أن ينزع العقل إلى النظر والتأمل الفلسفي.

اشتهرت «أنطاكية» بأنها من أولى مدن المسيحية التي قام زعماء الدين فيها بأول حركة من تلك الحركات الفكرية التي كانت ذات أثر كبير في شيوع الفلسفة، وفروع الفلسفة اليونانية خاصة، ذلك عقيب مناظرات دينية طويلة لا محل لذكرها، وقام بالحركة في أنطاكية معلمان، أحدهما: «ديودورس»، والآخر: «تيودورس المصيصي»، وكانا شديدي الاعتقاد في كمال ناسوتية المسيح عليه السلام.

كان من أكبر المؤيدين لهذا المذهب راهب من رهبان أنطاكية يقال له: «نسطوريوس»، انتقل إلى القسطنطينية أسقفًا لها سنة ٤٢٨م، وتبع تأييد «نسطوريوس» لهذه الفكرة مناقشات حادة، انتهى أمرها بعقد مجلس ديني في مدينة «إفسوس» سنة ٤٣١م فانتصر حزب الإسكندرية، وهو الحزب المنابذ للمذهب النسطوري، واعتبر «نسطوريوس» وأتباعه هراطقة، غير أنهم بالرغم من ذلك جمعوا أمرهم بعد مضي عامين من حكم مجلس «إفسوس» ونزلوا مصر واتخذوها مقرًّا لبث تعاليمهم.

قبيل ذلك العهد أغلقت مدرسة «نصيبين» Nisibis، أو بالحري انتقلت إلى الرُّها Edessa، وفي سنة ٣٦٣م سلمت مدينة نصيبين إلى الفرس، تنفيذًا للمعاهدة التي عقدت عقيب انتهاء الحرب التي أشعل نارها العاهل «يوليانوس»، وكان رجال مدرستها منتشرين في الممالك المسيحية إذ ذاك، فعادوا إلى الاجتماع في الرُّها وأسسوا مدرسة سنة ٣٧٣م، وبذلك أصبحت تلك المدينة، بالرغم من أنها في أرض تابعة للعاهلية البوزنطية، مركزًا للكنيسة التي ينطق زعماؤها باللسان السرياني.

أصبحت مدرسة «الرُّها» موطنًا لأفراد من زعماء النساطرة الذين لم يقبلوا حكم مجلس «أفسوس» غير أن العاهل «زينون» الروماني أغلقها سنة ٤٣٩م، بحجة أن صبغتها نسطورية متطرفة، فلم يجد أهلها من موئل إلا الهجرة إلى بلاد فارس، فهاجروا إليها برياسة كبيرهم «بارسوما» سنة ٤٥٧م.

نجح «بارسوما» في أن يقنع «فيروز»، ملك الفرس في ولاء النساطرة له ولأهل فارس، وظلوا، بعد أن قطعوا على أنفسهم هذا العهد، عاكفين عليه في خلال الحروب التي وقعت من بعد ذلك، وبعد ذلك أسس النساطرة مدرسة أخرى في «نصيبين» فأصبحت مركزًا للتعاليم النسطورية، وهي تعاليم أنشأت صورة جديدة من المسيحية، صبغتها شرقية بحتة.

من ثم انتشر النساطرة في غربي آسيا، وفي بلاد العرب، ينشرون تعاليم المسيحية على مذهبهم، فأخذوا يستعينون على بث أفكارهم بأقوال ومذاهب منتزعة من الفلسفة اليونانية، فأصبح كل مبشر نسطوري بحكم الضرورة معلمًا في الفلسفة اليونانية، إلى جانب أنه مبشر نصراني.

ترجم النساطرة كتب زعمائهم، وبخاصة كتب «تيودوروس المصيصي» إلى السريانية ليستعينوا بها على بث أفكارهم، وترويج مذهبهم، ولكنهم لم يقتصروا على هذا، بل ترجموا كثيرًا من كتب «أرسطوطاليس» والذين علقوا عليها، ذلك بأنهم قد وقعوا فيها على ما يشد أزرهم في فهم المسائل اللاهوتية العويصة التي كانوا يبشرون بها، بين أمم بعيدة عنها بعدًا يجعل نشر هذه التعاليم متعذرًا، ما لم يُستَعَنْ عليها بمبادئ من الفلسفة، ومباحث في التأمل.

غير أن كثيرًا من تلك الترجمات قد أفرغ في قالب لم يراعَ فيه نقل الفلسفة اليونانية لذاتها بل اتخذت ذريعة لبث مذهب ديني، هو مذهب النساطرة، والطعن في قياصرة الروم والكنيسة الرومانية، فضعفت الثقة بالنقل من هذه الناحية؛ حيث قضت الضرورة على النقلة أن يخلطوا قليلًا من الفلسفة بكثير من تعاليم المذهب النسطوري، أو بالعكس.

تلك هي النواة الأولى التي نقلت من الفلسفة اليونانية إلى الشرق، وبخاصة فلسفة أرسطوطاليس والأفلاطونية الجديدة، وكذلك كان من حظ جماعة من مترجمي النساطرة أن يكونوا أول من نقل تلك الفلسفة من السريانية إلى العربية.

أما «نسطوريوس» فإنه إن كان قد اتهم وصدر حكم مجمع «إفسوس» عليه؛ فإنه ترك الكنيسة أمام مشكلة من مشاكلها الكبرى التي احتدم من حولها الجدل، حتى انتهى الأمر بعقد مجمع بمدينة «خلقدونية» سنة ٤٤٨م، وكان من نتائجه أن طردت فئة أخرى من الكنيسة الرئيسية، هم المعتقدون بالطبيعة الواحدة للمسيح Monophysites.

وأكثر المؤرخين على أن الكنيسة المصرية قد تبعت القائلين بالطبيعة الواحدة، ففي القرن السادس الميلادي قام يعقوب السروجي وأنشأ شيعة اليعاقبة، فاضطهدتهم إمبراطورية بوزنطية، ولكنهم لم يخرجوا عن حدود الإمبراطورية، بل بقوا فيها يمثلون قسمًا مستقلًّا من القائلين بالطبيعة الواحدة، ثم أرسلوا طائفة منهم خارج الإمبراطورية تبث تعاليمهم، فاتبعوا نفس الطريقة التي اتبعها النساطرة في استعمال اللغة القبطية واللغة السريانية، وفي الواقع أن عصر السريانية الذهبي، لا يبدأ إلا برجوع اليعاقبة عن استعمال اللغة اللاطينية، إلى اللغة السريانية، غير أن أهل الاختصاص في اللغات يقولون: إن هنالك خلافًا بين السريانية كما استعملها النساطرة في الشرق، والسريانية كما استعملها اليعاقبة في الغرب، ذلك بأن اليعاقبة انتحلوا لهجات جديدة، يغلب أن يكون السبب فيها راجعًا إلى استيطانهم.

•••

كان العصر الواقع بين بدء المجادلات الدينية في الكنيسة المسيحية وظهور الرغبة عند المسلمين في درس الفلسفة، عصر ترجمة وإنتاج ذهني، ولم يُعْنَ الناقلون في ذلك العصر بالفلسفة وحدها، بل عمدوا إلى الطب وعلم الكيمياء والفلك، فترجموا أكثر ما ترجموا في تلك العلوم؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن بين الطب والكيمياء والفلك آصرة قريبة ونسبًا أدنى، وكان اعتقادهم أن لعلم الفلك، من الناحية الطبيعية، علاقة بنشوء الأمراض، وحالات الحياة والموت، والصحة والمرض.

اشتهرت مدرسة الإسكندرية بالبحوث الطبية، أما الفلسفة بمعناها الحقيقي فكانت علاقتها باللاهوت، حتى اضطر دارسو العلوم إلى الفصل بين مباحثهم والفلسفة جهد المستطاع.

كان «يوحنا فيلوبونس» John Philoponus «أو يوحنا النحوي كما يدعوه العرب خطأ» من متأخري الذين علقوا على أرسطوطاليس، كما كان من أوائل الذين درسوا الطب في مدرسة الإسكندرية، والمحقق من أمره أنه كان يدرس في مدرسة الإسكندرية في الوقت الذي أغلق فيه الإمبراطور «يوستنيانوس» مدارس أثينا سنة ٥٢٩م.
ومن مشهوري فلاسفة الإسكندرية «بولس الأجانيطي» Paul of Aeginae، وكان يدرس في الوقت الذ وقع فيه الفتح العربي، وظلت كتبه زمانًا طويلًا تدرس في الإسكندرية كمتون ذات قيمة كبيرة في علم الطب.

وكان أعلام المدرسة قد رسموا برنامجًا، لعله الأول من نوعه في تاريخ الدرس والتحصيل لتدريس الطب، يحصله كل من يريد أن يزاول هذه الصناعة، فانتخبوا ست عشرة مقالة من مقالات «جالينوس» وترجموها لتكون برنامج الطب في المدرسة، ثم اختصروا بعضها واتخذت المختصرات رءوس موضوعات تلقى على نسقها المحاضرات مشروحة مفصلة، والغالب أنهم لم ينزعوا هذه النزعة إلا لما أَنِسُوا في أنفسهم من القدرة على الابتكار والتعمق في الدرس إلى حدود لم يبلغها «جالينوس» في مقالاته، وفي ذلك العصر كانت الإسكندرية منبع البحوث المبتكرة في كثير من فروع المعرفة، لا في مادة الطب وحدها، بل في الكيمياء والرياضيات وصنوف العلوم الطبيعية.

•••

كانت الإسكندرية هي المباءة الأولى التي عرف العرب منها شيئًا من الثقافة اليونانية، كذلك كان وراثتهم منها أقرب من وراثتهم عن سورية، لهذا ذاع عندهم التنجيم حتى دلف العرب في مفاوزه الوعرة، ذلك بأن نجم الإسكندرية في العلم كاد يطفئ أنوار السريانية، وتحت تأثير هذه العوامل أكب العرب على مأثورات العقل في الإسكندرية، دون ما تضمنت السريانية من مباحث العلم والفلسفة، وهنالك ظهرت مؤلفات «بولس الأجانيطي» الذي مر ذكره، وقد ظلت كتبه طوال العصر العربي والعصر اللاتيني في القرون الوسطى، مادة التعاليم الطبية.

كذلك نبت علم الكيمياء في مدرسة الإسكندرية، وفيها تكونت النواة الأولى التي استمد العرب منها، وفي ذلك يقول برتلو Berthelot في كتابه «الكيمياء في القرون الوسطى» (طبع باريس سنة ١٨٩٣):

إن المادة العربية في الكيمياء تنقسم قسمين: قسمًا مترجمًا عن كتب اليونان التي عرفت في الإسكندرية، وقسمًا يمثل مدرسة عربية ثانية مستقلة البحوث عن الأولى.

وفي الوقت الذي غرقت فيه الإسكندرية في بحوث الطب، كانت كنائس آسيا وأديرتها ومدارسها، ممعنة في المباحث المنطقية والفلسفية والتأملية.

كان من الطبيعي أن يأخذ اليعاقبة عن تعليقات «يوحنا فيلوبونس» في تدريس علم المنطق لعلاقتهم بمصر ولأن «فيلوبونس» من شيوخهم، غير أنهم لم يفعلوا، بل رجعوا والنساطرة إلى مختصر «فرفوريوس الصوري» في المنطق المسمى «إيساغوجي» واتخذوه مدخلًا للمنطق.

•••

مر بنا من قبل ذكر «بارسوما» الذي قاد الهجرة النسطورية إلى بلاد فارس وافتتح مدرسة نصيبين، كان لهذا الرجل معلم يدعى «إيباس» هو القوة المحركة والعقل المدبر في مدرسة «الرها» في أواخر أيامها، يستدل من بعض المقارنات التاريخية أنه أول من نقل «إيساغوجي»: مختصر «فرفوريوس» في المنطق، إلى السريانية، وفي ذلك الوقت ظهر «فروبوس» Probus فعلق على «إيساغوجي» وعلى بعض كتب «أرسطوطاليس» مثل كتاب «أرمانوطيقا»: أي العبارة، أو كما يقولون: «باري أرمنياس» و«سوفسطيقا»، و«أنالوطيقا الأولى»، أي القياس، فاتخذت تعليقاته بمنزلة شروح يرجع إليها طلاب المنطق في العالم السرياني.

ومن الوصف الذي وصلنا عن التراجم السريانية عن «أرسطو» نعرف أن العرب لم يقتصروا على النقل عنهم إلى العربية، بل اتبعوا نفس الأسلوب الذي تبعه المترجمون إلى السريانية عن اليونانية، فقد كان من عادة المعلقين على «أرسطو» قبل العصر العربي أن ينقلوا مقطعًا قصيرًا من المتن المترجم إلى السريانية، وقد لا يزيد على بضعة أسطر أو بضع كلمات، ثم يعلقون عليه بإطناب قد يبلغ بضع صفحات، كما قد يقتصر على إشارات قصيرة، على مقتضى الحال، وقد اتبع العرب هذه الطريقة عينها حتى في تفسير القرآن.

كان «سرجيس الرأس عيني» (المتوفى سنة ٥٣٦م) أعظم كتاب اليعاقبة، وكان مترجمًا، كما كان مؤلفًا، في الفلسفة والطب والهيئة والفلك، وكان اشتغاله بالطب عمله الرئيسي، وقد ترجم الجزء الأعظم من مؤلفات «جالينوس»، وأمضى زمنًا بالإسكندرية أتقن في خلاله اللغة اليونانية ودرس الكيمياء والطب في مدرستها الطبية عند أول عهدها بتدريس ذلك العلم، أما نشأته فكانت «برأس العين» بالعراق، ولا تزال بعض ترجماته عن جالينوس محفوظة حتى اليوم في المتحف البريطاني، وكتب مقالة في المنطق في سبعة مجلدات، ومنها جزء في «المقولات» «قاطيغورياس» محفوظ في المتحف البريطاني، ومقالة أخرى في تعليل الكون بحسب مذهب «أرسطو»، وعددًا من المقالات القصيرة تناولت موضوعات مختلفة، وقد انتشرت مؤلفات «سرجيس» بين النساطرة واليعاقبة معًا، فكأنه بذلك قد اعتبر مرجعًا عندهم في الطب والفلسفة، ويقال: إنه أسس مدرسة سريانية في الطب أصبحت فيما بعد النبع المنبثق بما استسقى منه العرب، والراجح أنه لم يكن مؤسسها، وإنما كان له أثر كبير في تأسيسها.

في ذلك الوقت — القرن السادس الميلادي — عاش «أخوديما»، وسيم أسقفًا في «تغريط» سنة ٥٥٩م. فأدخل تعليقات «يوحنا فيلوبونس» لتكون الكتاب المدرسي الذي يدرسه اليعاقبة الذين يتكلمون اللسان السرياني، ويذكر بعض الرواة أنه ألف مقالات في تعريفات المنطق، وفي الروح، وفي الإنسان باعتباره عالمًا أصغر microcosm، ومقالات أخرى في تركيب الإنسان على أنه مكون من جسد وروح.

•••

من مؤلفي النساطرة الذين عاشوا خلال القرن السادس الميلادي «بولس الفارسي» الذي كتب مقالة في المنطق أهداها إلى الملك كسرى أنوشروان، وكان هذا فجر الفتح العربي، في سنة ٦٣٨م فتح العرب سورية ثم بلاد الرافدين، وبعد أربع سنوات فتحوا بلاد فارس، وفي سنة ٦٦١م استقر المُلك لبني أمية في دمشق، غير أن هذا الفتح العظيم لم تضطرب له حياة النصارى المشتغلين بالعلوم، بل عاشوا في ظل الحكم العربي ممتعين بكل حريتهم السياسية والدينية.

حوالي سنة ٦٥٠م كتب «حنا نيشو» مقالة في المنطق وعلق على «يوحنا فيلوبونس» ولم يكن لليعاقبة مدارس ظاهرة الأثر كما كان للنساطرة، ولكنهم استعاضوا عن ذلك بدير لهم في «قِنِّسرِين» على ضفة الفرات اليسرى، كان مقرًّا لدرس منتجات العقل اليوناني.

إن أعظم من ظهر من العلماء في ذلك العهد «سويرس سيبوقط» الذي عاش قبيل الفتح العربي وألف تعليقًا على «أرمانوطيقا» لأرسطو لم يصلنا منه غير نتف قليلة، ومقالة أخرى في القياس تعليقًا على «أنالوطيقا» الأولى، وشرح بعض المعضلات التي عرضت في «ريطوريقا» أي الخطابة، «لأرسطو»، أما في الفلك فقد كتب مقالة في «صور منطقة البروج»، وأخرى في «الإسطرلاب».

كان «أثناسيوس بلد» أسقفًا يعقوبيًّا سنة ٦٨٤م، والمأثور عنه أنه ترجم «إيساغوجي» إلى السريانية، كذلك كان «يعقوب الرهاوي» تلميذًا «لسيبوقط»، ثم صار أسقفًا للرها سنة ٦٨٤م، وكان معلمًا في اللغة اليونانية أحيا مواتها بعد أن كادت تموت في الشرق بالإغفال، ومن تلاميذه «جورجيس» الذي سيم أسقفًا للعرب، سنة ٦٨٦م، وقد ترجم كل كتاب «أرسطو» في المنطق الأورغانون Logical Organon، ولايزال في المتحف البريطاني منه كتاب قاطيغورياس وأنالوطيقا الأولى، وكل منها مفتتح بتصدير.

إلى هنا نستدل على السبل التي سلكتها الثقافة اليونانية إلى المشرق منذ أن انفصل النساطرة واليعاقبة عن الكنيسة الكبرى حتى الفتح العربي.

•••

كانت سنة ٧٤٠م/٣٣٣ﻫ، بدء عهد جديد في تاريخ العربية، فقد شرع أبناء العرب يبدون حظًّا غير قليل في تلقي الفلسفة والعلوم، وبدأت التراجم والتعليقات تظهر في اللغة العربية، على أن الدرس باللغة السريانية لم يفقد مقامه فجاءة، بل إن هذه اللغة ظلت أداة للعلم والفلسفة حتى زمان «أبي الفرج بن العبري» في القرن الثالث عشر المسيحي (١٢٨٦م) وهو الزمن الذي ينتهي فيه تاريخ الآداب السريانية.

تألف أول معهد للترجمة والنقل في العالم العربي من حنين بن إسحاق وابنه إسحاق بن حنين وابن أخته حبيش الأعسم الدمشقي، مع غيرهم من المترجمين، وقد أسس هذا المعهد الخليفة المأمون لنقل المتون اليونانية في الفلسفة والعلوم العربية، وكان حنين مسيحيًّا نسطوريًّا اشتغل زمانًا بالترجمة من اليونانية إلى السريانية، واشتغل بنقل إيساغوجي لفرفوريوس الصوري وأرمانوطيقا لأرسطوطاليس، وجزء من أنالوطيقا، ومقالة أرسطو في الروح المسماة «ده أنيما» وجزء من الميتافزيقا، وتلخيصات نيقولاوس الدمشقي وديوسقوريدس وبولس الأجانيطي وأبقراط، ويقال: إنه لم يترجم مقالة الروح لأرسطو ولكنه راجعها بعد أن ترجمها ابنه إسحاق، ومن عجيب الاتفاق أن تصبح ترجمة إسحاق لهذه المقالة وتعليق الإسكندر الأفروديسي عليها، مرجعًا من أهم المراجع لدرس الفلسفة حتى عصرنا هذا، ذلك بأن الفكر قد اتجه إلى درس علم النفس، ورجع عن درس المنطق.

في القرن التاسع الميلادي (٨٥٧م) ألف الطبيب يوحنا بن ماسويه كتبًا في الطب باللغتين السريانية والعربية، وكان أحد الذين قربهم العباسيون وأحلوهم محلًّا رفيعًا من الاحترام والإجلال، وفي ذلك العصر عاش فئة من الكتاب السريانيين كتبوا تعليقات على منطق «أرسطوطاليس»، وفي القرن الثاني عشر المسيحي علق «ديونسيوس بارصليبي» على كتاب «إيساغوجي» و«قاطيغورياس» وأرمانوطيقا وأنالوطيقا، وفي أوائل القرن الثالث عشر كتب «يعقوب بارشقاقو» في الفلسفة والمنطق والطبيعة والرياضيات وما بعد الطبيعة.

ويعتبر القرن الثالث عشر المسيحي نهاية عصر الآداب السريانية، التي ختمت بأعمال «غريغوري بار إرباوس» المعروف «بأبي الفرج بن العبري»، وقد لخص في كتاب له اسمه «إنسان العين» كثيرًا في المنطق وإيساغوجي لفرفوريوس، ولخص عن أرسطو المقولات أي قاطيغورياس وأرمانوطيقا أي العبارة وأنالوطيقا أي القياس، وطوبيقا أي الجدل وسوفوسطيقا أي السفسطة، وله كتاب آخر أذكر أن اسمه «عيون الحكمة» لخص فيه مقدمات المنطق وما بعد الطبيعة واللاهوت، وقد ترجم عن السريانية مؤلف «ديوسقوريدس» في «البسائط» وألف في الطب مقالة أجاب بها على مسائل «حنين بن إسحاق»، كما كتب في الجغرافية.

١  تاريخ الفكر العربي في نشوئه وتطوره بالترجمة والنقل عن الحضارة اليونانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤