الفصل الخامس

علم الرياضيات

في سنة ١٥٦ للهجرة وفد هندي إلى بغداد يحمل مقالة في الرياضيات وأخرى في علم الفلك، أما الثانية فكانت مقالة «سدهانتا» Siddhanta التي عرفها العرب من بعد باسم كتاب «السند هند» وترجمها إبراهيم الفزاري، فكان نقلها بداءة عصر جديد في دراسة هذا العلم عند العرب، ولو لم يكن لها من أثر إلا إدخال الأرقام الهندية واتخاذها أساسًا للعدد في العربية، لكفى بذلك أثرًا خالدًا، فقد تطور على أثرها علم العدد عند العرب وسار بتلك الخطى الحثيثة التي كان يعوقها دائمًا استعمال العرب لغير الهندية من الأرقام المعقدة المهوشة.

وهنا يحق لنا أن نتساءل: «ماذا كان في ذلك تأثير العقل العربي؟ وماذا ترك من الآثار؟»

يخطر بالبال عند هذا السؤال علم الجبر، على أن لعلم الجبر تاريخًا يتقدم وجود العرب، لهذا نتكلم فيه باختصار لنعرف تاريخ نشأته وكيف انتقل إلى العرب وماذا كان أثرهم فيه؟

نتساءل: في أي عصر وفي أي بقعة من بقاع الأرض وجد علم الجبر؟ ومن هم أول الذين كتبوا فيه؟ وكيف نشأ؟ وبأية وسيلة من الوسائل وفي أي عهد من التاريخ ذاع ذلك العلم؟

كان الاعتقاد السائد في القرن السابع عشر أن رياضيي اليونان لا بد من أن يكونوا قد استكشفوا تحليلًا دقيقًا لطبيعة علم الجبر على الصورة التي عرف بها في الأعصر الحديثة، وبه استطاعوا أن يحللوا تلك المعضلات التي لا يسعنا إلا الإعجاب بثبات قدم كتابهم في معالجتها، وأنهم أخفوا طرق التحليل وأظهروا النتائج فقط.

على أن هذه الفكرة قد تبددت الآن! فقد دلت المستكشفات الحديثة على أن رياضيي القدماء كان عندهم طريقة التحليل، ولكنها اقتصرت على الهندسة، وأنهم لم يعرفوا من الجبر على صورته الحديثة شيئًا، غير أنه إن لم يثبت لدينا أن متقدمي الإغريق كانوا على علم بالتحليل الجبري؛ فإننا نجد في عصورهم الأخيرة آثارًا تدل على أن مبادئ التحليل الجبري كانت معروفة عندهم.

في أواسط القرن الرابع الميلادي، وهو عصر بلغت فيه الرياضيات أحط دركاتها، قنع المشتغلون بذلك العلم بأن يعلقوا على ما كتب الذين تقدموهم، على أنه بالرغم من ذلك بدأ علم الجبر يتبوأ المكان اللائق به بين العلوم والمعارف الإنسانية.

في ذلك الحين كتب الرياضي «ديوفانتس» الإغريقي Diophantes كتابًا في علم العدد كان يتكون من ثلاث عشرة مقالة، لم يصل إلينا منها سوى المقالات الست الأولى، ومقالة ناقصة، يظن أنها المقالة الثالثة عشرة من الكتاب الأصلي، غير أن هذا الكتاب لا يكون مقالة تامة في علم الجبر، ولكنه يضع أساسًا ثابتًا يمكن أن يقوم عليه ذلك العلم، فإن المؤلف بعد أن كتب قليلًا من المعادلات البسيطة والمعادلات الرباعية، عاد إلى الكلام في مسائل رياضية أخرى ذات علاقة مباشرة أو غير مباشرة بعلم الجبر.

قد يصح أن يقال: إن «ديوفانتس» هو واضع علم الجبر في اللغة اليونانية وبين الإغريق، غير أن الدلائل تدل على أن المبادئ الأولية التي بثها في كتابه كانت معروفة من قبل، وأنه ابتكر فيها مبتكرات ذات بال، ومن الثابت أن هذا العلم ظل واقفًا عند الحد الذي تركه فيه «ديوفانتس» حتى نقلت مقالات إلى إيطاليا في بدء النهضة العلمية.

وعلقت السيدة «هيباشيا» Hypatia ابنة ثيون Theon على كتاب «ديوفانتس»، غير أن هذا التعليق فقد الآن، كما فقدت مقالتها على كتاب «أبولونيوس» Appolonius في القطوع المخروطية، وهي سيدة من ذوات النبوغ ذهبت ضحية الجهل والتعصب الديني في أوائل القرن الخامس الميلادي.

وجاء في أخبار الحكماء ص١٢٦ أن «ذيوفنطس» اليوناني الإسكندراني فاضل مشهور في دقته وتصنيفه وهو صناعة الجبر، وله كتاب مشهور مذكور خرج إلى العربية وعليه عمل أهل هذه الصناعة، فكأن «ديوفانتس» كان من نوابغ مدرسة الإسكندرية في أوائل القرن الخامس الميلادي.

•••

كان أول ما كشف كتاب «ديوفانتس» الذي ألمعنا إليه مكتوبًا باليونانية في أواسط القرن السادس عشر الميلادي في مكتبة قصر الفاتيكان، والراجح أن يكون قد نقل إليها عندما سقطت القسطنطينية في يد محمد الفاتح.

وترجمه الكاتب «كزيلاندر» Xylander سنة ١٥٧٥ إلى اللاتينية وأذاعه في العالم اللاتيني وتبع ذلك ترجمة أخرى أتم من الأولى وضعها «باشيه ده ميزريا» Bachet de Mezeriac سنة ١٦٢١، وهو من أقدم الأعضاء الذين أسسوا الأكاديمية الفرنسية، وكان «ميزيريا» رياضيًّا كبيرًا، فأعانه ذلك على فهم المسائل التي عرضت له في الكتاب فكان في النقل أثبت، غير أن متن ديوفانتس كان من النقص والبلى بحيث لم يستطع أن يفهم المترجم قصده في بعض المواضع تامًّا، فكان يحدس المعنى أو يتمم النقص ظنًّا، وبعد ذلك بقليل أضاف الرياضي الفرنسي مسيو «فرما» M. Fermat إضافات كثيرة على تعليقات «ميزريا» تناول فيها سير مَنْ كَتَبَ مِنَ اليونان في علم العدد، والنسخة التي طبعها «فرما» Fermat تعتبر أتم طبعات الكتاب إتقانًا، على أن الترجمة اللاتينية لم تكن أول ترجمة ظهرت لذلك الكتاب، فإن العرب كانوا أول من ترجمه.

إن كتاب «ديوفانتس» إن كان ذا شأن كبير في تاريخ علم الرياضيات؛ فإن أوروبا الحديثة لم تتلقَّ ذلك العلم بداءة ذي بدءٍ عنه، بل عن طريق العرب، فإن العرب كانوا بعد اليونان أول من عرف للعلوم قيمتها الحقيقية، في ذلك الزمان الذي كانت فيه أوروبا غارقة في ظلمات الجهالة، فحملوا أمانة العلم، وأدوها للذين من بعدهم كاملة غير منقوصة بل مزودة بثمار العقل العربي.

ولقد ثبت من التقاليد التاريخية أنهم صرفوا أكبر عناية في جمع ما كتب رياضيو اليونان وترجموا كتبهم وكتبوا عليها تعليقات وشروحًا ذات أثر كبير في تقدم علم العدد، يكتفي في الدلالة على ذلك أنه لولا ما كتب العرب في تلك العلوم لما عرفت أوروبا شيئًا عن هندسة إقليدس مثلًا.

ينسب العرب استكشاف الجبر عادةً إلى أحد رياضييهم، محمد بن موسى، الذي عاش في أواسط القرن التاسع الميلادي في عهد الخليفة المأمون العباسي، والمحقَّق تاريخيًّا «أن محمد بن موسى» ألف مقالة في الجبر، فإن ترجمة لاتينية لتلك المقالة كانت قد أذيعت في عصر النهضة العلمية في أوروبا، غير أنها فقدت، على أن القَدَر قد حَفِظَ نسخة من الأصل العربي لا تزال في مكتبة «بودلي» بجامعة أكسفورد، ويقال فيها: إنها نسخت سنة ١٣٤٢ ميلادية، وينوه ناسخها في أول صفحة من صفحاتها بأن كاتبها فلان «العربي القديم» وعلى هامش تلك الصفحة تعليق فيه ما يدل على أنها أول مقالة كتبت في الجبر وأذيعت بين «المسلمين»، أما المقدمة ففضلًا عن تعريفها بالمؤلف فإنها تثبت أن «محمد بن موسى» كان يحثه الخليفة المأمون العباسي على أن يجمع في كتاب واحد ما تناثر خلال كتب الرياضة من مبادئ الحساب الجبري، وكانت هذه الفقرة سببًا في أن يعتقد الباحثون في تاريخ العلوم أن «محمد بن موسى» جمع كتابه هذا جمعًا من عدة مؤلفات كانت متداولة بين أيدي طلاب العلم في البلاد العربية أو من مؤلفات وصلت إليهم في لغات أخرى.

على أننا لا نجد من دليل يؤيد وجهة نظر الآخذين بهذا الرأي، فإنه لم تجْرِ عادة المؤلفين لا من العرب ولا من غيرهم أن يُعَرِّفوا بأنفسهم في مقدمات يضعونها لمؤلفاتهم، إذن فمقدمة كتاب «محمد بن موسى» التي يعثر فيها على ذلك القول من عمل غيره، والراجح أيضًا أنها وضعت لنسخة نسخت من الكتاب بعد زمان «محمد بن موسى» أو في سِنِي حياته ثم تداولتها الأيدي بالنقل حتى وصلت إلى مكتبة «بودلي»؛ ولهذا نرجح أن كتاب «ابن موسى» لا يمكن أن تميز فيه ناحية النقل على ناحية الابتكار الصرف.

يؤيد هذا الرأي أن «محمد بن موسى» كان متضلعًا في علم الفلك، عارفًا بما وصل إليه أهل الهند في علم العدد والحساب، فالراجح أن يكون قد نقل عن الهند وأخذ عنهم، ولقد ثبت بما لا سبيل إلى إدحاضه أن أهل الهند كانوا على علم بالجبر، بل عرفوا كيف يحلون القضايا غير المحدودة Intermediate problem لذلك يمكن أن يقال ترجيحًا: إن الجبر العربي منشؤه الهند أصلًا، ولقد عرفنا كيف أن العرب مدينون لذلك الهندي الذي وفد إلى بغداد بمقالة «السند هند» في الفلك، وتلك المقالة الرياضية التي اقتبسوا منها الأرقام الهندية.
إلا أن العرب لم يقفوا عند حد النقل عن الأمم الأخرى، فإن التحليل الجبري ما كاد يقع في أيديهم حتى أخذ كتابهم في الزيادة إليه وتنميته، فإن محمدًا أبو الوفا الذي عاش خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن العاشر الميلادي كتب تعليقات على المؤلفات الرياضية التي خلفها من تقدمه من الكتاب والباحثين وكذلك ترجم كتاب «ديوفانتس»، وكان آخر عهد للعرب بالتأليف في علم الجبر سنة ١٠٣١ ميلادية/٤٢٣ﻫ، على أنهم تركوا علم الجبر كما خلفه «محمد بن موسى» وأبو الوفا، ولم تحدث ترجمة كتاب ديوفانتس من أثر كبير بينهم، وقد جاء في المقتطف مجلد ٢٨ ص٣٨٥ ما يأتي:

وقد اشتغل الهنود والعرب بعلم الجبر، غير أنهم لم يضيفوا إلى موضوعات اليونان فيه شيئًا يذكر ولم يستعملوه إلا في حل المسائل العددية وبقي عندهم مسلكًا متوعرًا وهم يعتبرونه حسابًا عاليًا.

ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن كتاب ديوفانتس لم ينقل إلى العربية إلا في عصر كان العقل العربي قد أخذ يتمشى فيه مرة أخرى نحو الغيبيات.

وجاء في المقتطف مجلد ٢٨ ص٣٨٤، ٣٨٥، ٣٨٦ ما يلي:
وأقدم ما انتهى إلينا من أمر الجبر مؤلَّف وضعه ذيوفنطس Diophante المتوفى سنة ٤٠٩م في ثلاثة عشر كتابًا لدينا منها ستة فقط والسبعة الباقية مفقودة ومباحث الستة الأولى هي في المعادلات البسيطة والسيالة من الدرجة الأولى لمجهولين فقط يتبعها مسائل منشورة مع حلها والمجهول في جميعها دليله واحد، ثم كتاب في المعادلات المفردة من الدرجة الثانية أي ما كان المجهول فيها مربعًا فقط مع حل بعض المسائل من هذا القبيل، ولعل السبعة المفقودة فيها مسلك أكثر صعوبة مما ذكر؛ لأن درجة الكتب ترتفع بالتدريج في الستة الموجودة، ولم يسبقه أحد في استعمال العلامات بل هو أول من نبه إليها فاستخدم الخط القصير علامة للطرح.
وفي سنة ٥٠٧م نشر «براهماغوبتا» Brahmagupta الهندي كتابًا في الحساب والجبر يلحقهما ذيل في الهندسة، وهو كتاب نفيس في بابه حمل الكثيرين على القول: بأن علم الجبر كان راقيًا درجة سامية بين الهنود قبل «براهماغوبتا»، ودعا آخرين إلى القول بأن هذا الهندي هو واضع علم الجبر دون غيره، ولعله اطلع على كتاب ذيوفنطوس اليوناني، فإن كان ذلك فالواضع هو ذيوفنطوس وحده وإلا فيكون «براهماغوبتا» قد نازعه الشرف والفخر في وضع هذا الفن، أما كتاب الرياضي الهندي فيشبه كتاب ذيوفنطوس في كثير من الوجوه ولا يزيد عنه شيئًا، وهذا حمل البعض على القول بأنه منقول عنه، ويعزز هذا الزعم قصر باع الهنود في سائر العلوم الرياضية كالهندسة عما لليونان فيه المبلغ الأعلى والخطة المثلى، فلو كان الهنود أهل اكتشاف في الرياضيات لاكتشفوا في الهندسة وهي أقرب إلى الحاجة من الجبر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤