أسامة بن منقذ

هو أسامة بن مرشد من بني منقذ، أمراء إقليم شيزر شمالي سورية ولد سنة (٤٨٨ﻫ/١٠٩٥). وكانت إمارة هذا الإقليم قد آلت إلى أبيه مرشد ولكنه تنازل عنها لأخيه. وعني الأمير بأسامة، ابن أخيه، ولكنه رزق ولدًا ذكرًا فاتجه إليه بعطفه، مهملًا أسامة. وغادر هذا قلعة شيزر. وحدث أن دمرت هذه القلعة في زلزال سنة (٥٥٢ﻫ/١١٥٧م)، ومات من كان فيها من آل المنقذ أما أسامة فقد كان في بعض أسفاره. ومات سنة (٥٨٤ﻫ/١١٨٨م) بعد أن جاوز التسعين.

وقد قام أسامة بعدة رحلات في مصر والشام وبلاد الجزيرة وبلاد العرب. ومع أنها رحلات ضيقة الأفق محدودة الدائرة، فإن لها شأنًا عظيمًا في وصف الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وفي بيان العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في الشرق الأدنى في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي). ذلك أن أسامة كان أميرًا فارسًا وأديبًا شاعرًا، وأتيح له أن يتصل بأمراء المسلمين في عصره، وأن يلقى بعض الأمراء الصليبيين ويصادق الفرسان من رجالهم. وأخبار رحلته في كتابه «الاعتبار» تمتاز بالدقة في الملاحظة، والصدق في الرواية، والإبداع في الفن القصصي، مع التوفيق في الفكاهة وإيراد النكتة.

وقد وقف الدكتور فيليب حِتّي Philip Hitti اللبناني أستاذ الآداب السامية في جامعة برنستون بالولايات المتحدة على نشر كتاب الاعتبار سنة ١٩٣٠. وقدمه بترجمة طريفة لأسامة، قال فيها: «فحياة أسامة إذن تمثل لنا الفروسية الإسلامية العربية على ما ازدهرت في ربوع الشام في أواسط القرون الوسطى، والتي بلغت حدها الكامل في صلاح الدين، وسيرته تتضمن موجز تاريخ البلاد في القرن الثاني عشر — قرن التجريدات الصليبية الثلاث الأولى، ومذكراته الموسومة بكتاب «الاعتبار» مرآة تتجلى فيها المدينة الشامية في أجلى مظاهرها — وذلك ليس بحد ذاتها فقط بل مع المدينة الإفرنجية التي قامت إلى جانبها. ولو أن أسامة عاش اليوم، لكان عضوًا عاملًا في المجمع العلمي العربي، ولكان بيته صالونًا للأدب بدمشق، ولراسل «الهلال» و«المقطم» ولأكثر من العيش في الهواء الطلق، يدرس طبائع الحيوان ويرقب نمو النبات، ولنالت جياده العربية جوائز السبق في بيروت، ولكان بلا تردد في أثناء الحرب العظمى ديوان فرقة من المطوعة يتولى قيادتها بنفسه.»
وكتاب «الاعتبار» غني بأخبار القتال بين المسلمين والصليبيين، وبما شاهده أسامة في دمشق ومصر، وبما اشترك فيه من المطارد والمصايد ومكافحة الأسود. ومن أمتع فصوله ما كتبه أسامة عن الصليبيين؛ فقد كان يطوف في أنحاء إماراتهم، ويقاتلهم مع سائر المسلمين مع صداقته لبعضهم ولا سيما الفرسان الداوية Templars — وكان هؤلاء الفرسان يخلون له في المسجد الأقصى مكانًا صغيرًا يصلي فيه حين يزور بيت المقدس. ومما كتبه عن الإفرنج: «ليس عندهم شيء من النخوة والغيرة. يكون الرجل منهم يمشي هو وامرأته يلقاه رجل آخر يأخذ المرأة، ويعتزل بها ويتحدث معها. والزوج واقف ناحية ينتظر فراغها من الحديث. فإذا طولت عليه خلاها مع المتحدث ومضى!» وساق أسامة ثلاث قصص في هذا الصدد. منها قصة إفرنجي «جاء يومًا ووجد رجلًا مع امرأته في الفراش» فقال له: «أي شيء أدخلك إلى عند امرأتي؟» قال: «كنت تعبان، دخلت أستريح.» قال: «فكيف دخلت إلى فراشي؟» قال: «وجدت فراشًا مفروشًا نمت فيه.» قال: «والمرأة نائمة معك؟» قال: «الفراش لها. كنت أقدر أمنعها من فراشها؟!» قال: «وحق ديني، إن عدت فعلت كذا تخاصمت أنا وأنت.» فكان هذا نكيره ومبلغ غيرته!»
وكان أسامة يعجب بمهارة بعض أطباء الصليبيين، ولكنه كان يتهكم من جهل البعض الآخر ومن سذاجة الناس في الإيمان بهم. وروى في هذا الصدد قصة عن حاكم بلدة صليبية شمالي لبنان. كان هذا الحاكم صديقًا لعم أسامة فكتب إليه يطلب منه إيفاد طبيب يداوي بعض المرضى من أهل بلدته. فأرسل إليه عم أسامة طبيبًا عربيًّا نصرانيًّا. ولم يطل غياب هذا الطبيب؛ فلما رجع قال له أهل أسامة متهكمين: ما أسرع ما داويت المرضى! فأجاب: «أحضروا عندي فارسًا قد طلعت في رجله دملة وامرأة قد لحقها نشاف.١ فعلمت للفارس لبيخة ففتحت الدملة وصلحت. وحميت المرأة ورطبت مزاجها. فجاءهم طبيب إفرنجي فقال: «هذا ما يعرف شيء يداويهم!» وقال للفارس: «أيهما أحب إليك تعيش برجل واحدة أو تموت برجلين؟» قال: «أعيش برجل واحدة.» قال: «أحضروا لي فارسًا قويًّا وفأسًا قاطعًا.» فحضر الفارس والفأس، وأنا حاضر، فحط ساقه على قرمة خشب فقال للفارس: «اضرب رجله بالفأس ضربة واحدة اقطعها.» فضربه وأنا أراه ضربة واحدة ما انقطعت. ضربه ضربة ثانية فسال مخ الساق ومات من ساعته. وأبصر المرأة فقال: «هذه امرأة من رأسها شيطان قد عشقها. احلقوا شعرها.» فحلقوه. وعادت تأكل من مآكلهم الثوم والخردل فزاد بها النشاف. فقال: «الشيطان قد دخل في رأسها.» فأخذ الموسى وشق رأسها صليبًا وسلخ وسطها حتى ظهر عظم الرأس وحكه بالملح، فماتت في وقتها. فقلت لهم: «بقي لكم إلي حاجة؟!» قالوا: «لا.» فجئت وقد تعلمت من طبعهم ما لم أكن أعرفه!»٢
وروى أسامة في كتاب الاعتبار (ص١٣٤-١٣٥) قصة استنبط منها أن الصليبيين ترق أخلاقهم وتحسن طباعهم باستيطان الشرق ومعاشرة المسلمين. وقال في هذا الصدد: «فكل من هو قريب العهد بالبلاد الإفرنجية أجفى أخلاقًا من الذين تبلدوا٣ وعاشروا المسلمين.»
بل أشار أسامة في كتابه إلى أن بعض الصليبيين تأقلموا في الشام، وعاشروا المسلمين وتطبعوا بطباعهم، وكانت بينهم وبين المسلمين علاقات طيبة قال أسامة: «فمن ذلك أني نفذت صاحبًا إلى أنطاكية في شغل. وكان بها الرئيس تادرس بن الصفتي Theodorus Sophianos وبيني وبينه صداقة، وهو نافذ الحكم في أنطاكية فقال لصاحبي يومًا: «قد دعاني صديق لي من الإفرنج. تجيء معي حتى ترى زيهم؟» قال: «فمضيت معه، فجئنا إلى دار فارس من الفرسان العتق، الذين خرجوا في أول خروج الإفرنج، وقد اعتفي من الديوان والخدمة، وله بأنطاكية ملك يعيش منه، فأحضر مائدة حسنة وطعامًا في غاية النظافة والجودة. ورآني متوقفًا عن الأكل؟ فقال: «كل طيب النفس، فأنا ما آكل طعام الإفرنج، ولي طباخات مصريات ما آكل إلا من طبيخهن ولا يدخل داري لحم الخنزير، فأكلت وأنا محترز وانصرفنا.»

وقد وصف أسامة في «كتاب الاعتبار» ما شاهده في مصر من الأحداث فيما بين سنتي (٥٣٩–٥٤٩ﻫ/١١٤٤–١١٥٤م)، فتحدث عن وصوله إليها في عصر الخليفة الفاطمي الحافظ لدين الله وعما وقع فيها من الفتن بسبب ثورات الجند، والنزاع القائم بين الخلفاء والوزراء. ولتفاصيل هذه الأخبار شأن تاريخي كبير؛ لأن أسامة ساهم في بعض تلك الأحداث وقام بمهمات سياسية لطائفة من الأمراء. ومن طريف ملاحظاته عن إقليم الطور أنه كان ولاية مصرية بعيدة، وأن الخليفة الحافظ لدين الله كان إذا أراد إبعاد بعض الأمراء ولاه الطور.

•••

أما الباب الذي عقده أسامة في ذلك الكتاب الكلام على الصيد والطرد فيشهد بأن هذا اللون من الرياضة كان جد شائع ومستحسن في الشرق الإسلامي حينذاك، وهو جليل الشأن لأن أسامة كان من أسرة أصابت في الصيد مهارة ودربة، وقد أتيح لأسامة نفسه أن يصحب في الصيد الأمراء المسلمين في سورية والجزيرة ومصر. فدون في كتابه شيئًا كثيرًا في شأن الصيد بالبزاة يرمونها على الطيور، ويدقون الطبول فتتصيد منها ما تصيد. وكتب في صيد الحيوان ولا سيما الذئب والضبع والأرنب والغزال وحمار الوحش والثعلب والخنزير. ووصف أسامة أساليب الصيد عند المسلمين وصفًا دقيقًا. وذكر بعض النوادر التي تدل على عنايتهم به وعلى أن بعض المولعين بالصيد كانوا يرسلون إلى مختلف الآفاق في طلب البزاة وغيرها من طيور القنص. وكان التعاون صادقًا بين المسيحيين والمسلمين في هذا الميدان؛ فكان الروم في القسطنطينية والمسيحيون من الأرمن يرسلون البزاة والكلاب إلى أصدقائهم من هواة الصيد في الشرق الإسلامي.

وكان أسامة يحترم المرأة ويعنى بأحوالها فألف كتابًا في «أخبار النساء»، وروى في «كتاب الاعتبار» قصصًا كثيرة تشهد بما قام به بعض النساء من أعمال البطولة. ولعل هذا جانب من الفروسية ونزعة الأرستقراطية عنده. والحق أن هذه النزعة الأرستقراطية كانت لا تفارقه حتى في حضرة الملوك والأمراء. فقد روى في «كتاب الاعتبار» أنه شهد يومًا الصيد مع الملك العادل نور الدين وسأله هذا أن يصلح الباز، فرفض وأظهر نور الدين عجبه من أسامة يقضي عمره بالصيد ولا يحسن إصلاح الباز، فأجاب أسامة: «يا مولاي، ما كنا نصلحها نحن، كان لنا بازيارية وغلمان يصلحونها ويتصيدون بها قدامنا.»

•••

ومما حدث لأسامة في بعض رحلاته أن وقع وهو رفاقه أسرى في يد الصليبيين، وفقدوا ما كانوا يحملونه من المال والمتاع، ولكن أسامة لم يأسف على ذلك كله أسفه على ضياع كتبه التي نهبوها، وعددها أربعة آلاف مجلد من الكتب الفاخرة، وقال في ذلك: إن ذهابها كان حزازة في قلبه ما عاش.٤

ومن طريف ما يستنبط من إحدى القصص التي رواها أسامة في «كتاب الاعتبار» (ص١١٥) أن استئجار الندابات للندب في المآتم كان معروفًا في القرن الثاني الميلادي كما هو معروف اليوم.

وكان أسامة، مثل الهروي السائح، مغرمًا بكتابة اسمه أو تقييد بعض خواطره في الأمكنة التي ينزل بها، على نحو ما يفعل بعض السياح في العهد الحاضر. من ذلك الأبيات الآتية، وقد كتبها على حائط مسجد في حلب، وكان قد زار المسجد قبلًا في طريقه إلى الحج:

لك الحمد يا مولاي كم لك منة
علي وفضل لا يحيط بها شكري
نزلت بهذا المسجد العام قافلًا
من الغزو موفور النصيب من الأجر
ومنه رحلت العيس في عامي الذي
مضى نحو بيت الله والركن والحجر
فأديت مفروضًا وأسقطت ثقل ما
تحملت من وزر المسيئة عن ظهري

ومنه ما كتبه على حائط دار سكنها بالموصل، حيث لم تطب له الإقامة. قال:

دار سكنت بها كرهًا وما سكنت
روحي إلى شجن فيها ولا سكن
والقبر أستر لي منها وأجمل بي
إن صدني الدهر عن عودي إلى وطني
١  نوع من الهبوط والتعب العصبي.
٢  كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ ص١٣٢-١٣٣.
٣  لعله يقصد «تأقلموا» وأصبحوا من أبناء البلد.
٤  كتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ ص٣٤-٣٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤