الفصل الثاني

استقراء التاريخ

إن الفلسفة تبدأ عندما يبدأ الإنسان يتعلم الشك، وخصوصًا الشك في المعتقَدات التي يحبها، والعقائد والبديهيات، أو الحقائق المقررة التي يؤمن بها ويقدسها.

ول ديورانت

إن الفكر ليَقِف مَليًّا أمام بعض أحداث التاريخ المصري القديم؛ يتَساءل دهشًا، يبحث عن إجابات، وعادة ما لا يتوقف الفكر متأنِّيًا إلا إزاء ما يُثير استغرابه ودهشته، أو أمام ما قد يراه متناقضًا أو مختلفًا عليه، أو أمام ما قد لا يكون مقنعًا أو منطقيًّا.

ولعل أهمَّ ما يثير التساؤلَ في هذا التاريخ، هو: أحداث ما سُمِّي بالصراع الاجتماعي في نهايات الدولة القديمة، وتَكْراره في نهايات كلٍّ من الدولتَيْن الوُسطى والحديثة، تلك الإثارة التي نتجَت عن عدم استقرارِ أو اتفاقِ آراء المؤرخين حول:
  • تفسير معنى هذا الصراع: هل كان مجردَ اضطرابات واختلال أمني، ناتجٍ عن ضياع نفوذ الملكية بضياع المركزية، كما تذهب الأكثرية؛ أم كان ثورةً جماهيرية طبقية حقيقية، كما تذهب الأقلية؟ وأي الرأيَين أقربُ إلى الصحة والسلامة المنطقية؟

  • وتوقيت هذا الصراع، هل حدَث كما ذهبَت الجَمهرة الغالبة بعد نهاية الأسرة السادسة؛ أم قبل هذه النهاية؟

ونظرًا لجوهريَّة هذا الأمر؛ فإننا نرى أنه لو أمكَن تدعيمُ رأيِ مَن ذهبوا إلى توقيته إبَّان وجود الأسرة السادسة، فسيتغير تفسير هذه الفترة التاريخية كليًّا، أي: سيصبح هذا الصراع هو السببَ المباشر لسقوط الدولة القديمة برُمَّتها، وليس نتيجةً لهذا السقوط كما ذهبَت الجمهرةُ الغالبة، ولن يصبح مجردَ اضطرابات أمنية وفوضى عامة، وإنما ثورة حقيقية كان لها — لا ريب — أعمقُ الأثر في تغيير التاريخ، وربما العقائد أيضًا، إذا صدَق حَدْسُنا.

وهنا تَبدأ الفلسفة بأخذ دَوْرها في منطقة التاريخ؛ فالفيلسوف الألماني «هيجل» أعلن إيمانه بأن «المنهج السليم، والجدير بالبحث الفلسفي، هو: تناوُل التاريخ حينما يبدأ ظهورُ النَّزعة العقلية في الشئون الدنيوية»،١ وفي هذا العصر الذي نحن بصَددِه، ظهرَت — ولا شك — هذه النزعة العقلية بأجْلى معانيها، عند عددٍ من حكماء العصر، مثل: آبي أور الشيخ الحكيم، ونفر رحو، والفلاح الفصيح، وغيرهم كما سنرى، وحيث كان همُّ هؤلاء الأكبرُ هو: إعمالَ العقل في إيجاد حلٍّ لمشكِلات عصرهم الدنيوية.

لذلك فلا مفر من العودة ثانيًا إلى هذا العصر؛ نَستنطِق أحداثَه الاجتماعية على طريقة «كولنجوود»؛ لعله يُعطينا لهذه التساؤلاتِ تفسيراتٍ قريبةً إلى منطق الفلسفة، الذي هو منطق التاريخ أيضًا.

وتعليقًا على الحالة الاجتماعية في عصر الدولة القديمة؛ يقول «إريك بيت»: «وكانت هُوَّةٌ واسعةٌ تَفصل هذه الطبقةَ — يقصد طبقة النبلاء — عن طبقة الفلاحين، الذين كانوا كالأَرِقَّاء في مَزارع المُلَّاك، وفيما يتعلق بأحوال العيش في عهد الدولة القديمة، فأنا أميل إلى القول بأن النبلاء وكبارَ الموظفين كانوا سعداءَ جدًّا، وأن الأُجَراء كانوا على جانب عظيم من الشقاء؛ ذلك أن هؤلاء لم يَكونوا — فيما يَلوح — أكثرَ من عبيد مُلحَقين بالضِّياع الكبيرة، ينتقلون من سيد إلى سيد مع الأرض، كأنهم جُزء منها لا يتجزَّأ، وكانوا يُجلَدون بلا شفقة ولا رحمة لأقلِّ هفوة.»٢
ويَلُوح لنا أن هذه الصورةَ لحالة مصر الاجتماعية، لم تقتصر على تلك الفترة التي ظهر فيها نبلاءُ الأقاليم في الأسرتَين الخامسة والسادسة، وإنما كان هذا هو الحال منذ أمَدٍ طويل قبل ذلك، منذ السيادة المركزية المطْلَقة في الأسرة الرابعة، فيقول «فرانكفورت»: «كان العامةُ مقيَّدين بالأرض التي يحرثونها، وكان عليهم أن يُقدِّموا نسبة كبيرة من منتوجهم كضريبة، وكانوا مُعرَّضين لأعمال السُّخْرة، وكان قسمٌ من الشباب في كل القرى والمزارع يُجنَّدون للجيش … وإذا طرأَت حاجاتٌ إضافية لتنفيذ واجبات خاصة … فإنه كان ممكنًا تجنيدُ السكان جميعًا.»٣
وهكذا «كانت حياة الفلاح المصري هي المأساةَ الحقيقية؛ فهو يَرِث الشقاء عن أجداده، ولا يستطيع أن يتصرف في مستقبله، ولا أن يَبرَح الأرض التي وُلِد فيها. إنه مرتبطٌ بالأرض كالجماد أو الحيوان، وتابعٌ لسيده، بلا أمل في الخلاص.»٤
وكما سلَفَت الإشارة، فقد كان معروفًا في هذه العهود أن الأرض مِلكٌ للفرعون وحده، أما خُدَّام الأراضي من حَرَّاثين وحصَّادين وغيرهم، فكانوا طائفةً من الخدم أو الأقنان التي شملت الجزء الأكبر من الرعيَّة،٥ وكانت أقوال الملك أوامرَ حتمية، لا يسَع الشعبَ أمامها إلا التسليمُ والخضوع، مهما بدَت قاسية أو بغيضةً لا تُطاق.٦
وكثيرًا ما ظهرَت في نقوش الأسرتَين الخامسة والسادسة صورةُ الملك ممسِكًا بالعصا يؤدِّب الفلَّاحين، وجُباةُ الضرائب يَسحبونهم على وجههم إلى قصر السيد؛ لِيَلقَوْا جزاء تقصيرهم في دَفْع ما عليهم من أموال، ولم تكن هناك جِهةٌ يمكن أن يَلجأ إليها الفلاح ليحصل على حقوقه بعد أن ظهر النبلاء، وأصبحوا هم القُضاةَ، فكانوا الخَصْمَ والحكَم، المشرِّعَ والمنفِّذَ في آنٍ واحد.٧
ويمكنَّا هنا التكهُّنُ بأن أبشع صور العبودية كانت خلال الأسرة الرابعة بالذات؛ فكثيرٌ من الباحثين يُشيرون إلى عُمق الهوَّة التي كانت تَفصل الملكَ عن شعبه خلالها،٨ ولا ريبَ أن هذه العبوديةَ قد بلَغَت ذروتها حول الأهرام الكبرى أثناء بنائها، ونستنتج ذلك مما ذكَره «هيرودوت» عن الملك «خوفو» صاحب الهرم الأكبر — في الأسرة الرابعة — أنه «انتهج سياسة العنف، وأغلَق المعابدَ والأسواق؛ حتى يُجبِر المصريِّين على العمل في بناء هرمٍ له»،٩ وما جاء عند «نجيب ميخائيل» أن المصريين باتوا يَكرَهونه ويَمقُتون ذِكْر اسمِه.١٠
وإن هذه الحالة الاجتماعية التي استغرقَت ثلاثَ أُسَر من الدولة القديمة — الرابعة والخامسة والسادسة — تَحمل من الموحِيَات مَعانيَ؛ أهمُّها:
  • ترجيح كِفَّة القِلة التي تذهب إلى تفسير هذا الصِّراع على أنه كان ثورةً طبَقية.

  • ترجيح كِفة القلة الأخرى التي توَقَّت موعد الصراع قبل سقوط الأسرة السادسة، وإن كان ترجيحًا بحاجةٍ لمزيد من الدعم.

وسعيًا نحو محاولة التيقُّن من مدى صحة هذه الترجيحات؛ يمكن إلقاءُ إطلالة على ما ترَكه العصرُ من تراث أدبي، يمكن أن تكون قد ظهرَت فيه صورٌ لما دار فيه من أحداث؛ فقد كان محتَّمًا أن تصاحب أحداثَ الصراع الاجتماعي حركةٌ فكرية، نطقَت بها قطع أدبية رائعة، نسبَها التاريخ لحكماء هذا العصر الشعبيِّين، وهي تَرسُم صورة حزينة قاتمة لما ساد البلادَ من فوضى ودمار، ومن خلالها يمكن الحكمُ على طبيعة أحداث العصر. ومِن أهم هذه القطع الأدبية: نصائح الحكيم «آبي أور»١١ أو الشيخ الحكيم وتحذيراته، الذي عاش في أواخِر الأسرة السادسة، وكان له دورٌ كبير في هذه الأحداث؛ مما دفَع بعضَ المؤرخين لاعتباره «نبيًّا» ومصلِحًا ومبشِّرًا ونذيرًا، كما احتوى شعرُه على توصياتٍ إيجابية للخروج بالوطن من أزمته، والتنبُّؤ بعصر ذهبي آتٍ يحمل الإصلاحَ المنشود.١٢
وبادئَ ذي بَدْء، يمكنَّا أن نَلمَح في أبياته روحًا ثورية واضحة، تتغشَّى مطالبه بالعدل الاجتماعي والديمقراطية، وإزالة الفَوارق الطبقية، مع تأكيده على أن ما حدَث كان نتيجةً لتحالف الأحداث السياسية والاقتصادية والاجتماعية معًا.١٣
وإذا كانت الهِزَّات التاريخية في رأيِ «بوركارت»١٤ «لا تعتمد في مَراحلها الأولى على المحرومين والمُعدِمين، بل تعتمد على أصحاب الأرواح الفعالة، وبفضل دَورهم الرِّيادي تتحقَّق البداية»، فيمكن اعتبارُ «آبي أور» أحدَ كبار الرواد في هذا العصر؛ إذ يصف كيف بدأَت هذه الأحداثُ عمَليًّا وفِعليًّا، بإشارته من طَرْف خفيٍّ إلى سرَيان الإلحاد بين الناس، بقوله: «صار الرجل الأحمق يقول: إذا عرَفتُ أين يوجد الإله، قدَّمتُ له القرابين؟» و«إن القصَّابين يَذبحون الأُوَز، ويقدِّمونها للآلهة على أنها ثيران»! «وفي الحق أصبحَت التقوى اسمًا فقط»،١٥ وبعدها «قالت كل مدينة: دعونا نُقْصي العُتاة من بيننا.»١٦

ثم:

قال حراس الأبواب (بعضُهم لبعض):
لننطلق ونَنْهب. وأبى الغسَّالون أن يَحملوا أحمالهم،
وتسلح صيَّادو الطيور بأسلحتهم،
وتترس أهل الدلتا بالتروس …١٧

أما القضاء الظالم، فقد نال نصيبه بأن:

أُلقِيَت قوانينُ دار القضاء في العراء،
ووُطِئَت بالأقدام في الشوارع،
ومزَّقها الغوغاء في الأزِقَّة،
وأخذ العوامُّ يَروحون ويَجيئون في دُور القضاء الكبيرة.١٨
وكان لدواوين الضرائب — التي طالما عانى منها الشعبُ — دَورُها أيضًا؛ فقد «فُتِحَت الدواوين، وسُلِبت كشوف الإحصاء، وأُتلِفَت سجلَّات كتَبة المحاصيل.»١٩
ونفهم من كلامه؛ أنه بعد انتهاء الجماهير من الدواوين الرسمية، اتجهَت إلى النهَل من كل ما حُرِمَت منه قبلًا، فهُوجِمَت مخازن الغِلال، وفر أصحاب الأصل الرفيع، وامتدَّت يدُ البطش لكل مَن وقف في وجه الجماهير، واقتنى السُّوقةُ أموالَ الأثرياء وممتلَكاتِهم، حتى لو كانت بلا فائدة لهم، كأن يستوليَ الأصلعُ على قوارير العطور الزكية، أو كأن يحصل مَن يجهل الموسيقى على قيثار بديع.٢٠

واستطاع العجوز الحكيم أن يصل إلى المَلك؛ في محاولة أخيرة لإيقاف الأحداث المدمِّرة، وليُسمِعَه صوت الشعب، صارخًا فيه:

… الكل آيلٌ إلى الدمار …
… إن ما يُروى لك هو الباطل،
فالبلاد تَشتعل،
والناس قد أُهلِكوا.
لدَيك وحيٌ وبصيرة،
و«أسباب» العدالة،
«ولكنك بعثتَ الفوضى في البلاد
مع الفتن
وليتَك تذوقتَ بعض هذه المصائب»،
إذًا لقصَصتَ خبرها بنفسك.٢١

ويبدو أن صاحب الجلالة لم يُلقِ بالًا إلى ناصحه، فعاد هذا خائبًا إلى الجماهير، وكانت النتيجة ما صوَّره بقوله:

لقد أصبح الدم في كل مكان،
وأصبح مَجرى النهر قبرًا،
وغدا مكانُ التطهر فيه بلون الدم،
وإذا قصَده الناس لِيَرتوُوا منه،
عافُوا جثث البشر، وظَلُّوا على ظمئهم إلى الماء
… وغصَّت التماسيح بما أصبحت تَقتنِصُه،
بعد أن ذهب إليها الناسُ مِن تِلقاء أنفسهم،٢٢
وأصبح الحزن يملأ قلوب أصحاب الأصل الرفيع.
أما الفقراء؛ فقد امتَلَئوا سرورًا …٢٣
ويضيف التاريخ: إن البلاد قد تحوَّلَت نتيجةً لهذه الأحداث، إلى حالة متردِّية من التمزُّق والتفتَت، حتى انتهك الغوغاء مَقابر أعاظم الملوك، بل ومَعابد الآلهة، فنهبَت السُّوقةُ الأوقافَ، وهشَّمَت النقوشَ والمعابد وموائد القربان، ولم يُستَثنَ من الانتقام الرهيب، لا الجمادُ ولا البشرُ ولا القِيَم.٢٤

ولم يَعُد أمام العقلاء من القوم وحُكمائهم، سوى تَرقُّبِ الخلاص من هذه المهاوي، معلِّقين الآمالَ على رجل قويٍّ صالح، يمكنه أن يصل إلى الحكم، ويُمسِكَ بزِمام الأمور، ممنِّين النفوسَ بعدله وعطفه ورعايته، ويصف «آبى أور» رجلَ الشعبِ المنتظَرَ بقوله:

إنه يُطفِئ لهيبَ الحريق الاجتماعي،
ويُقال عنه: راعي كل الناس،
ولا يحمل في قلبه شرًّا،
وحينما تكون قُطْعانه قليلةَ العدد،
فإنه يصرف يومه في جمع بعضها إلى بعض.
وقلوبها محمومة.٢٥
ولم يكن الحكيم «آبى آور» هو الأديبَ أو المفكِّرَ الوحيد، الذي وصَف لنا أحداث الصراع الاجتماعي؛ فهناك أيضًا الحكيم «نفر رحو»،٢٦ الذي يُنسَب شعره زمنيًّا إلى أيام الدولة الوُسطى، وإن كان به ما يدل في ظنِّنا — ظنًّا له ما يبرره — أنَّ نِسبتَها للدولة الوسطى نسبةٌ مشكوك فيها، ونعتقد أنها قِيلَت لأول مرة إبَّان أحداث الصراع الاجتماعي، وإذا كان تسجيلها قد تم في عصر الدولة الوسطى، فليس هناك ما يمنَع من كونها كانت معروفةً إبَّان عصر الصراع، خاصة وأن كثيرًا من قِطَع الأدب المصري لم تُسجَّل كتابةً إلا بعد عهدها بزمان، وهي حالة معروفة لدى الباحثين في تاريخ مصر القديمة.

يقول نفر رحو:

فؤادي، لطالما تألمت من أجل هذه الأرض.
التي نشأت فيها،
«وقد أصبح الصمت نقيصة»؛
فثَمَّة أمورٌ يتحدث القوم عنها،
وقد ولى زمان الرجل الكفء،
فمِن أين تبدأ؟
لا تُراعِ «فؤادي»؛
فالأمر واضحٌ أمامك!
«وعليك أن تُقاومه؛
فقد أصبح المسئولون عن البلاد
يأتون أمورًا ما كان ينبغي أن تحدث»،
وتخرَّبَت الأرض وليس مَن يأسى عليها،
يتحدث الجميع عن الحب،
ولكن الخير اختفى …
تناقصَت الأرض،
ولكن الموظفين تزايَدوا،
وجفت الأرض،
ولكن الضرائب تضخَّمَت،
وقلَّت المحاصيل،
لكن المِكْيال اتسع،
ظهر الأعداء في الشرق
«واقتحم القبَليُّون أرض مصر»،
ولكن ما مِن مدافع يسمع (أو يجيب)،
تباعد (الإله) رع عن الناس.
«لقد أصبح الكليلُ صاحبَ سلاح،
وأصبح القوم يُبجِّلون من كان يُبجِّلهم.»٢٧
وإن الباحث حين يَنسُب هذه الأبياتَ إلى عصر أحداث الصراع الاجتماعي، في أواخر أيام الأسرة السادسة، فإنه يَستند إلى عدة شواهِدَ؛ أهمُّها:
  • أن الأحداث التي يرويها نفر رحو لا يمكن أن تتفق بأي حال مع الزمن المنسوبةِ إليه؛ فهذا هو زمن «أمنمحات الأول» في الأسرة الثانية عشرة، وزمن «أمنمحات» بالذات كان أزهى عهود هذا العصر، وأكثرَها استقرارًا وسلامًا، فكيف يمكن أن يُناديَ الحكيم «نفر رحو» بأن الصمت قد أصبَح نقيصة، وأنه يَجب مقاومةُ الظلم؟! ثم كيف يمكن أن يُصرِّح بأن المسئولين عن البلاد يأتون أمورًا إدًّا؟ في الوقت الذي تأتي فيه نهايةُ أبياته داعيةً لأمنمحات، متنبِّئة بأنه الحاكم العادل المنتظر؟! تلك النهاية التي تقول: «ولكن سوف يظهر مَلِك من أهل الجنوب يُدْعى أميني، ابن سيدةٍ من تاس … إلخ» — كما سلَف، وهذا الجزء بالذات من شِعر «نفر رحو» هو الذي حدا بالمؤرخين إلى نسبة الأبيات بكاملِها لعهد «أمنمحات الأول». ثم كيف تصحُّ هذه النسبة، بينما الحكيم يشير إلى تعرُّض البلاد لغزو بدو الشرق، الذين سبق وعرَفْناهم تحت اسم «العامو حر يوشع»، وهو الغزو الذي بدأ في نهايات الأسرة السادسة، وتم القضاءُ عليه في عهد المملَكتَين: الننسوتية والواستية، قبل عهد «أمنمحات الأول» بتسعين عامًا تقريبًا؟!

  • إن الأمور هنا قد تَستقيم — في ظنِّنا — بنسبة هذه القطعة الأدبية لعهد الصراع الاجتماعي، دون الجزءِ الأخير منها، والخاص بالدعاية «لأمنمحات الأول»؛ ذلك الجزء الذي نُرجِّح أنه قد أُضيفَ للقطعة أيامَ «أمنمحات» إضافةً متعمَّدة؛ لإضفاء مظهَر التنبُّؤ عليها، وحتى يكونَ هو المخلِّصَ الموعود، خاصة إذا كانت هذه القطعةُ معروفةً جماهيريًّا، إبَّان الصراع الاجتماعي الذي سبَق عصرَه بمائتي عام على الأقل.

وتأسيسًا على ما رواه التاريخ، وما أتانا عبر أشعار الحكيم «آبي أور» والحكيم «نفر رحو»؛ يمكن القول بإيجاز: إن أحداث الصراع الاجتماعي، لم تكن مجرد فوضى وارتباك وسلب ونهب، وإنما كانت أحداثَ «ثورة طبقية حقيقية، واعيةٍ لأهدافها»، وجهت كلَّ همها ضد الظلَمة من الحكَّام والنبلاء الأغنياء.

«وقد يَخطر لنا هنا أن نذهب مذهبًا بعيدًا، جديدًا، وهو: أن الثورة لم تكن موجَّهة فقط ضد نُبلاء الإقطاع كما ذهب الباحثون، وإنما كانت موجَّهةً ضد الملكية، بل والآلهة أيضًا!» وإلا فكيف يمكنُنا أن نفهَم خطاب العجوز «أبيور» للملك:

ولكنك بعثتَ الفوضى في البلاد
مع الفتن!
وليتك تذوقتَ بعض هذه المصائب؛
وإذن لقصصت خبرها بنفسك!

ثم كيف تأتى للعامة أن يَنتهِكوا مقابر الملوك ويُدمِّروها، وهم من كانوا يُمثلون الآلهة المقدسة؟! تلك التي غدَت محلَّ سخرية الثوريين، فذبحوا لها الأوزَّ على أنه ثيران! ودمَّروا لها معابدها، أو ما بدا واضحًا في تساؤل «الرجل الأحمق» أو «الرجل الثائر»: «إذا عرَفتُ أين يوجد الإله، قدمتُ له القرابين!»

حقيقةً لا يمكن فَهمُ هذا كلِّه، إلا على أنه ثورة واعية ذاتُ اتجاهات إلحادية، لم تتَّجِه فقط ضد الإقطاع، وإنما أيضًا ضد الملَكيَّة والدين؛ مما يَعني أنها قد بلَغَت اكتمال نُضجها في هذا العهد، بعد عهود ظلام وصبرٍ طويلة، ولم تكن وليدةَ ظروف التسلُّط الإقطاعي في الأسرتين الخامسة والسادسة، وإنما هي تمتدُّ بجذورها إلى أيام الاستعباد في الأسرة الرابعة، وما ترَكه هذا الاستعباد محمولًا في النفوس ليتأجَّج في الأسرة الخامسة، ثم يتفجَّر في الأسرة السادسة.

«بل ويمكن التكهُّن — تكهنًا جديدًا تمامًا — بأن بداية تمرُّد النبلاء في أواسط الأسرة الخامسة، لم يكن في حقيقته سِوى مقدِّمات ونذُرِ هذه الثورة»، ويكون المعنى هو: احتمالَ كون الثورة قد بدأت تنفيذ مخطَّطاتها في الأسرة الخامسة بالتحالف مع حكام الأقاليم النبلاء كقيادة لها؛ استنادًا إلى بعض المدوَّنات التي تُوحي بأن «حكام المقاطَعات أُولِعوا بالاستقلال، لكن يبدو أنهم كانوا في الغالب يُحِبون مقاطعاتِهم حبًّا خالصًا، وظهَروا بمظهر المحسِنين نحو رعاياهم.»٢٨
ويشير أحد النبلاء في مَتنه الجنائزي، إلى فخره بمحاولة حلِّ مشكلاتٍ ثلاث، كانت هَمَّ الجماهيرِ الكبيرَ؛ وهي: مشكلة اضْطِراب الأمن، ومشكلة تطهير التِّرَع القديمة وحفر تِرَع جديدة وإصلاح الأراضي البُور، ومشكلة المجاعة والفقر.٢٩ وما كان يمكن أن يهتم نبيلٌ بحل هذه المشكلات، ولا حتى بذِكْر ذلك — ناهيك عن أنه يفخر به — أو حتى أن نتمكن من فَهم هذا الكلام، إذا لم يكن هناك تحالفٌ بين القُوى الثورية وبين القوى النبيلة، في بداية الثورة.
ويَدعم هذه الرؤيةَ أن هؤلاء النبلاء قد تمادَوْا «في عِصْيانهم، فكتب أحدُهم نقوشًا، افتخر فيها بأنه نجَّى بلده من ظلمِ واضطهاد البيت المالك»،٣٠ وما كان لنبيل أن يصرِّح بمثل هذا الكلام، مهما بلَغَت منزلته، أو يجرؤ على ذلك، لو لم يكن مُعضَّدًا من ثورة حقيقية فعلية، وبسندٍ قويٍّ من رجاله ومن جيشه الذي كان لا بد أن يتكوَّن بداهةً من أولئك الرجال، حتى وصل الأمر بهذا التحالف الثوري، إلى حد قطع الموارد عن العاصمة، حتى عجزت عن تنفيذ أوامرها وممارسة سلطاتها.٣١

وعليه يمكن القول: إنه إذا كان عِصيان النبلاء، قد بدأ في الأسرة الخامسة، وأخذ مَظهره في الأسرة السادسة، «أمكن أن يكون هنا التوقيتُ الحقيقي للثورة، فتصبح بدايتها النظرية في منتصف الأسرة الرابعة تقريبًا، ثم بدايتها العمَلية بقيادتها من النبلاء خلال الأسرة الخامسة، ثم تفجرها الشعبي الكامل، في نهايات الأسرة السادسة»، بعد أن بات واضحًا للجماهير أن النبلاء لم يظَلُّوا على حالهم من عدالة الحكم ورعاية شئون الجماهير، فبعد ذَهاب هيبة الملكية، وتحوُّلِها إلى اسمٍ بلا كيفية، تحولت أسر النبلاء للاستئثار بخيرات الأقاليم، دون غالبية المحرومين من المواطنين، «ممَّا يدعونا إلى افتراض أن هذا الوقت كان بدايةَ الطلاق بين النبلاء والجماهير»، التي انطلقَت تُدمِّر بلا تمييز، لا تُبقي ولا تذَر؛ لتنالَ من النبلاء والملَكية على حد سواء.

وبذلك نصل إلى استنتاجِ أن:
  • الصراع الاجتماعي كان ثورةً حقيقية لا مجال للشك فيها.

  • أنها كانت موجَّهةً ضد كلِّ أنواع السلطة؛ ملكيةً، وإقطاعًا، ودينًا.

  • أنها بدأت عمَليًّا وشعبيًّا قبل سقوط الأسرة السادسة، بل وكانت العاملَ الحاسم في هذا السقوط وسقوط الدولة القديمة برُمَّتها، وأغلب الظن أن نُذُرَها العمَلية، قد بدَت في تقرير «مانيتون» «أن الملك «تيتي Titi»» قد قُتِل بيد حُراسه.٣٢

وبالإضافة إلى ما سبَق من تدعيمٍ لمذهَبِنا في أن الصراع الاجتماعي كان ثورةً طبقية، سابقةً لسقوط الأسرة السادسة، وسببًا مباشرًا لسُقوطها، يمكن أن نُورد نَصَّين غاية في الخطورة والدلالة؛ أحدهما يبرز لنا أهمَّ آراء الشعب، في نظام الحكم الذي يرجوه من عدالة وديمقراطية، والآخَر يُعطينا صورةً للإنسان الثوريِّ المصري ومبادئه، ويزعم البعضُ أنهما قد ظهَرا بعد نهاية الثورة، وفي عهد حُكم الدولة الننسوتية بالذات، وإن كان حول هذا التوقيت شكٌّ كبير.

ولْنَبدأ بالنص الأول المعَنوَن ﺑ «نصائح إلى مري كا رع»،٣٣ ويرى عبد الحميد زايد: أن هذا النصَّ غالبًا ما يكون «واح كا رع» المعروف باسم أخيتوي الثالث هو المؤلف المزعوم له، وجهه كخُلاصة تجارِبَ وخبرات إلى ولده ووريثه الملك «مري كا رع».٣٤
ويلاحِظ المُطالع لهذه النصائح رُوحًا ديمقراطية تَشيع فيها، تُظهِر الفرعون في صورة إنسانية رحيمة، لا صورةٍ إلهية جبَّارة؛ فهو يتحدث عن ضعفه وندَمِه، كما يتحدث كلُّ الناس، ورغم أن «برستد» يؤكِّد أنها «تحمل بين سطورها أدلةً قاطعة تُثبِت أنها كُتِبت في العصر الذي تنسب إليه»،٣٥ فإن «جاردنر» يرى أنها لم تُكتَب قطُّ قبل نهاية الأسرة الثامنة عشرة في الدولة الحديثة،٣٦ بعد توقيت برستد بثمانيةِ قرون تقريبًا.
«وإن هذا الخلاف يَفتح أمامَنا بابَ الاجتهاد، لوضعِ احتمالٍ بأنها قد وُضِعت في نفس الوقت الذي ظهَرت فيه كلٌّ من أحاديث «إبيور» العجوز، و«نفر رحو» الحكيم الأدبية، أي في عصر الثورة»؛ كنصيحةٍ وتوجيه غيرِ مباشر للمَلك نحو الطريقة السليمة التي تُمكِّنه من اكتساب رضا شعبه ومَحبته، وأنها نسبت تلك النسبةَ المزعومة لأخيتوي الثالث — بتعبير «عبد الحميد زايد» — ذلك التعبير الذي يحمل نفس روحِ تَشكُّكِنا في صحة نسبتها للعهد الننسوتي، خاصة إذا ما نُظِر إلى ما يَسري فيها من روحٍ ديمقراطية ثورية حقيقية، يُستغرَب أن تَصدُر عن ملك مثل «أخيتوي» الثالث «واح كا رع». ومرجع الغرابة ما جاء عنه في المدوَّنات التاريخية التي وصفَتْه بالجبَروت والبطش وانعِدام الرحمة، حتى وصفَه المؤرخُ المصري «مانيتون» و«أراستوستينيس» بأنه كان «أبعثَ للرُّعب من كلِّ مَن تقدَّموه، وأنه كان يفعل الشر في مصر كلها»، وأنه «سام الشعبَ العذاب حتى أصابهم في عهده ما لم يُصِبهم من قبل في عهد غيره …»٣٧ حتى أشاع الناسُ أنه قد «أصابه الجنون أواخِرَ أيامه، وافترَسه تمساح في النيل.»٣٨
ولو كان «أخيتوي» الثالث حقًّا هو مؤلِّفَها، لكان منطقيًّا أن تكون حياته وسلوكه مع جماهير شعبه نموذجًا واقعيًّا لها، ولما ثارت مدينةُ الإله الشعبي المقدَّسة ثنيس أو أبيدوس التي كانت وراء الصراع بينه وبين واست الصعيدية؛ للاستيلاء عليها، تلك الثورة التي أوعَزَت إلى «جاردنر»،٣٩ باحتمال كونها كانت إشارةً لملوك الجنوب بالتقدم شمالًا، والاستيلاء عليها، وما تَلا ذلك من هزيمة «نن نسوت».
وعلى أيةِ حال، فليس هناك ما يَمنع مثلَ هذا الاحتمال الاجتهادي خاصة — وكما سلفت الإشارة — أن أغلب هذه المدوَّنات، لم تُدوَّن في عصرها مباشرة، وإنما ظلت تنتقل شَفاهة من جيل إلى جيل، حتى قُيِّض لها من يُدوِّنها، بعد أن أضافت لها الأيامُ وأمزِجةُ الرواة، وحَذفَت منها الكثير، ويبدو أن هذا ما دعا «جاردنر» إلى التعليق على هذه النصائح بأنها «مليئة بالرموز والألغاز والفجوات من كل نوع»،٤٠ لكن يمكن أن تَستقيم المسألةُ بوضع هذه القطعة الأدبية زمنيًّا على حد سواء مع أدب الثورة.

وفي هذه القطعة يقول الملكُ المزعوم لولده المزعوم:

البشر رعايا الإله
خلَق السماءَ والأرض بما يشتهون
وأجرى المياه دافقة
وأرسل لهم النَّسمات؛ كي يَحيَوْا بها
هم أشباه له!
صدَروا عن بدنه!
وهو يتجلَّى في السماء؛
ليُلبِّيَ ما يَرغبون فيه
ويخلق العشبَ
والأنعام
والطير والأسماك
حتى يَقْتاتون بها.٤١

ثم اسمع:

«لا تُفرِّق بين ابن النبيل وابن فقير الأصل!
وتخيَّر الفرد بكفاياته
قل الحق» في قصرك
يخشاك عظماء الأرض!٤٢

ثم:

«الْزَم العدل» تخلد على الأرض.٤٣

لأن:

قوة المرء في لسانه
وإن الحديث الطيبَ
أقوى من الحرب والقتال
… … … … … …
خذ بيد الحزين،
والبائس
«ولا تَظلِمْ» أرملة!
«ولا تقتل»؛
القتل لا يفيد.٤٤

ووسيلتك إلى سلامة عرشك هو أن:

لا تكوننَّ فظًّا؛
لأن الشفقة محبوبة
وليكن أكبر أثر لك،
محبة الناس لك.٤٥

هذه بإيجازٍ أهمُّ النصائح إلى «مري كا رع»، وهي مقتطَفات تُظهِر بوضوح صورة الملك الذي كانت تَرجوه الثورة الأولى على الإقطاع والملكية وتتمنَّاه، منقذًا ومخلصًا ومحبًّا لشعبه.

أما النص الثاني فهو شكاوى الفلاح الفصيح، ويقع في ٣٤٠ سطرًا، ويتكون من تسع شكاوى، تشير كلُّها إلى إهمال الموظفين لواجباتهم، واضطراب الأمن، وضَعْف الملكية، وانتشار السرقات، وتفشِّي الغش والخداع، وانحراف القضاء وارتشائه. ويَنسب المؤرخون هذه الشكاوى إلى أديبٍ من العصر الننسوتي، أو بالتحديد — فيما يرى «بريتشارد James. B. Pritchard»٤٦ إبَّان حُكم «نب كا رع/خيتي الثالث»؛ أي نفس الملك الذي زعم أنه صاحب النصائح إلى «مري كا رع».

وهذه الشكاوى قطعة أدبية رائعة، «تُعبِّر — إلى درجة كبيرة — عن نضوج الوعي السياسي؛ فقد أوضحَت بجلاء وبساطة أهمَّ حقوق الإنسان، وربطَت بين السلطة والمسئولية، بل واشترطَت ضمنيًّا — لبقاء الحاكم على كرسيه — مدى تنفيذه لالتِزاماته نحو شعبه»، وباختصارٍ هي لسانٌ ثوري عتيدٌ في ثوريته.

وتتلخص قصةُ هذا الفلاح الثائر «خون أنوب»،٤٧ في أنه كان في طريقه من قريته «حقل الملح» بضواحي الفيوم، بتجارة متواضعة، إلى سوق المدينة للمقايَضة، فمر على قرية «برفيفي»، وهناك احتال عليه نبيلُها «تحوتي-نخت» — المنوب عليها من قبل ناظر الخاصة الملكية «مرو بن رنس» — وسلَبَه بضاعتَه ومتاعه وماشيته، فما كان من خون بطل قصتنا، إلا أن ذهب — ثائرًا يهدد — إلى ناظر الخاصة الملكية، مقدِّمًا شكوى ضد نائبه اللصِّ تحوتي؛ ليرفعها إلى الملك.

ولعل أبدع ما في شكاوى خون الثائر، أنه «لم يجعل شكاواه تعبيرًا عن مشكلة خاصة به فقط، بل جعلها عامة شاملة»، تتناول حقوقَ كل الفقراء والمُعْوِزين، كما لو كان مؤلفها قد وضعها مرتَّبة محبوكة على لسان بطل قصته عامدًا؛ بهدف رفع الجَوْر والعُسْف، ملخِّصًا فيها كلَّ آرائه الثورية في النبلاء والموظفين وأحوال المعوِزين، بل وفي الحاكم نفسه، حتى بلغ من عنفه أن قال على لسان بطله «خون»، وهو يوجه حديثَه إلى ناظر الخاصة الملكية:

إن كبار الموظفين يأتون السيئات
إن الذي ينبغي أن يستأصل الشرور،
إنما يرتكب هو نفسه المظالم
لقد وليت لتقضي فيما بين الناس من خِصام
ولتعاقب المجرِم
وما أراك تَفعل شيئًا،
غير أن تُناصر اللصوص!
«وقد أولاك الناس ثقتهم»
فمِلْتَ في الحكم كل الميل
«لقد وليت» أمرَ الناس؛
لتكون حصنًا للبائسين
فحَذارِ
أن يغرق البائس
في مائك الجارف٤٨
إن الذي يجب أن يحكم
«تبعًا للقانون»
هو الذي يأمر بالسرقة!
فمَن الذي سيعاقب الخسة؟!
إن مَن يجب عليه إزالة الفساد.
هو المراوغ!
لقد أصبح الرجل مستقيمًا وهو أعوج.
ويُرضي غيرَه بسوء حظه.
… … … … … …
إنك معداوي فعلًا،
لكنك فقط تعدي «من معه الأجر»!٤٩

ويصور المؤلفُ بطَلَه في صورة المقدام، الذي لا يستسلم ولا يهرب خوفًا؛ فرغم أنه لم يَسْلَم من أذى الحجاب وإهانة الحراس، فإنه لم يتَخلَّ عن حقوقه، واستمر يصرخ بشكاواه، مُصرًّا على إسماع الحاكمِ صوتَه، ورأيه فيه وفي حكومته كلِّها، مصوِّرًا في شَكاواه مبادئ العدالة الاجتماعية والسياسية، التي كان يطمح إليها مُفكِّرو عصره، ويرفع صوته بعد أن ضرَبه الحُرَّاس بالسِّياط بِناءً على أوامر الحاكم، رادًّا له الصاع صاعَين، مُنادِيَه:

يا ابن رنس،
هكذا ضل ابن رنس طريقه
وصار بوجه أعمى لا يرى
وأصم لا يسمع
ضل ضميرُه طريقَه
اسمع:
أنك بلدة بلا عُمدة
كشركة بلا رئيس
كمركب بلا قبطان
إنك تريد رِشوة
ومَن يأتي بعدك سيفعل مثلك
لا تنهب ممتلكات الفقير
لأنك تعرف أنه ضعيف
لتسمع:
«لقد وُلِّيتَ» لتسمع!
وتَحكُم بين المتخاصمين
لتعاقب اللص
لا لتصبح سندًا لِلِّص
قد يثق فيك الإنسان
لكنك
مجرم!
إنك «قد عُيِّنت» لتكون سندًا للمعوِز
وحارسًا له
كي لا يغرق
لكن انظر
إنك أنت البحيرة التي تبتلعه.٥٠
وإذا كانت هذه القطعة الرائعة قد أُلِّفت فعلًا في عهد أخيتوي الثالث، ولم تُؤلَّف في عهد الثورة — وفي هذا شكٌّ كبير — فهي تدل دلالة قاطعة على أن الثورة قد أثَّرَت على العقلية المصرية، وعلى منهجها في التفكير تأثيرًا تقدُّميًّا كبيرًا. ويبدو أن هذا التأثيرَ لم يقف عند هذا الحد؛ لأن قصة تَولِّي «أمنمحات الأول» عرْشَ مصر لَتوحي بأن هذه الولاية كانت قمةَ أهداف العمل الثوري؛ استنادًا إلى شواهدَ؛ أهمها:
  • أن «أمنمحات» هذا لم يكن مِن سُلالة ملَكية، وإنما هو فردٌ من سواء أفراد الشعب، استطاع أن يُثبِت صلاحيَّاتٍ عسكريةً أوصلَتْه إلى تولِّي وزارة الحربية.

  • أنه انتمى باسمه «أمنمحات/آمون أم حية = آمون في الطليعة»،٥١ إلى إله كان مغمورًا حتى ذلك الحين هو «آمون Amon»، مما يَعني انتماءه لعقيدةٍ تخالف عقيدة سادته، الذين كانوا ينتسبون إلى «منتو» إله أرمنت القديم، وقد ارتفع شأن آمون فوق جميع آلهة مصر وحتى نهاية عصورها التاريخية، ولعل تفسير ذلك — في ظننا — يكمن في أن رجال كهنوته، جعلوا من آمون «الروح لأوزيريس»٥٢ الإله الجماهيري الشعبي.
  • أنه اعتبر في نظر رجال الفكر، المخلِّص المنتظَر للبلاد من عثرتها، وللشعب من ظلم نبلائه.

  • أنه هو الذي استطاع — في نظر بعض الباحثين — «أن يكسر نهائيًّا شوكة الحُكَّام الإقطاعيين»٥٣ — وإن كان على هذا الرأي تحفُّظٌ كبير — واستنادًا إلى ذلك يُمكن التكهُّن بأنه كان رجلَ الشعب المنتظر، ولربما كانت القياداتُ الشعبية وحكماؤها، وراء الترويج له — كما في نبوءة «نفر رحو» — وتمهيد السبل له بكل الوسائل الممكِنة؛ للوصول إلى الحكم.
وبالفعل؛ استطاع «أمنمحات» أن يجعل سِنِي حُكمه من أزهى عصور الدولة الوسطى؛ لتشمخ مصر برأسها في عهده مرة أخرى، إلا أن الأمور ما كانت لتسير دائمًا هيِّنة، فيرى كلٌّ من «أندريه إيمار وجانين إبوايه»٥٤ أن هذا الإصلاح الذي حاوله «أمنمحات» كان إصلاحًا أعرَج.
ولعل مرجعَ هذا التصوُّرِ يعود إلى أن إخضاعَ النبلاء بشكلٍ نهائي، كان مسألةً عسيرة، ومن ثَم كان الحلُّ — الذي بدا أن «أمنمحات» قد ارتضاه — هو السماحَ للنبلاء بقِسط كبير من الاستقلال مقابل طاعته؛٥٥ ولهذا يرى «إيمار وإبوايه»٥٦ أن الخطر لم يَقضِ عليه بالشكل الكافي، حتى عادت الأوضاع إلى صورة يصورها «إريك بيت» بقوله: «إن مركز الأُجَراء في هذه الدولة كان لا يفترق كثيرًا عنه في الدولة القديمة.»٥٧
وهنا تتحدث الوثائق بأن مؤامرة قد دُبِّرَت في الخفاء لاغتيال حياة «أمنمحات الأول»، وأنها بلغَت حدًّا بعيدًا، حتى إن الجُناة قد دخَلوا عليه غرفة نومه، وهجَموا على شخصه الملكي، مما اضْطَره أن يُدافع بنفسه عن نفسه، وسُمِع صليل السيوف في القصر، فتنبَّه الحراس من نومهم، وهُرِعوا لإنقاذ مَليكهم من الخطر الذي أحدَق به.٥٨
ونظنُّ أن القياداتِ الثوريةَ التي كانت وراء «أمنمحات»، لم تَعُد تَرضى عن سياسته إزاء النبلاء، واعتبرَتْه خائنًا لقضية الثورة، فقررَت اغتياله، ويدل حديث «أمنمحات» وتأسُّفُه على خيانة حُلفائه الذين وثق فيهم على صدق هذا الظن؛ فهو يقول: «لقد أحسنتُ إلى المسكين، وأطعمتُ اليتيم، وتحادَثْتُ مع الوضيع كمُحادَثتي مع الأمير، ولكن كل مَن أكَل خبزي، قام ضدي!»٥٩
وإذا كان «برستد»٦٠ يؤكد أن أفراد هذه المؤامرة، كانوا من أفراد حاشيته، فلن يتناقض ذلك مع ما احتمَلْناه؛ لأنه من الطبيعي جدًّا أن يكون أفراد حاشيته هم مَن مهَّدوا له السبيل للحكم، وهم أنفسُهم القيادات الشعبية الثورية، ومن الطبيعي أيضًا أن يكون أولُ من يجب أن يتخلص منهم «أمنمحات»، هم هذه القياداتِ، وهذا ليس أمرًا جديدًا ولا غريبًا في تاريخ الثورات؛ فها هو «بوركارت» يقول في مَعرِض حديثه عن الهِزَّات التاريخية بشكل عام: إنه «إذا نجح الانقلاب، وقَضى على الاستبداد القديم ومُمثِّليه، تَحدُث أول ظاهرة تثير الذهول، وهي الخلاص من الرُّواد الثائرين وإحلال آخرين محَلَّهم، وقد يُرَد ذلك إلى ضرورة القضاء على القُوى المتصارِعة على النفوذ، وتوحيد الجهود تحت قيادة واحدة.
وسرعان ما يظهر جيلٌ آخرُ من القادة، يَختلف عن الرواد الأوائل، من حيث نُضجُه وعدمُ حَنقِه على الأحوال التي أدت إلى الثورة. وتَكثر المحاولات والأخطاء كما تَكثر الضحايا، وتنتهي الأمورُ إلى أوضاع لم تخطر على بال أيِّ زعيم أو مفكِّر مثالي، ويظهر نفوذٌ جديد، كما تظهر معسكَرات مُتطاحِنة جديدة. وتَختفي أغلب الآراء المثالية، وتصبح طاعة السلطة الجديدة، هي أهمَّ ما يَرمي إليه أصحابُ النفوذ الجديد.»٦١
ورغم أن حديث «بوركارت» هذا يتناول الهزاتِ التاريخيةَ في الأمم الأقربِ والأحدَث، فإنه ينطبق في كثيرٍ من الوجوه على المرحلة التي تلَتِ الثورةَ المصرية الأولى، فجاء بعد أمنمحات عددٌ من الملوك الضِّعاف؛ لأن «في النكسات التي تَعقُب الثورات التي أخفقَت أهدافها، كثيرًا ما يَستسلم الناس، ويَخضعون لأكثر الحكوماتِ حماقةً، ويَرضَون بأتفهِ مقابل، ويعتبرون أنفسهم سعداء إذا لم يُؤدِّ سوءُ الأحوال، إلى حدوث تدخل أجنبي.»٦٢

وانتهى أمر هؤلاء الملوك الضعاف بثورة ثانية، تميزت بعدد من الملوك الشعبيين، لم يَستقرَّ أحدهم في كرسيِّه أكثرَ من ثلاث سنوات، نتيجة لما خلَّفَته الثورة من تمايزٍ في الاتجاهات السياسية والعقائدية والحزبية والفكرية، وكانت نهاية كل ذلك حدوث التدخُّل الأجنبي بغزو «الهكسوس» للبلاد، مما قاد البلادَ إلى مواجهةٍ حربية كبرى ومريرةٍ مع عدو أجنبي.

والحرب عند «بوركارت» «من العوامل الضرورية لتحقيق التقدم»،٦٣ وعند «هراقليطس» هي «أصل كل الأشياء»٦٤ وهي عند «لاسوكلس» «علة كلِّ نمو …»٦٥ فقد أدَّت معاركُ التحرير إلى وضع ثورات الشعب المصري في إطارها الصحيح، ودخل نظامُ الحكم — لأول مرة في تاريخ الإنسانية، إلى نظام الانتخاب الحر — لقادة التحرير، لكن لم تلبث رؤية «بوركارت» أنْ عادت لِتُثبت صدقها، ومع بداية عصر الرعامسة عادت الملكية الوِراثية، ورَضي الشعب «بأكثرِ الحكومات حماقة»، حتى اشتعلَت نيران الغضب مرة أخرى، وأعاد التاريخُ سيرته، وسقطَت مصرُ للغزوات الأجنبية المتتالية، التي كان آخرها — في تلك العصور — الغزو العربي.
وإن هذه النهاية التي انتهَت إليها الثورات الشعبية المصرية، ليست فريدةً في تاريخ الشعوب. فيتكلم «بوركارت» مرة أخرى عن أسباب سقوط الثورات إلى مثل هذه النهاية — في حضاراتٍ أحدثَ — فيقول: «إنها تَحدث لأسباب خمسة؛ أولها: الشعور بالإجهاد بعد الاندفاع في دوامة الأحداث المثيرة. وثانيها: أن جموع الشعب لا تشعر بالإثارة والحماسة إلا في البداية، وتنصرف بعد ذلك، وتصاب باللامبالاة. وثالثًا العنف بمجرد انطلاقه يؤدي إلى استيقاظ قُوًى خفية في النفوس، تعيد الناس إلى حالة الهمجية التي لا رابط لها، فينتهي الأمر إلى القضاء على مثالية الثورة في أول عهدها. رابعًا اختفاء أقوى رجال أشعلوا الثورة بعد إعدامهم، أما من يخلفون هؤلاء الأقوياء، فهم غالبًا من أوساط الناس. وخامس سبب هو أن الأحياء الباقين من ممثلي هذه الحركة، يصادفون تحولًا داخليًّا عميقًا؛ فبعضهم يرى الاكتفاء بالاستمتاع بالحياة، والبعض الآخر تتركز آماله في النجاة من مصير الثائرين.»٦٦
١  اقتبسها د. علي أدهم في دراسته: فلسفة التاريخ لهيجل، ص١١١.
٢  حياة المصريين وثقافتهم في عهدهما الأول، ص٢٥٧، ٢٥٨.
٣  هنري فرانكفورت: فجر الحضارة في الشرق الأدنى، ص١٢٢، ١٣٢.
٤  محمد العزب، أول ثورة على الإقطاع، ص٥٨، ٥٩.
٥  انظر: برستد، كتاب تاريخ مصر …، ص٥٥.
٦  انظر: إيمار وإبوايه، الشرق واليونان القديم، ص٥٢.
٧  انظر: محمد العزب، أول ثورة على الإقطاع، ص٥٩.
٨  انظر: مصر، دريتون وفاندييه، ص٢٣٦.
٩  فاروق فريد، التاريخ الجامع لهيرودوت، تراث الإنسانية، المجلد الخامس، القاهرة، ص٤٥٩.
١٠  انظر: د. نجيب ميخائيل، مصر والشرق الأدنى القديم، الجزء الأول، ص١٦٧.
١١  تُحفَظ بردية إبيور حاليًّا في مُتحَف ليدن بهولندا، وتُعرَف اصطلاحًا بورقة ليدن، وقد اكتشَفها الأثريُّ «لانجا»، ثم درَسها جاردنر دراسةً شاملة تحت عنوان: The Admonition of an Egyptian sage.
انظر بخاصة 1 (344r)، وانظر أيضًا لجاردنر. Ancient Egypt, 1, p. 55–58 (1914). وبالعربية انظر: عبد العزيز صالح، الشرق الأدنى القديم، بدءًا من ص١٤٢.
١٢  انظر: برستد، فجر الضمير، ص٢٠٧.
١٣  انظر: د. عبد العزيز صالح، الشرق الأدنى القديم، ص٣٥٩.
١٤  د. أحمد حمدي محمود: تأملات في التاريخ لياكوب بوركارت، تراث الإنسانية، المجلد الثالث، القاهرة، ص٨٥٠.
١٥  محمد العزب، أول ثورة على الإقطاع، ص٧٩.
١٦  د. عبد العزيز صالح، الشرق الأدنى القديم، ص١٤٢.
١٧  نفسه، ص٣٦٠.
١٨  الموضع نفسه.
١٩  الموضع نفسه.
٢٠  انظر: محمد العزب، أول ثورة على الإقطاع، ص٤١.
٢١  عبد العزيز صالح، الشرق الأدنى القديم، ص١٤٣.
٢٢  نفسه، ص١٤٣.
٢٣  محمد العزب، أول ثورة على الإقطاع، ص٧٤.
٢٤  انظر: د. نجيب ميخائيل، مصر والشرق الأدنى القديم، الجزء الأول، ص٢٥٨، ٢٥٩.
٢٥  برستد، فجر الضمير، ص٢١٢؛ انظر أيضًا: استانلي كوك، آلهة السحر، ص١٨٦.
٢٦  اكتشف برديتَه الأثريُّ الروسي «جولنشف golenischef» وهي محفوظة الآن في متحف سسسلننجراد بالاتحاد السُّوفيتي، وقد ترجمَها كلٌّ من جاردنر وإرمان. See: Ancient Egypt, gardiner, I, p. 55–58, (1914).
٢٧  د. عبد العزيز صالح، الشرق الأدنى القديم، ص٣٦٥.
٢٨  دريتون وفاندييه، مصر، ص٢٣٩.
٢٩  انظر: د. عبد العزيز صالح، الشرق الأدنى القديم، الجزء الأول، ص١٤٥.
٣٠  برستد، كتاب تاريخ مصر …، ص٩٧.
٣١  انظر: د. عبد العزيز صالح، الشرق الأدنى القديم: الجزء الأول، ص١٤٢.
٣٢  See: Egypt of the Pharaohs, gardiner, 112.
٣٣  النص مدوَّن في ثلاث بَرديات، واحدة في لننجراد، وأخرى في موسكو، والثالثة في كوبنهاجن، للمزيد انظر: Der Histotorische Absehnitt der lehre fuer Meri Ka Re Sharff, (Sitz des Bayerischen, Ak. D. Wissenschaften, fhil-Hist, Kl. 1936, 8).
٣٤  انظر: التسجيلات المصرية القديمة، ص١١٢.
٣٥  فجر الضمير، ص١٦٦.
٣٦  Egypt of the Pharaohs, p. 115.
٣٧  د. نجيب ميخائيل، مصر والشرق الأدنى القديم، الجزء الأول، ص٢٨٨.
٣٨  محمد العزب، أول ثورة على الإقطاع، ص٩٥.
٣٩  Egypt of the Pharaohs, p. 120.
٤٠  Ibid. p. 115.
٤١  د. عبد العزيز صالح، الشرق الأدنى القديم، ص١٥٠.
٤٢  نفسه، ص١٤٩.
٤٣  نفسه، ص١٥٠.
٤٤  د. عبد الحميد زايد، مصر الخالدة، ص٣٠٧.
٤٥  برستد، فجر الضمير، ص١٦٩.
٤٦  See: Ancient Near Eastern texts, p. 407, Third Edition, Brinceton Univeresity Press, 1969, New Jersey.
٤٧  انظر القصة تفصيلًا بالمصدر نفسه: Ibid, p. 407–410.
٤٨  د. عبد الحميد زايد: التسجيلات المصرية القديمة، ص١١٣.
٤٩  Pritchard, Anciant Near Eastern texts. p. 409.
٥٠  Ibid, p. 409.
٥١  انظر: د. نجيب ميخائيل، مصر والشرق الأدنى القديم، الجزء الأول، ص٣٢١.
٥٢  إرمان، ديانة مصر القديمة، ص١٠٩.
٥٣  محمد العزب، أول ثورة على الإقطاع، ص٩٩.
٥٤  انظر: الشرق واليونان القديم، ص٦٣.
٥٥  انظر: إريك بيت، الحياة في مصر في الدولة الوسطى، ص٥٧١.
٥٦  انظر: الشرق واليونان القديم، ص٦٤.
٥٧  الحياة في مصر في الدولة الوسطى، ص٥٧٥.
٥٨  انظر: برستد، كتاب تاريخ مصر، ص١١٥.
٥٩  نفسه، ص١٦٦.
٦٠  نفسه، ص١١٥.
٦١  د. أحمد حمدي محمود، تأملات في التاريخ لياكاوب بوركارت، ص٨٥١.
٦٢  الموضع نفسه، ص٨٤٩.
٦٣  المرجع نفسه، ص٨٤٩.
٦٤  الموضع نفسه.
٦٥  الموضع نفسه.
٦٦  المرجع نفسه، ص٨٥١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤