الرسالة الأولى

من النفسانيات العقليات في مبادئ الموجودات العقلية على رأي الفيثاغوريين

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ

(١) فصل

اعلم أيها الأخ أنَّا قد فرغنا من بيان علل اختلاف اللغات والكلام والأصوات، ورسوم الخطوط والكتابات، وكيفية مبادئ المذاهب والاعتقادات، والآراء والديانات، وختمنا الكلام في الطبيعيات عند ختمنا تلك الرسالة. ونريد الآن أن نشرح في القسمة الثالثة من النفسانيات العقليات حسبما وعدنا في صدر كتابنا، ونذكر فيها ما يتعلق بتلك الرسائل على التوالي، منها هذه الرسالة الأولى في مبادئ الموجودات.

فنقول على رأي فيثاغورس الحكيم، الذي هو أول من تكلم في علم العدد وطبيعته، قال: إن طبيعة الموجودات بحسب طبيعة العدد، فمَن عرف العدد وأحكامه وطبيعته وأجناسه وأنواعه وخواصه، أمكنه أن يعرف كمية أجناس الموجودات وأنواعها وما الحكمة في كمياتها، على ما هي عليه الآن، ولِمَ لَمْ يكن أكثر من ذلك ولا أقل منه؛ وذلك أن الباري تعالى لما كان هو مبدع علة الموجودات وخالق المخلوقات ومخترعها، وهو واحد بالحقيقة من جميع الوجوه، لم يكن من الحكمة أن تكون الأشياء كلها شيئًا واحدًا من جميع الجهات، ولا متباينة من جميع الوجوه، بل يجب أن تكون الأشياء كلها واحدًا بالهيولى، كثيرة بالصورة، ولم يكن أيضًا من الحكمة أن تكون الأشياء كلها ثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية وسداسية، وما زاد على ذلك بالغًا ما بلغ، بل كان الأحكم والأتقن أن تكون على ما هي عليه الآن بحسب الأعداد والمقادير، وكان ذلك هو في غاية الحكمة والإتقان؛ وذلك أن من الأشياء ما هي ثنائية، ومنها ما هي ثلاثية ورباعية وخماسيات ومسدسات ومسبعات ومثمنات ومتسعات ومعشرات، وما زاد على ذلك بالغًا ما بلغ.

فالأشياء الثنائية مثل الهيولى والصورة، والجوهر والعرض، والعلة والمعلول، والبسيط والمركب، واللطيف والكثيف، والمشف وغير المشف، والمظلم والمنير، والمتحرك والساكن، والعالي والسافل، والحار والبارد، والرطب واليابس، والخفيف والثقيل، والضار والنافع، والخير والشر، والصواب والخطأ، والحق والباطل، والذكر والأنثى؛ وبالجملة من كل زوجين اثنين كما قال الله تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.

وأما الأشياء الثلاثية فمثل الأبعاد الثلاثة التي هي الطول والعرض والعمق، ومثل المقادير الثلاثة التي هي الخط والسطح والجسم، ومثل الأزمان الثلاثة التي هي الماضي والحاضر والمستقبل، ومثل العناصر الثلاثة التي هي الممكن والممتنع والواجب، ومثل الأمور الثلاثة التي منها رياضية وطبيعية وإلهية؛ وبالجملة كل أمر ذي وسط وطرفين.

وأما الأشياء الرباعية فمثل الطبائع الأربع التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ومثل الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض، ومثل الأخلاط الأربعة التي هي الصفراء والدم والبلغم والسوداء، ومثل الأزمان الأربعة التي هي الربيع والصيف والخريف والشتاء، ومثل الجهات الأربع التي هي المشرق والمغرب والشمال والجنوب، والأوتاد الأربعة التي هي الطالع والغارب ووتد الأرض ووتد وسط السماء، ومراتب الأعداد التي هي الآحاد والعشرات والمئون والألوف. وعلى هذا القياس إذا اعتبرت وجدت أشياء كثيرة مخمسات ومسدسات ومسبعات بالغًا ما بلغ. وقد توغلت المسبعة في الكشف عن الأشياء السباعية، فظهر لهم منها أشياء عجيبة، فشغفوا بها وأطنبوا في ذكرها وأغفلوا ما سوى ذلك من المعدودات. وكذلك أيضًا الثنوية أطنبوا في الكشف عن الموجودات الثنائية فظهر لهم منها أشياء عجيبة، فشغفوا بها وأغفلوا ما سوى ذلك من الموجودات. وهكذا النصارى في التثليث والمثلثات، وهكذا الطبيعيون أطنبوا في الطبائع الأربع والمربعات من الأمور.

وهكذا الخرمية أطنبوا في المخمسات من الأمور، وأهل الهند أيضًا أطنبوا في المتسعات من أمور العدد والمعدودات.

فأما الفيثاغوريون فأعطوا كل ذي حق حقه، حتى قالوا إن الموجودات بحسب طبيعة العدد؛ يعنون أن الأشياء الموجودة منها ما هو اثنان اثنان، ومنها ما هو ثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، وخمسة خمسة، وهكذا بالغًا ما بلغ.

وقالوا إن الواحد أصل العدد ومشنؤه، ومن الواحد يتألف العدد؛ قليله وكثيره، وأزواجه وأفراده، وصحيحه وكسوره؛ فالواحد هو علة العدد؛ كما أن الباري جلت أسماؤه علة الموجودات وموجدها، ومرتبها ومتقنها، ومتممها ومكملها؛ وكما أن الواحد لا جزء له ولا مثل، كذلك أن الباري جل ثناؤه لا شريك له ولا شبه ولا مثل؛ وكما أن الواحد موجود في جميع الأعداد محيط بها، كذلك أن الباري جل ثناؤه شاهد على كل موجود محيط به؛ وكما أن الواحد يعطي اسمه لكل عدد ومقدار، كذلك الباري جل ثناؤه أعطى الوجود لكل موجود؛ وكما أنه ببقاء الواحد بقاء العدد، كذلك ببقاء الباري جل ثناؤه بقاء الموجودات ودوامها؛ وكما أن بالواحد بعد كل عدد ومقدار، كذلك علم الباري تعالى محيط بكل شيء شاهد وغائب.

وقالوا كما أن من تكرار الواحد نشوء العدد وتزايده كذلك من فيض الباري وَجوده نشأة الخلائق وتمامها وكمالها، وكما أن الاثنين هو أول عدد نشأ من تكرار الواحد كذلك العقل هو أول موجود فاض من وجود الباري عز وجل، وكما أن الثلاثة ترتبت بعد الاثنين كذلك النفس ترتبت بعد العقل، وكما أن الأربعة ترتبت بعد الثلاثة كذلك الهيولى ترتبت بعد النفس، وكما أن الخمسة ترتبت بعد الأربعة كذلك الطبيعة ترتبت بعد الهيولى، وكما أن الستة ترتبت بعد الخمسة كذلك الجسم ترتب بعد الطبيعة، وكما أن السبعة ترتبت بعد الستة كذلك الأفلاك ترتبت بعد وجود الجسم، وكما أن الثمانية ترتبت بعد السبعة كذلك الأركان ترتبت بعد الفلك، وكما أن التسعة ترتبت بعد الثمانية كذلك المولدات ترتبت بعد الأركان، وكما أن التسعة آخر مرتبة الآحاد كذلك المولدات آخر مرتبة الموجودات الكليات؛ وهي المعادن والنبات والحيوان؛ فالمعادن كالعشرات، والنبات كالمئين، والحيوان كالألوف، والمزاج كالواحد. وقالوا: العدد كله أزواج وأفراد وصحيح وكسور، فمراتب الموجودات التي في عالم الأرواح بطبيعة الأفراد أشبه، ومراتب الموجودات التي في عالم الأجساد بطبيعة الأزواج أشبه، ومراتب الموجودات التي في عالم الأفلاك بطبيعة الأعداد الصحيحة أشبه، ومراتب الموجودات التي في عالم الكون والفساد بطبيعة الأعداد الكسور أشبه.

(٢) فصل

اعلم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الوجود متقدم على البقاء، والبقاء متقدم على التمام، والتمام متقدم على الكمال؛ لأن كل كامل تام، وكل تام باقٍ، وكل باقٍ موجود، ولكن ليس كل موجود باقيًا، ولا كل باقٍ تامًّا، ولا كل تامٍّ كاملًا؛ وذلك أن الباري — جلت أسماؤه — الذي هو علة الموجودات ومبدعها ومبقيها ومتمها ومكملها، أول فيض فاض منه الوجود، ثم البقاء ثم التمام ثم الكمال، وقد بيَّنا في الرسالة التي ذكرنا فيها خواص العدد الفرق بين التمام والكمال، فاعرفه من هناك إن شاء الله.

(٣) فصل

إنه ينبغي لمن يريد النظر في مبادئ الموجودات ليعرفها على حقائقها أن يقدم أولًا النظر في مبادئ الأمور المحسوسة؛ ليروض بها عقله ويقوي بها فهمه على النظر في مبادئ الأمور المعقولة؛ لأن معرفة الأمور المحسوسة أقرب من فهم المبتدئين وأسهل على المتعلمين، فنقول:

إن الجسم أحد الموجودات المحسوسة، وهو جوهر مركَّب من جوهرين بسيطين معقولين: أحدهما يقال له الهيولى، والآخر يقال له الصورة؛ فالهيولى هو جوهر قابل للصورة، والصورة هي التي بها الشيء ما هو. مثال ذلك: الحديد هيولى لكل ما يعمل منه كالسكين والسيف والمنشار وغير ذلك؛ فالسكين إنما هي اسم للصورة، وكذلك السيف والفأس؛ لأن الحديد في كلها واحد والصورة مختلفة، واختلاف الأسماء بحسب اختلاف الصور. وكذلك أيضًا الخشب فإنه هيولى لكل ما يعمل منه كالباب والسرير والكرسي.

وليس كل هيولى تقبل كل صورة؛ لأن الخشب لا يقبل صورة القميص، ولا الشقة تقبل صورة الكرسي، ولا الهيولى تقبل أي صورة تقدمت؛ لأن القطن لا يقبل صورة الشقة، ولا الغزل يقبل صورة القميص. لكن القطن أول ما يقبل صورة الغزل، وبتوسط صورة الغزل يقبل صورة الشقة ثم صورة القميص. وهكذا الطعام أول ما يقبل صورة الدقيق، ثم صورة العجين، ثم صورة الخبز.

وعلى هذا المثال يكون قبول الهيولى للصور المختلفة، الأول فالأول على الترتيب؛ وذلك أن الهيولى الأولى أول ما قبلت صورة الجسم الذي هو الطول والعرض والعمق، ثم بتوسط الجسم تقبل سائر الصور من التدوير والتثليث والتربيع وما شاكل ذلك. والهيولى يقال على أربع جهات: فأقربها إلى الحس هيولى الصناعة مثل الخشب والحديد والقطن بحسب ما بينا، فإن كل صانع لا بُدَّ له من هيولى يعمل فيه ومنه صناعته. والثاني هيولى الطبيعة وهي النار والهواء والماء والأرض؛ وذلك أن كل شيء تعمله الطبيعة التي تحت فلك القمر من الموجودات، فإن هذه الأركان الأربعة هيولى لها. والثالث هيولى الكل؛ أعني الجسم المطلق الذي يعم الأفلاك والكائنات أجمع. والرابع الهيولى الأولى وهو جوهر قابل للصورة، فأول صورة قبلُ هي الطول والعرض والعمق، وكان بذلك جسمًا مطلقًا، وهذه الهيولى من المبادئ الأولى المعقولة.

وذلك أن هذه الهيولى أول معلول النفس، والنفس أول معلول العقل، والعقل أول معلول الباري تعالى، وأن الباري تعالى علة كل موجود ومبدعه ومتقنه ومتممه ومكمله على النظام والترتيب الأشرف فالأشرف، وترتيب الموجودات عنه كترتيب العدد عن الواحد الذي قبل الاثنين، كما بيَّنا في الرسالة التي ذكرنا فيها خواص العدد؛ فالعقل هو أول موجود أوجده الباري تعالى وأبدعه من غير واسطة، ثم أوجد النفس بواسطة العقل، ثم أوجد الهيولى؛ وذلك أن العقل جوهر روحاني فاض من الباري عز وجل وهو باقٍ تام كامل، والنفس جوهرة روحانية فاضت من العقل وهي باقية تامة غير كاملة، والهيولى الأولى جوهر روحاني فاض من النفس وهو باقٍ غير تام ولا كامل.

(٤) فصل

اعلم أن علة وجود العقل هو وجود الباري عز وجل وفيضه الذي فاض منه، وعلة بقاء العقل هو إمداد الباري عز وجل له بالوجود والفيض الذي فاض أولًا، وعلة تمامية العقل هي قبول ذلك الفيض والفضائل واستمداده من الباري تعالى، وعلة كمال العقل هي إفاضة ذلك الفيض والفضائل على النفس بما استفاده من الباري عز وجل؛ فبقاء العقل إذَنْ علةٌ لوجود النفس، وتمامية العقل علة لبقاء النفس، وكماله علة لتمامية النفس، وبقاء النفس علة لوجود الهيولى، وتمامية النفس علة لبقاء الهيولى؛ فمتى كملت النفس تمت الهيولى، وهذا هو الغرض الأقصى في رباط النفس بالهيولى. ومن أجل هذا دوران الفلك وتكوين الكائنات لتكمل النفس بإظهار فضائلها في الهيولى، وتتم الهيولى بقبول ذلك، ولو لم يكن هذا هكذا لكان دوران الفلك عبثًا.

واعلم يا أخي أن العقل إنما قبل فيض الباري تعالى وفضائله التي هي البقاء والتمام والكمال دفعة واحدة، بلا زمان ولا حركة ولا نصب؛ لقربه من الباري عز وجل وشدة روحانيته. فأما النفس فإنه لما كان وجودها من الباري جل ثناؤه بتوسط العقل، صارت رتبتها دون العقل، وصارت ناقصة في قبول الفضائل، ولأنها أيضًا تارة تتوجه نحو العقل لتستمد منه الخير والفضائل، وتارة تُقبل على الهيولى لتمدها بذلك الخير والفضائل، فإذا هي توجهت نحو العقل لتستمد منه الخير اشتغلت عن إفادتها الهيولى ذلك الخير، وإذا هي أقبلت على الهيولى لتمدها بذلك الفيض اشتغلت عن العقل وقبول فضائله.

ولما كانت الهيولى ناقصة الرتبة عن تمام فضائل النفس وغير راغبة في فيضها، احتاجت النفس إلى أن تُقبل عليها إقبالًا شديدًا، وتُعنى بإصلاحها عناية تامة، فتتعب ويلحقها العناء والشقاء في ذلك.

ولولا أن الباري عز وجل بفضله ورحمته أيَّدها بالعقل وأعانها على تخليصها، لهلكت النفس في بحر الهيولى، كما قال الله تعالى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا، وأما العقل فليس يناله في تأييدِه النفسَ وفيضِه عليها فضائلَه تعبٌ ولا نصبٌ؛ لأن النفس جوهرة روحانية سهلة القبول، تطلب فضائل العقل وترغب في خيراته وهي حية بالذات علامة بالقوة فعالة بالطبع قادرة صانعة بالعرض.

وأما الهيولى فلِبعدها من الباري — تعالى ذكره — صارت ناقصة المرتبة، عادمة الفضائل، غير طالبة لفيض النفس ولا راغبة في فضائلها، ولا علامة ولا مفيدة ولا حية، بل قابلة حسب، فمن أجل هذا يلحق النفس التعب والعناء والجهد والشقاء في تدبيرها الهيولى وتتميمها لها، ولا راحة للنفس إلا إذا توجهت نحو العقل وتعلقت به واتحدت معه، وسنشرح كيف يكون هذا فيما بعد إن شاء الله.

(٥) فصل في سؤالات عن المبادئ

كيف سريان الوجود في الموجودات – كيف سريان البقاء في الباقيات – كيف سريان الدوام في الدائمات – كيف سريان التمام في التامات – كيف سريان الكمال في الكاملات – كيف سريان الحياة في الأحياء – كيف سريان العلم في ذوي العلم – كيف سريان القدرة في ذوي القدرة – كيف سريان الرياسة في ذوي الرياسة – كيف سريان الربوبية في ذوي الأرباب – كيف سريان الكثرة من الوحدة المحضة؟

وقال بعضهم، ولَنعم ما قيل:

يا منير العالم الحسي بالعقل المنير
أنت مُبدي الكل ما زلتَ على مرِّ الدهور
لم يزل في علمك العالم من قبل الظهور
متقن الصنعة كالصورة في وهم الضمير
ثم أظهرْت إلى الوجدان إظهار البصير
جملة أبدعتَها إبداع خلَّاق قدير

(٦) فصل في المبادئ الروحانية والجسمانية معًا ومراتبها

اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن أول شيء اخترعه الله جل ثناؤه وأوجده جوهرٌ بسيط روحاني في غاية التمام والكمال والفضل، فيه صور جميع الأشياء؛ يسمى العقل الفعال، وأن من ذلك الجوهر فاض جوهر آخر دونه في الرتبة يسمى «الرتبة الكلية»، وانبجس من النفس جوهر آخر يسمى الهيولى الأولى، وأن الهيولى الأولى قبل المقدار الذي هو الطول والعرض والعمق، فصارت بذلك جسمًا مطلقًا؛ وهو الهيولى الثانية.

ثم أن الجسم قبل الشكل الكري — الذي هو أفضل الأشكال — فكان من ذلك عالم الأفلاك والكواكب ما صفا منه ولطف، الأول فالأول من لدن الفلك المحيط إلى منتهى فلك القمر، وهي تسع أكر بعضها في جوف بعض، فأدناها إلى المركز فلك القمر، وأبعدها وأعلاها الفلك المحيط، ويسمى أيضًا الفلك الحامل للكل، الذي هو ألطف الأفلاك جوهرًا وأبسطها جسمًا، ثم دونه فلك الكواكب الثابتة، ثم دونه فلك زحل، ثم دونه فلك المشتري، ثم دونه فلك المريخ، ثم دونه فلك الشمس، ثم دونه فلك الزهرة، ثم دونه فلك عطارد، ثم دونه فلك القمر، ثم دون فلك القمر الأركان الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض؛ فالأرض هي المركز وهي أغلظ الأجسام جوهرًا وأكثفها جرمًا.

ولما ترتبت هذه الأكر بعضها في جوف بعض، كما أراد باريها جل ثناؤه، وكما اقتضت حكمته، من لطيف نظامها وحسن ترتيبها، ودارت الأفلاك بأبراجها وكواكبها على الأركان الأربعة، وتعاقب عليها الليل والنهار، والشتاء والصيف، والحر والبرد، واختلط بعضها ببعض، فامتزج اللطيف منها بالكثيف، والثقيل بالخفيف، والحار بالبارد، والرطب باليابس؛ تركبت منها على طول الزمان أنواع التراكيب التي هي المعادن والنبات والحيوان.

فالمعدن هو كل ما انعقد في باطن الأرض وقعر البحار وجوف الجبال من البخارات المتحللة والدخانات المتصاعدة والرطوبات المحتقنة في المغارات، والأهوية والترابية عليها أغلب.

وأما النبات فهو كل ما نجم على وجه الأرض من العشب والكلأ والحشائش والبقول والزروع والأشجار، والمائية عليها أغلب.

وأما الحيوان فهو كل جسم يتحرك ويحس وينتقل من مكان إلى مكان بجثته، والهوائية عليه أغلب.

فالمعادن أشرف تركيبًا من الأركان، والنبات أشرف تركيبًا من المعادن، والحيوان أشرف تركيبًا من النبات، والإنسان أشرف تركيبًا من جميع الحيوان، والنارية عليه أغلب.

وقد اجتمع في تركيب الإنسان جميع معاني الموجودات من البسائط والمركبات التي تَقدَّم ذكرها؛ لأن الإنسان مركب من جسد غليظ جسماني ومن نفس بسيطة روحانية.

فمن أجل هذا سَمَّت الحكماءُ الإنسانَ عالمًا صغيرًا، والعالمَ إنسانًا كبيرًا؛ فالإنسان إذا ما هو عَرَفَ نفسه بالحقيقة من غرائب تركيب جسده ولطيف بنية هيكله وفنون تصاريف قوى النفس فيه وإظهار أفعالها به ومنه، من الصنائع المحكمة والمهن المتقنة؛ تهيأ له أن يقيس عليها جميع معاني المحسوسات ويستدل بها على جميع معاني المعقولات من العالمين جميعًا.

فينبغي لنا أيها الأخ، أيدك الله وإيانا بروح منه — إذا كنا عازمين على معرفة حقائق الموجودات — أن نبتدئ أولًا بمعرفة أنفسنا؛ إذ هي أقرب الأشياء إلينا، ثم بعد ذلك بمعرفة سائر الأشياء؛ لأنه قبيح بنا أن ندَّعي حقائق الأشياء ولا نعرف أنفسنا.

فصل

اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن النفس الكلية إنما هي قوة روحانية فاضت من العقل بإذْن الباري جل ثناؤه، كما ذكرنا قبل، وأن لها قوتين اثنتين ساريتين في جميع الأجسام، من لدن فلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، كسريان ضوء الشمس في جميع أجزاء الهواء؛ فإحدى قوتيها علامة، والأخرى فعالة، فهي بقوتها الفعالة تتمم الأجسام وتكملها بما تنقش فيها من الصور والأشكال والهيئات والزينة والجمال بألوان الأصباغ، وبالقوة العلامة تكمل ذاتها بما يظهر من فضائلها من حد القوة إلى حد الفعل من العلوم الحقيقية، والأخلاق الجميلة، والآراء الصحيحة، والأعمال الصالحة، والصنائع المحكمة، والمهن المتقنة، بحسب قبول شخص تأثيراتها بصفاء جوهره ولطافة جرمه.

فصل

واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن النفس جوهرها لا يبيد وقواها لا تفنى وأفعالها لا تنقطع؛ لأن مادتها من العقل بالتأييد لها دائم وقبولها منه الفيض سرمدًا متصل.

وهكذا تأييد الباري تعالى للعقل دائمًا وأبدًا وفيضه متصل وقبول العقل لذلك متصل دائم؛ لأن فضائل الباري تعالى لا تفنى وعطاياه لا تنقطع وفيضه لا يتناهى؛ لأنه ينبوع الخيرات، مبدأ البركات، ومعدن الجود وسبب كل موجود، فله الحمد والثناء، والشكر والعطاء.

فصل

واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن النفس الكلية رتبتها فوق الفلك المحيط، وقواها سارية في جميع أجزاء الفلك وأشخاصه بالتدبير والصنائع والحكم، وفي كل ما يحوي الفلك من سائر الأجسام، وأن لها في كل شخص من أشخاص الفلك قوة مختصة به مدبرة له مظهرة منه أفعالها، وأن تلك القوة تسمى نفسًا جزئية لذلك الشخص؛ مثال ذلك القوة المختصة بجرم زحل المدبرة له المظهرة منه وبه أفعالها يسمى نفس زحل.

وهكذا القوة المختصة بجرم المشتري المدبرة له المظهرة به ومنه أفعالها يسمى نفس المشتري.

وعلى هذا المثال والقياس سائر القوى المختصة بكوكب كوكب وجرم جرم من أجرام الفلك وأشخاصه المدبرة لها المظهرة بها ومنها أفعالها تسمى نفوسًا لها.

وهذا هو حقيقة ما قد رمز إليه في الكتب الإلهية أنهم الملائكة والملأ الأعلى وجند الله الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

وهذا هو حقيقة ما قالت الحكماء والفلاسفة في تفصيل النفوس الجزئية في عالم الأفلاك والأركان، المسمَّون الروحانيين الموكلين بحفظ العالم وتدبير الخلائق بإدارة الأفلاك، وجريان الكواكب، وتصاريف الدهور، وتغاير الأزمان، ومراعاة الأركان، وتربية النبات والحيوان وحفظهما.

فصل

اعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن للنفس الكلية التي هي فوق الفلك المحيط قوة مختصة سارية في جميع الأجسام التي دون فلك القمر، وهي مدبرة لها، متصرفة فيها، مظهرة بها.

ومنها أفعالها، ويسميها الفلاسفة والأطباء طبيعة الكون والفساد، ويسميها الناموس ملكًا من الملائكة، وهي نفس واحدة ولها قوًى كثيرة منبثة في جميع أقسام الحيوان والنبات والمعادن والأركان الأربعة، من لدن فلك القمر إلى منتهى مركز الأرض.

وما من جنس ولا نوع ولا شخص من هذه الموجودات إلا ولهذه النفس قوة مختصة به مدبرة له مظهرة به، ومنه أفعالها، وإن تلك القوة تسمى نفسًا جزئية لذلك الشخص.

فصل

اعلم أن أول قوة لهذه النفس في هذه الأركان التي هي النار والهواء والماء والأرض، هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة.

وأن أول أفعال هذه القوى في هذه الأسطقسات هو التحريك والتسكين، والتبريد والتسخين، والتحليل والتجميد، والتصعيد والتقطير، والخلط والمزج، والتأليف والتركيب، والتصوير والتنقيش والتصبيغ وما شاكلها. وكل ذلك بفعل هذه القوى في هذه الأسطقسات بمعاونة قوى الأشخاص الفلكية لها بإذن الله تعالى. مثال ذلك تحريكها لركن النار لتسخين العالم بمعاونة قوة الشمس لها دائمًا، وتسكينها لركن الأرض بمعاونة قوة زحل لها دائمًا، وتحليلها لركن الماء بالسيلان بمعاونة قوة المشتري لها دائمًا، وتلطيفها لركن الهواء بمعاونة قوة المريخ لها دائمًا، وتقطيرها لركن البخار الرطب بمعاونة قوة الزهرة لها دائمًا، وتمزيجها لركن البخار اليابس بالبخار الرطب بمعاونة قوة عطارد لها دائمًا، وإمدادها للمولدات بركن العصارات بمعاونة ركن قوة القمر لها دائمًا.

فصل

واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن أول فعل هذه القوى — أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة — في تكوين المعادن صنعة الزئبق والكبريت؛ وذلك أن الرطوبات المحتقنة في باطن الأجسام الأرضية والبخارات المحتبسة فيها، إذا تعاقب عليها حر الصيف وحرارة المعدن لطفت وخفت، وتصاعدت علوًّا إلى سقوف تلك الأهوية والمغارات، وتعلقت هناك زمانًا، فإذا تعاقب عليها برد الشتاء غلظت وجمدت وتقاطرت راجعةً إلى أسفل تلك الأهوية والمغارات، واختلطت بتربة تلك البقاع ومكثت هناك زمانًا طويلًا، وحرارة المعادن دائمًا تعمل في إنضاجها وطبخها وتصفيتها؛ فتصير تلك الرطوبة المائية بما يختلط بها من الأجزاء الترابية وما تأخذ من ثقلها وغلظها بطول الوقت وإنضاج الحرارة لها زئبقًا رطبًا ثقيلًا، وتصير تلك الأجزاء الترابية التي في أسفل المعادن بما يمازجها من الرطوبة الدهنية وإنضاج الحرارة لها كبريتًا محترقًا، فإذا اختلط الزئبق والكبريت مرة ثانية وتمازجا — والتدبير بحاله — تركب من امتزاجهما أجناس الجواهر المعدنية وأنواعها.

مثال ذلك في تركيب الجواهر الذائبة أن الزئبق إذا كان صافيًا والكبريت إذا كان نقيًّا واختلطا جميعًا اختلاطًا سويًّا، وشرب الكبريت رطوبة الزئبق كما شرب التراب نداوة الماء، واتحدت أجزاؤهما على الاعتدال، وكان مقداراهما متناسبين، وحرارة المعدن تنضجهما على اعتدال، ولم يعرض لهما عارض من البرد واليبس، قبل إنضاجهما؛ انعقد من ذلك على طول الزمان الذهب الإبريز، فإن عرض لهما البرد قبل النضج انعقد فصار فضة بيضاء، فإن عرض لهما اليبس من فرط الحرارة صارا نحاسًا يابسًا، وإن عرض لهما البرد قبل أن تتحد أجزاء الكبريت بأجزاء الزئبق صارا من ذلك رصاصًا قلعيًّا، وإن عرض لهما البرد قبل النضج وكانت أجزاء الكبريت أكثر صارا حديدًا، وإن كان الزئبق أكثر والكبريت أقل والحرارة ضعيفة انعقد منهما الأسرب. وعلى هذا القياس تختلف سائر أجناس الجواهر المعدنية بسبب العوارض التي تعرض لها من كثرة الزئبق والكبريت وقلتهما أو فرط الحرارة والبرودة قبل وقت نضجهما والخروج عن الاعتدال وما شاكل ذلك.

فصل

واعلم أيها الأخ البار الرحيم، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الباري جل ثناؤه قد أيد النفس النباتية بسبع قوًى فعالة؛ وهي: القوى الجاذبة، والقوة الماسكة، والقوة الهاضمة، والقوة الدافعة، والقوة الغاذية، والقوة المصورة، والقوة النامية. وأنها تفعل بكل قوة من هذه فعلًا خلاف ما تفعله بقوة أخرى؛ فأول فعلها في تكوين النبات هو جذبها عصارات الأركان الأربعة، التي هي الأرض والماء والهواء والنار، ومصها لطائفها وما فيها من الأجزاء المشاكلة لكل نوع من أنواع النبات، ثم إمساكها لها بالقوة الماسكة لئلا تسيل وتحلل وتنعكس راجعة، ثم تنضيجها لها بالقوة الهاضمة لتحيلها إلى ذاتها، ثم دفعها لها بالقوة الهاضمة لتحيلها إلى ذاتها، ثم دفعها لها بالقوة الدافعة إلى أقطارها، ثم تغذيتها بالقوة الغاذية، ثم النمو والزيادة فيها بالقوة النامية، ثم التصوير لها بأنواع الأشكال والأصباغ بالقوة المصورة.

مثال ذلك أن القوة الجاذبة إذا امتصت نداوة التراب بعروق النبات وجذبتها كما يمص الحجام الدم بالحجمة، أو كما تمص النار الدهن بالفتيلة؛ انجذبت معها الأجزاء الترابية لشدة اتحادها بها، فإذا حصلت تلك المادة في عروق النبات أنضجتها القوة الهاضمة، وصيرتها مشاكِلة لجرم العروق، وتناولتها القوة الغاذية وألزقت بكل شكل من تلك الأعضاء والمفاصل ما يلائمه القوة المصورة، وزادت النامية في أقطارها طولًا وعرضًا وعمقًا، وما فضلت من تلك المادة ولطفت ورقت دفعتها القوة الدافعة إلى فوق في أصول النباتات وقضبانها وفروعها وأغصانها، وجذبتها الجاذبة إلى ما هناك، وأمسكتها الماسكة كي لا تسيل راجعة إلى أسفل، ثم إن القوة الهاضمة طبختها مرة ثانية وصيرتها مشاكِلة لجرم الأصول والفروع والأغصان، ومادة لها فزادت في أقطارها طولًا وعرضًا وعمقًا، وما ثقلت من تلك المادة ولطفت ورقت دفعتها الدافعة إلى أعلى الفروع والأغصان، وجذبتها الجاذبة إلى هناك، وأمسكتها الماسكة، ثم أن القوة الهاضمة طبختها مرة ثالثة وصيرتها مشاكلة لجرم الورق والنور والزهر وأكمام الحب والثمر وما شاكل ذلك، ومادة لها وزادت في أقطارها طولًا وعرضًا وعمقًا، وما لطفت من تلك المادة ورقت صيرتها مادة للحب والثمر وأمسكتها الماسكة هناك، ثم إن القوة الهاضمة طبختها مرة رابعة وأنضجتها ولطفتها وميزت منها اللطيف من الكثيف، والغليظ من الدقيق، وصيرت الغليظ والكثيف مادة لجرم القشر والنوى، وزادت في أقطارها طولًا وعرضًا وعمقًا، وصيرت اللطيف والرقيق مادة للب والحب والثمر، وهي الدقيق والشيرج والدهن والدبس والطعم واللون والرائحة.

فإذا تناول الحيوان لب النبات ليتغذى به، وحصلت تلك المادة في المعدة، فأول فعل هذه القوى فيها فعل القوة الهاضمة بالحرارة الغريزية، ثم تصفيتها في المعى وجذب الكيموس إلى الكبد، ثم تنضيجها مرة أخرى، ثم تمييز الأخلاط بعضها من بعض، وهي الدم والبلغم والمُرَّتان، ثم دفعها إلى الأعضاء والأوعية المعدَّة لقبولها، ثم تقسيط الدم على الأعضاء والمفاصل بالأوراد، ثم تغذيته لكل عضو بما يشاكله من تلك المادة، ثم النمو والزيادة في أقطارها طولًا وعرضًا وعمقًا، ثم استخراج النطفة من جميع أجزاء بدن الفحل عند حركة الجماع، وهي زبدة الدم، ثم نقلها إلى رحم الأنثى بالآلات المعدَّة لذلك.

وأما فعل هذه القوى في تركيب جسد الإنسان عند حصول النطفة في الرحم، وتدبيرها لها تسعة أشهر حالًا بعد حال، إلى أن تستتم بنْية الجسد وتستكمل هناك صورته؛ فقد شرحناها في رسالة أخرى غير هذه.

فإذا تمت له المدة المقدَّرة التي قدرها الباري جل ثناؤه نقلته، قوة النفس الحيوانية الحساسة بإذن الله تعالى من ذلك المكان إلى فسحة هذه الدار استؤنف به تدبير آخر إلى تمام أربع سنين، ثم تُردُّ القوة الناطقة المعبرة لأسماء المحسوسات وتستأنف به تدبيرًا آخر إلى تمام خمس عشرة سنة، ثم ترد القوة العاقلة المميزة لمعاني المحسوسات وتستأنف به تدبيرًا آخر إلى تمام ثلاثين سنة، ثم ترد القوة الحكمية المستبصرة لمعاني المعقولات وتستأنف به تدبيرًا آخر تمام أربعين سنة، ثم ترد القوة الملكية المؤيدة وتستأنف به تدبيرًا آخر إلى تمام خمسين سنة، ثم ترد القوة الناموسية الممهدة للمعاد المفارقة للهيولى وتستأنف به تدبيرًا آخر إلى آخر العمر. فإن تكن النفس قد تمت واستكملت قبل مفارقة الجسد نزلت قوة المعراج فَرَقَتْ بها إلى الملأ الأعلى وتستأنف تدبيرًا آخر، وإن لم تكن النفس قد تمت واستكملت قبل مفارقة الجسد رُدت إلى أسفل سافلين، ثم استؤنف بها التدبير من الرأس كما ذكر الله تعالى فقال: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، وقال تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ، وقال سبحانه: ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا.

مسألة

أترى ماذا يقول ويعتقد من ينظر في مبادئ الأشياء ويتكلم عليها؟ هل اخترعت كلها اختراعًا في غاية التمام والكمال والفضل، ثم تناقصت ورذل بعضها، أم اخترعت كلها في غاية النقص ثم زادت وكملت وتمَّت وتفاضل بعضها على بعض؟ أم بعضها هكذا وبعضها هكذا؟

فصل

واعلم يا أخي، أيدك الله وإيانا بروح منه، أن الله تعالى لما كان تام الوجود كامل الفضائل عالمًا بالكائنات قبل كونها قادرًا على إيجادها متى شاء، لم يكن من الحكمة أن يحبس تلك الفضائل في ذاته فلا يجود بها ولا يغيضها، فإذَنْ بواجب الحكمة أفاض الجود والفضائل منه كما يفيض من عين الشمس النور والضياء، ودام ذلك الفيض منه متصلًا متواترًا غير منقطع، فيسمى أول ذلك الفيض العقل الفعال، وهو جوهر بسيط روحاني نور محض في غاية التمام والكمال والفضائل، وفيه صور جميع الأشياء، كما تكون في فكر العالم صور المعلومات، وفاض من العقل الفعال فيض آخر دونه في الرتبة يسمى العقل المنفعل، وهي النفس الكلية، وهي جوهرة روحانية بسيطة قابلة للصور والفضائل من العقل الفعال على الترتيب والنظام، كما يقبل التلميذ من الأستاذ التعليم.

وفاض من النفس أيضًا فيض آخر دونها في الرتبة يسمى الهيولى الأولى، وهي جوهرة بسيطة روحانية قابلة من النفس من الصور والأشكال بالزمان شيئًا بعد شيء، فأول صورة قبلت الهيولى الطول والعرض والعمق، فكانت بذلك جسمًا مطلقًا، وهو الهيولى الثانية، ووقف الفيض عند وجود الجسم ولم يَفِضْ منه جوهر آخر؛ لنقصان رتبته عن الجواهر الروحانية وغلظ جوهره وبُعده من العلة الأولى. ولما دام الفيض مِن الباري تعالى على العقل، ومِن العقل على النفس، عطفت النفس على الجسم، فصورت فيه الصور والأشكال والأصباغ لتتمه بالفضائل والمحاسن بحسب ما يمكن من قبول الجسم وصفاء جوهره.

فأول صورة عملَتِ النفس في الجسم الشكل الكري الذي هو أفضل الأشكال كلها، وحركته بالحركة الدورية التي هي أفضل الحركات، ورُتبتْ بعضُها في جوف بعض من لدن الفلك المحيط إلى منتهى مركز الأرض، وهي إحدى عشرة كرة، فصار الكل عالَمًا واحدًا منتظمًا نظامًا كليًّا واحدًا، وصارت الأرض أغلظَ الأجسام كلها وأشدَّها ظلمة لبُعدها من الفلك المحيط، وصار الفلك المحيط ألطفَ الأجسام كلها وأشدَّها روحانية وأشفَّها نورًا لقربها من الهيولى الأولى التي هي جوهر بسيط معقول، وصارت الهيولى أنقص رتبة من العقل والنفس لبُعدها من الباري جل وعز.

وذلك أن الهيولى هي جوهرة بسيطة روحانية معقولة غير علامة ولا فعالة، بل قابلةٌ آثارَ النفس بالزمان، منفعلة لها. وأما النفس فإنها جوهرة بسيطة روحانية علامة بالقوة فعالة بالطبع، قابلةٌ فضائلَ العقل بلا زمان، فعالة في الهيولى بالتحريك لها بالزمان. وأما العقل فإنه جوهر بسيط روحاني، أبسط من النفس وأشرف منها، قابلٌ لتأييد الباري تعالى، علام بالفعل مؤيد للنفس بلا زمان. وأما الباري تعالى فهو مبدع الجميع وخالق الكل، فالمُبدِع لا يشبه المُبدَع، وكذلك الخالق لا يشبه المخلوق، والفاعل لا يشبه المفعول بوجه من الوجوه وسبب من الأسباب؛ فتبارك الله رب العالمين وأرحم الراحمين.

فانتبهْ أيها الأخ من نوم الغفلة ورقدة الجهالة قبل أن يُنفخ في الصور وتقول يا حسرتى على ما فرطت، وينادي المنادي من الملأ الأعلى ألا قد سعد فلان وشقي فلان! واجتهِدْ أن تكون من السعداء الذين هم من أصحاب اليمين وتكون في سدر مخضود وطلح منضود، واجتهِدْ ألَّا تكون من الأشقياء الذين هم أصحاب الشمال في سموم وحميم وظِلٍّ من يحموم لا بارد ولا كريم، واعتصمْ بحبل الله المتين، واجتنبْ الشيطان الرجيم؛ عسى أن تصير من الذين أنعم الله عليهم، ولا تصير من المغضوب عليهم ولا الضآلين.

وفقكَ الله أيها الأخ البار الرحيم وجميعَ إخواننا للسداد، إنه رءوف بالعباد.

(تمت رسالة مبادئ الموجودات العقلية على رأي الفيثاغوريين، ويتلوها رسالة المبادئ العقلية على رأي إخوان الصفا.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤