ديوان الجند

تأسس ديوان الجند في المدينة، أسسه عمر بن الخطاب ودون فيه أسماء الرجال وفرض أعطياتهم، ولم يكن هذا الديوان يومئذ يعرف بديوان الجند، لكنه كان يسمى «الديوان» فقط، وكان يشمل أسماء المسلمين من المهاجرين والأنصار ومن تابعهم، ومقدار أعطياتهم تبعًا للنسب النبوي والسابقة في الإسلام، وكان لكل مسلم راتب يتناوله لنفسه، ورواتب لأهله وأولاده، فكأنه ديوان المسلمين، باعتبار أن المسلمين كانوا كلهم جندًا في ذلك الحين، وظل العطاء باعتبار النسب والسابقة، حتى انقرض أهل السوابق، وصار الجند فئة من المسلمين قائمة بنفسها، فترتب الجند باعتبار الشجاعة والبلاء في الحرب.

وكان عندهم لاختيار الجند من بين الناس شروط، منها أن من أراد الانتظام في الجندية يقدم طلبًا إلى صاحب ديوان الجند، وهو ينظر في أهليته لها، ولا يكون أهلًا لذلك إلا إذا كان حرًّا، بالغًا، مسلمًا، سليمًا، مقدامًا، فإذا استوفى هذه الشروط قبل، ودون اسمه في دفاتر الجيش، مع نسبه وقده ولونه وملامحه وسائر ما يتميز به على غيره، لئلا تتفق الأسماء.

(١) طبقات الجنود

أما ترتيب الجنود في الديوان، فظلوا يراعون فيه ما وضعه عمر من السابقة والنسب، فيترتب الجند أولًا باعتبار القبائل والأجناس، حتى تتميز كل قبيلة من غيرها، وكل جنس من غيره، فلا يخلو الجند من أن يكونوا عربًا أو عجمًا، فإن كانوا عربًا تترتب قبائلهم على حسب القربى من النبي، فيبدأ بالترتيب بأصل النسب النبوي، ثم بما يتفرع عنه، فالعرب مثلًا عدنان وقحطان، فيقدمون عدنان على قحطان، لأن النبوة فيهم، وعدنان يجمع ربيعة ومضر، فتقدم مضر على ربيعة، لأن النبوة فيهم، ومضر تجمع قريشًا وغير قريش، فتقدم قريش، لأن النبوة فيهم، وقريش تجمع بني هاشم وبني أمية وغيرهم، فيقدم بنو هاشم لأن النبوة فيهم، فكان بنو هاشم قطب الترتيب، ثم من يليهم من أقرب الأنساب كما تقدم، وإن كانوا عجمًا لا يجتمعون على نسب، فكانوا يجمعونهم على الجنس، كالترك والهند، أو على البلد كالخراسانيين والفراغنة والمغاربة، ثم إذا كان لهؤلاء الأعاجم سابقة، ترتبوا عليها في الديوان، وإلا فيترتبون بالقرب من ولي الأمر، فإن تساووا في ذلك، ترتبوا بالسبق إلى طاعته، وكان لديوان الجند فروع، بعضها للمراسلة وبعضها للعطاء وبعضها للنفقات، أو لغير ذلك مما يختلف باختلاف الأحوال والأزمان.

(٢) أعطيات الجند

(٢-١) في دولة الراشدين

ويراد بأعطيات الجند رواتبهم التي يستولون عليها في أوقات معينة من العام، وكانت تلك الأعطيات في أيام النبي غير محدودة، فتتبع ما يقع في أيديهم من الغنائم أو الفيء، فكان يفرد خمسه لله، ويتولى رسول الله إنفاقه في مصالح الجماعة الإسلامية حسبما يرى، ويفرق الأربعة الأخماس الباقية في الصحابة على السواء، بلا تمييز في السابقة أو النسب، وجرى على ذلك أبو بكر، فلما تولى عمر ووضع الديوان، ميز الناس في العطاء باعتبار النسب والسابقة، فرتبهم طبقات، وقد ميز راتب كل منهم باعتبار نسبه من النبي، أو سابقته في الإسلام، أو غير ذلك على ما تراه في هذه الجريدة، وهي عبارة عن رواتب الجند السنوية في صدر الإسلام:

درهم
لكل من المهاجرين والأنصار الذين شهدوا واقعة بدر الكبرى ٥٠٠٠
لكل من المهاجرين والأنصار الذين لم يشهدوا بدرًا ٤٠٠٠
لكل من أزواج النبي ١٢٠٠٠
العباس عم النبي ١٢٠٠٠
الحسن والحسين ٥٠٠٠
عبد الله بن عمر بن الخطاب ابن الخليفة ٣٠٠٠
كل من أبناء المهاجرين والأنصار ٢٠٠٠
كل واحد من أهل مكة ٨٠٠
كل واحد من سائر المسلمين على اختلاف طبقاتهم ٣٠٠–٥٠٠
لكل من نساء المهاجرين والأنصار ٢٠٠–٦٠٠
تلك هي أعطيات المسلمين، أو رواتب الجند — على عهد عمر — مع اختلاف طفيف ببعض الروايات،١ فإذا اعتبرت مقادير هذه الرواتب وقابلتها برواتب هذه الأيام، رأيت الفرق عظيمًا، فإذا قدرنا الدرهم بأربعة قروش ونصف القرش — وهي قيمة على وجه التقريب — كان راتب أعظم رجال الإسلام لا يزيد على خمسة آلاف درهم، أي نحو مائتي جنيه في السنة، وإذا اعتبرنا المسلمين كلهم جندًا، كان المهاجرون والأنصار ضباط ذلك الجند ومنهم عمر نفسه، وأما الجنود فهم الذين عبرنا عنهم «بسائر المسلمين على اختلاف طبقاتهم»، ورواتب هؤلاء أقل كثيرًا من رواتب أولئك، فإنها تختلف من ثلاثمائة إلى خمسمائة درهم، باختلاف بعض الاعتبارات من حيث القبيلة وجهادها ومقدار فضلها في الإسلام، وبناء عليه تكون رواتب ضباط الجند الإسلامي — على عهد عمر — من أربعة آلاف إلى خمسة آلاف درهم في العام، ورواتب العساكر من ثلاثمائة إلى خمسمائة درهم، غير ما كان يدفع لنسائهم وأولادهم، وما فرض لهم من الحنطة، وهو جريبان لكل واحد في الشهر، والجريب ٣٦٠٠ ذراع مربع، ويراد به ما ينبت في تلك المساحة. وخلاصة ذلك أن رواتب صغار الجند في أوائل الإسلام كانت تزيد على رواتب أنفار جنود هذه الأيام، وبعكس ذلك رواتب ضباطهم.

(٢-٢) أعطيات الجند في الدولة الأموية

وظلت أعطيات الجند على هذا القدر في أيام الراشدين، فلما طمع بنو أمية في الملك واحتاج معاوية إلى الاعتزاز بالعرب، كان في جملة ما استخدمه في سبيل اجتذابهم إلى جانبه المال، فزاد أعطيات الجند، وكان جنده ستين ألفًا، ينفق عليهم ستين مليون درهم في العام، فيلحق كل رجل ألف درهم، وذلك أكثر من ضعفي ما فرضه عمر.

وكان في مقدمة القبائل التي أخذت بيده وحاربت عنه وأيدت دعوته قبائل اليمن، وهي إنما فعلت ذلك رغبة في العطاء، لأنه كان يحارب بهم عربًا آخرين، فلم يكن الجهاد دافعهم إلى الانضمام إليه، فجعل معاوية اليمنية فرقة قائمة بنفسها وعدتهم ألفا فارس، وفرض لهم عطاءً مضاعفًا، وجعلهم جندًا مستقلًّا لا يختلطون بسواهم، وكان يستشير أمراءهم ويقربهم، فاستفحل أمر اليمنية حتى عرضوا بذكر فضلهم على دولة بني أمية، وأنهم لو شاءوا لأخرجوا المضرية من الشام (وفيهم بنو أمية) فندم معاوية على اختصاصهم بذلك الامتياز، وقرب منه القيسية وأعطاهم مثل عطائهم، وصار يغزو البحر باليمنية والبر بالقيسية، فشق ذلك على اليمنية، لأن القيسية من مضر، فعاتبوه فجمع بين القبيلتين وأغزاهم معًا.

ولم يكن معاوية يعتمد على المال في استرضاء الجند فقط، بل كان يستخدمه في اصطناع الأحزاب وتخفيف ويلات المتعصبين عليه، فكان كثيرًا ما يأمر عماله بزيادة أعطيات أناس يعرض أنهم على غرض علي، وكان عماله لا ينفذون أوامره لقصور إدراكهم عن غرضه، ومن هذا القبيل أن أهل الكوفة كانوا من أشد الناس تعصبًا لعلي، فأمر معاوية عامله عليها — النعمان بن بشير — أن يزيد في أعطيات أهلها عشرة دنانير، فأبى النعمان أن ينفذها لهم فلم ينفعه ذلك.

وظل هذا شأن العطاء أيام يزيد ومروان وعبد الملك، وكان عبد الملك يبالغ في الإنفاق، تأييدًا لأحزابه في مقاومة دعاة الخلافة في أيامه، فإن الحجاج سير الجند إلى رتبيل بإذن عبد الملك، وكان عددهم أربعين ألفًا أنفق عليهم مليوني درهم سوى أعطياتهم، فضلًا عما أعطاه لكبارهم، ولما تولى الوليد بن يزيد زاد العطاء عشرة دراهم يوم خلافته، ولعله فعل ذلك إرضاء للجند، لما كان هو فيه من الاعوجاج والإسراف، وفي أواخر دولة بني أمية قلَّت الرواتب، حتى صارت في آخرها خمسمائة درهم.

(٢-٣) أعطيات الجند في الدولة العباسية

فلما آلت الخلافة إلى بني العباس جعل السفاح رزق الجندي ثمانين درهمًا في الشهر (٩٦٠ درهمًا في السنة) فكأنه أرجعه إلى ما كان عليه في أوائل بني أمية، وكان للفارس ضعفا هذا الراتب لينفق نصفه على فرسه، ويظهر أن الرواتب لم ترتفع بارتقاء الدولة العباسية بل هي أخذت في التناقص، فصارت في أيام المأمون عشرين درهمًا في الشهر للراجل وأربعين للراكب، فكان جيش عيسى بن محمد بن أبي خالد عام ٢٠١ﻫ ١٢٥ ألف فارس، فأعطى الفارس أربعين درهمًا والراجل عشرين، وزد على ذلك أن قيمة الذهب كانت قد ارتفعت عما كانت عليه في أوائل الإسلام، وكان الدينار في أيام عمر يساوي عشرة دراهم فأصبح في أيام المأمون يساوي ١٥ درهمًا.

فرأيت مما تقدم أن الرواتب زادت في دولة بني أمية عما كانت عليه في أيام الراشدين، ثم نقصت في أيام بني العباس، والسبب في ذلك أن بني أمية زادوها ترغيبًا لقبائل العرب في خدمتهم، لتأييد سلطانهم كما تقدم، وأما في أيام بني العباس فكان العرب قد انتشروا في أنحاء البلاد واختلطوا بالأعاجم، وعمل العباسيون على الاستكثار من هؤلاء، لأنهم ساعدوهم على إنشاء دولتهم، فأصبحت الدولة العباسية مخيرة في استخدام من شاءت من الفئتين في جندها، وكان الأعاجم يرضون بالراتب القليل، ومع ذلك فهو أضعاف ما كان يدفعه الروم لجندهم إذا صح ما نقله ابن خرداذبه، فقد ذكر أن راتب الجندي عندهم كان يختلف من ١٨ إلى ١٢ دينارًا في السنة، وكانوا لا يستولون على رواتبهم إلى كل ثلاث سنوات أو أربع، وأما رواتب الجند العرب فقد كانت تدفع في أوقاتها، إلا في أواخر الدولة العباسية فقد كانت تتأخر وتتراكم، ويفوز بالخلافة من يتمكن من إرضاء الجند، شأن الدول في دور انحطاطها.

(٢-٤) عطاء الجند في الدولة التركية

وما زال العطاء يدفع نقدًا إلى أيام الدولة السلجوقية، فصار يعطى إقطاعًا، وأول من فعل ذلك نظام الملك الطوسي وزير آل سلجوق (توفي سنة ٤٨٥ﻫ) وكان رجلًا عظيمًا وزر للدولة السلجوقية وأدخل فيها إصلاحات جمَّة، وهو أول من أنشأ المدارس في بغداد، وله فيها المدرسة التي تعرف باسمه (المدرسة النظامية)، وكان وزيرًا لألب أرسلان ثم لابنه ملك شاه المشهور، فصار أمر الدولة كله لنظام الملك وليس للسلطان إلا التخت والصيد، فأقام على ذلك عشرين سنة، وكان عاقلًا حسن القصد، ورأى الدولة السلجوقية قد اتسع نطاقها فأحب أن يحفظها بالإقطاع، فحولها إلى إقطاعات سلمها إلى الجند، لاعتقاده أن تسليم الأرض إلى المقطعين يضمن عمارتها لاعتناء مقطعيها بأمرها، بخلاف ما إذا شمل جميع أعمال المملكة ديوان واحد، فإن الخرق يتسع ويدخل الخلل في البلاد، ففعل نظام الملك ذلك، وعمرت المملكة وكثرت الغلات، واقتدى بفعله من جاء بعده من الملوك والسلاطين، إلى أوائل القرن الماضي.

واختلفت غلات الأمراء من إقطاعاتهم، فقد بلغت غلة إقطاع بعض أكابر أمراء المئين في دولة المماليك نحو ٢٠٠٠٠٠، ويليهم من غلتهم نصف ذلك أو ربعه، وأما أمراء العشرات فنهايتها سبعة آلاف دينار، إلى ما دون ذلك، أما جند الخليفة فمنهم من يبلغ إقطاعه ١٥٠٠ دينار وما دون ذلك إلى ٢٥٠ دينارًا،٢ وسيأتي الكلام في الإقطاع.

(٣) عدد الجند

قلنا إن المسلمين كانوا في صدر الإسلام كلهم جندًا، فعددهم يومئذ هو عدد الجند الإسلامي، فالجند كانوا في السنة الأولى للهجرة لا يزيد على بضع عشرات يقيمون في المدينة، ثم ازدادوا بمن اعتنق الإسلام من قبائل العرب، وفي حديث أخرجه البخاري أن النبي قال «اكتبوا لي من تلفظ بالإسلام فكتبنا له ألفًا وخمسمائة».

وفي غزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة — وهي آخر الغزوات — بلغ عدد المسلمين ثلاثين ألفًا، ومعهم عشرة آلاف فرس، فذلك عدد جند العرب في أواخر أيام النبي، ثم تزايد عددهم في أيام أبي بكر وعمر، حتى زادوا على مائة وخمسين ألفًا، وتضاعف ذلك العدد في أواخر أيام الراشدين.

وفي أوائل بني أمية بلغ عدد من في البصرة والكوفة من الرجال فقط ١٤٠٠٠٠، منهم ٨٠ ألفًا في البصرة و٦٠ ألفًا في الكوفة، ومعهم من العيال ٢٠٠٠٠٠ بين نساء وأولاد، وكان في مصر أربعون ألفًا ما عدا العيال، وكان جند الشام نحو ذلك، غير من في فارس وغيرها.

(٣-١) الإحصاء في الإسلام

وكان للخلفاء في صدر الإسلام عناية في إحصاء المسلمين، اقتداءً بما فعله النبي، فجعلوا على كل قبيلة من قبائل العرب رجلًا يصبح كل يوم فيدور على المجالس فيقول «هل ولد الليلة فيكم مولود، وهل نزل بكم نازل؟» فيقال «ولد لفلان غلام، ولفلان جارية» فيكتب أسماءهم. ويقال «نزل بهم رجل من أهل كذا بعياله» ويسميه وعياله، فإذا فرغ من ذلك عاد إلى الديوان وأثبت الأسماء فيه.

وكانوا يجددون التدوين (الإحصاء) كل مدة في كل ولاية على حدة، وأول تدوين في مصر مثلًا دونه عمرو بن العاص، ثم دون عبد العزيز بن مروان (تولى إمارة مصر من سنة ٦٥–٨٦ﻫ)، ثم دون قرة بن شريك (سنة ٩٠–٩٦ﻫ)، ثم بشر بن صفوان (سنة ١٠١ﻫ)، وآخر إحصاء أحصوا به العرب في الأمصار على ما تقدم كان في خلافة هشام بن عبد الملك (سنة ١٠٥–١٢٧ﻫ)، ولكن تلك الإحصاءات لم تصل إلينا، فقد ضاعت في جملة ما ضاع من آثار بني أمية.

فلما تولاها بنو العباس أهملوا أمر العرب، وبذلوا عنايتهم في اصطناع الأعاجم في الفرس والترك وغيرهما — كما قدمنا — حتى إذا بويع المعتصم بالله سنة ٢١٨ﻫ بعث إلى عماله في الأمصار أن يسقطوا من في دواوينهم من العرب ويقطعوا العطاء عنهم، فشق ذلك على العرب وثاروا، ولكنهم لم ينالوا وطرًا، فانقضت دولة العرب من ذلك الحين، وصار جند الدولة العجم والموالي، ولذلك لما مات المعتصم وتولى بعده الواثق، كان دعبل الخزاعي الشاعر المشهور في الصميرة، فلما جاءه نعي المعتصم وقيام الواثق أنشد هذين البيتين:

الحمد لله لا صبر ولا جلد
ولا عزاء إذا أهل البلا رقدوا
خليفة مات لم يحزن له أحد
وآخر قام لم يفرح به أحد

وأما عدد الجند في أثناء دولة بني أمية وبني العباس فمما لا يتيسر الوقوف عليه، لكننا نستدل من عدد ما كانوا يجندونه إلى الحرب أنه كان كثيرًا، فلما حمل يزيد بن المهلب على جرجان وطبرستان جرد إليهما ١٢٠٠٠٠ من الجند المرتزقة، سوى الموالي والمتطوعة، وحمل الرشيد على هرقلة بجند عدده ١٣٥٠٠٠ من المرتزقة، ما عدا الأتباع والمتطوعة، وكان جند محمد بن طغج مؤسس الدولة الإخشيدية بمصر (سنة ٣٢٣–٣٣٤ﻫ) ٤٠٠٠٠٠ جندي وثمانية آلاف مملوك، يحرسه منهم ألفان كل ليلة على التناوب، وروى ابن خلدون أن المعتصم نازل عمورية في جند عدده ٩٠٠٠٠٠، ولا غرابة في ذلك إذا اعتبرنا عدد الحامية في الثغور الدانية والقاصية شرقًا وغربًا، فضلًا عن المصطنعين والموالي والخاصة، فقد أحصيت خاصة المأمون من بني العباس وحدهم فبلغوا ٣٣ ألفًا.

(٣-٢) رتب الجند وأصنافهم

لم يكن للعرب في الجاهلية جند، فلم تكن له عندهم رتب، ولكنهم كانوا يولون على القبيلة أكبر رجالها سنًّا أو أعظمهم حسبًا، ويسمونه الشيخ أو الأمير، فإذا احتاج الأمير إلى من ينوب عنه على فصيلة يرسلها إلى غزو أو نحوه، ولى رجلًا كانوا يسمونه المنكب، وتحت المنكب العريف، والمنكب يكون على خمسة عرفاء، والعريف يكون على نفير أو نفر.

وظل العرب في أوائل الإسلام على نحو ما كانوا عليه في الجاهلية، فقسموا الجند إلى عرفاء، تحت كل عريف عشرة رجال، وسلموا القيادة إلى أناس من أهل السابقة، وكذلك كان نظامهم في أثناء الفتوح، ثم جعلت العرفاء أسباعًا، وجعلوا مائة عريف بعضهم على ثلاثين أو أربعين رجلًا، وبعضهم على عشرين على حسب طبقات الجند من حيث السابقة ونحوها، وكان على العرفاء أمراء يقال لهم أمراء الأسباع، يتولون تفريق العطاء في العرفاء، والعرفاء يفرقونه في الجند.

وقلما حدث تغيير في رتب الجند في أيام بني أمية، أما في الدولة العباسية فكانت رتب الجند أن على كل عشرة رجال «عريفًا»، وعلى كل خمسين «خليفة»، وعلى كل مائة «قائد»، ثم تنوع الترتيب فصار العريف على عشرة، وعلى كل عشرة عرفاء (أو مائة نفر) «نقيب»، وعلى كل عشرة نقباء (أو ١٠٠٠٠ رجل) «أمير»، ولا يخلو الأمر من وقوع التبديل في هذا النظام بالنظر إلى الدول.

ولا بد من أن يكون لكل رتبة علامة تميزها عن سواها، كما يتميز الضباط اليوم بعضهم عن بعض وعن العساكر، لكننا لم نعثر على شيء صريح بهذا الشأن، وقد تقدم لنا كلام بهذا الموضوع في بحثنا عن الطراز، ومن هذا القبيل ما كانوا يسمون به الخيل لتمتاز خيول الدولة عن سواها، وكان لكل دولة سمة خاصة، وسمة خيل بني أمية لفظ (عدة) كانوا يطبعونها على الخيول كيًّا بالنار، كما كان العرب يفعلون بإبلهم في عصور جاهليتهم، فقد كان عندهم لكل قبيلة ميسم يميز إبلها عن إبل غيرها، ووسم الدواب شائع في الدول المتمدنة اليوم.

(٤) استعراض الجند

استعراض الجند قديم في الدول المتمدنة قبل الإسلام: كان الإسكندر يستعرض جنده بنفسه ويتفقدهم ويتفقد سلاحهم وخيولهم، ولما ظهر الإسلام كان الفرس يعرضون جنودهم في مواقيت معينة من السنة، وكان رسمهم في ذلك أن يمر الفارس الذي هو في الطبقة الأولى على حصانه، ومعه الغلام والدرع والمغفر والكفوف الزرد والرانات والتجافيف للخيل ويسمى بركستوان والترس والرمح والسيف والدبوس والسكين الكبيرة والحبل والمخالي والسكك الحديد والمقاود وكبة خيوط ومخصف ومقص ومطرقة وكاز ومسل وإبر وخيوط وزناد وطرطور ولباد وقوسان موتوران ووتران زائدان، خوف الانقطاع، وجعبتان للنشاب، إحداهما معه، والأخرى مع غلامه.

ولما تمدن العرب وجندوا الجنود اتخذوا هذه العادة على نحو ما كانت عند الفرس، لكن يظهر أنهم كانوا يستعرضون رجالهم قبل تمصير الأمصار وتجنيد الجنود، فإن النبي نفسه كان يستعرض أصحابه، وقد جاء في السير أنه استعرضهم يوم بدر الكبرى (سنة ٢ﻫ) فجعلهم صفوفًا، وأخذ يعدل صفوفهم وفي يده سهم بلا ريش، فمر برجل اسمه سواد كان مستنثلًا من الصف فطعنه النبي في بطنه وقال له «استوِ يا سواد بن غزية» وبعد أن عدل الصفوف عاد إلى العريش الذي كانوا نصبوه له هناك.٣

وكان الخلفاء الراشدون يعرضون الجند على نحو ذلك، ثم بنو أمية، وكان الحجاج إذا عرض الجند يسأل عن رجل رجل من هو، وما هي قبيلته، وعن حاله وسلاحه.

وكان الاستعراض في الدولة العباسية أقرب إلى عادة الفرس، لأن العباسيين اقتبسوه منهم، فكان الخليفة، أو وزيره، يجلس لعرض الجند، وربما جلس الخليفة وعليه الدرع والخوذة كأنه في استعداد للحرب، فينادي المنادي بأسماء القواد فيمرون أولًا، فيتفقد أفراسهم وعدتهم، فإذا رأى كل شيء حسنًا تامًّا صرف لهم أرزاقهم، وهي جائزة يمنحونها يوم العرض، وقد يستنكف القائد الكبير أن ينتفع بتلك الجائزة فيهبها لبعض أتباعه.

ومن أمثلة ذلك ما كان يفعله عمرو بن الليث على عهد الخليفة المعتمد (سنة ٢٧١ﻫ) فإنه نال حظوة لدى الخليفة، وتمكن من قوانين المملكة، وتولى النظر في الجند، وكان ينفق لهم مرة كل ثلاثة أشهر ويحضر بنفسه على ذلك، وكان عارض الجيش يقعد والأموال بين يديه والجند كلهم حاضرون، وينادي المنادي أولًا باسم عمرو بن الليث، فتقدم دابته إلى العارض بجميع آلة الفرس، فيتفقدها ويأمرون بوزن ثلاثمائة درهم باسم عمرو فتحمل إليه في صرة، فيأخذ الصرة فيقبلها ويقول «الحمد لله الذي وفقني لطاعة أمير المؤمنين حتى استوجبت منه الرزق»، ثم يضعها في خفه فتكون لمن ينزع خفه ثم يدعى بعد ذلك بأصحاب الرسوم على مراتبهم، فيتعرض لآلاتهم التامة ولدوابهم الفره، ويطالبون بجميع ما يحتاج إليه الفارس والراجل من صغير آلة وكبيرها، فمن أخل بإحضار شيء منها حرموه رزقه، فاعترض يومًا فارس كانت له دابة في غاية الهزال فقال له عمرو «يا هذا! تأخذ مالنا تنفقه على امرأتك فتسمنها وتهزل دابتك التي عليها تحارب وبها تجد الأرزاق؟ امضِ فليس لك عندي شيء!».

فقال له الجندي «جعلت لك الفداء … لو اعترضت امرأتي لاستسمنت دابتي!».

فضحك عمرو وأمر بإعطائه وقال: «استبدل بدابتك».

(٥) مساكن الجند

كان المسلمون في صدر الإسلام (وهم الجند) إذا فتحوا بلدًا جعلوا مساكنهم في بعض ضواحيه، وكانوا لا يقيمون في مكان بينه وبين المدينة بحر أو نهر، عملًا يوصيه عمر بن الخطاب كما تقدم، ولذلك لم يقم جند مصر في الإسكندرية عاصمة الديار المصرية، بل أقاموا في الخيام قرب حصن بابل، في بقعة عرفت بعد ذلك بالفسطاط، ولم يقم جند العراق في المدائن عاصمة كسرى، بل أقاموا على ضفاف الفرات مما يلي بادية الشام، في البصرة والكوفة، وفعل ذلك غيرهم في سائر الأقاليم التي فتحت في صدر الإسلام، فأقاموا في ضواحي البلاد المفتوح لمجرد حمايتها كما قدمنا في كلامنا عن ولاية الأعمال، ولكنهم كانوا ينتقلون للحرب يومئذ بنسائهم وأولادهم، فإذا فتحوا بلدًا أقاموا فيه جميعًا، فأصبحت تلك المعسكرات بتوالي الأجيال مدنًا عامرة.

ولما تمدن العرب صاروا يذهبون إلى الحرب دون نسائهم، ولكنهم ظلوا على إنشاء المعسكرات خارج المدن، وكثيرًا ما كانت هذه المعسكرات تتحول إلى مدن بتوالي الأجيال، كما حصل في الفسطاط والكوفة والبصرة: كانت الفسطاط مضرب خيام حول فسطاط عمرو بن العاص، ثم عمرت وصارت مدينة سميت الفسطاط، وبعد عمرانها بقرن وبعض القرن، لما قام العباسيون للمطالبة بالخلافة، فر مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية ولجأ إلى مصر، فتعقبه العباسيون بقيادة صالح بن علي وعسكروا بضواحي الفسطاط وسموا مقامهم «العسكر» أي المعسكر، ثم بنى الناس هناك وصار المكان مدينة مثل الفسطاط اسمها العسكر.

وبعد ذلك بقرن وبعض القرن سنة ٢٥٧ﻫ تولى مصر أحمد بن طولون وأكثر من الجند والحاشية والآلات، فضاقت الفسطاط دونه، فأنشأ معسكرًا بجوار جبل المقطم، وبنى لنفسه فيه قصرًا وميدانًا، وتقدم إلى غلمانه وأتباعه أن يبنوا، فبنوا حتى اتصل البناء بالفسطاط وصار المكان مدينة سميت القطائع، وفعل مثل ذلك جوهر قائد الفاطميين، لما جاء لفتح مصر بعد قرن وبعض القرن سنة ٣٦٥ﻫ فإنه أنزل جنده بسفح المقطم خارج القطائع والفسطاط، ولما فتح البلاد أنشأ في ذلك المعسكر مدينة القاهرة الباقية إلى الآن، ويقال نحو ذلك في سائر المدن الإسلامية، فإن المنصور إنما بنى بغداد حصنًا له ولجنده، وكذلك فعل ابنه المهدي ببناء العسكر خارجها.

وقس عليه غيره من المعسكرات الإسلامية، فإنهم كانوا ينشئونها خارج المدن بعيدًا عن بيوت الناس، ولذلك لما أنزل الحجاج جنده في بيوت أهل الكوفة، بعد واقعة الجماجم، نقم عليه أهلها وعدوا ذلك عتوًّا منه، وخصوصًا لأن الأمراء الذين جاءوا بعده كانوا كثيرًا ما يعملون عمله.

(٦) اللواء أو الراية

(٦-١) تاريخ الألوية

اللواء والراية شيء واحد، وربما كان اللواء أصغر من الراية، أو أن الراية تسمى لواءً إذا عُقدت للحرب، وهي الأعلام، أو البنود، أو البيارق في اصطلاح هذه الأيام، والراية قديمة في التاريخ، اتخذها المصريون القدماء ومن عاصرهم أو أخذ عنهم، وكانت شائعة في العرب الجاهلية قبيل الإسلام، وكان لكل قبيلة راية تجتمع تحتها.

وللراية شأن كبير في الحرب، لأن الناس إنما يؤتون من قبل راياتهم إذا زالت زالوا، وقد رأيتَ، في كلامنا عن حكومة الجاهلية، أنه كان في جملة مناصب قريش منصب اللواء، ويسمونه «العقاب» باسم رايتهم يومئذ، وكانوا إذا خرجوا إلى حرب أخرجوا الراية، فإذا اجتمع رأيهم على أحد سلموه إياها، وإلا فإنهم يسلمونها إلى صاحبها، وكان مرة من بني أمية ومرة من بني عبد الدار، ولعلهم سموا رايتهم «العقاب» اقتباسًا من الروم، لأن العقاب أو النسر شارة الرومان، يرسمونها على أعلامهم وينقشونها على أبنيتهم، فاقتبسها العرب منهم.

وفي السيرة الحلبية أن المسلمين في غزوة بدر الكبرى كانت لهم ثلاث رايات: إحداها بيضاء دفعها النبي إلى مصعب بن عمير، والأخريان سوداوان إحداهما حملها علي بن أبي طالب، ويقال لها العقاب صنعت من مرط لعائشة (والمرط كساء من صوف أو خز تضعه المرأة على رأسها أو تأتزر به) والأخرى مع رجل من الأنصار، وأن أبا سفيان كان يحمل راية الرؤساء في تلك الواقعة، واسمها أيضًا راية العقاب، فالظاهر أن العقاب كان اسمًا لصنف من الرايات، فقلدوا الروم بها وليس اسم واحدة منها.

ولما جاء الإسلام، وانتشر العرب في أنحاء الشام وفارس ومصر، وتعددت دولهم وقبائلهم، كثرت ضروب الألوية عندهم، وتنوعت أشكالها وتعددت ألوانها وأطالوها، وسموها بأسماء مختلفة: عقد أبو مسلم الخراساني عند قيامه بالدعوة العباسية لواء بعث به إليه إبراهيم الإمام يدعى «الظل» على رمح طوله أربعة عشر ذراعًا، وعقد راية كان قد بعث بها إليه اسمها «السحاب» على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعًا، إرهابًا للناس، ولما عقد المتوكل البيعة لبنيه سنة ٢٣٥ﻫ عقد لكل واحد منهم لواءين أحدهما أسود وهو لواء العهد والآخر أبيض وهو لواء العمل، ولما ولى المأمون الفضل بن سهل على المشرق كله وسلم إليه رئاسة الحرب والقلم وسماه ذا الرئاستين عقد له لواء على سنان ذي شعبتين. وجملة القول أن أشكال الألوية تعددت بتوالي الأزمان وتفاخر الخلفاء والسلاطين بتعدادها، فقد بلغ عدد رايات العزيز بالله الفاطمي لما خرج إلى فتح الشام ٥٠٠ راية و٥٠٠ بوق، وربما نقشوا على الرايات أسماء الخلفاء أو السلاطين أو الأمراء الذين يتولون قيادة الجند، كما كتب ابن بجكم على رايته «الرائقي» نسبة إلى ابن رائق.

(٦-٢) ألوان الرايات

لا نعرف ماذا كانت ألوان الرايات في الجاهلية سوى راية «العقاب»، فقد تقدم أنها كانت سوداء، وكذلك كانت راية النبي، وذكر صاحب «آثار الأول» أنه كانت له أيضًا ألوية بيضاء، أما الراية الإسلامية، فقد كانت ألوانها تختلف باختلاف الدول، فكانت أعلام بني أمية حمراء، وكل من دعا إلى الدولة العلوية فعلمه أبيض، ومن دعا إلى بني العباس فعلمه أسود، والسواد شعار العباسيين على الإطلاق، اتخذوه حزنًا على شهدائهم من بني هاشم ونعيًا على بني أمية في قتلهم، ولهذا سموا المسودة، ولما افترق الهاشميون وخرج الطالبيون على العباسيين في كل جهة وعصر، ذهبوا إلى مخالفتهم في ذلك، فاتخذوا الرايات بيضاء وسموا المبيضة، والظاهر أن شعار دعاة بني هاشم من الشيعة كان الخضرة، لأن المأمون لما بايع لعلي بن موسى بولاية العهد أمر جنده بطرح السواد ولبس الثياب الخضر، حتى إذا رجع عن البيعة عاد إلى السواد.

figure
راية الناصر الموحدي في موقعة العقاب.

وأما ملوك البربر في المغرب، من صنهاجة وغيرها، فلم يختصوا في راياتهم بلون واحد بل وشوها بالذهب، واتخذوها من الحرير الخالص ملونة، وفي دير بظاهر مدينة برغوس في الأندلس راية من الحرير الأحمر المطرز بالنقوش الجميلة، وعليها كتابات كثيرة وآيات قرآنية، وقد نشرها غستاف لوبون في كتابه «تاريخ تمدن العرب» وسماها: راية الموحدين، لكن صديقنا المأسوف عليه روحي بك الخالدي بعث إلينا بنسخة من صورة هذه الراية سنة ١٩٠٧ وقال في جملة وصفها: «وأظن هذه الراية كانت بابًا لخيمة المنصور، لأنها أشبه بباب الخيمة منها بالراية».

وأما دول الأتراك في المشرق فكانوا يتخذون راية واحدة للسلطان، في رأسها خصلة كبيرة من الشعر يسمونها الشالش والجتر وهي شعار السلطان عندهم، ثم تعددت الرايات، ويسمونها سناجق واحدها سنجق وهو الراية في لسانهم، والراية العثمانية حمراء عليها صورة الهلال، واختلفوا في أصل هذه الشارة بين أن يكون الأتراك اقتبسوها من الروم بعد فتح القسطنطينية، أو أنهم جاءوا بها من بلادهم من تركستان.

(٦-٣) عقد اللواء

كان الخلفاء في صدر الإسلام إذا وجهوا جيشًا إلى حرب عقدوا له الألوية وسلموها إلى الأمراء، لكل أمير راية قبيلته، ويدعون لهم بالنصر ويوصونهم بالصبر والجلاد، وكان عمر بن الخطاب إذا عقد لواء يقول وهو يعقده «بسم الله وبالله وعلى عون الله، امضوا بتأييد الله، وما النصر إلا من عند الله ولزوم الحق والصبر، فقاتلوا في سبيل الله من كفر بالله، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، ولا تجبنوا عند اللقاء، ولا تمثلوا عند القدرة، ولا تسرفوا عند الظهور، ولا تقتلوا هرمًا ولا امرأة ولا وليدًا، وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان، وعند شن الغارات».

وكان لكل خليفة أسلوب في الدعاء والوصاية، والمرجع واحد فيها كلها، وكانوا يعقدون الألوية أيضًا للعمال إذا ولوهم الأمصار، وخصوصًا في أوائل الإسلام، لأن العامل كان قائد الجند، وكانوا يعقدونها على حساب النجوم، فيختارون أحد الاقترانات على زعمهم، وكان العباسيون إذا عقدوا لواء لقائد أو صاحب جند أو صاحب ثغر، خرج إلى بعثه أو عمله من دار الخليفة أو من داره، في موكب من أصحاب الرايات والطبول، حتى لا يميز بين موكب العامل وموكب الخليفة إلا بكثرة الألوية وقلتها، أو بما اختص به الخليفة من الألوان لراياته.

وكان للدولة الفاطمية بمصر دار يقال لها «خزانة البنود» كانوا يختزنون فيها الأعلام والرايات والدرق، وكانوا ينفقون عليها ٨٠ ألف دينار كل سنة، ظلوا على ذلك قرنًا كاملًا، وكل ما صنع من الأعلام بقي متراكمًا فيها ومعه الأسلحة بأنواعها، والسروج واللجم، وفيها المفضض والمذهب، ثم احترقت الخزانة فاحترق كل ما كان فيها من هذه الأمتعة والآلات، وكان يقدر بثمانية ملايين دينار، ولم يستطيعوا إخراج غير القليل منها، وفي جملة ذلك لواء كانوا يسمونه «لواء الحمد».

(٧) الموسيقى

واتخاذ الموسيقى في الجند قديم، والأصل في اتخاذه إثارة حاسات الجند في أثناء الحرب، أو صرف أذهانهم عن الاشتغال بالأخطار التي يتوقعونها، ومن هذا القبيل الغناء أو النشيد أمام الجند، فإنه من قبيل الموسيقى وكان العرب في جاهليتهم لا يعرفون من هذه الآلات غير الطبل، وكان المسلمون في صدر الإسلام يتجافون عن اتخاذ الأبواق والطبول، تنزهًا عن غلظة الملك ورفضًا لأحواله، فلما انقلبت الخلافة ملكًا، وتبحبحوا في زهرة الدنيا، ولابسهم الموالي من الفرس والروم وأهل الدول السالفة، وأروهم ما كان أولئك يتحلون به من مذاهب البذخ والترف، كان في جملة ما اقتبسوه منهم الموسيقى، وأذنوا لعمالهم في اتخاذها، تنويهًا بالملك وأهله، ثم جعلوا يستكثرون منها، وهي مقصورة على الطبل والبوق، وربما كان في الجند مئات من الأبواق والطبول.

(٨) السلاح

أشهر أسلحة العرب في جاهليتهم السيف والرمح والقوس والترس، وكانت لهم عناية كبرى في استخدامها، لأنهم كانوا يحمون بها أعراضهم ويستجلبون بها معاشهم، وخصوصًا القوس.

(٨-١) القوس

كان لهم بالقوس مهارة عظمى، لحدة أبصارهم، نتيجة لسكنى البادية ولأنهم أحوج إليها من سائر الأسلحة، فقد كانوا يستخدمونها في صيد الغزلان، فضلًا عن الحرب والطعان، وبلغ من مهارتهم في النزع بالقوس ما يكاد يفوق طور التصديق، حتى ولو أراد أحدهم أن يرمي إحدى عيني غزال دون العين الأخرى لرماها، ولذلك سموا مهرة الرمي «رماة الحدق» وكان أحدهم يعلق ضبًّا بشجرة، ثم يرميه بالنبال فيصيب أي عضو شاء من أعضائه، حتى يرمي فقراته فقرة فقرة فلا يخطئ واحدة منها.٤

فلما جاء الإسلام كانت مهارتهم هذه من جملة ما ساعدهم على غلبة الروم، لأن هؤلاء لم يكونوا يحسنون رميها، وقد بيَّنا ذلك في كلامنا عن الفتوح الإسلامية، ولم يكن قواد المسلمين يجهلون فضل النبال في نصرتهم، فكانوا يحرضون رجالهم على إتقان الرمي بها، وكان النبي يقول «اركبوا وارموا، وأن ترموا أحب إليَّ من أن تركبوا»، ومن أقواله «كل لهو المؤمن في ثلاث تأديبه فرسه، ورميه عن كبد قوسه، وملاعبته امرأته فإنه حق، إن الله ليدخل الجنة بالسهم الواحد عامله المحتسب والرامي في سبيل الله»، ومن أقواله وهو قائم على المنبر «أعدوا ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي».

وكان الخلفاء والقواد بعد النبي يستحثون رجالهم على إتقان الرماية، كما يحرضونهم على العناية بخيولهم، لأن العرب أهل فروسية، وخيول العرب مشهورة بخفتها وسرعتها وسهولة قيادها، وكان القواد يوصون رجالهم أن يعتنوا بأفراسهم مثل عنايتهم بنسائهم، وقد تقدم لنا كلام في ذلك.

وتفنن المسلمون بالرمي في العصور الوسطى، حتى اصطنعوا من الأقواس آلات مركبة، ولعلهم أخذوا بعضها عن الفرس، كالمجراة التي استنبطها العجم لما حاربوا التتر، وهي عبارة عن أنبوب من حديد أو خشب، فيه شق يوضع السهم فيه ويقذف قذفًا شديدًا، كما نقذف الرصاصة بالبندقية اليوم، وتكون الأسهم قصيرة، واصطنعوا لرمي السهام ضروبًا من المجانيق، توضع في الواحد منها عدة سهام، وترمى عنها بالأقواس.

(٨-٢) السيف

وكان العرب يعدون السيوف أشرف الأسلحة، وكانوا يستجلبونها من الخارج، وأشهرها السيوف اليمانية والهندية والسليمانية والخراسانية، وتعرف كلها بالسيوف العتيقة، وكان لكل منها شكل مخصوص أو علامة يمتاز بها: فاليمانية العتق مثلًا التي صنعت في الجاهلية، كانت تمتاز بثقبين في سنبل السيلان (والسيلان أصل مقبض السيف)، وثقب السنبل من إحدى وجهتيه أوسع من الوجهة الأخرى، أو الوجهتان متساويتان ووسطه أضيق، وكان من السيوف اليمانية سيوف يقال لها المحفورة، وشطبها شبيه بالأنهار، وقد حفر بمبرد مدور، ومنها ذات حفر مربع، ومنها ذات شطب، وقلما تسلم اليمانية من العروق، وقد تنقش عليها تماثيل، أو يكتب عليها، أو يصور عليها صورة.

غير أن هذه السيوف أكثر قطعها في اللين، فإذا صادفت الحديد أو اليابس تقصفت، وكانت أسياف الروم أمتن منها، لأنهم كانوا يجيدون سقايتها حتى تبري الحديد، ولذلك كان العرب إذا أصابوا سيفًا قاطعًا تناقلوا خبره وأطروه، وقد اشتهر في أوائل الإسلام سيف ذي الفقار لعلي بن أبي طالب، وسيف الصمصامة لعمرو بن معدي كرب وغيرهما، ولعلهما في الأصل من أسياف الروم، ولذي الفقار شأن كبير في تاريخ الإسلام، توارثه آل أبي طالب، ثم أخذه المهدي العباسي، ثم صار إلى الهادي فالرشيد، ويقال إنه سمي ذا الفقار، لأنه كان به ثماني عشرة فقرة. وفي المتحف البريطاني أمثلة من السيف الهندي والسيف الدمشقي، شاهدناه في رحلتنا إلى لندن سنة ١٩١٢.

(٨-٣) الرماح

أكثر ما يكون استخدام الرمح على الخيل، ولكنهم لم يكونوا يأمنون له خوف انكساره، ومن وصاياهم في استخدام الرمح في الحرب قول صاحب «آثار الأول» في طرائق حركات الرمح وتصرفاته، قال «واللعب به في الميادين وبين يدي الملوك غير التحرك به في الحروب منها المواجهة، وهي أن تحمل على مبارزك وقد أخذت الرمح تحت إبطك وجعلته بين أذني فرسك، وتقصده مستويًا حتى تقرب منه، فإن رأيته قد طرح رمحه يمنة فاطرح رمحك يسرة، وإن طرحه يسرة فاطرح رمحك يمنة، واجتهد أن تبدأ بالحمل عليه وأنت مسدد، وتحول الرمح يمنة أو يسرة كي تدهشه، فلا يدري من أين يجيئه، فإذا دنوت منه دخلت عليه من الخلل الذي لا يكون رمحه فيه، وإذا أردت أن تبتدئ بالخروج، فخذ أسفل الرمح بيدك اليمنى ورأسه إلى الهواء وهو على عاتقك الأيمن، وتحمل على قوتك وأنت كذلك، وإن شئت قربت منه حتى لا يدري من أي وجه يلقاك … وإن خرجت إلى فارسين وتفرقا فاحمل على الأدنى، وإذا كان قريبين فأرِ أحدهما أنك تريد رفيقه، واحمل عليه ولا تتم حملتك ثم اعدل إلى الآخر واصدقه الحملة، وإن حذقا ورأيتهما يفترقان عليك فتطرف ولا تتوسط واحمل على الأدنى إليك، فإن تساويا فأدهش الأضعف، واحمل على الأقوى، فإن تساووا وكانوا جماعة فامتد أمامهم حتى يتبعوك، ثم كر على الأدنى منك فاطعنه، وإن دخلت مضيقًا فتلقاك فارس برمح، فإياك والمصادمة بل انزل إلى الأرض واطعنه، وإن كان خلفك فارس وقدامك فارس في مضيق، فانزل وتحيل واقصد أقربهما إليك، وتترس من الآخر بدابتك … إلخ».

figure
الترس الغرناطي.

وكانت أسنة الرماح عندهم تختلف شكلًا، بين المشعب والعريض والرفيع والمستوي والمموج وغير ذلك.

(٨-٤) الترس

وكان الترس عند العرب على أصناف، كل منها يصلح لشيء: فمنها المسطح والمستطيل المحفر الوسط، والمقبب، فالمقبب المنحني الأطراف. ولكل ترس فائدة: فالمقبب المنحني الأطراف لا يتقى به الرمح، لأنه متى طعن ثبت الرمح فيه، وإنما يتقى به النشاب والحجارة والسيف، والترس المسستطيل يتقى به النشاب، لأن رأسه يستر رأس الفارس، وطوله يقيه لأنه ينظر بإحدى عينيه من التخصير، ولا يكشف رأسه، والمسطح ينقى به الرمح، وقد يشترك رجلان في الطعان فيترس أحدهما للآخر.

وتفنن المسلمون في اصطناع الأتراس، ونقشوا عليها الآيات والحكم والأشعار، وتميزت أتراس كل بلد بشكل خاص، ومنها الترس الدمشقي والترس العراقي والغرناطي وغيرها.

(٨-٥) الدرع

الدروع كثيرة عند العرب، ومنها الحديد والفولاذ والكتان، يسمون درع الكتان «دلاص»، ولم يكن يقتني الدروع من العرب غالبًا إلا الفرسان، وهي من صنع الروم أو الفرس في الغالب، وعندهم دروع مشهورة بأسماء معينة، مثل درع خالد بن جعفر، فقد كانوا يسمونها ذات الأزمة، لأنها كانت لها عرى تعلق إذا أراد لابسها أن يشمرها.

figure
درع أبي عبد الله آخر ملوك الأندلس.

وكانت الدروع مؤلفة من الجزء الذي يقي الصدر وهو الجوشن، والبيضة، والخوذة، والمغفر للرأس، ومنها أجزاء للساعدين، والساقين، والكفين.

تلك كانت أسلحة العرب في أوائل الإسلام، ثم أضافوا إليها شيئًا من أسلحة الأعاجم، كالخناجر والطبر والفاس وغيرها، وتفننوا في صنعها تبعًا للزمان والمكان، فترى السيف الدمشقي يختلف عن السيف العراقي، والدرع المصرية تختلف عن الدرع الأندلسية.

(٩) آلات الحصار

لم يكن للعرب آلات للحصار، لأنهم لم يكونوا يحاصرون، وإنما كانت منازلهم الخيام مطلقة لا يحميها سور ولا خندق، وأول خندق بناه العرب خندق المدينة يوم حرب الأحزاب (سنة ٥ﻫ) أشار به سلمان الفارسي كما قدمنا، فلما اختلطوا بالأعاجم كان في جملة ما اقتبسوه منهم آلات الحصار، وأهمها المنجنيق والدبابة والكبش والنار اليونانية.

(٩-١) المنجنيق

هو آلة قذافة استخدمها الفنيقيون قديمًا، ومنهم أخذها اليونان والإسرائيليون، وورد ذكرها غير مرة في سفر المكابيين، وانتشرت بواسطة اليونان في سائر دول الأرض، فاستخدمها الفرس وعنهم أخذها العرب بعد الإسلام.

والمشهور أن العرب لم يستخدموا هذه الآلة إلا في أواسط القرن الأول للهجرة، بعد مخالطتهم الروم والفرس، ولكننا رأينا في السيرة الحلبية أنهم استخدموها في حصار الطائف، أرشدهم إليها سلمان الفارسي في جملة ما أرشدهم إليه من فنون الحرب الفارسية، ويقال إنه صنعه لهم بيده، وذكر صاحب هذه السيرة أيضًا أن المسلمين لما فتحوا حصن الصعب في خيبر، وجدوا فيه منجنيقات ودبابات.

والمنجنيق أصناف كثيرة، منها الكبير والصغير، ومنها ما يشد بلوالبَ وأقواسٍ، أو ما يدار شبه المقلاع، وهي تستخدم إما لرمي السهام أو الحجارة أو قدر النفط أو العقارب، أو نحوها من آلات الأذى، فإن كانت المقذوفات خفيفة ثقلوها بالرصاص، وإن كانت من السوائل كالنفط ونحوه، اتخذوا لها كفة كالكأس علقوها بسلاسلَ.

وفي الشكل صورة منجنيق روماني كانوا يرمون به السهام، فترى السهام مشكوكة في القائمتين (ب وج) ورؤوسها متجهة نحو العدو، وترى الرجلين يديريان البكرة (د) وهي تدير البكرة المسننة (ن) ويلف عليها حبل ممتد من طرف القائمة (أ) بالبكرة (س) والبكرتين (ف) بحيث تشد طرف القائمة (أ) نحو الوراء، وهي مصنوعة من قطع متصلة بجلد أو حديد، حتى تصير مرنة كالأقواس، بحيث إذا أطلقت بعد شدها ارتدت على أطراف السهام بعنف، فترسلها إلى مسافة بعيدة.

figure
منجنيق روماني لرمي السهام.

وفي الشكل الآخر صورة منجنيق لرمي الحجارة، عبارة عن عمود في رأسه معلق شبه المقلاع، يوضع فيه الحجر ويشد العمود بالأمراس نحو الوراء، وهو متصل من أسفله بقوس مرنة، فإذا شد العمود جيدًا ثم أطلق بغتة وقع على السطح المائل بعنف، وانطلق الحجر من المقلاع إلى مسافة بعيدة، وهناك أشكال أخرى للمنجنيق تندرج تحت هذين.

figure
منجنيق لرمي الحجارة.

فكانوا يستخدمون المنجنيق لهدم الحصون بالحجارة الضخمة، أو لرمي الأعداء بالنبال، أو لإحراق أماكن العدو بالنفط ونحوه، فيرسلون به نفطًا مشتعلًا بالنار، يقذفونه بواسطة كفة من الزرد، يجعلون بها الأوعية المملوءة بالنفط كالقدور ونحوها، أو يرسلونها بمنجنيق رمي الحجارة أو غيرها.

وكانت المجانيق تتفاوت في أقدارها، وكثيرًا ما كانوا يسمون كلًّا منها باسم يدل على بعض أوصافه، على نحو ما يسمون السفن والمدافع الكبرى في هذه الأيام، فقد كان عند الحجاج بن يوسف منجنيق اسمه «العروس»، كان يمد به خمسمائة رجل، أرسله محمد بن القاسم لمحاربة ملك الهند سنة ٨٩ﻫ وهدم به صنمًا من أصنامهم.

(٩-٢) الدبابة

هي آلة متحركة تتخذ من الخشب السميك، وتغلف باللبود أو الجلود المنقعة في الخل لدفع النار، وتركَب على عجل مستديرة، وتحرك فتنجر، وقد يجعلونها برجًا من خشب بمثل هذا التدبير، ويدفعها الرجال فتندفع على البكر، ويصعد الرجال في أعلاها ويستعلون على السور وينزلون فوقه، وهي أقدم من المنجنيق، استخدمها المصريون القدماء والآشوريون فاليونان فالرومان والفرس فالمسلمون، وهي عبارة عن قلعة سائرة على العجل، يهجمون بها على الأسوار لمحاربة المحاصرين من أعلى السور.

وقد يستخدمون الدبابة لهدم الأسوار، فيسيرونها ويحتمون بجدرانها ويجعلون رأسها محددًا يصدمون به الأسوار حتى تهدم.

(٩-٣) الكبش

هو كالدبابة، لكن رأسه في مقدمته مثل رأس الكبش، ويتحصن الرجال في داخله ويستخدمون الكبش لهدم الأسوار، والرأس المذكور متصل في داخل الدبابة بعمود غليظ، معلق بحبال تجري على بكر معلقة بسقف الدبابة لسهولة جرها، فيتعاون الرجال من داخل الدبابة وورائها على ضرب السور بها حتى يخرقوه.

figure
رأس الكبش.
figure
كبش روماني في فتح القدس.

وفي الشكل صورة كبش روماني يهاجم أسوار البرطيين وقد خاف البرطيون وأتوا بأعلامهم يلتمسون الأمان ويسلمون.

واستخدم المسلمون الدبابة والكبش في كثير من حروبهم، لتسلق الأسوار وهدمها أو خرقها، وكانوا يجعلون في الجيش عدة دبابات، أكثرها صغير الحجم تسع الواحدة بضعة رجال تتفرق حول الأسوار، واستخدم الخليفة المعتصم بالله الدبابات في فتح عمورية، فعمل منها دبابات تَسِعُ كل واحدة عشرة رجال.

وكيفية استخدام الدبابات في تسلق الأسوار أنهم كانوا يركبون الدبابة ويدحرجونها إلى السور، فإن كان هناك خندق يمنعهم من الوصول إليه طرحوا الأخشاب على الخندق مثل الجسور، فإذا كان الخندق عريضًا، طرحوا فيه الحطب والزرجون والتراب وغيره، مما يحملونه معهم في الدبابة لهذه الغاية حتى يمتلئ الخندق، كل ذلك وأهل الدبابة يحمون الصناع بالجفان، فيجرون الدبابة إلى السور وينقبونه ويدعمونه بالأخشاب، ثم يخرقونه ويلتصقون بالسور، فإذا لم يدركوا سطحه صعدوا إليه بالسلالم، ونزلوا منه إلى المدينة إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلًا وإلا تحاربوا.

figure
دبابة لتسلق الأسوار.

وكان عندهم ضرب من الدبابات أو الأبراج المسيرة على العجل، في أعلاها مواقف للرجال، إذا اقتربت من السور ولم تستطع خرقه، ألقى أصحابها من أعلى الدبابة سلالمَ مشوا عليها إلى داخل السور.

(١٠) النار اليونانية

figure
عرب يستخدمون النار اليونانية (نقلًا عن مخطوط قديم).

ومما اقتبسه العرب من الروم النار اليونانية، وهي في الأصل من اختراع المشارقة، فقد كان هؤلاء يستخدمون في حروبهم مزيجًا سريع الاشتعال لم يعرفه أهل أوربا إلا في القرن السابع عشر للميلاد، والمظنون أن رجلًا من أهل الشام اسمه كالينكوس نقله إليهم، وكان الروم يومئذ في إبان حاجتهم إليه ليردوا به هجمات العرب عن القسطنطينية وغيرها من مدنهم في أوربا وآسيا، وقد فازوا بغرضهم منه، لأن العرب حاصروا القسطنطينية مرارًا ولم يستطيعوا فتحها، وبالغ الروم في كتمان أسماء المواد التي يتألف منها ذلك المزيج، فظل سر هذه النار مكتومًا حتى اطلع عليه العرب، فإذا هي مزيج من الكبريت وبعض الراتنجات والأدهان، في شكل سائل يطلقونه من أسطوانة نحاسية مستطيلة كانوا يشدونها إلى مقدم السفينة، فيقذفون منها السائل مشتعلًا، أو يطلقونه بشكل كرات مشتعلة أو قطع من الكتاب المتلوث بالنفط، فيقع على السفن أو البيوت فيحرقها، والظاهر أن المقذوفات التي احترقت بها الكعبة في حصار الحصين بن نمير لعبد الله بن الزبير سنة ٦٤ﻫ كانت من هذه النار.

وفي المكتبة الأهلية بباريس مسودة خطية قديمة عليها صور رجال من العرب بعضهم على الخيول والبعض مشاة، وفي أيديهم خرق مبسوسة بالنار اليونانية يرمون بها الأعداء، وكانوا يسمون النار اليونانية «النفط القاذف».

(١١) اختراع البارود

وهناك اختراع ذو بال ينسب فضله إلى الإفرنج، وهو للعرب — نعني اختراع البارود — فالمشهور عند الإفرنج أن مخترع البارود اسمه شوارتز سنة ١٣٢٠م (٧١٩ﻫ) ولكن راهبًا إنكليزيًّا اسمه (Roger Bacon) روجر باكُن من أهل القرن الثالث عشر للميلاد أشار إلى مزيج من قبيل البارود كان شائعًا في أيامه، الصحيح أن العرب أسبق الناس إلى استخدام البارود وإذا لم يكونوا اخترعوه فلا أقل من أنهم أوصلوه إلى ما عرف به في الأجيال الوسطى، فقد ذكر كوندي المستشرق الإسباني المتوفى سنة ١٨٢٠ أن أهل مراكش استخدموا الأسلحة النارية في محاربتهم سرقوسة سنة ١١١٨م.
وزد على ذلك أن تواريخ العرب تشير إلى استخدام هذه الأسلحة في القرن الثالث عشر للميلاد في حرب المسلمين بالمغرب، ونرى ذلك صريحًا في كلام ابن خلدون عن قدوم أبي يوسف سلطان مراكش لفتح سجلماسة سنة ٧٦٢ﻫ ١٢٧٣م، قال:

ولما فتح السلطان أبو يوسف بلاد المغرب … وجَّه عزمه إلى افتتاح سجلماسة من أيدي بني عبد الواد المتغلبين عليها وإدالة دعوته فيها من دعوتهم، فنهض إليها في العساكر والحشود في رجب من سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة، فنازلها، وقد حشد إليها أهل المغرب أجمع، من زناتة والعرب والبربر وكافة الجنود والعساكر، ونصب عليها آلات الحصار من المجانيق والعرادات وهندام النفط القاذف بحصى الحديد، ينبعث من خزنة أمام النار الموقدة في البارود بطبيعة غريبة ترد الأفعال إلى قدرة باريها، فأقام عليها حولًا كريتًا يغاديها القتال ويراوحها إلى أن سقطت ذات يوم على حين غفلة طائفة من سورها بإلحاح الحجارة من المنجنيق عليها، فبادروا إلى اقتحام البلد، فدخلوه عنوة من تلك الفرجة.

وفي هذا القول شاهد صريح على أن البارود كان معروفًا عند العرب، وكانوا يستخدمونه في حروبهم قبل شوارتز بنحو نصف قرن.

figure
اختراع العرب للأسلحة النارية.
figure
أدوات النفط.

وفي مكتبة بطرسبرج مسودة عربية قديمة، فيها صور رجلين من العرب يشتغلان في الأسلحة النارية، أحدهما إلى اليمين يحمل ما يشبه البندقية وفيها القنبلة والبارود داخلها، وقد أدناها من لهيب أمامه حتى يولع البارود ويقذف القنبلة.

وهناك أيضًا صورة فارس يحمل قناة ملفوفة بقماش، ذات أهداب تلت بالنفط وترمى على الأعداء حين الاقتضاء، وبجانبي الفارس رجلان ماشيان، على بدنيهما وبدنه وبدن فرسه نسيج ذو أهداب يستخدم للنفط عند الحاجة.

(١٢) المدافع

هي أنابيب ترسل بها المقذوفات كما ترسل بالمنجنيق، لكنها في هذا ترسل بحركات ميكانيكية كالمقاليع والأتار ونحوها، وأما في المدافع فإنها تقذف بالبارود.

وأول من أتقن استخدام المدافع في الدول الإسلامية الدولة العثمانية، وبها استعانوا على فتح القسطنطينية سنة ١٤٥٣، وفي كثير من الفتوح والحروب، فأصبح الجند المحاصر لبلد ينصب حوله المدافع بدل المجانيق، يفرقها مع جنده حول المكان المراد محاصرته، وكانوا في أول شيوع المدافع يستخدمون معها سائر آلات الحصار القديمة، من الأبراج والدبابات وغيرها، لأن المدافع لم تكن في أول أمرها تقذف قنابلها إلى مسافات بعيدة، وكان المحاصَرون من الجهة الأخرى يحيطون معسكراتهم أو قلاعهم بالأسوار العالية والخنادق العميقة، على أشكال مختلفة، ويجعلون السور مضاعفًا أو مثلثًا ينصبون عليه آلات الدفاع كالمدافع وغيرها.

وكان المحاصرون يبنون على الأسوار أبراجًا، يجمعون فيها الحامية للدفاع بآلات القذف المختلفة، ويبذل المحاصرون جهدهم في أخذ الأبراج.

(١٣) تعبئة الجيوش

قلنا في كلامنا عن تاريخ الجند أن نظامه كان عند الأمم المتمدنة الصفوف والكتائب، وأما العرب في جاهليتهم فقد كانوا على غير نظام، وكانت حروبهم من النوع الذي يعبرون عنه بالكر والفر، واسمه يدل عليه، وذلك أنهم كانوا إذا هموا بالقتال كروا على عدوهم، فإذا أحسوا بضعف فروا، ثم يعودون فيكرون وهكذا، بلا نظام ولا قاعدة، فلما ظهر الإسلام كان في جملة أوامره ترتيب الناس صفوفًا في الحرب، عملًا بالآية: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ، وفي الحديث «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا». وبناء على ذلك كانت حروب المسلمين في أيام النبي صفوفًا، وهو ما يعبرون عنه بالزحف فكانوا يُسوون كما تسوى الصفوف للصلاة، ويمشون بصفوفهم إلى العدو قدمًا واحدة.

فحاربوا البدو بنظام لا يعرفونه، وكان ذلك من جملة أسباب نصرتهم على قبائل العرب أهل الكر والفر، واعتبر ذلك في تراجم الفاتحين العظام كالإسكندر والسلطان سليم العثماني وبونابرت وغيرهم، فإنهم إنما غلبوا العالم بنظام جديد أدخلوه في جنودهم، أو بأسلحة جديدة تفردوا بها دون أعدائهم.

وكان أهل الكر والفر يمنعون رجالهم عن الفرار بإبلهم والظهر الذي يحمل ظعائنهم، فيصفونها وراءهم فتكون فيئًا لهم ويسمونها «المجبوذة»، وهي التي تثبت أقدامهم في الحرب، أما المسلمون فكانوا مع ثباتهم بالزحف يجعلون وراءهم الإبل والنساء والولدان والأحمال، فيزيدهم ذلك استماتة في الحرب وصبرًا على القتال.

كان الجند في أيام النبي يترتب صفًّا أو صفين، تبعًا للكثرة والقلة، فلما تكاثر المسلمون في أيام الخلفاء الراشدين صاروا يجعلونه صفوفًا يرتبونها باعتبار أسلحتها والأحوال المحيطة بها، وإليك طرفًا من وصية علي بن أبي طالب لجنده، يوم واقعة صفين سنة ٣٧ﻫ فإنها تنطوي على خلاصة نظام الجند في الحرب أيام الراشدين، قال:

… فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص، وقدموا الدارع وأخروا الحاسر، وعضوا على الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا على أطراف الرماح فإنه أصون للأسنة، وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش وأسكن للقلوب، وأخفتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار، وأقيموا راياتكم فلا تميلوها ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم، واستعينوا بالصدق والصبر فإنه بقدر الصبر ينزل النصر.

(١٣-١) الكراديس

ثم تكاثر جند العرب واختلطوا بالأعاجم في أيام بني أمية، فعمدوا إلى «التعبئة»، وهي ترتيب الكتائب كراديس، كما بيناه في تاريخ الجند، وذلك أن الروم كانوا إذا نشبت الحرب قسموا جنودهم إلى أقسام يسمونها كراديس  Koortis (كورتيس في اليونانية ومعناها الكتلة أو الكتيبة)، ويسمون كل كردوس كتيبة بصفوفها، فيجعلون الملك أو القائد العام وحاشيته وراياته وشعاره كتيبة تقوم في الوسط ويسمونها القلب، وأمامها كتيبة يغلب أن تكون من الفرسان وهي المقدمة، ويقيمون كتيبة أخرى عن يمين كتيبة الملك يسمونها الميمنة، وأخرى إلى يساره يسمونها الميسرة، وكتيبة وراءه يسمونها ساقة الجيش على هذه الصورة:
المقدمة
الميمنة قلب الجيش الميسرة
الساقة

وترى التعبئة على هذه الكيفية خمسة أجزاء، ومنها تسمية الجيش بالخميس، ويتقدم الخميس كوكبة من الفرسان يقال لها: «الطليعة»، لأجل الاستكشاف على مواقف العدو، فإذا ترتب الجيش على هذه الصورة زحف على العدو زحفًا، وربما جعلوا وراءهم ما يثبتهم في زحفهم كما كان الفرس يفعلون، فإنهم كانوا يتخذون الفيلة في الحروب، يحملون عليها أبراجًا من الخشب أمثال الصروح، مشحونة بالمقاتلة والسلاح والرايات، ويضعونها وراءهم في حومة الحرب كأنها حصون فتقوى بها نفوسهم، وربما جعلوا ملجأهم الأسرة، فينصبون للملك سريره في حومة الحرب وراء المقاتلة، ويحف به من خدمه وحاشيته وجنوده من هو زعيم بالاستماتة دونه، وترفع الرايات في أركان السرير، ويحدق به سياج آخر من الرماة والرجالة، يعظم هيكل السرير ويصير فيئًا للمقاتلة وملجأ لهم.

وكثيرًا ما كانت العجم تحارب بالكر والفر، وتجعل مثل ذلك الملجأ وراء جندها مما لا يقع تحت حصر، فاضطر العرب في كثير من وقائعهم مع الفرس والروم في صدر الإسلام أن يحاربوا بالكراديس، كما فعل خالد بن الوليد في واقعة اليرموك سنة ١٣ﻫ فعبأ تعبئة لم تعبئ العرب مثلها قبلها، فجعل جيشه ٣٦ كردوسًا إلى الأربعين، وجعل القلب كراديس، وأقام فيه أبا عبيدة، وجعل الميمنة كراديس، وأقام عليها عمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، وجعل الميسرة كراديس، وعليها يزيد بن أبي سفيان إلخ … وكذلك فعل سعد بن أبي وقاص في القادسية سنة ١٤ﻫ.

ولكن يظهر أنهم فعلوا ذلك اضطرارًا، لمحاربة الروم بمثل نظامهم، ولم يجعلوا التعبئة قاعدة حروبهم إلا سنة ١٢٨ﻫ على عهد مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، فإنه أبطل الصفوف ونظم الكراديس، فحارب بها الضحاك الخارجي ثم الخبيري، ولما بطلت الصفوف تنوسي الزحف، ثم تنوسي الصف وراء المقاتلة بما دخل الدولة من الترف، ولم يعودوا يحملون نساءهم وأولادهم معهم إلى الحرب.

وهاك ما قاله عبد الحميد كاتب محمد بن مروان يوصي ولي عهد الخلافة بتعبئة الجيوش، وهي صورة من صورها في زمن بني أمية، قال:

إذا كنت من عدوك على مسافة دانية وسنن لقاء مختصر، وكان من عسكرك مقتربًا وقد شامت طلائعك مقدمات ضلالته وحماة فتنته، فتأهب أهبة المناجزة وأعد إعداد الحذر واكتب خيولك وعبئ جنودك، وإياك والمسير إلا مقدمة وميمنة وميسرة وساقة، قد شهروا الأسلحة ونشروا البنود والأعلام، وعرف جندك مراكزهم، سائرين تحت ألويتهم، قد أخذاو أهبة القتال واستعدوا للقاء، ملحين إلى مواقفهم عارفين بمواضعهم عن مسيرهم ومعسكرهم، وليكن ترجلهم وتنزلهم على راياتهم وأعلامهم ومراكزهم، وعرف كل قائد وأصحابه موقعهم من الميمنة والميسرة والقلب والساقة والطليعة، لازمين لها غير مخلين بما استنجدتهم له ولا متهاونين بما أهبت بهم إليه، حتى تكون عساكرهم في كل منهل تصل إليه ومسافة تختارها كأنه عسكر واحد، في اجتماعها على العدة وأخذها بالحزم ومسيرها على راياتها ونزولها على مراكزها ومعرفتها بمواضعها، إن ضلت دابة عن موضعها عرف أهل العسكر من أي المراكز هي ومن صاحبها وفي أي المحل حلوله منها، فردت إليه هداية ومعرفة ونسبة قيادة صاحبها، فإن تقدمك في ذلك وإحكامك له اطراح عن جندك مؤونة الطلب وعناية المعرفة وابتغاء الضالة، ثم اجعل على ساقتك أوثق أهل عسكرك في نفسك صرامة ونفاذًا ورضاء في العامة وإنصافًا من نفسه للرعية وأخذًا بالحق في المعدلة، مستشعرًا تقوى الله وطاعته، آخذًا بهديك وأدبك واقفًا عند أمرك ونهيك معتزمًا على مناصحتك وتزيينك نظيرًا لك في الحال وشبيهًا بك في الشرف وعديلًا في المواضع ومقاربًا في الصيت، ثم اكتشف معه الجمع وأيده بالقوة وقوه بالظهر وأعنه بالأموال واغمره بالسلاح، ومره بالعطف على ذوي الضعف من جندك ومن زحفت به دابته وأصابته نكبة من مرض أو رجلة أو آفة، من غير أن تأذن لأحد منهم في التنحي عن عسكره أو التخلف بعد ترجله إلا المجهود أو المطروق بآفة، ثم تقدم إليه محذرًا ومره زاجرًا وانهه مغلظًا بالشدة على من مر به منصرفًا عن عسكرك من جندك بغير جوارك شادًّا لهم أسرًا وموقرهم حديدًا ومعاقبهم موجعًا، أو موجههم إليك فتنهكهم عقوبة وتجعلهم لغيرهم من جندك عظة … إلخ.

على أن بعض دعاة الخلافة من أهل البيت اعتبروا العدول عن الصف إلى الكراديس بدعة في الإسلام، فظلوا على الزحف صفوفًا ولو أدى بهم إلى الخطر، كما فعل إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، لما بعث المنصور عيسى بن موسى لمحاربته، فالتقيا عند باخمرا على ١٦ فرسخًا من الكوفة، فأشار عليه بعض أصحابه أن يجعل جنده كراديس، «لأن الكراديس أثبت في الحرب، فإذا انهزم كردوس ثبت كردوس، أما الصف فإذا انهزم بعضه تداعى سائره»، فقال إبراهيم وسائر من معه: «لا نصف إلا صف أهل الإسلام»، يعني الآية: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا إلخ، فدارت الدائرة على إبراهيم …

وبعد رسوخ المسلمين في المدنية تفننوا في تعبئة الجيوش، بما اقتبسوه من فنون الحرب عند القدماء بعد ترجمة كتبهم أو دراستها، وتعددت ضروب التعبئة عندهم حتى صارت سبع تعبئات، وإن كانوا لا يستعملونها كلها، ولكنهم أدخلوها في فنونهم الحربية: التعبئة الأولى أن ترتب الجيوش بشكل الهلال، قالوا إن الفرس المتقدمين ذكروه. وهو نوعان: الهلال المرسل أو الحاد وهو البسيط مثل هلال السماء والهلال المركب وهو أن يكون إلى جانبي الهلال شبه هلالين كأنهما جناحان، وهي التعبئة الثانية، والتعبئة الثالثة المربع المستطيل، والتعبئة الرابعة الهلال المقلوب، والخامسة أن ينظم الجيش في شكل المعين أو المربع المنحرف، والسادسة المثلث، والسابعة الدائرة المزدوجة، وهي: دائرتان إحداهما داخل الأخرى، وكانوا يعمدون إلى هذا الضرب من التعبئة إذا كان جندهم قليلًا وجند عدوهم كثيرًا، وهو يشبه آخر ما بلغ إليه المتمدنون من التفنن في التعبئة — نعني مربع بونابرت الذي دوخ به الممالك، وهو عمدة الجنود المنظمة إلى اليوم، فكان المسلمون إذا عبأوا الجيش إلى الحرب، نظموه إما كراديس أو مربعات أو مثلثات أو جعلوا بعضه كراديس وبعضه مربعًا أو هلاليًّا أو معينًا أو مثلثًا، على ما تقتضيه الأحوال.

(١٤) المعسكر

أما تنظيم المعسكر فلم يكن له علم خاص في أوائل الإسلام، بل كان العرب يجرون في نصب خيامهم وترتيبها على ما كانوا في جاهليتهم فيكون فسطاط الأمير في الوسط، وحوله فساطيط الأمراء والخاصة، وإذا كانت النساء والأولاد معهم، جعلوها وراء المعسكر، ولما أبطلوا حمل العيال معهم — كما تقدم — جعلوا يقلدون الروم والفرس في مضاربهم، وتفننوا في ذلك على ما اقتضته الأحوال، فلما تعددت فرق الجند، وكثرت الحاشية والمماليك والخدمة، صار المعسكر أشبه ببلد، فيه الكتاب والفقهاء والأطباء والكحالون وأصحاب الطبول والأتباع وغيرهم، فضلًا عن أصناف الجند، كما ترى في الصفحة التالية، وهو أرقى ما بلغ إليه نظام المعسكر في الإسلام.

figure
معسكر روماني (له أربعة أبواب: ‏A‏ في مقدمه وR‏ في مؤخره وC‏ وD‏ في الجانبين، كل باب منها خاص بطبقة من الجند. وقد ترتبت ‏الكتائب أو الكراديس في ستة صفوف مزدوجة بينها طرق طولية، ويقطعها عرضَا شارع واحد. وأمام الكتائب خيم كبار ‏القواد ١ و٢ و٣ وإلى جانبها ٤ و٥ خيم المتطوعين. وأمامها في أول المعسكر ٦ و٧ جند المتطوعة وبعدها على ‏الزاويتين ٨ المساعدون من جند الأجانب).

(١٥) مناداة الجند

كانوا في أوائل الإسلام إذا تهيأ الجيش للقتال نادى قواده «النفير النفير» وهي علامة الهجوم عندهم، تقابل نداء قواد الجند الآن في مصر «هجوم حاضر ال» ثم «هجوم!» وإذا أرادوا إرجاعهم قالوا «الرجعة الرجعة!» وهي مثل قولهم اليوم «جريه!»، وكانوا إذا أرادوا أن يركب الفرسان للحرب نادوا «الخيل الخيل!» ويقال لمثل ذلك في الجيش المصري: «بين ما به حاضر ال!» ثم «بين!» وإذا أرادوا أن يترجلوا قالوا «الأرض الأرض!»، ومثلها في مصر «أين مايه حاضر ال!» ثم «أين!».

ولما تمدن المسلمون وتعددت أجزاء جندهم وتنوعت حركاتهم، جعلوا لكل حركة نداءً خاصًّا يدل لفظه على المراد به، وهذه أسماؤها:
  • (١)

    الميل.

  • (٢)

    الانقلاب.

  • (٣)

    الانفتال.

  • (٤)

    تسوية الانفتال.

  • (٥)

    استدارة صغرى.

    figure
    معسكر إسلامي كامل نحو القرن الثامن للهجرة في أرقى ما بلغ إليه نظام الجند عندهم.
  • (٦)

    استدارة كبرى.

  • (٧)

    تقاطر.

  • (٨)

    اقتران.

  • (٩)

    رجوع إلى الاستقبال.

  • (١٠)

    استدارة مطلقة.

  • (١١)

    أضعاف.

  • (١٢)

    أتباع الميمنة.

  • (١٣)

    أتباع الميسرة.

  • (١٤)

    جيش منحرف.

  • (١٥)

    جيش مستقيم.

  • (١٦)

    جيش مورب.

  • (١٧)

    رض.

  • (١٨)

    تقدم.

  • (١٩)

    حشو.

  • (٢٠)

    رادفة.

  • (٢١)

    ترتيب بعد ترتيب.

فكانوا إذا أراد قائد الجند أن يميل جنده إلى جهة، أو يتخذ شكلًا خاصًّا من هذه الأشكال، أو حركة من هذه الحركات، ناداه بكلمة من هذه الكلمات، وهم قد تدربوا على المراد من كل منها، فيميلون كما يشاء على مثال الحركات العسكرية في جنود هذه الأيام، ثم اختصروا ذلك في كلمتين هما: «هوا جوا!» و«هو برا!» واستعانوا على إتمام المراد بالإشارات، ولذلك كان على الجند أن يراعوا الرئيس بأعينهم، حتى إذا مال إلى جهة مالوا معه، وفسروا هذين اللفظين بأن المراد بهو جوا أن تقبل الوجوه تجاه بعضها بعضًا، وعكس ذلك هو برا.

(١٦) شعار الجند

كان للعرب في جاهليتهم ألفاظ يتعارفون بها في أثناء الحرب يسمونها الشعار، وليست هي ألفاظًا معينة، ولكنهم كانوا يصطلحون عليها على مقتضى الأحوال، كان شعار الأحزاب في غزوة أحد «يا للعزى يا لهبل»، وكان شعار تنوخ في الحيرة «يا آل عباد الله»، وجعل النبي لكل من المهاجرين والأنصار شعارًا، فكان شعار المهاجرين «يا بني عبد الرحمن»، وشعار الأوس «يا بني عبيد الله»، وشعار الخزرج «يا بني عبد الله»، وسمى خيله «خيل الله»، وكان المسلمون بعد ذلك يجعلون لجنودهم شعارًا يتعارفون به، على نحو ما تقدم.

(١٧) الثغور والعواصم

ويراد بها حدود المملكة الإسلامية برًّا وبحرًا، فقد رأيت فيما تقدم أن العرب لما جاءوا لفتح الشام إنما بدأوا ببرها من جهة حوران مما يلي الصحراء، لأن قوات الروم كان معظمها في مدن السواحل، فجعلوا فتوحهم تمتد من البر نحو البحر، ومن العرب وأهل البلاد الأصليين إلى الروم، فبعد أن فتحوا دمشق ساروا نحو السواحل، وفي مقدمتهم يزيد بن أبي سفيان وأخوه معاوية، وكان ذلك في أيام أبي عبيدة عامر بن الجراح على دمشق، جاءوا بيروت وصيدا وجبيل ففتحوها فتحًا يسيرًا، ثم عاد الروم بعدئذ فاسترجعوها، لأن قواتهم في البحر كانت كبيرة، وما زالت في أيدي الروم حتى تولى الخليفة عثمان، ومعاوية عامله على الشام، ففتحوا طرابلس وغيرها، وكانت لمعاوية رغبة في غزو البحر، وعثمان يخافه كما كان عمر يخافه من قبل، وما زال معاوية يلح على عثمان حتى أذن له، فسلمت ثغور الشام عندئذ للمسلمين، فجعل الناس ينتقلون إليها من كل ناحية، فعمرت بهم.

وكانت ثغور الشام في أيام الخللفاء الراشدين أنطاكية، وغيرها من السواحل التي سماها الرشيد عواصم، فكان المسلمون يغزون ما وراءها، وكان للروم بقية في بعض المسالح بين الإسكندرونة وطرسوس، فلما تولى بنو أمية أتموا فتحها، وزادت عمرانًا في أيام بني العباس، وجعلوا فيها الحامية والسلاح لدفع غارات الروم، لأنهم كانوا لا ينفكون عن مناداة العرب، فبنى العرب حصونًا هناك، ورمموا الحصون التي كان الروم قد بنوها، وجعلوا لأهلها عطاءً كبيرًا وأمروهم بالغزو.

وفعلوا نحو ذلك في حدود المملكة الإسلامية من جهة البر، فاتخذوا مدنًا حصينة جعلوها ثغورًا يقيمون فيها الجند والسلاح في قلاع لدفع العدو أو لغزو بلاده.

وبناء على ذلك فإن تخوم المملكة الإسلامية بعضها من جهة البر، والبعض الآخر يتصل إليه بالبر والبحر معًا.

والحدود البحرية هي على الإطلاق ثغور الشام ومصر، فإذا عددنا الثغور الشامية من الشمال كان أولها طرسوس فأدنة فالمصيصة وعين زربة والكنيسة والهارونية وإياس ونقابلس، وارتفاعها — أي دخلها — نحو ١٠٠٠٠٠ تنفق في مصالحها وسائر وجوه شأنها، من نفقات الحامية والترميم والمخائض والحصون وغير ذلك، لا يرد منها شيء إلى بيت المال، بل قد ينفق عليها بيت المال ورواتب الجنود، وثغور مصر منها رفح والعريش ودمياط والإسكندرية.

ويلي ثغور الشام من الشمال الثغور التي سموها الجزرية، نسبة إلى جزيرة العراق، وأولها مرعش ثم الحدث ثم حصون متتابعة إلى ثغر شميشاط ثم ملطية، وارتفاع هذه الثغور مع ملطية ٧٠٠٠٠ دينار، يصرف في مصالحها ٤٠٠٠٠ ويبقى ٣٠٠٠٠، ويحتاج لنفقة الأولياء والصعاليك ١٧٠٠٠٠ دينار تضاف إلى تلك البقية، فيكون المجموع مئتي ألف دينار سوى نفقات المغازي، والثغور المذكورة هي الواسطة التي منها كانت المغازي، وعواصم هذه الثغور دلوك ورعبان ومنبج، ناهيك بالثغور التي تحاذي بلاد الهند في الشرق، مما يطول شرحه.

(١٨) الغزوات

فالثغور المذكورة هي حدود المملكة الإسلامية، وهي التي عزلها هارون الرشيد سنة ١٧٠ﻫ عن الجزيرة وقنسرين وسماها العواصم، وكان المسلمون يخرجون منها كل سنة للغزو في البحر والبر، جهادًا في سبيل الإسلام، وكان الجهاد فرضًا على المسلمين يحرضهم الخلفاء عليه، كما رأيت في قول أبي بكر يوم تولى الخلافة «لا يدع أحد منكم الجهاد، فإنه لا يدعه قوم إلا ضربهم الله بالذل»، أما غزو البحر فقد كانت مراكبهم تجتمع في سواحل الشام ومصر، حتى تلتقي في جزيرة قبرص، وعددها ما بين ٨٠–١٠٠ مركب، ويسمى ما يجتمع منها هناك الأسطول، وكان يتولى قيادة الأسطول صاحب مراكب الثغور الشامية، وكانت تبلغ النفقة على هذه المراكب، إذا غزت مصر والشام، مائة ألف دينار.

وكانت غزواتهم تعين باعتبار الفصول، فمنها غزوة صيفية وتسمى صائفة، أو شتوية وتسمى شاتية، أو ربيعية تقع في العاشر من شهر أيار (مايو) أي بعد أن يكون المسلمون قد أربعوا دوابهم وحسنت أحوال خيولهم، فيقيمون في الغزوة ثلاثين يومًا أي إلى العاشر من حزيران (يونيو) فكأنهم يجدون الكلأ حينئذ في بلاد الروم ممكنًا، فترتبع دوابهم ربيعًا ثانيًا، ثم يقفلون فيقيمون ٢٥ يومًا أي إلى ٥ تموز (يوليو) حتى تقوى الخيول فيجتمون لغزو الصائفة أي الصيف، ثم يغزون لعشر تخلو من تموز، فيقيمون إلى وقت قفولهم ستين يومًا، وكانوا في بعض السنين يغزون صائفتين، يسمونهما الصائفة اليمنى والصائفة اليسرى.

أما في الشتاء فغزواتهم قليلة ولا يبعدون فيها أكثر من عشرين ليلة، ويكون ذلك في آخر شباط (فبراير) فيقيم الغزاة إلى أوائل أذار (مارس) ثم يرجعون ويربعون دوابهم.

فترى مما تقدم أن الخلفاء لم يقتصروا على حفظ مملكتهم، بل جعلوا غزو الممالك الملاصقة لها فرضًا واجبًا عليهم، وهو من قبيل الجهاد في سبيل الله — كما قدمنا — وكان من أكثر الخلفاء رغبة في ذلك بنو العباس، فإنهم لما استتب لهم الأمر ودانت لهم المملكة الإسلامية تحولوا إلى الغزو، فكانوا في أوائل دولتهم يرسلون بعض القواد لغزو الروم كل سنة، كما يرسلون من يحج بالناس، ثم صاروا يغزون بأنفسهم، فقد غزا المهدي سنة ١٦٣ﻫ الروم بنفسه، وسير ابنه الرشيد سنة ١٦٥ﻫ لغزوهم ومعه ٩٥٩٣٠ رجلًا، فأوغلوا في بلاد الروم حتى بلغوا خليج القسطنطينية، بعد أن مروا بمسالح الروم في طريقهم، فاسترضاهم صاحبها بمال مقداره: ١٩٣٤٥٠ دينارًا و٢١١٤٠٨٠٠ درهم.

فلما وصل الرشيد إلى القسطنطينية خافه أهلها، وكان على كرسي القسطنطينية الإمبراطورة إيريني، فصالحته على فدية مقدارها سبعون ألف دينار تدفعها له كل سنة، وأن تقيم له الأدلاء والأسواق في الطريق، وطول الهدنة ثلاث سنين، وبلغ مقدار ما غنمه المسلمون في أثناء تلك الغزوة غير ما تقدم ٥٦٤٣ رأسًا من السبي، وعشرين ألف رأس من الدواب، ومائة ألف رأس غنم وبقر، وقتلوا من الروم في تلك الغزوة وحدها ٥٤ ألف نفس، ما عدا الأسرى، ومن ذلك يتبين لك ما كان يزيد المسلمين رغبة في الغزو.

(١٩) الأساطيل

(١٩-١) ركوب البحر

لم يركب العرب البحر قبل الإسلام، إلا ما كان من سفائن حمير وسبأ في أيام التبابعة، لأنهم كانوا أهل تجارة في البر والبحر، وأما عرب الحجاز فإنهم كانوا يخافون البحر ولا يجسرون على ركوبه — وذلك شأن البدو إلى هذا اليوم، فلما ظهر الإسلام وخفقت أعلام المسلمين على سواحل الشام ومصر، رأوا سفن الروم وشاهدوا حروبها فيها فتاقت أنفسهم للغزو في البحر، وأول من ركب البحر منهم العلاء بن الحضرمي، وكان عاملًا على البحرين في أيام عمرو بن الخطاب، فأحب أن يفتح سواحل فارس وبينه وبينها خليج فارس، فعبر إليها في المراكب ولم يستأذن عمر، ولم يفلح في غزوته.

فشق ذلك على عمر، فجعل قصاصه أن يكون تحت إمرة سعد بن أبي وقاص أمير الكوفة يومئذ، وشدد عمر في منع المسلمين من ركوب البحر، وكان معاوية قد تولى جند دمشق والأردن، وهو رجل المطامع البعيدة، فراقه ركوب بحر الروم لغزو ما وراءه، فبعث إلى عمر يستأذنه فأبى، فألح عليه ورغبه في الكسب، فكتب عمر إلى عمرو بن العاص أمير مصر يطلب إليه أن يصف له البحر فأجابه «يا أمير المؤمنين، إني رأيت البحر خلقًا كبيرًا يركبه خلق صغير … ليس إلا السماء والماء، إن ركد أحزن القلوب وإن ثار أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة والشك كثرة، هم فيه دود على عود، إن مال غرق وإن نجا برق»، فلما جاءه الكتاب بعث إلى معاوية «والذي بعث محمدًا بالحق لا أحمل فيه مسلمًا أبدًا».

figure
أسطول عربي يحارب الروم وهم يرمونه بالنار اليونانية.

فلما كانت خلافة عثمان أطاع معاوية لشدة إلحاحه، ولكنه شرط عليه أن يجعل الغزو في البحر اختياريًّا، فمن اختار ركوبه حمله وأعانه، فركب معاوية في البحر إلى قبرص سنة ٢٨ﻫ فصالحه أهلها على ٧٢٠٠ دينار يدفعونها له كل سنة، وهي أول غزوة غزاها المسلمون في البحر، وراقهم النصر فازدادوا رغبة في غزوه فجعلوا ذلك في أوقات معينة من الصيف والشتاء كما تقدم.

(٢٠) الأساطيل في الإسلام

ولم يكن للعرب معرفة في الملاحة، فاستخدموا أولًا من كان في حوزتهم من الروم، وفيهم أهل الصناعة والنواتية، فأنشأوا لهم السفن والشواني، وشحنوها بالرجال والسلاح، وأركبوها العساكر والمقاتلة لغزو ما وراء البحر، وسموا مجمع السفن أسطولًا، وهو لفظ يوناني (Stolos) عربوه، وجعلوا مقر أساطيلهم بحر الروم خاصة، واشترك في ملاحة البحر منهم أهل الشام وأفريقية والأندلس، وأنشأوا دور الصناعة (الترسانة) في تلك البلاد لبناء السفن وإعداد معداتها، وأول دار للصناعة في الإسلام بنيت في تونس على عهد عبد الملك بن مروان، فأمر عامله على إفريقية حسان بن النعمان بذلك ففعل، وأنشأ السفن وجهزها بالعدة والسلاح، وبعث فيها المقاتلة لغزو صقلية (سيسيليا) فلم يتيسر لهم فتحها إلا في أيام الأغالبة، ففتحها أسد بن الفرات على عهد زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب، وفتح أيضًا قوصرة فازداد المسلمون رغبة في غزو البحر، فبالغوا في إنشاء الأساطيل في إفريقية والأندلس، فبلغ عدد سفن أسطول الأندلس في أيام عبد الرحمن الناصر في أواسط القرن الرابع للهجرة مائتي سفينة، وكان أسطول إفريقية نحو ذلك، وأشهر مرافئ الأندلس بجانة وألمرية، وكانت دور الصناعة قد تعددت هناك، وكل دار تبني أسطولًا عليه قائد ورئيس، فالقائد يدبر أمر سلاحه وحربه ومقاتليه، والرئيس يدبر أمر جريه بالريح أو المجاديف، فإذا اجتمعت الأساطيل لغزو أو غرض آخر عسكرت بمرفئها المعلوم، وجعلوا النظر فيها كلها لأمير واحد من أعلى طبقات المملكة.

وأما مصر فقد أنشئت فيها دور الصناعة في أواخر القرن الأول للهجرة كما سيأتي، وأول من أنشأ الأسطول فيها عنبسة بن إسحق أميرها من قبل الخليفة المتوكل على الله العباسي، وسبب ذلك أن الروم نزلوا دمياط سنة ٢٣٨ﻫ وملكوها، وقتلوا وسبوا، فعظم الأمر على أمير مصر فأمر بإنشاء الشواني للأسطول، وجعل للبحر غزاة مثل غزاة البر، وجعل أرزاقهم مثل أرزاقهم، فاجتهد الناس في تعليم أولادهم الرماية وجميع أنواع المحاربة، وانتخب له القواد العارفين وشحنه بالرجال والسلاح، وأرسله لغزو الروم في جملة أساطيل إفريقية والأندلس والشام، فكانت الحروب بين المسلمين والروم سجالًا، يأسر بعضهم بعضًا، فاحتاج الخلفاء إلى افتداء أسراهم بالمال، فوضعوا ما يسمونه الفداء.

(٢١) الفداء

وأول من افتدى أسرى المسلمين بالمال هارون الرشيد العباسي سنة ١٨٩ﻫ، وكان الفداء قبله يقع بالمبادلة: النفر بالنفر، وأشهر الأفدية ١٣، وكلها في أيام بني العباس، آخرها جرى في أيام المطيع لله سنة ٣٣٥ﻫ، وبلغ عدد الذين افتداهم الخلفاء في هذه المدة نحو ٥٠ ألف نفس، وكان الفداء يقع غالبًا على ضفتي نهر اللامس من سواحل بحر الروم قريبًا من طرسوس، ويحضر الفداء جمهور من المسلمين والروم فيقضون في الافتداء بضعة عشر يومًا إلى بضع عشرات، وشهد الفداء الأول نحو ٥٠٠٠٠ نفس من المسلمين، بأحس ما يكون من العدد والخيل والسلاح والقوة، حتى ملأوا السهل والجبل وضاق بهم الفضاء، وجاءت مراكب الروم الحربية بأحسن ما يكون من الزي ومعهم الأسرى، وكان عدد الذي فودوا فيه ٣٧٠٠ نفس، وفي ذلك يقول مروان بن أبي حفصة يخاطب الرشيد من أبيات:

وفكت بك الأسرى التي شيدت لها
محابس ما فيها حميم يزورها
على حين أعيا المسلمين فكاكها
وقالوا سجون المشركين قبورها

(٢٢) الأساطيل المصرية

ولما دخلت مصر في حوزة العبيديين (الفاطميين) ملوك إفريقية، بذلوا عنايتهم في إنشاء الأساطيل في الإسكندرية ودمياط ومصر، وبلغت الجنود البحرية في أيامهم خمسة آلاف لهم الرواتب المعينة، منهم عشرة قواد راتب كل واحد منهم من ١٠ إلى ٢٠ دينارًا، ومنهم أقل من ذلك إلى دينارين وهي أقلها، ولهم إقطاعات كانوا يسمونها أبواب الغزاة، وكانوا ينتخبون أحد هؤلاء القواد رئيسًا للأسطول، فإذا ساروا إلى الغزو كان هو آمرهم وناهيهم، ومع هذا الرئيس أمير كبير من أمراء الدولة، وأما النفقة على غزاة الأساطيل فكان الخليفة يتولى تفريقها بنفسه بحضور الوزير، مبالغة في إكرام رجال البحر ورفع منزلتهم، وبلغت المراكب في أيام المعز لدين الله أول الخلفاء الفاطميين بمصر ٦٠٠ قطعة، ثم نقصت بعده حتى أصبحت مائة قطعة.

وكانوا يحتفلون في إخراج الأسطول إلى الغزو احتفالًا شائقًا يحضره الخليفة، فيجلس في منظرة معدة له على ساحل النيل بالمقس خارج القاهرة لوداع الأسطول، فيجيء القواد بالمراكب إلى هناك، وهي مزينة بأسلحتها وبنودها، وفيها المنجنيقات فيرمي بها فتنحدر المراكب وتقلع، وتفعل ما تفعله لو كانت في حرب، وهو ما يعبرون عنه اليوم بالمناورة، ثم يحضر الرئيس والمقدم بين يدي الخليفة فيودعهما ويدعو لهما، ويعطى المقدم ١٠٠ دينار والرئيس ٢٠ دينارًا، ويحتفلون مثل هذا الاحتفال عند عودتهم من الغزو، وفي أيام صلاح الدين أنشئ للأساطيل ديوان خاص سموه ديوان الأسطول، وعينوا الأموال للنفقة عليه.

(٢٣) فتوح المسلمين البحرية

وكان للأساطيل تأثير كبير في توسعة المملكة الإسلامية، لأنهم فتحوا بها أشهر جزر بحر الروم، ومنها سردينية «سردينيا» وصقلية «سيسيليا» ومالطة وأقريطش «كربد» وقبرص وغيرها، وفتحوا كثيرًا من شواطئ هذا البحر مما يلي أوربا، وسارت أساطيلهم فيه جائية ذاهبة، وعليها العساكر الإسلامية تجوز البحر من صقلية إلى بر إيطاليا في الشمال، فتوقع بملوك الإفرنج وتثخن في ممالكهم، وخصوصًا في أيام بني الحسين الكلابيين ملوك صقلية القائمين فيها بدعوى الفاطميين، فانحاز الإفرنج بأساطيلهم إلى الجانب الشمالي الشرقي من هذا البحر، وملك المسلمون سائره بمراكبهم وأساطيلهم، وصاروا سلاطين البحر كما كانوا سلاطين البر، وضعف أمر الإفرنج إلى أن أدرك الدولة العبيدية بمصر والأموية بالأندلس الفشل، وطرقها الاعتلال بحكم ناموس الاجتماع، وأفاق الإفرنج وعادوا إلى استرجاع بلادهم فاسترجعوها، وسطوا على بلاد المسلمين نفسها، وكان ما كان من الحروب الصليبية على ما هو مشهور.

وكان المسلمون قد أهملوا أمر الأساطيل، وقل تجنيدهم لها وبطل ديوانها، وبعد أن كان جند البحر عندهم يلقبون بالمجاهدين في سبيل الله، والغزاة في أعداء الله ويتبرك بدعائهم الناس، أصبح «أسطولي» بمصر لقب إهانة، وصارت خدمة الأساطيل عارًا عندهم، وظل ذلك شأنهم حتى تولى الملك الظاهر بيبرس البندقداري سلطان المماليك الشهير، فأعاد شأن الأساطيل، لكنها لم تعد إلى ما كانت عليه في عز الإسلام، على أنهم بذلوا جهدًا كبيرًا في دفع الصليبيين عن مصر، وكان الصليبيون يأتون غالبًا من جهة النيل، وكان المماليك يبنون على ضفتي النيل أبراجًا من الخشب يوصلون بينها بسلاسل الحديد، لتمنع سفن الإفرنج من المرور في النيل.

figure
بربروسا أو خير الدين باشا.

انحط شأن الأساطيل في مصر والشام، وبقي في الأندلس وإفريقية، وبقيت دولة المغرب مختصة بها، وظل ذلك شأنهم إلى أواخر دولتهم وكان عدد أساطيلهم في العدوتين «أوربا وإفريقية» — على ما رواه ابن خلدون — مائة أسطول، وفي أثناء ذلك نبغ أحمد الصقلي قائد أساطيل المغرب في القرن السادس للهجرة، وانتهت أساطيل المسلمين في أيامه إلى ما لم تبلغ قبله ولا بعده، ثم انحطت بانحطاط الدولة حتى انقضت بانقضاء الإسلام في الأندلس، ثم عاد الأسطول الإسلامي إلى الظهور في عهد الدولة العثمانية، واشتهر من قواده بربروسا خير الدين باشا في القرن التاسع للهجرة.

(٢٤) دار الصناعة

يراد بدار الصناعة عندهم ما نعبر عنه اليوم بالترسانة أو الترسخانة، وهما منقولتان عن تلك الكلمة، لأن الإفرنج لما فتحوا بلاد العرب كان في جملة ما اقتبسوه عنهم صناعة المراكب، كما اقتبسها العرب من أسلافهم، وسمى الإسبان دار الصناعة Darsina، وأخذتها عنهم سائر لغات أوربا، فتقلبت بالنحت حتى صارت أرسنال Arsenal، وأخذها العرب عن الإسبان Tarsanah بطريق التركية، فظنوها تركية فعربوها ترس خانة أو ترسانة، وهي أولى أن تسمى دار الصناعة، وقد يقال ذلك في اشتقاق لفظ «أميرال» Amiral الإفرنجية عن «أمير البحر» العربية.

وكانت دور الصناعة في بلاد الإسلام كثيرة في الأندلس وإفريقية وفي الشام ومصر، وأول دار بنيت بمصر لهذه الغاية أنشئت في جزيرة الروضة تجاه الفسطاط في القرن الأول للهجرة، ثم عني أحمد بن طولون بتوسيعها وتحسينها، ثم نقلت إلى الفسطاط في أيام الإخشيد في أول القرن الرابع للهجرة، حتى لا يكون بينها وبين الفسطاط بحر، ثم أنشأ الفاطميون دارًا للصناعة في المقس بقرب مدينتهم «القاهرة» وكانت تصنع في هذه الدور المراكب على أنواعها ومنها النيلية والبحرية، فالنيلية كانوا ينشئونها لتمر في النيل من أعلى الصعيد إلى مصاب النيل تحمل الغلال وغيرها، والحربية هي مراكب الحرب لحمل المقاتلين للجهاد، وهي التي يقال لمجموعها: الأسطول.

(٢٥) أشكال السفن ومعداتها

وكانت المراكب الحربية أنواعًا تتفاوت شكلًا وجرمًا وقوة، منها «الشونة» وهي مراكب كبيرة كانوا يقيمون فيا أبراجًا وقلاعًا للدفاع، و«الحراقة» كانوا يحملون فيها منجنيقات يرمى بها النفط المشتعل على الأعداء — ويسمون المنجنيق عرادة — و«الطرادة» سفينة صغيرة سريعة الجري، و«العشاريات» مراكب يسار بها في النيل، وهناك سفن أخرى لأغراض أخرى مثل الشلنديات والمسطحات وغيرها، وكانوا يبنون سفنهم على مثال سفن اليونان والرومان، لأنهم أخذوا هذه الصناعة عنهم وعدلوها.

figure
سفينة عربية (نقلًا عن نسخة مخطوط قديمة من مقامات الحريري في مكتبة المستشرق شيفر).

وكان من معدات السفن الحربية عندهم الزرد والخوذات والدرق والتروس والرماح والقسي والكلاليب والباسليقات — وهي سلاسل في رؤوسها رمانة حديد — والعرادات، وكانوا يجعلون في أعلى الصواري صناديق مفتوحة من أعلاها يسمونها التوابيت، يصعد إليها الرجال قبل استقبال العدو فيقيمون فيها ومعهم حجارة صغيرة في مخلاة معلقة بجانب الصندوق، فيرمون العدو بالأحجار وهم مستورون بالصناديق، وقد يكون مع بعضهم بدل الحجارة قوارير النفط للإشعال، أو جرار النورة — وهو مسحوق ناعم من مزيج الكلس والزرنيخ — يرمون بها في مراكب الأعداء فتعمي الرجال بغبارها، وقد تلتهب عليهم إذا تبددت، أو يرمون عليهم قدور الحيات والعقارب أو قدور الصابون اللين فإنه يزلق أقدامهم، وكان يعلقون حول المراكب من الخارج الجلود أو اللبود المبلولة بالخل أو الماء والشب والنطرون لدفع أذى النفط، وقد يحتاطون لذلك بالطين المخلوط بالبورق والنطرون أو الخطمي المعجون بالخل، فإن هذه مواد تقاوم فعل النفط.

وكان من احتياطاتهم في أثناء الحرب أنهم إذا جن الليل لا يشعلون في مراكبهم نارًا ولا يتركون فيها ديكًا، وإذا أرادوا المبالغة في الاختفاء أسدلوا على المراكب قلوعًا زرقًا كي لا تظهر عن بعد.

وكانوا يجعلون في مقادم المراكب أداة كالفأس يسمونها «اللجام»، وهي حديدة طويلة محددة الرأس جدًّا وأسفلها مجوف كسنان الرمح، تدخل من أسفلها في خشبة كالقناة بارزة في مقدم المركب يقال لها «الإسطام»، فيصير اللجام كأنه سنان رمح بارز من مقدم المركب فيحتالون في طعن المراكب به، فإذا أصاب جانب المركب بقوة خرقه حتى يخشى غرقه بما ينصب فيه من الماء فيطلب أصحابه الأمان.

وأما الكلاليب ففائدتها أنهم إذا دنوا من مركب العدو ألقوا الكلاليب عليه فيوقفونه، ثم يشدونه إليهم ويرمون عليه الألواح كالجسر ويدخلون إليه ويقاتلون، وإذا كان العدو قويًّا أبطل فعل الكلاليب بفأس ثقيلة من فولاذ يضربون به تلك الكلاليب فتنقطع.

١  المقريزي ٩٢ ج١، الأحكام السلطانية ١٨٩.
٢  السيوطي ٢١٠ ج٢.
٣  السيرة الحلبية ١٧٩ ج٢.
٤  العقد الفريد ٥٢ ج١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤